كل سر جاوز الاثنين شاع
إن مواهبك المختبئة وراء ستر كثيف لا تتفتق إلا بالقراءة. أنسيت ما قلته لك: المدرسة تعلمك القراءة، والجامعة تدلك على الدروب. ولكن المدرسة لا تقرأ عنك، ومتى علمت أن نوابغنا ونوابغ الدنيا جمعاء لم يتعلموا مثلك ليأخذوا شهادة، ولكنهم قرءوا، فاقرأ أنت مثلهم بإمعان لا لتتسلى فقط. إذا كانت أجسادنا تحتاج إلى بعض حبوب الفيتامين، أفلا نحتاج يوميا إلى القراءة لنداوي في عقولنا فقر دم؟!
وإذا سألتني قانونا للقراء قلت لك ما قاله برنارد شو: القانون الذهبي في هذه الحال هو أنه لا قانون هنا. قس القراءة على الأكل، أما قال أبوك وجدك: كل ما تشتهي نفسك. فكل غذاء تشتهيه النفس ولا يستطيبه الآكل يكون كالدخيل على الجسم ، فاقرأ إذن ما تحب. كن واثقا بنفسك واعلم أنك ستكون رجلا إذا طالعت، ومن يدري أنك لا تصير من أصحاب الكتب التي تقرأ وتنير إذا اجتهدت. يسرني أن أشجعك، ولهذا أقول لك جملة، لا أذكر أين وقعت عليها: إن الكتب العظيمة تطبع في المدن والعواصم الكبرى، ولكنها كتبت وتكتب في القرى، أو في الأحياء الحقيرة. وهذا لا يكون إلا إذا قرأت كل يوم بانتظام، فقراءة ساعة كل يوم تمكن كل ذي مقدرة عقلية عادية أن يصير مثقفا عارفا في غضون بضع سنوات. أنت تلازم المدرسة بضعة عشر عاما ولكنك قلما تقرأ غير الدروس المفروضة عليك، فليتك تنتزع من الأوقات التي تضيعها ساعة للقراءة والكتابة.
فمؤلفة كوخ العم توما قد ألفت هذه الرواية الشهيرة بما انتزعته من وقت كان يضيع لولا حزمها. ولونغفلو ترجم جحيم دانتي في الدقائق العشر التي كان ينتظر فيها غليان قهوته كل صباح. والفردوس المفقود لملتون نظم في اختلاس بضع دقائق يوميا.
لا تيأس مهما كان عقلك سميكا، ولا ننس أن شاعر الكنيسة، ملفان البيعة، مار إفرام السرياني، كان قد قنط من عقله السميك لو لم يسأل تلك المرأة عن خرزة البير التي براها الحبل على طول الأيام.
لا شك في أنك - ككل ناشئ - تطمح إلى أن تكون شيئا مذكورا، وها قد دللتك على طريق العظمة، فنظم وقتك. بحياتك قل لي: مهما تكن مجنونا وأبله هل ترمي بليرة على قارعة الطريق كما ترمي بعض النفايات؟! الجواب: لا. فما قولتك إذن بالذي يرمي على طريق الحياة ساعة زمان كل يوم. إننا نرمي الساعات ولا نبالي.
قد انتهت معركة امتحانات حزيران، وأيلول صار على الباب، فإن كنت لم تفز، فرجائي ألا تكون قد أضعت فرصتك في صيد «الحجلات» ورمي الشباك «للحمامات» التي تفرفر حول بيتك وتهاجمك من الشباك ... سد النوافذ سدا محكما وضع كل وكدك في منهاجك، ولا تسمعنا تهديدك بالانتحار. لقد ولدنا للحياة، فلماذا نستعجل الموت. فدرس متواصل يغنينا عن تمثيل هذه المأساة. الشهادة كالحرية تؤخذ ولا تعطى ، فحصلها بدرسك. ومع ذلك فإني أرى كل شهادات الأرض لا تساوي حياة واحد من الناس مهما كان تافها.
سألني الكثيرون: من أين لك الوقت لتكتب كل ما تكتب؟! وهم لو عرفوا أنني صرفت حياتي كلها في هذا الميدان، ولو كنت حرصت - كما يجب - على عدم ضياعها، لكان لي أضعاف ما لي. ويسألني غيرهم إذا كان عملي التعليمي يحول دون عملي الأدبي، فإلى هؤلاء أقول: إن رجال الأدب في عصر دانتي كانوا كلهم إما تجارا، وإما أطباء، أو قضاة، أو جنودا.
وأنا أعرف كثيرين قد انتزعوا شهرتهم من بين أشداق الفاقة. إذن إلى ماذا ندعوك بعد طول هذه السيرة؟ ندعوك إلى الدرس، إلى القراءة ساعتين يوميا في فرصة الصيف، فيسمن ضلعك، وتعود إلى المدرسة قويا نشيطا.
كثيرا ما يعود الطالب إلى مدرسته في تشرين وقد نسي كل شيء تقريبا؛ لأنه طلق كتبه وأشاح عنها إلى غيرها ... إن هذا الطالب لن ينجح. وكثيرا ما أعرف من أولياء طلاب، يعلمون أبناءهم صيفا؛ ليقفزوا في صفوفهم. إن العلم لا يدرك بالقفز والجمز والنط، فالثمرة التي لا تمر في جميع أطوارها لن تكون شهية لذيذة، فلينضج أبناؤنا على مهل، فهم ثمار الإنسانية.
Page inconnue