Philosophical Treatises by Al-Razi
رسائل فلسفية للرازي
Chercheur
لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة
Maison d'édition
دار الآفاق الجديدة
Numéro d'édition
الخامسة
Année de publication
١٤٠٢ هـ - ١٩٨٢ م
Lieu d'édition
بيروت
Genres
كتاب الطب الروحاني
بسم الله الرحمن الرحيم
قال محمد بن زكريا الرازي: أكمل الله للأمير السعادة وأتم علية النعمة. جرى بحضرة الأمير - أطال الله بقاءه - ذكر مقالة عملتُها في إصلاح الأخلاق سألنها بعض اخوتي بمدينة السلام أيام مُقامي بها، فأمر سيدي الأمير - أيده الله - بإنشاء كتاب يحتوي على جُمَل هذا المعنى بغاية الاختصار والإيجاز وأن أسمه بالطب الروحاني، فيكون قرينًا للكتاب المنصوري الذي غرضه في الطب الجسماني وعديلًا له، لِما قدر-أدام إليه من عموم النفع وشموله للنفس والجسد. فانتهيتُ إلى ذلك وقدمته على سائر شغلي، والله أسأل التوفيق لِما يُرضي سيدي الأمير ويقرب إليه ويُدني منه.
1 / 15
وقد فصلت هذا الكتاب عشرين فصلًا: الأول في فضل العقل ومدحه الثاني في قمع الهوى وردعه وجملة من رأي أفلاطون الحكيم الثالث جملة قُدمت قبل ذكر عوارض النفس الرديئة على انفرادها الرابع في تعرف الرجل عيوب نفسة الخامس في دفع العشق والألف وجملة من الكلام في اللذة السادس في دفع العُجب السابع في دفع الحسد الثامن في دفع المفرط الضار من الغضب
1 / 16
التاسع في اطراح الكذب العاشر في اطراح البخل الحادي عشر في دفع الفضل الضار من الفكر والهم الثاني عشر في صرف الغم الثالث عشر في دفع الشَرَه الرابع عشر في دفع الانهماك في الشراب الخامس عشر في دفع الاستهتار بالجماع السادس عشر في دفع الولع والعبث والمذهب السابع عشر في مقدار الاكتساب والاقتناء والإنفاق الثامن عشر في المجاهدة والمكادحة على طلب الرُتَب والمنازل الدنيائية والفرق بين ما يُرى الهوى وبين ما يُرى العقل التاسع عشر في السيرة الفاضلة العشرون في الخوف من الموت
الفصل الأول
في فضل العقل ومدحه
أقول: إن البارئ عز اسمه إنما أعطانا العقل وحبانا به لننال ونبلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهرِ مِثلنا نيلُه وبلوغه، وإنه أعظم نِعَم الله
1 / 17
عندنا وأنفع الأشياء لنا وأجدها علينا. فبالعقل فُضلنا على الحيوان غير الناطق حتى ملكناها وسُسناها وذللناها وصرفناها في الوجوه العائدةِ منافعُها علينا، وبالعقل أدركنا جميع ما يرفعنا ويُحسن ويطيب به عيشنا ونصل إلى بغيتنا ومرادنا. فأنا بالعقل أدركنا صناعة السُفُن واستعمالها حتى وصلنا بها إلى ما قطع وحال البحر دوننا ودونه، وبه نلنا الطب الذي فيه الكثير من مصالح أجسادنا وسائر الصناعات العائدة علينا النافعة لنا، وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا الخفية المستورة عنا، وبه عرفنا شكل الأرض والفلك وعظم الشمس والقمر وسائر الكواكب وأبعادها وحركتها، وبه وصلنا إلى معرفة البارئ ﷿ الذي هو أعظم ما استدركنا وأنفع ما أصبنا. وبالجملة فإنه الشيء الذي لولاه كانت حالتنا حالة البهائم والأطفال والمجانين، والذي به نتصور أفعالنا العقلية قبل ظهورها للحس فنراها كأن قد أحسسناها ثم نتمثل بأفعالنا الحسية صورها فتظهر مطابقة لِما تمثلناه وتخيلناه منها. وإذا كان هذا مقداره ومحله وخطره وجلالته فحقيق علينا أن لا نحطّه عن رتبته ولا ننّزله عن درجته، ولا نجعله وهو الحاكم محكومًا عليه، ولا وهو الزمام مزمومًا، ولا وهو المتبوع تابعًا، بل نرجع الأمور إليه ونعتبرها به ونعتمد فيها عليه، فنُمضيها على إمضائه ونوقفها على إيقافه، ولا نسّلط عليه الهوى الذي هو آفتهُ ومكدِّره
1 / 18
والحائد به عن سنَنَه ومحجّته وقصده واستقامته، والمانع من أن يصيب به العاقل رشده وما فيه عواقب أمره، بل نروضه ونذللهُ ونحمِله ونجبره على الوقوف عند أمره ونهيه. فإنّا إذا فعلنا ذلك صفا لنا غايةَ صفائه وأضاء لنا غايةَ إضاءته وبلغ بنا نهايةَ قَصْدِ بلوغنا به. وكنا سعداء بما وهب الله لنا منه ومنّ علينا به.
1 / 19
الفصل الثاني
في قمع الهوى وردعه
وجملة من رأي أفلاطون الحكيم
أما على أثر ذلك فإنّا قائلون في الطب الروحاني الذي غايته إصلاح أخلاق النفس وموجزون غاية الإيجاز. والقصد والمبادرة إلى التعلق بالنكت والعيون والمعاني التي هي أصول جملة هذا الغرض كله. فنقول: إنا قد صدرنا وقدمنا من العقل والهوى ما رأينا أنه لجملة هذا الغرض كله بمنزلة المبدأ، ونحن متْبعوه من أصول هذا الشأن بأجْلها وأشرافها فنقول: إنّ أشرف الأصول وأجلها وأعونها على بلوغ غرض كتابنا هذا قمع الهوى ومخالفة ما يدعو إليه الطباع في أكثر الأحوال وتمرين النفس على ذلك وتدريجها إليه، فإن أول فضل الناس على البهائم هو هذا، أعنى ملكة الإرادة وإطلاق الفعل بعد الروية. وذلك أن البهائم غير المؤدبة واقفة عند ما يدعوها إليه الطباع عاملة به غير ممتنعة منه ولا مروَّية فيه. فإنك لا تجد بهيمةً غير مؤدبة تمسك عن أن تروث أو تتناول ما تتغذى به مع حضوره وحاجتها إليه، كما تجد الإنسان يترك ذلك ويقهر طباعه عليه لمعانٍ عقلية تدعوه إلى ذلك، بل تأتي منها ما يبعثها عليه الطباع غير ممتنعة منه ولا مختارة عليه. وهذا المقدار ونحوه من الفضل على البهيمة في زمّ الطبع هو لأكثر الناس وإن كان ذلك تأديبا وتعليما،
1 / 20
إلا أنه عام وشامل وقريب واضح يعتاده الطفل وينشأُ عليه، ولا يحتاج إلى الكلام فيه، على أن في ذلك بين الأمم تفاضُلًا كثيرًا وبونًا بعيدًا. وأمّا البلوغ من هذه الفضيلة أقصى ما يتهيأ في طباع الإنسان فلا يكاد يكمله إلاّ الرجل الفيلسوف الفاضل. وبمقدار فضل العوامّ من الناس على البهائم في زمّ الطبع والملكة للهوى ينبغي أن يكون فضل هذا الرجل على العوامّ. ومن هاهنا نعلم أنّ مَن أراد أن يزين نفسة بهذه الزينة ويكمل لها هذه الفضيلة فقد رام أمرًا صعبًا شديدًا ويحتاج أن يوطن نفسه على مجاهدة الهوى ومجادلته ومخالفته. ولأن بين الناس في طباعهم اختلافًا كثيرًا وبونًا بعيدًا صار يسهل أو يعسر على البعض دون البعض منهم اكتسابُ بعض الفضائل دون بعض واطراح بعض الرذائل دون بعض. وأنا مبتدئ بذكر كيفية اكتساب هذه الفضيلة - أعني قمع الهوى ومخالفته - إذ كانت أجلّ هذه الفضائل وأشرفها وكان محّلها من جملة هذا الغرض كلّه محلّ الاسطقس التالي للمبدأ.
فأقول: إنّ الهوى والطباع يدعوان أبدًا إلى إتّباع اللذّات الحاضرة وإيثارها من غير فكر ولا رويّة في عاقبة ويحثّان عليه ويُعجلان إليه، وإن كان جالبًا
1 / 21
للألم من بعد ومانعًا من اللذّة ما هو أضعافٌ لِما تقدّم منها. وذلك أنهما لا يريان إلا حالتهما في الذي هما فيه لا غير، وليس بهما إلاّ إطّراح الألم المؤذي عنهما وقتَهما ذلك، كإثار الطفل الرَمِد حكَّ عينيه وأكلَ التمر واللعبَ في الشمس. ومن اجل ذلك يحقّ على العاقل أن يردعهما ويقمعهما ولا يُطلقهما إلاّ بعد التثبُّت والنظر فيما يُعقبانه ويمثّلَ ذلك ويزنَه ثم يتبعَ الأَرجح لئلاّ يألم من حيث ظنّ أنه يلّتذّ ويحسر من حيث ظنّ أنه يربح. فإن دخلت عليه من هذا التمثيل والموازنة شبهة لم يُطلق الشهوة لكن يقيم على ردعها ومنعها. وذلك أنه لا يأمن أن يكون في لإطلاقها من سوء العاقبة ما يكون إيلامه واحتمال مؤو نته أكثر من احتمال مؤونة الصبر على قمعها أضعافًا مضاعَفةً، فالحزم إذًا في منعها. وإن تكافأت عنده المؤونتان أقام أيضًا على ردعها، وذلك أنّ المرارة المتجرِّعة أهون وأيسر من المنتظَرة التي لابدّ من تجرُّعها على الأمر الأكثر. وليس يكتفي بهذا فقط بل ينبغي أن يقمع هواه في كثير من الأحوال - وإن لم ير لذلك عاقبةً مكروهةً - ليمرّن نفسه ويروضها على احتمال ذلك واعتياده فيكون ذلك عليها عند العواقب الرديئة أسهل، ولئلا تتمكن الشهوات منه وتتسلّط عليه. فإن لها من التمكّن في نفس الطبيعة والجبّلة ما لا يحتاج أن يُزاد فضل تمكّن فضل تمكنٍ بالعادة أيضًا فيصيرَ بحالٍ لا يمكن مقاومتُها بتّةً. وينبغي أن تعلم أن المؤثرين للشهوات المدمنين لها المنهمكين فيها يصيرون منها إلى حالة لا يلتذّونها ولا يستطيعون مع ذلك
1 / 22
تركها فإنّ المدمنين لغشيان النساء وشرب الخمور والسماع - على أنها من أقوى الشهوات وأوكدها غرزًا في الطباع - لا يلتذونها التذاذَ غير المدمنين لها لأنها تصير عندهم بمنزلة حالةٍ عنده، أعني المألوفة المعتادة، ولا يتهيّأ لهم الإقلاع عنها لأنها قد صارَت عندهم بمنزلة الشيء الاضطراري في العيش لا بمنزلة ما هو فضل وتترُّفٌ. ويدخل عليهم من أجلها التقصير في دينهم ودنياهم حتى يُضطرّوا إلى استعمال صنوف الحِيَل واكتساب الأموال بالتغرير بالنفس وطرحها في المهالك، فإذا هم شقوا من حيث قدّروا السعادة واغتنّموا من حيث قدّروا الفرح وألموا من حيث قدروا اللذّة. وما أشبههم في هذا الموضع بالحاطب على نفسه الساعي في هلاكها، كالحيوان المخدوعة بما يُنصب لها في مصايدها، حتى إذا حصلت في المصيدة لم تنل ما خُدعت به ولا أطاقت التخلُّص ممّا وقعت فيه. وهذا المقدار من الشهوات مُقنع، وهو أن يُطلَق
1 / 23
منها ما عُلم أنّ عاقبتة لا تجلب ألَمًا ولا ضَرَرًا دنيائيٍّا موازيًا للذّة المُصابة منها فضلًا عمّا تجلب ممّا يُوفى ويرجح على اللّذة التي أُصيبت في صدرها. وهذا يراه ويقول به ويوجب حمل النفس عليه مَن كان من الفلاسفة ل يرى أنّ للنفس وجودًا بذاتها، ويرى أنها تفسد بفساد الجسم الذي هي فيه. فأمّا مَن يرى أنّ للنفس أنيّةً وذاتًا مّا قائمة بنفسها وأنها تستعمل الجسم الذي لها بمنزلة الأداة والآلة وأنها لا تفسد بفساده فيرتقون من زمّ الطباع ومجاهدة الهوى ومخالفته إلى ما هو أكثر من هذا كثيرًا جدًا، ويرذلون ويستنقصون المنقادين له والمائلين معه تنقُّصًا شديدًا ويحلّونهم محلّ البهائم، ويرون أنّ لهم - في اتّباع الهوى وإيثاره والميل مع اللذّات والحبّ لها والأسف على ما فات منها وإيلام الحيوان لبلوغها ونيلها - عواقبَ سوءٍ بعد مفارقة النفس للجسد يكثر ويطول لها ألمها وأسفها وحسرتها. وقد يستدل هؤلاء من نفس هيئة الإنسان على أنه لم يتهيّأ للشغل باللذّات والشهوات بل لاستعمال الفكر والرويّة من تقصيرة في ذلك عن الحيوان غير الناطق. وذلك أنّ البهيمة الواحدة تُصيب من لذّة المأكل والمنكح ما لا يصيبه ولا يقدر عليه عدد كثير من الناس. فأمّا حالها في سقوط الهّم والفكر عنها وهناءة عيشها وطيبها بذلك فحالة لا يصيب الإنسان ولا يقدر على مثالها بتّةً، وذلك أنها من هذا المعنى في الغاية والنهاية. فإنّا نرى البهيمة
1 / 24
قد حضر وقت ذبحها وهي منهمكة مقبلة على مأكلها ومشربها. قالوا: فلو كانت إصابة الشهوات والميل مع دواعي
الطباع هو الأفضل لم يكن يُبخسُه الإنسان ويُعطاه ما هو أخس منه من الحيوان. وفي بخس الإنسان وهو أفضل الحيوان المائت حظَّه من هذه الأشياء وتوفر الحظ له من الروية والفكر ما يُعلم منه أن الأفضل له استعمال النطق وتزكيته لا الاستعباد والانقياد لدواعي الطباع قالوا: ولئن كان الفضل في إصابة اللذات والشهوات ليكونون من له الطباع المتهئ لذلك أفضل ممن ليس له ذلك، فإن كان كذلك فالثيران والحمير أفضل من الناس لا بل ومن الحيوان غير المائت كله ومن البارئ ﷿ إذ ليس بذى لذّة ولا شهوة قالوا: ولعل بعض الناس ممن لا رياضة له ولا يروِّى ولا يفكر في أمثال هذه المعاني لا يُسلِّم لنا أن البهائم تصيب من اللذّة أكثر مما يصيبه الناس. ويحتجّ علينا بمَلِكٍ ما ظفر بعدو منازع ثم جلس من وقته ذلك للهو واحتشد في إظهار جميع زينته وهيئته حتى بلغ من ذلك غاية ما يمكن الناس بلوغهُ، فيقول أين التذاذ البهيمة من التذاذ هذا وهل له عنده مقدار وله إليه نسبة؟ فليعلم قائل هذا أنّ كمال اللذّة ونقصانها ليس يكون بالإضافة من بعضها إلى بعض بل بالإضافة إلى مقدار الحاجة إليها. فإنّ مَن لا يُصلِح حاله إلاّ ألفُ دينار إن أُعطِيَ منها تسع مائة وتسعة وتسعين دينارًا لم يتم له صلاح حاله تلك. ومَن كان يُصلح حالَه الدينارُ الواحد يتم له صلاحُ حالته بإصابة ذلك الدينار الواحد، على أنّ الأوّل قد أُعطِيَ أضعاف هذا فلم يكمل له صلاح حالته. والبهيمة إذا تَوَفَّر عليها ما يدعوها إليه الطباع كمل وتمّ التذاذها بذلك، ولا يضرها ولا يؤلمها فوت ما وراء ذلك إذ كان لا يخطر لها ببال بتّةً. على أنّ للبهيمة فضل اللذّة أبدًا على كل حال. وذلك أنه ليس أحد من الناس يقدر أن يبلغ كل أمانيه وشهواته، لأنّ نفسه لمّا كانت نفسًا مفكرةً مروِّيةً متصوِّرةً للغائب عنه وكان في طباعها أن لا تكون لذي حال حالة إلاّ وتكون حالتها هي الأفضل، لا تخلو في حالة من الأحوال من التشوُّق والتطلُّع إلى ما لم تَحْوِه والخوف والإشفاق على ما قد حوته، فلا تزال لذلك في نقص من لذّتها وشهوتها. فإنّ إنسانًا لو ملك نصف الأرض لنازعته نفسه إلى ما بقى منها وأشفقت وخافت من تفلُّت ما حصل له منها، ولو ملك الأرض بأسرها لتمنَّى دوام الصحة والخلود وتطلّعت نفسه إلى علم خبر جميع ما في السماوات والأرضين. ولقد بلغني عن بعض الملوك الكبار الأنفس أنه ذُكِرَ عنده ذات يوم الجنة وعظيم ما فيها من النعيم مع الخلود، فقال أمّا أنا فإنِّي أتنغص هذا النعيم وأستمره إذا فكرت بأنِّي منزَّل فيها منزلة المُفضَّل عليه المُحَسن إليه. فمتى يتم التذاذ هذا واغتباطه بما هو فيه، وهل المغتبط عند نفسه إلاّ البهائم ومن جرى مجراها؟ كما قال الشاعر: هو الأفضل لم يكن يُبخسُه الإنسان ويُعطاه ما هو أخس منه من الحيوان. وفي بخس الإنسان وهو أفضل الحيوان المائت حظَّه من هذه الأشياء وتوفر الحظ له من الروية والفكر ما يُعلم منه أن الأفضل له استعمال النطق وتزكيته لا الاستعباد والانقياد لدواعي الطباع قالوا: ولئن كان الفضل في إصابة اللذات والشهوات ليكونون من له الطباع المتهئ لذلك أفضل ممن ليس له ذلك، فإن كان كذلك فالثيران والحمير أفضل من الناس لا بل ومن الحيوان غير المائت كله ومن البارئ ﷿ إذ ليس بذى لذّة ولا شهوة قالوا: ولعل بعض الناس ممن لا رياضة له ولا يروِّى ولا يفكر في أمثال هذه المعاني لا يُسلِّم لنا أن البهائم تصيب من اللذّة أكثر مما يصيبه الناس. ويحتجّ علينا بمَلِكٍ ما ظفر بعدو منازع ثم جلس من وقته ذلك للهو واحتشد في إظهار جميع زينته وهيئته حتى بلغ من ذلك غاية ما يمكن الناس بلوغهُ، فيقول أين التذاذ البهيمة من التذاذ هذا وهل له عنده مقدار وله إليه نسبة؟ فليعلم قائل هذا أنّ كمال اللذّة ونقصانها ليس يكون بالإضافة من بعضها إلى بعض بل بالإضافة إلى مقدار الحاجة إليها. فإنّ مَن لا يُصلِح حاله إلاّ ألفُ دينار إن أُعطِيَ منها تسع مائة وتسعة وتسعين دينارًا لم يتم له صلاح حاله تلك. ومَن كان يُصلح حالَه الدينارُ الواحد يتم له صلاحُ حالته بإصابة ذلك
1 / 25
الدينار الواحد، على أنّ الأوّل قد أُعطِيَ أضعاف هذا فلم يكمل له صلاح حالته. والبهيمة إذا تَوَفَّر عليها ما يدعوها إليه الطباع كمل وتمّ التذاذها بذلك، ولا يضرها
ولا يؤلمها فوت ما وراء ذلك إذ كان لا يخطر لها ببال بتّةً. على أنّ للبهيمة فضل اللذّة أبدًا على كل حال. وذلك أنه ليس أحد من الناس يقدر أن يبلغ كل أمانيه وشهواته، لأنّ نفسه لمّا كانت نفسًا مفكرةً مروِّيةً متصوِّرةً للغائب عنه وكان في طباعها أن لا تكون لذي حال حالة إلاّ وتكون حالتها هي الأفضل، لا تخلو في حالة من الأحوال من التشوُّق والتطلُّع إلى ما لم تَحْوِه والخوف والإشفاق على ما قد حوته، فلا تزال لذلك في نقص من لذّتها وشهوتها. فإنّ إنسانًا لو ملك نصف الأرض لنازعته نفسه إلى ما بقى منها وأشفقت وخافت من تفلُّت ما حصل له منها، ولو ملك الأرض بأسرها لتمنَّى دوام الصحة والخلود وتطلّعت نفسه إلى علم خبر جميع ما في السماوات والأرضين. ولقد بلغني عن بعض الملوك الكبار الأنفس أنه ذُكِرَ عنده ذات يوم الجنة وعظيم ما فيها من النعيم مع الخلود، فقال أمّا أنا فإنِّي أتنغص هذا النعيم وأستمره إذا فكرت بأنِّي منزَّل فيها منزلة المُفضَّل عليه المُحَسن إليه. فمتى يتم التذاذ هذا واغتباطه بما هو فيه، وهل المغتبط عند نفسه إلاّ البهائم ومن جرى مجراها؟ كما قال الشاعر:
وهل يَنْعَمَنْ إلاّ سعيد مخَّلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وهذه العصابة من المتفلسفة تترقَّى من زمّ الهوى ومخالفته بل من إهانته
1 / 26
وإماتته إلى أمر عظيم جدًا، حتى إنها لا تنال من المأكل والمشرب إلاّ قوتًا وبُلغةً ولا تقتني مالًا ولا عقارًا ولا دارًا. وربما أقدم الموغلِ منهم في هذا الرأي على اعتزال الناس والتخلَّي منهم ولزوم المواضع الغامرة. وبهذا ونحوه يحتجوّن لصحّة رأيهم من الأشياء الحاضرة المشاهدة. فأمّا ما يحتجون به له من أحوال النفس بعد مفارقتها للبدن فإنّ الكلام فيه يجاوز مقدار هذا الكتاب في شرفه وفي طوله وفي عرضه. أمّا في شرفه فإنه يُبحث فيه عن النفس ما هي ولِمَ هي مع الجسم ولِمَ تفارقه وما تكون حالها بعد مفارقته، وأما طوله فلأنّ كل واحد من هذه البحوث يحتاج في تعبيره وحكايته إلى أضعاف أضعاف ما في هذا الكتاب من الكلام، وأما في عرضه فلأنّ قصد هذه المباحث هو إلى صلاح حال النفس بعد مفارقتها للجسد وإن كان قد يعرض فيه باشتراك الكلام أكثر إصلاح الأخلاق. ولا بأس أن نحكي منه جملة وجيزة من غير أن نتلبس فيه باحتجاج لهم أو عليهم، ونقصد منه خاصةً للمعاني التي نظنّ أنها تُعين على بلوغ غرض كتابنا هذا وتقوِّى عليه.
فنقول: إنّ فلاطن شيخ الفلاسفة وعظيمها يرى أنّ الإنسان ثلاث أنفس يسمِّى إحداها النفس الناطقة والإلهّية والأخرى يسميّها النفس الغضّبية والحيوانية والأخرى النفس النباتية والنامية والشهوانية. ويرى أنّ النفسين الحيوانية والنباتية إنما كوّنتا من أجل
1 / 27
النفس الناطقة. أما النباتية فلتغدو الجسم الذي هو للنفس الناطقة بمنزلة آلة وأداة إذ ليس هو من جوهر باقٍ غير متحلِّل بل من جوهر سيّال متحلّل، وكان كل متحلّل لا يبقى إلاّ بأن يخلف فيه بدلًا ممّا تحلل منه. فأما الغضبية فلتستعين بها النفس الناطقة على قمع النفس الشهوانية ومنعها من أن تشغل النفس الناطقة بكثرة شهواتها عن استعمال نطقها الذي إذا استعملته كَمَلًا كان في ذلك تخلُّصها من الجسم المشتبكة به. وليس لهاتين النفسين - أعني النباتية والغضبيّة - عنده جوهر خاص يبقى بعد فساد الجسم كجوهر النفس الناطقة، بل إحداها وهي الغضبيّة هي جملة مزاج القلب والأخرى وهي الشهوانية هي جملة مزاج الكبد. وأما جملة مزاج الدماغ فإنها عنده أول آلة وأداة تستعملها النفس الناطقة. والأغتذاء والنمو والنشوء للإنسان من الكبد، والحرارة وحركة النبض من القلب. وأما الحس والحركة الإرادية والتخُّيل والفكر والذكر فمن الدماغ، لا على أنّ ذلك من خاصيّتّه ومزاجه بل من الجوهر الحال فيه المستعمل
1 / 28
له على استعمال آلة وأداة، إلا أنه أقرب الآلات والأدوات إلى هذا الفاعل. ويرى أن يجتهد الإنسان بالطب الجسداني وهو الطب المعروف، والطبِّ الروحاني وهو الإقناع بالحجج والبراهين في تعديل أفعال هذه النفوس لئلا تقصِّر عمّا أُريد بها ولئلا تجاوزه. والتقصير في فعل النفس النباتية أن تغدو ولا تُنمى ولا تُنشئ بالكمية والكيفية المحتاجة إليها جملةُ الجسد. وإفراطها أن تتعدى ذلك وتجاوزه حتى يخصب الجسد فوق ما يحتاج إليه ويغرق في اللذّات والشهوات. وتقصير فعل النفس الغضبية أن لا يكون عندها من الحمية والأنفة والنجدة ما يمكِّنها أن تزمَّ وتقهر النفس الشهوانية في حال اشتهائها حتى تحول دونها ودون شهواتها، وإفراطه أن يكثر فيها الكِبر وحُبّ الغلبة حتى تروم قهر الناس وسائر الحيوان ولا يكون لها همّ إلا الاستعلاء والغلبة كالحالة التي كان عليها الاسكندر الملك. وتقصير فعل النفس الناطقة أن لا يخطر ببالها استغراب هذا العالم واستكباره والفكر فيه والتعجُّب منه والتطلُّع والتشّوُق إلى معرفة جميع ما فيه وخاصةً علم جسدها الذي هي فيه وهيئته وعاقبته بعد موته، فإنّ مَن لم يستكبر ويستغرب هذا العالم ولم يتعجب من هيئته ولم تتطّلع نفسه إلى معرفة جميع ما فيه ولم يهتمّ ويُعْنَ بتعرُّف ما تؤول إليه الحال بعد الموت فنصيبه من النطق نصيب البهائم لا بل الخُفاش والحيتان والخُشار التي لا تتفكّر ولا تتذكر البتة. وإفراطه أن يميل به ويستحوذ عليه الفكرُ في هذه الأشياء ونحوها حتى لا يمكن النفس الشهوانية أن تنال من الغذاء وما به يصلح الجسم من النوم
1 / 29
وغيره مقدارَ ما تحتاج إليه في بقاء مزاج الدماغ على حالة الصحّة، لكن يبحث ويتطلع ويجتهد غاية الجهد ويقدِّر بلوغ هذه المعاني والوصول إليها في زمان أقصر من الزمان الذي لا يمكن بلوغها إلاّ فيه، فيفسد حينئذ مزاج جملة الجسد حتى يقع في الوسواس السوداوي والملنخوليا ويفوته ما طلب من حيث قدّر سرعة الظفر به. ويرى أنّ المدّة التي جُعلت لبقاء هذا الجسد المتحلل الفاسد بالحال التي يمكن النفس الناطقة استعمالها فيما تحتاج إليه لصلاح أمرها بعد مفارقته - وهي المدّة التي منذ حين يولد الإنسان إلى أن يهرم ويذبل - مدةٌ يفي فيها كل أحد، ولو كان أبلد الناس بعد أن لا يضرب عن الفكر والنظر البتّة، بالتطلُّع على المعاني التي ذكرنا أنها تخصّ النفس الناطقة وبأن يرذل هذا الجسدَ والعالم الجسدانيّ البتّة ويشنأه ويبغضه، ويعلَمَ أنّ النفس الحسّاسة ما دامت متعلقة بشيء منه لم تزل في أحوال مؤذية مؤلمة من أجل تداول الكون والفساد إياه، ولا يكرهَ بل يشتاق إلى مفارقته والتخلُّص منه. ويرى أنه متى كانت مفارقة النفس الحساسة للجسد الذي هي فيه وقد اكتسبت هذه المعاني واعتقدتها صارت في عالمها ولم تشتق إلى التعلُّق بشيء من الجسم بعد ذلك البتّة، وبقيت بذاتها حيةً ناطقةً غير مائتة ولا آلمة مغتبطةَ بموضعها ومكانها. أمّا
الحيوية والنطق فلها من ذاتها، وأما بُعدها عن الألم فلبُعدها عن الكون والفساد، وأما اغتباطها بمكانها وعالمها فلتخلُّصها من مخالطة الجسم والكونِ في العالم الجسداني. وأنه متى كانت مفارقتها للجسد وهي لم تكتسب هذه المعاني ولم تعرف العالم الجسداني حقَّ معرفته بل كانت تشتاق
1 / 30
إليه وتحرص على الكون فيه لم تبرح مكانها ولم تزل متعلقة بشيء منه، ولم تزل - لتداول الكون والفساد للجسد الذي هي فيه - في آلام متصلة مترادفة وهموم جمّة مؤذية. فهذه جملةٌ من رأي فلاطن ومِن قبله سقراط المتخِّلي المتألِّه. وبعدُ فما من رأيٍ دنيائي قطُّ إلاّ ويُوجب شيئًا من زمّ الهوى والشهوات ولا يُطلق إهمالها وإمراجها، فزمُّ الهوى وردعه واجب في كل رأي وعند كل عاقل وفي كل دين. فليلاحظ العاقل هذه المعاني بعين عقله ويجعلها من همّه وباله. وإن هو لم يكتسب من هذا الكتاب أعلى الرُتَب والمنازل في هذا الباب فلا أقل من أن يتعلق ولو بأخس المنازل منه، وهو رأيُ مَن رأي زمَّ الهوى بمقدار ما لا يجلب
1 / 31
ضررًا عاجلًا دنيائيًّا. فإنه وإن تجرع في صدور أموره من زمّ الهوى وقمعه مرارةً وبشاعةً فستُعقبه أردافها حلاوةً ولذاذةً يغتبط بها ويعظم بها سروره وارتياحه عندها، مع أنّ المؤونة في احتمال مغالبة الهوى وقمع الشهوات ستخف عليه بالاعتياد ولا سيّما إذا كان ذلك على تدريج بأن يعّود نفسه ويأخذها أولًا بمنع اليسير من الشهوات وتركِ بعض ما تهوى لِما يوجبه العقل والرأي، ثم يروم من ذلك ما هو أكثر حتى يصير ذلك فيه مقارنًا للخُلق والعادة وتذلّ نفسه الشهوانية وتعتاد الانقياد للنفس الناطقة. ثم يزداد ذلك ويتأكد عند سروره بالعواقب العائدة عليه من زمّ هواه وانتفاعه برأيه وعقله وسياسة أموره بهما ومدح الناس له على ذلك واشتياقهم إلى مثل حاله. يوية والنطق فلها من ذاتها، وأما بُعدها عن الألم فلبُعدها عن الكون والفساد، وأما اغتباطها بمكانها وعالمها فلتخلُّصها من مخالطة الجسم والكونِ في العالم الجسداني. وأنه متى كانت مفارقتها للجسد وهي لم تكتسب هذه المعاني ولم تعرف العالم الجسداني حقَّ معرفته بل كانت تشتاق إليه وتحرص على الكون فيه لم تبرح مكانها ولم تزل متعلقة بشيء منه، ولم تزل - لتداول الكون والفساد للجسد الذي هي فيه - في آلام متصلة مترادفة وهموم جمّة مؤذية. فهذه جملةٌ من رأي فلاطن ومِن قبله سقراط المتخِّلي المتألِّه. وبعدُ فما من رأيٍ دنيائي قطُّ إلاّ ويُوجب شيئًا من زمّ الهوى والشهوات ولا يُطلق إهمالها وإمراجها، فزمُّ الهوى وردعه واجب في كل رأي وعند كل عاقل وفي كل دين. فليلاحظ العاقل هذه المعاني بعين عقله ويجعلها من همّه وباله. وإن هو لم يكتسب من هذا الكتاب أعلى الرُتَب والمنازل في هذا الباب فلا أقل من أن يتعلق ولو بأخس المنازل منه، وهو رأيُ مَن رأي زمَّ الهوى بمقدار ما لا يجلب ضررًا عاجلًا دنيائيًّا. فإنه وإن تجرع في صدور أموره من زمّ الهوى وقمعه مرارةً وبشاعةً فستُعقبه أردافها حلاوةً ولذاذةً يغتبط بها ويعظم بها سروره وارتياحه عندها، مع أنّ المؤونة في احتمال مغالبة الهوى وقمع الشهوات ستخف عليه بالاعتياد ولا سيّما إذا كان ذلك على تدريج بأن يعّود نفسه ويأخذها أولًا بمنع اليسير من الشهوات وتركِ بعض ما تهوى لِما يوجبه العقل والرأي، ثم يروم من ذلك ما هو أكثر حتى يصير ذلك فيه مقارنًا للخُلق والعادة وتذلّ نفسه الشهوانية وتعتاد الانقياد للنفس الناطقة. ثم يزداد ذلك ويتأكد عند سروره بالعواقب العائدة عليه من زمّ هواه وانتفاعه برأيه وعقله وسياسة أموره بهما ومدح الناس له على ذلك واشتياقهم إلى مثل حاله.
الفصل الثالث
جملةٌ قُدّمت قبل ذكر عوارض النفس
الرديئة على انفرادها
أما وقد وطأنا لما يأتي بعدُ من كلامنا أُسَّه وذكرنا أعظم الأصول في ذلك مما فيه غنىً وعليه معونةٌ فإنا ذاكرون من عوارض النفس الرديّة والتلُّطف لإصلاحها ما يكون قياسًا ومثالًا لِما لم نذكره منها. ونتحرى الإيجاز والاختصار
1 / 32
ما أمكن في الكلام فيها، إذ قدّمنا السبب الأعظم والعلة الكبرى التي منها نستقي وعليها نبني جميع وجوه التلطُّف لإصلاح خُلق ما ردى. حتى أنه لو لم يُفَرد ولا واحدٌ منها بكلام يخصه بل أُغفِلَ ولم يُذكر بتّةً لكان في التحفُّظ والتمسُّك بالأصل الأول غني وكفاية لإصلاحها، وذلك أنّ جُلها مما يدعو إليه الهوى وتحمل عليه الشهوات، وفي زمّ هذين وحفظهما ما يمنع التمسُّك والتخلُّق بهما. إلاّ أنّا على كل حال ذاكرون من ذلك ما نرى أنّ ذكره أوجب وألزم وأعون على بلوغ غرض كتابنا هذا، وبالله نستعين.
الفصل الرابع
في تعرُّف الرجل عيوب نفسه
من أجل أنّ كل واحد منّا لا يمكنه منع الهوى محبةً منه لنفسه واستصوابًا واستحسانًا لأفعاله، وأن ينظر بعين العقل الخالصة المحضة إلى خلائقه وسيرته -لا يكاد يستبين ما فيه من المعايب والضرائب الذميمة، ومتى لم يستبين ذلك فيعرفه لم يُقلِع عنه إذ ليس يَشعُر به فضلًا عن أن يستقبحه ويعمل في الإقلاع
1 / 33
عنه - فينبغي أن يُسند الرجل أمره في هذا إلى رجل عاقل كثير اللزوم له والكون معه، ويسأله ويضرع إليه ويؤكِّد عليه أن يُخبره بكل ما يعرفه فيه من المعايب، ويُعلمه أن ذلك أحبُ الأشياء إليه وأوقعها عنده، وأنّ المنّة عليه منه تعظم في ذلك والشكر يكثر، ويسأله أن لا يستحييه في ذلك ولا يجامله، ويعلمه أنه متى تساهل وضجع في شيء منه فقد أساء إليه وغشه واستوجب عليه اللائمة عليه. فإذا أخذ الرجل المشرف يُخبره ويُعلمه ما فيه وما ظهر وبان له منه لم يُظهر له اغتمامًا ولا استخزاءً، بل اظهر له سرورًا بما يستمع وتشوُّقًا إلى ما لم يستمع منه. فإن رآه في حالٍ ما قد كتمه شيئًا استحياءً منه أو قصّر في العبارة عن تقبيح ذلك أو حسنها لامه على ذلك وأظهر له اغتمامًا به، وأعلمه أنه لا يحب ذلك منه ولا يريد إلاّ التصريح وإعلامه ما يراه على وجهه. فإن وجده في حال أخرى قد
1 / 34