ولحظة من لحظات العبادة، أو سكرة من سكرات الحب، أو عندما يسمعون نغمة أو يقرؤون شعرًا. هذه اللحظات هي التي تدلنا على ذلك العالَم، هي أشعة ضئيلة من ذلك النور الباهر، تُذيق النفسَ حلاوة الآخرة في الدنيا لتسعى لها وترغب فيها.
قابل بين هذه اللذائذ الروحية وبين اللذاذات المادية. الطعام والشراب؟ إنك لتشبع فتصير لذة الطعام في نظرك صفرًا. والنساء؟ إنك لتتصل بهن حتى تأتي عليك ساعات وهن أبغض إليك من كل شيء. على أن هذه الصلة لا تروي غليلًا ولا تُشبع للنفس جوعًا. فيا بؤس مَن قنعَ بالحياة المادية وحُرم من لذائذ الروح! ويا ويح من يكفر بما وراء المادة وما بعد الحس، يا ويحه!
أليس في أثناء نفسه ذكرى؟ أما فيها أمل؟ أليس بين جنبيه روح؟ فكيف ينكر روحه وأمله وذكراه؟ أيجحد ما دليله في نفسه؟ ﴿أفَلا تُبْصِرون﴾؟
* * *
وكان الفجر يؤذن فخرجت إلى المسجد. وللمسجد في ساعة الفجر روعة وجلال وأثر في النفس لا يدركه البيان، ولمسجد أبي حنيفة أوفرُ نصيب من ذلك. وأشهد أني لم أجد في بغداد كلّها مكانًا أحسّ فيه الاطمئنان وأشعر فيه بالخشوع والتجلي كهذا المسجد؛ لا لمكان أبي حنيفة منه، فإن أبا حنيفة لا يضرّ ولا ينفع، ولا يكون مؤمنًا من يرى فيه ذلك أو يتخذ من قبره صنمًا يعبده ويتمسح به. ولكن الله قد خصّ هذا المسجد بهذه الروح لإخلاص أبي حنيفة الإمام الأعظم، وعلمه وأثره في الفقه
1 / 35