نعم؛ إن الطفرة محال، وليس المستقبل قصيدة فيرتجل ارتجالا، ولكنه الماضي يرمم ترميما تصلح حجارته وتنقح لتلائم الطراز الحديث. وقد قال هانيكين: ما من حادثة في الطبيعة كلها إلا تتولد من الماضي. فمتى ننقح مسودة ماضينا؛ ليكون لنا حاضر؟!
إن التطور الاجتماعي سريع جدا، ولا حقبة تشبه ما قبلها. الناس يفكرون بالصعود إلى المريخ والقمر، أفلا تفكر وزارة التربية - على الأقل - في الصعود والنزول إلى هذه المدارس الأجنبية لترى ماذا تعلم وكيف تربي؟! قد يقولون: إننا نربي شبابا إنسانيين تربية عامة! وأنا أجيب أنه لا يوجد أبدا تربية عامة توافق الجنس البشري كله؛ فلكل طبقة تربية، ولكل قطر تربية، حتى إن لكل قبيلة تربية، وإذا غالينا قلنا مع بعض علماء التربية: لكل إنسان تربية، فكل فرد هو تاريخ قائم برأسه ولا يشبه غيره بحال. أما التربية الوطنية العامة فسروال فضفاض مثل شروال المرحوم والدي في عزوبيته، ستة وعشرون ذراعا من الستكروزا ... بينما نحن اليوم في عهد البنطلونات المزمكة.
مسكين لبنان ليس له أحد من الناس حتى حكامه. موظفوه يرقصون وهو يحط النقوط، كأنما كل معنى لبنان في ميزانية توزع على طوائفه بالسوية كما تقسم تركة الميت بين بنيه. المحبون يذكرون المرحوم وفي العين دمعة، وذووه الأقربون لاهون بالقسمة والضرب وليس فيهم من يقرأ الفاتحة على قبره، ولا من يصلي الأبانا والسلام لراحة نفسه ... إن أكثرنا كابن المقفع يهتف كلما استوضح نارا: يا دار عاتكة التي أتعزل.
ما رأيت دولة تمثل تمثيلا أشبه بالملهاة كما هي الحال في لبناننا العزيز. نحس بالانقلابات والتطورات إحساسا لا يفوق إحساس النظارة في المرسح. يفرحنا مرسوم ويحزننا مرسوم، وهل يفرح حقا من يؤمر بالفرح.
إن الحياة المدرسية هي نواة الحياة الاجتماعية الوطنية، فهل من يقول: ماذا تزرع المدارس الأجنبية في النفوس؟ إذا كان الكاهن رسول ربه، فالمعلم هو الرسول المبشر بأسمى عقائد وطنه، فيقضي على مستقبله وليس لحكومة أمته أن ترفع صوتها، أو تحقق في قضيته.
المعتقد هو سر قوة الشعب، وقد قال بلزاك في روايته «خوري الضيعة» عن الدين: إنه هو الإرادة البشرية البالغة أقصى قوتها. وأنا أقول: الدين لا يستأصل من الإنسان؛ فهو كالوكيل الدوري كلما عزل فهو وكيل. فلا يزعمن أحد أنني ثائر على المدارس الغربية؛ لأنها تصلي، فأنا أقول مع ديركهيم: إذا أفرغنا المبادئ الأدبية من عناصر الدين فإننا نبترها، وهل إذا حاولنا إصلاح رجال الدين نكون كافرين أو ملحدين؟!
مسكين هذا الوطن اللبناني، فما فيه حد وسط. فهناك إما لبناني يحسبه جزءا أوروبيا، وإما لبناني يريد أن يضيق عليه فلا يسمح له بالالتفات صوب البحر، كأنه نسي أن العرب أولعوا بوطن ثان كلبنان هو الأندلس. نسي أن لبنان، العربي الوجه واللسان، الشرقي الجنان، قد طعمت شرقيته بالحضارة الغربية فكونته هذا التكوين الخاص. فيه العربي والمستعرب، فما حيلتنا في المولييريين الذين يحاولون جعله طبيبا غصبا عنه ...
فإذا كان الإنسان ابن بيئته فلا يكون لبنان إلا كما هو اليوم، فلا تحاول المدارس الأجنبية أن تزيد في طيننا بلة. لقد شبعنا ثقافة يا جماعة، وأطعمنا سوانا، فدعونا وشأننا ولتذهب مدارسكم إلى بلاد هي أحوج منا إلى التعليم. أما إذا أحببتم أن تظلوا عندنا فنحن نكرم الضيف، إننا نركبكم خلفنا لا أمامنا ولا على ظهرنا، والشرط أن لا تمدوا أيديكم إلى الخرج ... الشرط أن تفتحوا أبوابكم للمفتشين فلا يكون التفتيش في المدارس الوطنية وحدها.
إن من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه، فأنتم تنعمون بنسيم لبنان ومياه لبنان فكونوا عند ظن هذا البلد المضياف، واعلموا أن القاصر قد بلغ ورشد، وعهد بالوصاية عليه قد انقضى فلا «تتمقطعوا» في أولاده. كونوا أذكياء ولا تدعوا لبنان يهتف: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا.
ترى ألا يوضع في لبنان شيء موضع الحزم، إلا توزيع النياشين، واقتسام الوظائف، وبلص الفقراء بالضرائب المباشرة وغير المباشرة. فإما أنه هناك دولة لبنانية نعلم لها وإما لا، ومن يدفع الأجر يطالب بالعمل. فكما تسهر دولتنا على راحة الأجنبي وخلق جو من الاطمئنان حوله، عليه هو أن يخدم هذا الوطن بكل قواه.
Page inconnue