Principes de la recherche littéraire et ses sources - Université Al-Madinah
أصول البحث الأدبي ومصادره - جامعة المدينة
Maison d'édition
جامعة المدينة العالمية
Genres
-[أصول البحث الأدبي ومصادره]-
كود المادة: GARB٥٤٢٣
المرحلة: ماجستير
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Page inconnue
الدرس: ١ مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مقدمة في أصول البحث الأدبي ومصادره)
كلمة "بحث": معناها، ودلالتها
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فأريد أن ألقي الضوء على كلمة "بحث" نتعرف على: معناها، ودلالتها، والمجال المعرفي الذي يتحرك في إطاره الباحث:
لو رجعنا إلى المعاجم اللغوية لوجدنا أن كلمة بحث يدور معناها في اللغة حول معنيين؛ أولهما: طلب الشيء والتفتيش عنه، ففي (لسان العرب): "البحث طلبك الشيء في التراب".
وفي كتاب الله ﷿ يقول ﷾: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ﴾ (المائدة: ٣١) ﴿يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ﴾ أي: يحفر فيها بمنقاره كأنه يفتش أو يطلب شيئًا في باطنها. ومن ذلك البحث عن المعادن وغيره. أما الدلالة الثانية لهذه الكلمة، فتعني السؤال عن الشيء والاستخبار عنه.
بحث عن الخبر أي سأل وبحثه يبحثه بحثًا أي: سأل، وكذلك استبحثه واستبحث عنه، وبين المعنيين ترابط واضح، فمن أراد أن يطلب شيئًا غاب عنه أو يفتش عن شيء لا يقع تحت إدراكه؛ فإنه يبدأ بالمرحلة الأولى من مراحل هذا الكشف وهو التفتيش، يبدأ بالتفتيش والبحث أو التنقيب، فإن تعذر على الإنسان إيجاده
1 / 9
بواسطة التفتيش أو البحث أو التنقيب؛ يلجأ إلى المرحلة الثانية وهي السؤال عن ذلك الشيء؛ لكي يتعرف عليه ويدرك أبعاده.
من خلال هذا المدلول نعلم أن كلمة بحث تدل على أن هناك شيئًا ما غاب عن الإدراك، وإن كان موجودًا في الحقيقة، شيء يفترض وجوده، وهي عبارة عن الفرضية التي يفترضها الباحث في بداية بحثه، ويحاول الكشف عنها، هذا الشيء الذي غاب عن الإدراك هو الحقيقة التي يفترض الباحث وجودها، ويسعى جاهدًا للكشف عنها، سالكًا عدة طرق، معتمدًا على ما لديه من حجج تؤكد صحة نتائجه، ومن ثم فالباحث يبدأ من حيث انتهى الآخرون، ويأتي بنتائج جديدة وأفكار مبتكرة، أما إن اكتفى بنقل ما ذكره الآخرون في قضية ما فإن ذلك لا يسمى بحثًا، وإنما يسمى تلخيصًا أو تقريرًا، هذا ما يفيده مدلول كلمة بحث، فمن أراد أن يبحث عن شيء موجود أو حقيقة علمية مقررة هذا لا يسمى بحثًا، يسمى تلخيصا يسمى تقريرا عن هذه الحقيقة.
أما في الاصطلاح فيمكن أن نعرف كلمة بحث بأنه: عبارة عن تقرير يكتبه الباحث في قضية من القضايا الأدبية، يتناول من خلاله دراسة أجزائها، موظفًا ما لديه من إمكانات علمية للوصول إلى غاية معينة يسعى إليها، أو رأي واضح يهدف إليه، هذا هو المفهوم الذي اصطلح عليه علماء البحث الأدبي، أو البحث العلمي عامة.
فالبحث العلمي لابد له من مجال علمي أو معرفي، يتحرك الباحث في إطاره -هذه حقيقة- يحلق في سمائه، ويدرك أبعاده ويستكشف كوامنه، فالبحث
1 / 10
الجغرافي مثلا مجاله علم الجغرافيا، والبحث الطبي مجاله العلوم الطبية، والبحث الأدبي مجاله الأدب بشعره ونثره، والدراسات التي دارت حولهما، وأعلام كل فن وقضاياه المختلفة، فالمجال المعرفي الذي يدور حوله البحث الأدبي هو الأدب.
العرب والثروة الأدبية
هل يملك العرب ثروة من علم الأدب تمكننا من النظر فيه، واستكشاف حقائقه، واستنباط مقاييسه والتعرف على قضاياه؟ هل يملك العرب ثروة من هذا المجال المعرفي تستحق الدراسة أو تستحق البحث؟
نعم لقد ترك العرب ثروة أدبية هائلة تفوقوا بها على سائر الأمم، وهي جديرة بالبحث للتعرف على ما فيها من قيم فنية وإنسانية، تؤكد عبقرية العربي، وقدرته على استيعاب الحياة، ومعايشتها فكريًا ووجدانيًا، والتعبير عنها في قالب فني.
وإذا نظرنا إلى هذا التراث أو هذه الثروة العظيمة التي تركها أو امتلكها العرب؛ نجد أنها قد تطورت بتطور حياتهم عبر العصور المختلفة حتى يومنا هذا، ففي العصر الجاهلي أَوْلى العرب الشعر كبير عنايتهم، فهو مصدر عزتهم، وسِجِل مفاخرهم وأحسابهم وأنسابهم، وصورة صادقة لحياتهم، وفي صدر الإسلام واكب الأدب الحياة الجديدة، التي انعكست على موضوعاته وأفكاره ولغته وأخيلته، بل إن الإسلام أدى إلى قيام نهضة عامة في دنيا المعرفة والعلم، في ظلال الفكرة الإسلامية والمجتمع الذي آمن بها وهضمها، وسعى إلى تعزيزها ونشرها، ونتج عن ذلك ظهور حركتين أساسيتين في عصر صدر الإسلام: حركة دينية، وحركة ثقافية فكرية.
1 / 11
أما في عصر بني أمية -نحن نمر على الأدب مرورًا سريعًا؛ لكي نستكشف أو نتعرف على ما لحقه من تطور سريع، وفي نفس الوقت نتعرف على عناية العرب به- ظل الأدب وبخاصة الشعر محتفظًا بكثير من طوابعه البدوية، ومحافظًا على القالب الفني الموروث، ومع ذلك واصل السير في ميادين التطور السياسي والاجتماعي والديني والفكري، وأكبر دليل على ذلك أن الدكتور شوقي ضيف كتب كتابًا في هذا الشأن بعنوان (التطور والتجديد في الشعر الأموي)، كشف فيه عما لحق الشعر من تطور، وما طرأ عليه من جديد في ذلك العصر.
ثم جاء العصر العباسي، ومنحت الدولة الحرية لرعاياها، وفتحت الباب على مصراعيه أمام الأجناس غير العربية، فاختلط العرب بغيرهم من الأعاجم، وامتزجت الأجناس واللغات والثقافات والحضارات، وذابت الفوارق بينها، وانصهرت جميعها في بوتقة عربية إسلامية، وتحولت إلى جنس عربي وثقافة عربية إسلامية، وحضارة عربية إسلامية، وشمل ذلك التغير والتطور والتجديد كل مناحي الحياة، وبالطبع لابد أن ينعكس على الأدب في ذلك العصر، فرأينا أدبًا مُجَدَّدًا، يعني أدبًا كان موجودًا في العصور السابقة، وأدخل العباسيون عليه بعض التجديدات، ثم رأينا أدبًا جديدًا في موضوعاته، وأفكاره ولغته وموسيقاه.
فإذا وصلنا إلى العصر الحديث، ووقفنا على النهضة الأدبية التي تعددت أسبابها، وعرجنا على تأثر العرب بالغرب إبداعًا ونقدًا، ورأينا الأجناس الأدبية الجديدة التي جاءت نتيجة هذا التأثر، كالمسرحية والملحمة، والقصة والرواية، وغير ذلك مما أبدع العقل العربي، بالإضافة إلى النظريات والمذاهب النقدية الكثيرة؛ إذا عرفنا كل ذلك وغيره أدركنا قيمة هذا التراث، ووقفنا على قدرة
1 / 12
العقل العربي على الإبداع، ومواكبة الأعصر في تطورها من خلال ما أنتجته عقولهم.
هذه لمحة سريعة عن ذلك التراث، أو عن ذلك المجال المعرفي الذي يدور حوله البحث الأدبي، وهو تراث عريق لأمة عريقة، وهو تراث جدير بالبحث، بل إنه في أشد الحاجة لاكتشاف عوالمه، والوقوف على جهود رجالاته، ويقوم بهذه المهمة رجال البحث العلمي والأدبي بوجه خاص، وإذا علمنا أن العرب في بداية حياتهم الفكرية لم يكن لديهم من وسائل الحفظ ما نملكه الآن، نحن الآن كما ترون في عصر المعرفة والتقنيات الحديثة، نمتلك كثيرا من الوسائل المتقدمة في حفظ المعلومات ونشرها، مما يساعد على ذيوع كل معلومة في وقت قصير والاحتفاظ بها إلى أمد طويل.
أما العرب في حياتهم الأولى، فلم تكن متوفرة لديهم مثل هذه الوسائل، التي يمكنهم من خلالها حفظ هذا التراث، سنون مضت وتقلبات حدثت، وبلدان خربت على يد الأعداء، وكل ذلك كفيل بضياع ذلك التراث، حتى وإن كان العرب يمتلكون أدوات حفظه، فكيف وصل إلينا ذلك التراث؟ عصر الجاهلي ثم عصر صدر الإسلام ثم عصر بني أمية ثم العصر العباسي، حتى وصلنا إلى العصر الحديث، ونحن نعلم أن هذه العصور مر خلالها العرب بفترات ضعف وقوة، وحروب وتقلبات لا حصر لها، فكيف وصل إلينا ذلك التراث الذي هو جدير بالبحث كما قلت؟ وما الطرق التي ساعدتهم على حفظه وحمايته من الضياع.
وهناك شيء أحب أن ألفت النظر إليه، ونحن نتحدث عن التراث الأدبي عند العرب الذي يمثل المجال المعرفي للبحث الأدبي، ذلك الشيء الذي أود الإشارة إليه هو: هناك من يظن أن هذا التراث من السهولة بمكان؛ لكثرة دورانه
1 / 13
على الألسنة، وتردد مسمياته وأجناسه الأدبية على ألسنتنا، فكثير من الناس يعتقد أنه إذا استمع إلى بيت من الشعر، أو قرأ قصة أو رواية أو مقالة أو خطبة؛ يظن أنه بإمكان أي إنسان أن يتمعنها ويتذوق ما فيها من جماليات فنية، هذا ظن خاطئ، هذا ظن غير صحيح؛ الحقيقة أن الأدب فن وصنعة وثقافة، لا يعرفها إلا أهل العلم بالأدب وحدهم، كما أشار إلى ذلك ابن سلام في طبقاته، ومهما حَلَّق الإنسان حولها أو تعمق فيها فلا يمكنه سبر أغوارها؛ فهي في أشد الحاجة إلى البحث والتأمل، والتذوق والتحليل، فالأديب ليس شخصًا عاديًا ولا يتحدث حديث الشخص العادي، وإنما يختلف حديثه باختلاف المواقف والمعاني، والأحاسيس والمشاعر.
الطرق التي ساعدت العرب على حفظ تراثهم
كيف استطاع العرب أن يحافظوا على تراثهم، وينتقل هذا التراث من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا الآن؟
بمقدار ما للتراث من قيمة وأهمية تكون عناية الأمم به، والعمل على صيانته وحفظه من الضياع، والتراث العربي روح الأمة وشريان حياتها النابض، ومن ثم أولته جل عنايتها، وسعت للحفاظ عليه بكل ما لديها من وسائل أو طرق، تتناسب مع حياتهم في كل عصر.
ومن أهم الطرق التي استعان بها العرب في حفظ تراثهم: الرواية الشفوية، ويقصد بالرواية الشفوية السماع والحفظ، ثم الاستظهار والنقل، وتعد الرواية الشفوية أول وسيلة من وسائل حفظ التراث الأدبي لدى العرب، وخاصة الشعر، بالإضافة إلى حفظ الأنساب والأخبار،
1 / 14
وتسجيل الوقائع التي كان الرواة يحرصون على تلقينها لمن يصغرهم، أو لأبنائهم، أو لمن يقوم بهذه المهمة في الأعصر التالية.
وقد فرضت البيئة الجاهلية على العرب استخدام الرواية كوسيلة لحفظ تراثهم ونشره، بمعنى أن العرب في العصر الجاهلي -خاصة- لم يكن لديهم من الوسائل المتاحة غير وسيلة الرواية الشفوية، صحيح الكتابة كانت موجودة لكنها نادرة، ومن الصعب الحصول على أدواتها التي يستعان بها في الكتابة، كان ذلك صعبًا، وكان الله ﷾ قد منح العربي قدرة على الحفظ، هذه طبيعة العربي وتلك عاملا مساعدًا، كون الله ﷾ ميز الأعرابي بهذه الذاكرة القوية، وذلك القدر من الذكاء وصفاء الذهن، مكن العربي من الاستعاضة عن الكتابة بهذا القدر من الحفظ والاستذكار والنقل.
والعرب كانوا يحرصون على ذلك حرصًا شديدًا، فيقول ابن رشيق القيرواني في كتاب (العمدة): "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه حماية لأعراضهم، وذب عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج". إن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على عناية العرب بهذا التراث الأدبي؛ لأنه يسجل أحسابهم وأنسابهم ومفاخرهم، ومآثرهم ومثالب أعدائهم. وكان الرواة في الجاهلية طبقات:
الطبقة الأولى: وهم الشعراء، ومنهم الشعراء المحترفون الذين تجمع بينهم حرفة الفن الشعري، يعني يمتلكون الموهبة الشعرية، وهي التي تجمع بينهم. فكان هؤلاء الشعراء المحترفون يلزمون شاعرًا بعينه أو غيره من الشعراء، ويروون عنهم
1 / 15
حتى ينفتق لسانهم ويسيل عليه ينبوع الشعر، يعني يتعلمون كيفية النظم واختيار الكلمات والأوزان والقوافي من خلال الحفظ.
ويمثل هؤلاء الشعراء المحترفون: أوس بن حجر التميمي، وزهير بن أبي سلمى، والحطيئة، وهدبة بن خشرم، وغيرهم كثير من الشعراء في ذلك العصر، ومن هذه الطبقة أيضًا -طبقة الشعراء المحترفين- شعراء لكنهم ليسوا محترفين، جمع بينهم النسب، يعني ينتمون إلى قبيلة واحدة، يروي خلفهم شعر سلفهم، حتى يظل شعر القبيلة محفوظًا لديهم؛ لأنه -كما أشار ابن رشيق- يحمل مفاخرهم وأخبارهم وأحسابهم وأنسابهم، ويخلد مآثرهم، فكانوا يروون الشعر لخلفهم جيلا بعد جيل، ويمثل هؤلاء الشعراء: الأعشى، الذي كان يروي شعر خاله المسيب بن عَلَس، وأبو ذؤيب الهذلي الذي كان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي، وطرفة بن العبد الذي كان يروي للمرقش الأصغر عمه وخاله المتلمس.
ومن هذه الطبقة الأولى -أي طبقة الشعراء- شعراء لم يجمع بينهم نسب، ولم تجمع بينهم حرفة الفن الشعري، وإنما جمع بينهم سلوك معين في الحياة، فكان يروي بعضهم عن بعض، كالشعراء الصعاليك مثلا، حيث كان يأخذ بعضهم عن بعض، كما نلاحظ عند تأبَّطَ شرا والشنفرى، وأبي دؤاد الإيادي، وزيد الخيل.
الطبقة الثانية من طبقات الرواة الذين قاموا بدور كبير في حفظ ذلك التراث الأدبي: هم أفراد القبيلة أنفسهم، أفراد كل قبيلة كانوا يحرصون على حفظ أشعار الشعراء، الذين ينتمون إلى هذه القبيلة وروايتها؛ لأنها تسجل مناقب قومهم، وانتصاراتهم في حروبهم، كما تسجل مثالب أعدائهم، فكان أفراد القبيلة جميعًا -شعراء وغير شعراء- يحفظون هذه الأشعار، وتنتقل من جيل إلى جيل عبر الأجيال المختلفة.
أما الطبقة الثالثة فيمكن تسميتها: طبقة الحفظة، وهم الذين كانوا يرتادون المحافل والأسواق، وينشدون الأشعار التي يروونها عن جميع الشعراء، لا يلزمون
1 / 16
شاعرا بعينه ولا قبيلة بعينها، وإنما كانوا يحفظون عن كل الشعراء، ويؤثرون الأشعار التي تسجل المآثر والمثالب، والأحساب والأنساب والأيام والأخبار، وكان هذا شاغلهم ولم يكن لهم شاغل سواه، وهم الذين قال عمر بن الخطاب فيهم: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"، فكانوا يحرصون -هذه الطبقة من الرواة- على إذاعة هذه الأشعار، ونقلها من بيئة إلى بيئة ومن قبيلة إلى قبيلة، ومن بلد إلى بلد، فذاعت وانتشرت، وتنوقلت على الألسن، وحفظتها الذاكرة عبر الأجيال المختلفة.
هذا بالنسبة للعصر الجاهلي، وظلت هي الأداة المستخدمة كما رأينا في حفظ الأشعار، أو التراث الأدبي عمومًا، ثم ظهر الإسلام، وبعد ظهوره استمرت رواية الشعر، وأجاز النبي ﷺ ذلك، وكان كثيرا ما يستنشد الصحابة شعرًا ﵃، كما شجع عليه صحابةُ رسول الله ﷺ، فكان أبو بكر النسابة ﵁ وكان راوية للشعر، وكذلك كان عمر بن الخطاب ﵁، ثم زادت الحاجة إلى الرواية بعد إنشاء الدواوين في عهد عمر بن الخطاب ﵁؛ إذ كانوا يرجعون إلى الرواة لمعرفة الأنساب؛ لأنها كانت تقوم بدور مهم في رواتب الجند الفاتحين، وفي مراكز القبائل بالمدن الجديدة مثل: البصرة والكوفة، ولم تعد الرواية قاصرة على الشعر فقط في عصر صدر الإسلام، وإنما اتسعت لتشمل القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، معنى ذلك أن الرواية كانت تمثل أداة مهمة في حفظ التراث الأدبي في عصر صدر الإسلام، بالإضافة إلى حفظ القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة.
وظل الحال على ذلك طوال عصر صدر الإسلام، ثم قامت الدولة الأموية، وكانت نزعتها عربية خالصة، فعملت جاهدة على حفظ هذا التراث، واستخدمت الرواية وسيلة لهذا الحفظ، واهتم خلفاء بني أمية بذلك اهتمامًا لا حد له، كما فعل معاوية وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء، إذ كانوا
1 / 17
كثيرًا ما يسألون وفود القبائل التي تفد عليهم عن بعض شعرائها، وكانوا إذا اختلفوا في بيت من الشعر أبردوا بريدًا إلى العراق، يعني أرسلوا بريدا إلى العراق يسألون علماءها عن صحة ذلك البيت، وإن دل ذلك فإنما يدل على شدة حرصهم ودقة روايتهم، كما اهتموا بتأديب أبنائهم من خلال مؤدبين يروونهم أشعار الجاهلية وأيامها وأخبارها.
ومما ساعد على ازدهار الرواية في ذلك العصر أيضًا: ظهور طائفة القصاص، الذين كانوا يجلسون للعظة في المساجد الجامعة، وكانوا كثيرا ما يروون الأشعار وينثرونها للإفادة بما فيها في وعظهم، كما ظهرت جماعة في ذلك العصر أيضًا عنيت بغزوات الرسول ﷺ وما قيل فيها من أشعار، ومن هؤلاء: أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير، وهناك جماعة أخرى اهتمت بأخبار العرب الماضين، وما كان يجري على ألسنة شعرائهم، كل هؤلاء كانوا يستخدمون الرواية في حفظ هذا التراث وفي نقله إلى غيرهم، كما ظهرت طائفة أخرى من الرواة لم يكونوا يحسنون نظم الشعر، فهم لا يروونه لغرض تعلمه، وإنما يروونه لنشره بين الناس، وهؤلاء يشير إليهم جرير بقوله:
خروج بأفواه الرواة كأنها ... قَرَى هندواني إذا هُز صَمما
هذه هي وظيفتهم، يحفظون أشعار الشعراء، ويروونها وينشرونها بين الناس، هذا ديدنهم، كان ذلك في عصر بني أمية، وكما رأينا اتسع مجال الرواية، واتسع أصناف الرواة وتعددت غاياتهم المختلفة، وكلهم يعتمد على الرواية، أي الحفظ والنقل والاستظهار.
ثم جاء العصر العباسي، ونشأت طبقة من الرواة المحترفين، الذين يتخذون رواية الشعر عملًا أساسيًا لهم، فيهم عرب وفيهم موال، فيهم قراء للقرآن، وغير قراء، وهم جميعا حضريون، يعني كانوا يعيشون في البصرة والكوفة، وكانوا
1 / 18
يضيفون إلى رواية الأشعار كثيرا من الأخبار عن الجاهلية وأيامها، ومن هؤلاء الرواة: أبو عمرو بن العلاء، وحماد الراوية، وخلف الأحمر، ومحمد بن السائب الكلبي، والمفضل الضبي، وكانوا يرحلون إلى القبائل والأعراب في البادية وإلى نجد أحيانًا؛ ليأخذوا الأشعار والأخبار من ينابيعها الصحيحة، هذا في بداية العصر العباسي.
ولا نكاد نمضي في ذلك العصر حتى يكون هؤلاء الرواة مدرستين متقابلين: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، واستطاع رواة هاتين المدرستين جمع مادة كثيرة من الأشعار والأخبار وأيام العرب، اعتمد عليها المدونون فيما بعد.
أخذوا هذه الأشعار والأخبار من ينابيعها الصحيحة، هكذا قامت الرواية الشفوية بدور كبير في حفظ التراث الأدبي للعرب، منذ العصر الجاهلي وحتى سنوات عدة من بداية العصر العباسي، وهذه الرواية الشفوية تمثل وسيلة مهمة في حفظ ذلك التراث، وهي الوسيلة الأولى.
أما الوسيلة الثانية من طرق حفظ التراث عند العرب فهي التدوين، بمعنى الكتابة، أي تسجيل ذلك التراث، بمعنى نقله من الذاكرة إلى كلام مكتوب مدون.
بدأ التدوين الفعلي للنصوص في فترة مبكرة من حياة العرب، ففي عهد أبي بكر الصديق ﵁ جمع القرآن الكريم ودون في كتاب واحد، بعد أن كان مفرقًا في صدور الحفظة، وفي النصف الثاني من القرن الأول الهجري عرف العرب بدايات التدوين، حيث يطالعنا عدد كبير من الرواة العلماء والأدباء من العرب والموالي على حد سواء، يعيشون في الحضر، وهم على دراية كاملة ومعرفة واسعة بالبادية، يرحلون إليها ويلتقون بأهلها أو يلقونهم في الحواضر والأسواق؛ ليجمعوا ما لديهم من أشعار وأخبار، ثم يقومون بتدوينها، ويعملون على حفظها مدونة أي: مكتوبة، ودرسها وشرحها لتلاميذهم وإذاعتها على الناس.
1 / 19
وما إن استكملت الحياة الثقافية في كل من مدينتي البصرة والكوفة، حتى اشتد التنافس بين علماء ورواة المدرستين في سبيل جمع وتدوين التراث العربي القديم، بدءوا يرحلون إلى البوادي، لكن ليس من أجل الحفظ فحسب، وإنما من أجل الحفظ للتدوين، وبخاصة حفظ الأشعار والشعر الجاهلي.
ومن علماء مدرسة البصرة الذين كان ذلك هدفهم: الأصمعي، الذي نقل الكثير عن فصحاء الأعراب الذين كانوا يفدون إلى البصرة، كما أكثر الخروج إلى البادية وشافه أهلها ونقل عنهم، ودون ما تجمع لديه، وله مجموعة شعرية منتقاة من الشعر الجاهلي سميت باسمه (الأصمعيات).
ومن رجال مدرسة الكوفة المبرزين في ذلك المجال: المفضل الضبي، وهو عربي صميم أسهم بشكل واضح في حركة التدوين، وقام بجمع كثير من أشعار العرب وأخبارهم، وتتلمذ على يديه مجموعة من العلماء والرواة منهم: أبو عمرو إسحاق الشيباني، وابن الأعرابي، والفراء، وأبو زيد القرشي، وغيرهم من أعلام اللغة والأدب، وخلال عملية البحث والتدوين هذه -التي أشرنا إليها- حرص هؤلاء العلماء على أن يلتزموا في عملهم هذا منهجًا محددًا، وقائمًا على أصول ثابتة، مما يجعلنا نطمئن لمنهجهم في جمع هذا التراث وتدوينه، ومدى الاهتمام به، ونثق في صحته وسلامة ما وصل إلينا منه عن طريق هؤلاء الرواة.
أقول هذا حتى لا يؤثر فينا ما نسمعه من كلام في مثل هذه القضية، وهي قضية نسبة الأشعار إلى غير أصحابها، أو ما يعرف بقضية الانتحال، هذا المنهج الذي حرص عليه هؤلاء العلماء منهج دقيق، يتلخص في نقطتين مهمتين؛ النقطة الأولى: تحديد مصادر هذا التراث وتعيين أماكن وجوده، كانوا يحددون المصدر أين يوجد، وفي أي مكان، ثم يشدون الرحال إلى هذه الأماكن، إلى تلك البوادي والمناطق المعزولة، نعم كانت معزولة نسبيا عن اختلاط اللغة في العصر
1 / 20
العباسي بالذات؛ لأن العرب اختلطوا بالموالي وظهر اللحن، فكان هؤلاء الرواة يفضلون أن يذهبوا إلى هذه المناطق المعزولة نسبيا؛ حتى تكون اللغة لغة بعيدة وصحيحة وخالية من اللحن؛ ليأخذوا اللغة من أفواه الأعراب الذين لم تفش فيهم عجمة أو لحن، هذا هو المنهج الأول.
المنهج الثاني: فحص ما جمعه الرواة من نصوص فحصًا دقيقًا؛ لتوثيق مصدره ومتنه على أيدي خبراء ذوي بصر باللغة والشعر، فكشفوا عن زائفه ومنحوله، وميزوا الرواة الذين عرفوا بالضبط والثقة من الذين لم يعرفوا بهذا، مِن الذين اشتهروا بالوضع والنحل، فجرَّحوهم ونبهوا وأشاروا إليهم، ولم يكونوا يتهاونوا في ذلك على الإطلاق، ونحن نعلم أنه بمقدار تراث الأمة -كما قلت- وأهميته بالنسبة لهم يكون الاهتمام بهذا التراث رواية وتدوينًا وتمحيصًا، فكانوا جادين في عملهم، كانوا جادين في فحص الروايات، كانوا جادين في امتحان الرواة والتشدد في ذلك تشددًا واضحًا، وكانت نتيجة هذه الحركة النشطة أن وصل إلينا كم ضخم من هذا التراث، عكف عليه الدارسون كل يعمل في مجال تخصصه.
فاللغويون يستخلصون منه معجم ألفاظ اللغة، ويميزون قواعد نحوها من صرفها وضوابط شعرها، وخصائصها الأسلوبية والبيانية، وآخرون منهم اختصوا بدراسته وتحليله، فشرحوا ألفاظه وفسروا غريبه، واهتم غيرهم بتذوقه ونقده، كما اتجه آخرون إلى تراجم الشعراء وجمع المرويات عنهم.
وهكذا نحن الآن صرنا ضمن هؤلاء الباحثين، ننظر في هذا التراث ونبحث فيه؛ لنستكشف عوالمه، ونستنبط المقاييس الفنية، والأجناس الأدبية التي ابتكروها وتوصلوا إليها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 21
الدرس: ٢ العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (١)
1 / 23
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(العرب والبحث العلمي - مناهج التأليف عند العرب (١»
هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي؟
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه وبعد:
فهل وقف العرب عند ذلك الحد حد جمع المعلومات ولم تكن لهم رؤية علمية في النظر في هذا الإبداع؟ بمعنى: هل كان العرب مجرد مبدعين أم أنهم عرفوا طريق البحث العلمي وأسسه واتجاهاته؟
عرف العرب البحث العلمي منذ فترة مبكرة من حياتهم، لا أقول: إنهم عرفوه في العصر الجاهلي مثلا، لا فإن البيئة التي عاشوها لم تكن لتؤهلهم إلى معرفة هذه النهضة العلمية، التي رأيناها في العصور التالية، ولكنهم عرفوها إبان نهضتهم وحضارتهم الإسلامية، عندما جاء الإسلام ولفت أنظارهم إلى البحث والتأمل والنظر، وأطلق لها الحرية في التأمل ومعرفة ما وراء الكونيات، فقد انطلق العرب -من خلال فهمهم لهذا الدين الإسلامي- يمهدون الطريق في هذا المجال أمام الغربيين، الذين أفادوا منهم إفادة عظيمة باعتراف المنصفين منهم، الغربيون أنفسهم يعترفون بفضل الحضارة والعلماء العرب على الحضارة الغربية مثل: "برنارد لويس" "سيديو" وغيرهما كثير.
وعندنا كتب كثيرة تحدثت عن هذه القضية، عندنا كتاب (قصة الحضارة) لـ "ديوران"، (الإسلام والحضارة العربية) لـ "وثوب"، (حضارة العرب) "جوستاف لوبون"، فضل العرب على حضارة الغرب كثير، عندنا كثير من المؤلفات موجودة، وفيها اعترافات من الغرب أنفسهم بأن العرب قد تفوقوا عليهم، وأنهم أفادوا منهم إفادة كبيرة في مجال البحث العلمي.
ولم يكن تفوق العرب في مجال البحث الأدبي فحسب، صحيح هم اتجهوا إلى جمع التراث الأدبي وبخاصة الشعر، ولكن بحثهم وانطلاقاتهم العلمية تجاوزت حدود الأدب، فكانت لهم أبحاث في العلوم، كان تفوقهم في شتى مجالات البحث العلمي، وأصبحوا في القرن التاسع الميلادي حراس العلم، وسدنة المعرفة والمهيمنين على معظم مراكز الثقافة والبحث العلمي، في الوقت الذي كان
1 / 25
العلم في أوربا في سبات عميق، وأصبحت اللغة العربية هي لغة العلم والثقافة والحضارة.
هذا الكلام لا أدعيه، وإنما هناك أدلة كثيرة عليه تؤكده وتثبت صحته، ويكفي أن نذكر من هذه الأدلة عرض بعض الأسماء لعلماء العرب الذين لا يوجد قرين لهم بين أبناء الغرب، من أمثال: جابر بن حيان، والكندي، والخوارزمي، والرازي، وثابت بن قرة، وحنين بن إسحاق، والفارابي، والطبري، وابن البيطار، والبيروني، وابن سينا، وابن الهيثم، وغيرهم كثير ممن ذاع صيته وعمت شهرته الآفاق، هؤلاء العلماء عرفوا بما قدموه للعلم والعلماء، وقاموا بدور واضح في ازدهار الحضارة الإنسانية عامة، حتى صار الشرق الإسلامي في العصور الوسطى مهدًا للعلم والفكر، وأصبحت اللغة العربية لغة الحضارة، ونمت في أحضانها فروع العلم المختلفة، هذه حقيقة قررها الغربيون أنفسهم، وأكدها تراث هؤلاء العلماء الموجود الآن، والذي يلقى العناية والرعاية من الغربيين قبل العرب أنفسهم.
كانت النتيجة الطبيعية لعناية العرب بالبحث العلمي واهتمامهم به أن نمت العلوم الإسلامية، ونشأ العديد من العلوم الإنسانية ومن بينها: علوم الأخلاق والفلسفة، وآداب السلوك، وسياسة الملك وغيرها، واتسع مجال البحث في العلوم التطبيقية، مِن طب وهندسة وفلك وطبيعة وكيمياء وحساب وجبر ومنطق إلى غير ذلك، واتسعت بذلك مجالات الابتكار العلمي أمام الجميع.
ولا شك في أن دعوة العقيدة الإسلامية إلى البحث والتأمل، وتشجيعها للعلم والعلماء وتنظيمها للعقل وحرية الفكر، لا شك في أن ذلك جعل العلماء يتقدمون في طريق البحث العلمي بخطى واثقة، وانطلقوا يدرسون شتى ظواهر
1 / 26
الكون بعقلية متحررة، ويؤيدون النظريات العقلية بالعديد من التجارب العلمية، هذه حقيقة، فالإسلام له الفضل الأكبر في تحرير هذه العقول، وفي دفعها دفعًا إلى البحث العلمي، ولم يمض قرن من الزمان على تعريب التراث العلمي للأمم الأخرى، مِن فرس وهند ويونان وأتراك وغيرهم، هذه حقيقة.
نحن نعلم أن البيئة العباسية كانت عبارة عن محطة كبيرة، التقت فيها جميع الأجناس والثقافات والحضارات واللغات، الفرس والهنود والترك واليونان، كل أمة من هذه الأمم لها ثقافتها ولها فكرها ولها حضارتها، لها خصائصها التي تتميز بها، التقت كل هذه الأشكال والأصناف في البيئة العباسية فذابت الفوارق، وتحولت إلى الخصيصة العربية في اللغة وفي الحضارة، في كل شيء، الثقافة أصبحت عربية إسلامية، الحضارة أصبحت عربية إسلامية، الدين أصبح عربيا، وهذا حقيقي، لم يمض قرن من الزمان على تعريب هذا التراث العلمي للأمم، الفرس كانوا يستخدمون العربية، والهنود كانوا يستخدمون العربية، واليونان والأتراك وغيرهم.
وقدم العلماء المسلمون كل جديد في العلوم الطبيعية والرياضية، ودخلوا التاريخ العلمي روادًا لآفاق لم يصل إليها أحد من قبل، وإليهم يرجع الفضل في تأصيل مبادئ المنهج التجريبي الاستقرائي، هذه حقيقة لابد أن نعترف بها، المنهج التجريبي الاستقرائي الذي يدعي كثير من الغربيين أن الفضل يرجع إليهم في تأصيله، الحقيقة أننا إذا نظرنا إلى ما قدمه علماؤنا العرب في هذه الأعصر الأولى؛ نجد أنهم هم الذين قاموا بالتأصيل لهذا المنهج التجريبي الاستقرائي، ووضعوا أوليات الكتب التجريبية في الطب، وفي التشريح، وفي الصيدلة وفي الكيمياء، وفي الطبيعة وفي النجوم والفلك والملاحة والجغرافيا، وغيرها من
1 / 27
المؤلفات، منطلقين من حيث انتهى إليه الأمم التي سبقتهم، وهذا منهج علمي دقيق، يعني لم يكونوا عالة على الهنود أو اليونان أو الفرس إطلاقًا، وإنما كانت لهم رؤيتهم المستقلة.
وكتبهم في هذا المجال تشهد بعبقريتهم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (المختصر في حساب الجبر والمقابلة) الخورازمي، وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، وله رسالة أخرى تسمى (الرسالة المنهجية في الحساب الرياضي)، وترجمت إلى اللاتينية أيضا، وكتاب (الحركات السماوية وجوامع علم النجوم) الفرغاني، وترجم أيضا إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وكتاب (القانون المسعودي في الهيئة والنجوم) للبيروني، وكذا كتابيه (الآثار الباقية) و(الجماهر في معرفة الجواهر)، في هذه الكتب حديث عن الفلك وحساب المثلثات وحساب التوقيت والرياضة والجغرافيا، وكل هذه المعلومات وغيرها تؤكد عمق فكره ومتانة منهجه، بالإضافة إلى ما كتبه الكندي في المد والجزر، وابن سينا في علم الطبيعة والنبات والحيوان والمجال الطبي.
وكانت براعتهم في الجانب الأدبي لا تقل عن براعتهم في الجانب العلمي التطبيقي والتجريبي، هذه حقيقة، وكتب التراث التي نحن الآن ننظر إليها ونتعامل معها، ونحاول فهم ما جاء بها تعلمًا وتذوقًا؛ لأكبر دليل على أن تفوقهم لم يكن في الجانب العلمي، أو التجريبي أو التطبيقي فحسب، وإنما كان في الجانب الأدبي قبل أن يكون في هذه الجوانب العلمية الأخرى، وجدير بالذكر أن هؤلاء العلماء الذين كتبوا في الفلك، أو في الجغرافيا أو في الطب أو في النبات أو في الحيوان أو غيرها من العلوم، كانوا أدباء في المقام الأول، ومنهم من نظم الشعر، فكانوا علماء يتصفون بالموسوعية.
1 / 28
وقد شهد بعبقرية هؤلاء العلماء "دوذي"، شهد بهذا التقدم العلمي للعرب، فله كتاب يسمى (تاريخ المسلمين في أسبانيا)، ذكر فيه أن الأوروبيين في العصور الوسطى كانوا يقعون تحت سيطرة البابوات، وكانوا تائهين في ظلام الجهالة، لا يرون النور إلا من سم الخياط، وكان النور لا يسطع إلا من جانب المسلمين، من علوم وآداب وفلسفة وصناعات، وكانت بغداد والبصرة والقاهرة ودمشق، وفارس، وقرطبة -كل هذه بلدان إسلامية كان المسلمون حكامها وتقع تحت إمرتهم- تمثل المراكز العظيمة للعلوم والمعارف، في وقت كانت فيه العواصم الأوروبية أشبه بالقرى الخالية من كل ما يشد الناس إليها، ويربطهم بها. فالعرب كان لهم السبق في مجال البحث العلمي لا شك في هذا، وأنهم أصلوا المناهج التجريبية التطبيقية.
أدوات البحث العلمي عند العرب
إذا ثبت لدينا أن العرب كان لهم باع في مجال البحث العلمي، ونحن نعلم أن البحث العلمي لابد له من أدوات بحثية، الآن البحث العلمي صار علما وله مناهج، فهل كان العرب ينطلقون في بحثهم هذا من خلال معرفة بمجموعة من الأدوات، أم ماذا كانوا يصنعون؟
ثبت لدينا حقيقة أنه كانت لهم تجارب بحثية رائعة، أفاد منها الغرب قبل العرب، فهل كان العرب يمتلكون أدوات البحث العلمي التي تؤهلهم لأن يكونوا أساتذة وروادًا في هذا المجال؟ من الأسباب التي مكنت العلماء العرب من الوصول إلى هذا المستوى في مجال البحث العلمي: دقة الأداة، وصحة المنهج، فقد استخدموا عدة أدوات تتفق مع بيئتهم وثقافتهم، يمكن إجمالها فيما يلي:
1 / 29