إذن لا تخف على اللبناني من شيء إلا الغرض، ومثله يقول: صاحب الغرض أعمى. إننا نقول للذين يضعون قوانين تقطع الطريق على من يحولون دون حرية الناخب: الخوف منكم أنتم أيها الوصوليون، ارفعوا أيديكم عنا وما عليكم منا.
وماذا بعد يا عزيزي إلياس؟ نعم، أما السؤال الأخير: وماذا ينفعك هذا الكلام، وماذا ترجو؟ فلو كنت ممن يرجون شيئا غير الكرامة اللبنانية لطرت إليك على جناح صاروخ سوفياتي لا على جناح الطير، ووافيتك في الموعد المضروب إلى المكان الذي عينته لي في رسالتك. ولكنني في عمري كله ما ساومت أحدا، ولن أساوم عزرائيل إذا كان لي مناص من قبض روحي ... فبلغ الذي استسفرك إلي، وقل له ما قاله السيد للكتبة والفريسيين: إذا أسكتم هؤلاء الصبيان الصغار نطقت الحجارة.
والسلام عليك، ويا ليتني أعرفك؛ لأحييك يدا بيد، وأصافحك وجها لوجه، وأقول لك كلاما «تحطه أذنك خرص» كما يقول الموال البغدادي، فنحن في زمن صح فيه ما جاء في هذا الموال أيضا: البوم طير الفصاحة والبلابل خرس ...
ولكن «الردة» الأخيرة من هذا الموال أيضا فيها كل التعزية للمتخلفين: الدهر دولاب والأيام قلابا. فلننتظر والله مع الصابرين. (9) على طريق الحياة
قلما نرضى بحقيقتنا فنحاول دائما أن نلبس ذواتنا ثيابا فضفاضة يشعر كل من وقعت عينه علينا أنها ليست لنا. نجرر أذيالها لنمجد بها في حين أنها لا تكسبنا غير الهزء والسخرية. يعجبنا رجل فنستعير منه مكرمة، ولكن كل من يراها يعلم أنها عارية.
ما نحن إلا موكب يتدافع بالمناكب على طريق الحياة، يقلد بعضنا بعضا. مشهد طريف، والذي يتأمله يرى أطرف شريط سينمائي متحرك، والطرافة فيه أنك قلما ترى واحدا غير متكلف، فلو فكر كل منا لعلم أن له حقيقة واحدة ليست لأحد سواه، فعبثا يتقمص غيرها.
فالأخلاق كالنار، والصدور براكين تكظم ما فيها، وإنما إلى حين، فكما تكمن النار في الحجر الصلد، وفي العود الأخضر واليابس على حد سواء، ولا يبديها إلا الاحتكاك، كذلك أخلاق الرجال، فلا بد من أن تكشف لنا عن وجهها في الوقت المناسب.
قد تكمن النار في قلب الأرض مئات السنين، ولكن لا بد أخيرا من الانفجار والانقلاب. فتدك الجبال الراسيات دكا، وتتهدم القلاع والحصون والقصور والدور. وكذلك الماء، فإنه إذا كان يجري مستترا في شرايين بعض البقع، فلا بد من أن يدلنا عليه ما ينبت من أعشاب على وجه التربة، فتنبئنا أن هناك خزانا سينبثق إذا نفس عنه ويجرف الأرض.
إن سجايا الإنسان شبيهة بهذين العنصرين الأولين: الماء والنار، فكل حركة من حركاته تنم عليها أفعاله في غفلة منه وتشهد على طويته، وإذا حاول سترها، أو كتمانها، فعقله الكامن ما وراء الحدود يلوح لنا بها من بعيد. رب كلمة أفلتت من عقالها، فأبدت لنا ما خفي واستتر من أخلاقنا، فظهر للناس جليا كالصور على الشاشة البيضاء. إن العوام يعرفون هذا ويمثلون له بقولهم: إذا قلت للجوعان أربعة وثلاثة، جاوبك سبعة أرغفة.
ومما يروى من هذا القبيل أن رئيس مجلس نيابي دخل الندوة، وفيه رغبة ملحة للقاء صاحبة كان معها على موعد كاد أن يحين، فبدلا من أن يعطي الإشارة ويقول: ابتدأت الجلسة، قرع الجرس بحدة وقال: انتهت الجلسة.
Page inconnue