مسكين ذاك الرجل العتيق؛ فهو لا يشبه زبائن اليوم، كان عميق الثقافة واسعها، كان كاتبا من الطراز الأول، وهم أي زبائن الخزانة اللبنانية، على أميتهم وقصورهم، ينعمون في شواهق قصورهم.
كنت على ما يعاني من حرمان، تخاله مكفيا أحيانا، وقد يكون، فالنفوس الكبار تقنع بالكفاف والفراش، واللحاف والخبز الحاف، والثوب اللائق.
اجتمعنا في مطعم حد القصر الجمهوري فرأيته كما كان، لم تنقص الأيام منه شيئا. ضحكة صاروخية مكركرة، وابتسامة بائسة، ورأس مطرق؛ لأنه ينوء بأعباء الذكريات المؤلمة، والخيبة. خاب في جميع أصحابه وكلهم من أكابر رجال هذا الدهر فلم يواسه إلا واحد منهم. وهو الوحيد الذي حضر دفنه وشيعه. ولولا حضور ذاك الصديق الوفي لكان ذهب فرنسوا إلى القبر وحده.
استحت الناس من الشيخ ولأجله مشى بعضهم في مأتم السنديانة التي لم تحن رأسها للعواصف والزوابع، سنديانة الساحل التي لم يلتو جذعها وإن شذبت الفئوس أغصانها.
عاش فرنسوا خادما أمينا مخلصا للبنان، ولكن لبنان لم يشعر بموته، وهذا منتهى العقوق ونكران الجميل. تحمل آلام النفي والتشريد، ولكنه عاد ليشرده واحد من الذين شرد لأجل صداقته لهم.
بأمان الله يا فرنسوا ولا أقول يا صديقي؛ لأني لم أشرف بذلك، ولكن الوفاء للأوفياء أملى علي ما كتبت، وأنا، قبل وبعد، أخو من لا أخا له. (2) شئون وشجون
1
تحية العروبة الخالصة إلى السيدين: محمود الملاح، ومحمد جعفر مال الله؛ العراقيين. للأستاذ الملاح على تآليفه الأربعة التي تمتعت بها في عزلتي القروية، وللسيد مال الله على تفضله بإرسالها.
نحن إلى مثل هذه الكتب أحوج منا إلى سواها؛ لأن عروبتنا الثقافية في انهيار وركود. صرنا كصرح مطمور أكثره بالتراب، وخير ما عندنا تحت الأرض، فبدلا من أن نكشف الردم؛ ليظهر الأثر الرائع المطمور، نحاول أن نقضي على الظاهر منه للعيان ونهم بتشييد غيره على غراره، وما يخرج من تحت أيدينا إلا بيوت تتداعى عند هبوب أول نسمة. «نتوقع من قلمكم كبح الشعوبية المترعرعة في الجبل الأشم» بهذه العبارة ذيل الأستاذ الملاح إهداء كتبه الأربعة وعنوانه: المجيز على الوجيز.
أما العروبة، ونقيضها الشعوبية؛ فقد كنت لها منذ نشأت وليست دعواي كدعوى آل حرب في زياد، وآثاري تدل علي.
Page inconnue