وكان الشيخ شرف الدين في غالب أوقاته لا يزال داهشا وبصره شاخصا لا يسمع من يكلّمه ولا يراه، فتارة يكون واقفا، وتارة يكون قاعدا، وتارة يكون مستلقيا على قفاه ومسجّى كما يسجّى الميت، وتمر عليه عشرة أيام متواصلة وأقل من ذلك وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا يتكلم ولا يتحرك، ثم يستفيق وينبعث من هذه الغيبة ويكون أول كلامه أنه يملي من القصيدة التائية «نظم السلوك» ما فتح الله عليه.
وكان قاضي القضاة تقي (١) الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، لما قلد الوزارة أيام المنصور قلاوون (٢)، وقع في حق شيخ الشيوخ شمس (٣) الدين الأيكي، في مجلس حقل بالخانقاه الصلاحية وقال له: أنت تأمر الصوفية بالاشتغال «بنظم السلوك» قصيدة ابن الفارض، وهو يميل فيها الى الحلول (٤) وأهانه بالكلام، فدعا عليه وقال له: مثّل الله بك كما مثّلت بي، فعزل عقيب ذلك من الوزارة في أواخر الدولة المنصورية بسؤاله، ثم عزل من القضاء في الدولة الأشرفية (٥) وصودر ومثّل به وحبس مدة، ونسب الى سوء الاعتقاد والى أنه وقع في كلام يفسق به وشهد عليه بالزور (١٤ أ) في ذلك من لا خلاق له، وذلك لأجل غرض الصاحب ابن السلعوسي (٦)، وكان يرسل (٧) في الباطن إلى من يسعى في خلاصه من الأمراء ومشايخ الصوفية والفقراء، وكان إذا اشتد عليه الخناق يقول: اشتدى أزمة تنفرجي، فلمّا منّ الله تعالى عليه بالخلاص [من هذه النكبة] (٨) حضر (٩) الى عند الشيخ
_________
(١) في الأصل تاج الدين وهو لقب والد عبد الرحمن ابن بنت الأعز الذي توفي سنة ٦٦٥ هـ / ١٢٦٦ م، وهو خطأ. راجع ترجمته في الشذرات ٥/ ٣١٩. أما المقصود هنا فهو قاضي القضاة تقي الدين ابن قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الذي توفي بالقاهرة سنة ٦٩٥ هـ / ١٢٩٥ م. راجع طبقات الشافعية الكبرى ٥/ ٦٤ وديوان ابن الفارض ١/ ٨.
(٢) هو الملك المنصور سيف الدين قلاوون المملوكي، تولى السلطنة في مصر سنة ٦٧٨ هـ / ١٢٧٩ م وتوفي سنة ٦٨٩ هـ / ١٢٩٠ م، النجوم الزاهرة ٧/ ٣٨٣ والشذرات ٥/ ٤٠٩.
(٣) في الأصل: صدر الدين، التصويب من ديوان ابن الفارض ١/ ٨ وانظر أيضا الشذرات ٥/ ٤٣٩.
(٤) الحلول: أي حلول الحق تعالى في أعيان العالم، ديوان ابن الفارض ١/ ٩.
(٥) نسبه الى الملك الأشرف بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الذي تولى الحكم بعد وفاة والده سنة ٦٨٩ هـ / ١٢٩٠ م واستمر بالحكم حتى سنة ٦٩٣ هـ / ١٢٩٣ م وهي سنة وفاته مقتولا، راجع النجوم الزاهرة ٨/ ٣ والشذرات ٥/ ٤٢٢.
(٦) هو الصاحب شمس الدين ابن السلعوسي محمد بن عثمان بن أبي الرجاء وزير السلطان الملك الأشرف. راجع ترجمته في الوافي ٤/ ٨٦ والشذرات ٥/ ٤٢٤.
(٧) وكان يرسلني في الباطن، في ديوان ابن الفارض ١/ ٩ والقول هنا لعلي سبط الذي كان يرسله القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز للتوسط بينه وبين الأمراء والمشايخ.
(٨) الزيادة من ديوان ابن الفارض ١/ ٩.
(٩) في المصدر السابق: حضرت عنده أنا، أي علي سبط الشيخ سعد الدين الحارثي الحنبلي المحدث.
1 / 70