والبحتري مكثر جدًا. وديوان شعره مختلف بالزيادة والنقص لأن شعره لا ينضبط لكثرته. قال البحتري: كنت أنظم الشعر في حداثتي وكنت أرجع فيه إلى الطبع ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت فيه إليه وتكلفت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم واعلم أن العادات جرت في الأوقات أن يقصدها الإنسان لتأليف الشيء وحفظه ومن ذلك وقت السحر لأن النفس تكون قد أخذت بحقها من الراحة وقسطها من النوم فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقًا والمعنى رشيقًا وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق، ولوعة الفراق، وإذا أخذت في مدح شيد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقاومه ونفض المعاني واحذر المحتمل منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الهجينة وكن وكأنك خياط تقطع الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل شعرًا إلا فارغ القلب واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة تجمع النفس. وجملة الحال أن تعتبر نفسك بما سبق من شعر الماضيين فما استحسنت العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله تعالى فاعملت نفسي فيما قال فوقفت على السياسة.
قال يمدح أمير المؤمنين على الله ويهنيه بعيد الفطير
أُخفي هوىً لك في الضلوع وأظهر ... وأُلام من كمدٍ عليك وأعذرُ
وأراك على النوى من لم يخن ... عهد الهوى وهجرت من لا يهجر
وطلبتُ منك مودةً لم أعطها ... إن المعنى طالب لا يظفر
هل دينُ علوة َ يستطاع فيقتضى ... أو ظلم علوة يستفيق فيقصر
بيضاءُ يعطيكَ القضيب قوامها ... ويريك عينيها الغزال الأحور
تمشي فتحكم في القلوب بدلّها ... وتميس في ظل الشباب وتخطرُ
وتميل من لين الصبي فيقيمها ... قد يؤنّثُ تارةً ويذكر
إني وإن جانب بعض بطالتي ... وتوهّم الواشون أني مقصٍر
ليشوقني حسن العيون المجتلى ... ويروقني ورد الخدود الأحمر
الله مكّن للخليفة جعفرِ ... ملكًا يحسّنه الخليفةُ جعفر
نعمى من الله اصطفاه بفضلها ... والله يرزق من يشاء ويقدر
فاسلم أمير المؤمنين ولا تزل ... تُعطى الزيادةَ في البقاء وتشكر
عمت فواضلُك البرية فالتقي ... فيها المقلّ على الغنى والمكثر
بالبر صمتَ وأنت أول صائم ... وبسنة الله الرضيّه تفطر
فانعم علينا بيوم عينًا إنه ... يومٌ أغر من الزمان مشهّر
أظهرت عزّ الملك فيه بجحفلٍ ... لجبٍ يحاط الدينُ فيه ويُنصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عددًا يسير بها العديدُ الأكثر
فالخيل تصهل والفوارسُ تدّعي ... والبيضُ تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعةٌ تميل بثقلها ... والجو معتكرُ الجوانب أغبر
والشمس ماتعةٌ توقّد بالضحى ... طورًا ويطفئها العجاجُ الأكدر
حتى طلعت بضوءِ وجهك فانجلى ... ذلك الدجى وانجاب ذاك العثير
وافتنّ فيك الناظرون فاصبغٌ ... يوما إليك بها وعينٌ تنظر
يجدونَ رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعمِ الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبيّ فهللوا ... لمّا طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيتَ ألى المصلّي لابسًا ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر
ومشيت مِشية خاضعٍ متواضعٍ ... لله لا يزهى ولا يتكبر
فلو أن مشتاقًا تكلفَ فوق ما ... في وسعِه لمشى إليك المنبر
أبديتَ من فضلِ الخطاب بحكمة ... تُنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبيّ مذكرًا ... بالله تنذرُ تارةً وتبشر
ومواعظ شفتِ الصدور من الذي ... يعتادها وشفاؤها متعذر
حتى لقد علَم الجهولُ وأخلصت ... نفسُ المروّى واهتدى المتحير
صلّوا وراءك آخذين بعصمةٍ ... من ربهم وبذمةٍ لا تخفر
فاسلم بمغفرة الإله فلم يزل ... يَهبُ الذنوبَ لمن يشاء ويغفر
الله أعطاك المحبة في الورى ... وحباك بالفضل الذي لا ينكر
ولأنت أملأُ للعيون لديهم ... وأجلٌُّ قدرًا في الصدور وأكبر
1 / 24