Lumière et Papillon
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Genres
ولا يخالجني الظن ولا الطموح ولا حتى الأمل بأن يسطع بأي ضوء، ناهيك أن يكون نورا بهي السناء، لذا يكفيني ويرضيني أن يتلقاه القراء بنفس الحب الذي كتبته به، وأن يعفوا عن جوانب القصور أو التقصير التي يمكن أن يجدوها فيه ولا يسلم منها أي جهد بشري. ولهذا أستأذنكم في عرض قصته والتحولات التي مر بها عرضا مختصرا.
ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى في شكل كتيب رقيق أنيق، وذلك بفضل دار المعارف التي تكرمت بإصداره في سلسلة اقرأ (عدد فبراير سنة 1979م)، وبفضل الغلاف الجميل الذي رسمه الفنان الكبير جودة خليفة بريشته المبدعة التي صورت وجه «جوته» الرزين الحكيم وهو يتطلع إلى الأفق بنظرته العميقة النافذة، وتشع منه نفس الطمأنينة والثقة والحب الذي كتب به أعماله الباقية، واحتضن به العالم والإنسان والآداب العالمية في وحدة واحدة. وما زلت أذكر كيف كانت الأيام والليالي التي قضيتها في تأليفه من أمتع الأوقات التي عشتها في حياتي، بحيث تبدو لي اليوم أشبه بلحظة طويلة ممتدة أحب أن أسميها باللحظة الخالدة أو لحظة الأبدية، وهي تلك التي يشعر فيها الإنسان بأنه وجد نفسه وارتفع فوقها في نفس الوقت إلى نوع من الحضور النادر الذي يكاد أن يكون نعمة إلهية أو قطعة من الجنة السماوية التي يتاح لنا في حياتنا الأرضية الشقية أن نعيش فيها لحظات خاطفة تعدل العمر كله.
كنت قد اكتفيت في ذلك الكتيب بتعريف القارئ «بالديوان الشرقي-الغربي» تعريفا قصيرا يجذبه إليه ويعينه على تذوق بعض قصائده التي فاجأت صاحبه وانهمرت عليه انهمار المطر المبارك في فترة عصيبة ومتأخرة من حياته، فترة تلبدت فيها سماء بلاده بدخان حروب التحرير من قبضة نابليون وجيوشه، وعصفت بقلبه الكهل تجربة حب رائع وفاجع لشاعرة رقيقة وفاتنة من عمر ابنه الوحيد، وهي «مريانة فون فيلمر» التي أطلق عليها في الديوان اسم زليخا، وقدمت للكتيب بفصل قصير عن استلهام التراث العالمي كما فعل جوته عندما استلهم بعض الأصول العربية والفارسية والتركية في عدد كبير من قصائد ديوانه، وبلغ بي الوهم أو بلغت بي النية الطيبة في ذلك الحين أن تصورت هذا الاستلهام في صورة المنقذ أو طوق النجاة للإبداع العربي الراكد المياه، وعلى الرغم من تأكيدي المستمر بأن روافد الاستلهام عديدة ومتنوعة، وأن الأمر فيه يرجع في البداية والنهاية لتقدير المبدع وذوقه واختياره وموهبته، فيبدو لي اليوم أنني كنت أحاول أن أشجع نفسي على العودة للكتابة القصصية والمسرحية التي كانت أوراق شجرتها قد بدأت تجف وتتساقط ورقة بعد ورقة في هجير حالة الحصار التي كانت تطوقني - وأظن أنها تطوق بأشكال مختلفة كل من يحاول في بلادنا العربية أن يعكف على التفكير الحر والبحث والكتابة الحقيقية - بمتاعب التعليم الجامعي المتخلف، وألوان الإحباط العام والخاص، وضجيج السوق الثقافية الكاسدة بالأصوات المرتفعة من حناجر السماسرة والحواة والثوريين المزيفين، كما يبدو لي أن الموضوع كله لا يخلو من السذاجة إذا قيس بما يقال ويكتب ويترجم في هذه الأيام عن نظريات «التلقي» التي أصبحت فرعا هاما من فروع النقد الأدبي الحديث.
وانتقلت بعد ذلك إلى فصلين قصيرين عن جوته والعالم العربي وجوته والإسلام، اقتصرت فيهما على عرض الحقائق والمعلومات الضرورية دون الدخول في تفصيلات تحتاج لبحوث مستقلة. وكنت قد رجعت في ذلك الحين إلى كتيبين جميلين أصدرتهما الباحثة الكبيرة «كاترينا مومزن» عن «جوته والمعلقات» و«جوته والإسلام»، وذلك قبل أن تصدر كتابها الضخم «جوته والعالم العربي» الذي ضمت فيه هذين الكتيبين وأضافت إليهما بحوثا أخرى وتفصيلات دقيقة تتبعت فيها تطور علاقة جوته بالإسلام وبالأدب العربي تتبعا مرهقا كما سنرى بعد قليل، وكان آخر فصول الكتيب المذكور فصل أطول قليلا عن قصة الديوان الشرقي وارتباطه بتجارب حياة جوته وحبه في المرحلة الخصبة النادرة التي استرد فيها ربيع شبابه البيولوجي والإبداعي، بعد أن كاد يخنق أنفاسه خريف اليأس والملل والضيق من صغار الخصوم، والخوف من الشيخوخة الزاحفة. ثم ألحقت بالفصول الأربعة مختارات من قصائد الديوان التي هزتني في ذلك الحين وجعلتني أصوغ عددا منها في أشكال إيقاعية منظومة مع توخي الحذر من التصرف في معانيها وصورها الأصلية إلا في أضيق الحدود.
هكذا نمت القطرة الصغيرة المتواضعة في محارتها الساكنة حتى خرجت للنور على هيئة «الخرزة» الصغيرة التي حكيت لك عن قصتها ومحتوياتها. ولكن القطرة لم تقتنع منذ ذلك الحين بذلك المصير المتواضع، وظل الشوق يشتعل في قلبها بأن تصبح لؤلؤة ناصعة أو على الأقل خرزة كبيرة يمكن أن تنظر للناس «نظرة ساحرة بهية السناء». ولبثت قصائد الديوان تعمل عملها في عالمي الباطن وتلح علي أن أظهرها إلى النور في ثوب عربي ملائم وخال من البقع والخروق التي أساءت إليه.
وتفسير ذلك معناه السير على طريق شائك يحفه الحرج والخجل من كل ناحية. ولكنني سأحاول أن أخطو عليه الخطوات الضرورية التي تحتمها الأمانة ويفرضها حب الحقيقة وعدم السكوت عن الحق.
وقد علمنا أرسطو أن نحب الحقيقة أكثر من حبنا لأفلاطون وأصحاب الأكاديمية، كما علمتنا الروح الإسلامية أن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال. ولا بد إذن من وقفة عاجلة أقدم فيها باقات التقدير الواجب - مع كل الحب والعرفان - لأستاذ جليل ورائد عملاق، لولاه ما عرف جيلي شيئا يذكر عن جوته أو غيره من المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين يصعب حصر أسمائهم، مع بعض الأشواك القليلة التي تلازم قول الحق وإبداء الرأي النقدي حتى ولو صدر عن تلميذ متواضع يعلم تمام العلم مدى ما يدين به لأستاذه، كما يشعر أيضا بأن ذلك لن يغضبه، بل ربما أسعده؛ لأن من تمام أستاذية المعلم أن يكون تلاميذه خطوة بعده ، وحتى إذا لم يستطيعوا ذلك فلا أقل من أن لا يكونوا نسخة منه؛ وبيان ذلك كله أنني قمت أثناء العمل في ذلك الكتيب بمراجعة الترجمة العربية للديوان الشرقي التي أصدرها الأستاذ الكبير عن دار النهضة العربية في عام 1967م. وقد أذهلني الجهد الجبار الذي بذله أستاذي «عبد الرحمن بدوي» في هذا العمل - شأنه شأن سائر أعماله التي أربى عددها على المائتين - كما أعجبت أشد الإعجاب بالشروح الدقيقة المستفيضة التي ألحقها بكل قصيدة من قصائد الديوان التي زادت بدورها على الثلاثمائة، ولكنني ذهلت أيضا وصدمت لكثرة الأخطاء الجسيمة والمعاظلات الشنيعة في الترجمات الشعرية لبعض القصائد، كما أحسست بأن معظمها يلفه ضباب الغموض ويعكر صفوه سحاب التعقيد غير الضروري، على الرغم من سهولة الأصل وبساطته إلا في حالات استثنائية نادرة. دع عنك عذوبة النص الأصلي وحلاوة إيقاعه وأنغام قوافيه التي يقف أمامها بطبيعة الحال أي مترجم في أية لغة موقف العاجز القليل الحيلة. وربما زاد من دهشتي وحزني أن شاعر الديوان نفسه قد جعل السهولة والبساطة والإفهام هي القاعدة التي سار عليها في كل إنتاجه، ولا يقلل من ذلك ولا ينفيه أن يتلبس شعره شيء من الغموض الشفاف أو «السر المكشوف» على حد تعبيره، وأن نشعر بذلك في الديوان نفسه وإن اقتصر الأمر على قصائد معدودة بحكم ارتفاعها إلى آفاق صوفية ودينية وكونية شاملة (كما سنلمس ذلك في قصائد مثل «حنين مبارك» و«لقاء من جديد» و«أعلى والأعلى» التي أرجو أن تقربك إليها الشروح المفصلة في هذا الكتاب).
مهما يكن الأمر، فقد صممت القطرة الصغيرة المتواضعة - حتى بعد صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب قبل ما يقرب من العشرين عاما - على الرجوع إلى محارتها الساكنة، لعلها أن تنمو وتكتمل في شكل جديد، ولا أقول في صورة لؤلؤة ناصعة البريق؛ لأن مرجع الحكم في ذلك إلى القراء والنقاد. وشجعني على هذا القرار - برغم حالة الحصار التي استمر اختناقي فيها كما أشرت من قبل حتى بلغ حد الغدر والتطاول والإهانة من بعض الزملاء والأبناء - سامحهم الله - أقول شجعني عليه أن بعض الأصدقاء باركوه واستحثوني عليه، ويطيب لي أن أذكر منهم صفوة أصدقاء العمر مثل الشاعر الكبير «عبد العزيز المقالح» الذي كان أول من بشرني بصدوره وإعلان فرحته به أثناء وجودي بصنعاء وعملي بجامعتها، والشاعر الكبير المرحوم «صلاح عبد الصبور»، والكاتب القصصي والمسرحي والإذاعي «عبد الرحمن فهمي». ولكن القطرة بقيت حبيسة محارتها القلقة المضطربة مع غيرها من القطرات المحرومة من نور الشمس، إلى أن اتخذت قراري الخطر بالتفرغ الكامل للقراءة والكتابة فيما بقي من العمر، واستطعت أن أنتزع نفسي من عالم المنغصات والتفاهات اليومية لأجذبها إلى عالم هذا الديوان وأعكف على ترجمته وشرحه خلال العام الأخير، أي بعد أن جاوزت الخامسة والستين، وأصبحت - مع الفارق الشاسع بطبيعة الحال - في نفس السن التي عكف فيها صاحب الديوان على تجربته الفريدة.
ومن أهم العوامل التي دفعتني للإقبال على هذا العمل أن سلسلة «عالم المعرفة» المرموقة عهدت إلي قبل حوالي ثلاثة أعوام بالقيام بمراجعة ترجمة كتاب «جوته والعالم العربي» للسيدة «كاترينا مومزن»، وهي الترجمة التي قام بها الزميل الدكتور «عدنان عباس علي» المقيم بمدينة فرانكفورت. وقد أتاحت لي المراجعة الدقيقة للكتاب والتعليق عليه أن أعايش قصائد الديوان الشرقي مرة أخرى، وأجدد في نفسي العزم على إخراج القطرة من محارتها مهما كان الأمر، ومع أن الكتاب الأخير يحتوي (كما قلت) على تفصيلات بلغت الغاية من الدقة والاستقصاء، فقد أبقيت على فصول الطبعة الأولى كما هي عليه، باستثناء بعض التصويبات والإضافات الطفيفة التي لم تغير منها تغييرا يذكر. ومن شاء أن يستزيد من الموضوعات التي عالجتها في فصول الطبعة السابقة - مثل علاقة جوته بالأدب العربي وبالإسلام وبالظروف التي نشأت في ظلها بعض قصائد الديوان - فليرجع مشكورا إلى هذا الكتاب (الذي ظهر في شهر رمضان سنة 1415ه/فبراير سنة 1995م، في العدد 194 من السلسلة المذكورة).
بقي أن أقول إنني اعتمدت في ترجمة النص الأصلي للديوان وفي الشروح المستفيضة التي ألحقتها به اعتمادا أساسيا على طبعة هامبورج المشهورة لأعمال جوته، المجلد الثاني بإشراف الأستاذ «إريش ترونس»،
Page inconnue