Lumière et Papillon
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Genres
ومع أن جوته قد اقتصر في كلامه عن العرب على الحديث عن المعلقات وشعرائها، وعلى ترجمة قصيدة مشهورة لشاعر جاهلي هو «تأبط شرا» وجد أنه لا يختلف في روحه اختلافا كبيرا عن أولئك الشعراء الكبار، فإن أوراقه ودراساته التي مهدت للديوان تشهد بأن معلوماته عن الأدب العربي تفوق ذلك بكثير، فهو مثلا قد عرف بعض المجموعات الشعرية العربية - منها حماسة أبي تمام - كما عرف مجموعة من الأمثال والحكم العربية، وقرأ جزءا كبيرا من ألف ليلة وليلة، إلى جانب أنه ذكر اسم المتنبي ذكرا عابرا في معرض كلامه عن الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وفي إحدى قصائد الديوان الشرقي، وإن لم يعرف في الحقيقة شيئا يذكر عن شاعر العربية الأكبر. ونستطيع أن نقول اليوم في شيء من الحسرة والأسف إنه لو قدر له أن يعرف شيئا عن الترجمات الألمانية المتأخرة لشعر المتنبي والمعري ومقامات الحريري وغيرها، فربما كان اهتمامه وحماسه للأدب العربي قد زاد أضعافا مضاعفة عما نعرف عنه في اليوم. مهما يكن من شيء فسوف أقصر حديثي هنا على تأثره بشعراء المعلقات، وبروح الإسلام من كتابه الكريم، محاولا أن أبين مدى تأثره بهما في إنتاجه.
والمعلقات هي أعلى كنوز الأدب العربي قبل الإسلام، وقد يختلف مؤرخو الأدب في عدد هذه القصائد المشهورة بالقصائد السبع الطوال وفي مدى أصالتها، وذلك منذ أثار طه حسين الشك حولها في كتابه المعروف عن الأدب الجاهلي، إلا أنهم سيتفقون بلا جدال عن الإعجاب بشاعر غربي اهتم بهذه القصائد أيما اهتمام، وراح يبحث عنها في ترجماتها المختلفة بكل الوسائل التي تيسرت له في عهده، بل بلغ إعجابه بها أن ترجم عددا من أبيات معلقة امرئ القيس ثم تأثر بها بعض التأثر في إنتاجه. ويبدو أن التفسير اللفظي لكلمة المعلقات من أنها قصائد تكتب بالذهب ويعتز بها العرب في الجاهلية فيعلقونها على الكعبة الشريفة، لعل هذا التفسير الخرافي الجميل كان من أقوى الأسباب التي جعلت الشاعر الألماني يعجب بها كل هذا الإعجاب.
عرف جوته سبع معلقات، وصلت إليه في ترجمة لاتينية قام بها المستشرق الإنجليزي وليم جونز وظهرت مع الأصل العربي في لندن سنة 1783م تحت هذا العنوان: «المعلقات أو القصائد العربية السبع التي كان معلقة على الكعبة». ولعل أوفى تعليق على هذه القصائد هو ما نجده في التعليقات والبحوث التي ألحقها جوته بالديوان الشرقي في الفصل الذي خصصه للعرب حيث يقول:
1
ونحن نجد لدى العرب كنوزا رائعة في المعلقات. وهي قصائد مديح فازت في المباريات الشعرية، ونظمت قبل عهد محمد، وكتبت بحروف من ذهب وعلقت على أبوب بيت الله الحرام في مكة. وهي تعبر عن أمة بدوية محاربة، تعذبها من الداخل المنازعات المستمرة بين القبائل المتعددة، وتصور التعلق الراسخ برفاق القبيلة، كما تصور حب الشرف والشجاعة، والشهوة العارمة للأخذ بالثأر التي يخفف منها الحزن في الحب والكرم والتضحية، وكل هذا بغير حدود. وهذه الأشعار تعطينا فكرة وافية عن الثقافة العالمية التي تميزت بها قبيلة قريش التي نشأ فيها محمد نفسه، وتزداد قيمة هذه القصائد البديعة وعددها سبع، بما يغلب عليها من تنوع شديد.
ثم يعزز قوله بما ذكره عنها وليم جونز عندما وصفها بقوله:
إن معلقة «امرئ القيس» لينة، مرحة، ناصعة، أنيقة، متنوعة الأغراض، رشيقة. أما معلقة «طرفة» فجريئة، جياشة بالعاطفة، متوثبة، ومع ذلك يشع فيها شيء من البهجة. ومعلقة «زهير» حادة، جادة، عفيفة، حافلة بالوصايا الأخلاقية والحكم المهيبة. ومعلقة «لبيد» خفيفة، غرامية، أنيقة، رقيقة، وهي تذكرنا بالرعوية الثانية لفرجيل؛ لأنه يشكو من كبرياء الحبيبة وتكبرها، ويتخذ من ذلك فرصة لتعداد فضائله والتفاخر بقبيلته. ومعلقة «عنترة» تبدو متكبرة، متوعدة، رصينة، فخمة، وإن كانت لا تخلو من جمال الأوصاف والصور. وعمرو (ابن كلثوم) عنيف، سام، ميال إلى الفخر. أما الحارث (ابن حلزة) فهو على العكس غني بالحكمة، والذكاء، والكرامة، كذلك تبدو هاتان القصيدتان الأخيرتان أشبه بخطبتين شعريتين سياسيتين مما كان يلقى في الأسواق أمام جمهور من العرب لتسكين الحقد والعداوة المدمرة بين قبيلتين.
هنا يعبر جوته عن مختلف العواطف التي تصورها المعلقات، وأهمها ما يسميه «الحزن في الحب»، وهو قريب من البكاء على الأطلال الذي اشتركت فيه كل المعلقات، واختلف الشراح وما زالوا مختلفين حول تفسيره. ويظهر أن جوته قد أحس بهذه العاطفة أشد الإحساس وأقواه في معلقة امرئ القيس، الأمر الذي دفعه إلى الاهتمام بها، بل ترجمة جزء لا بأس به منها، مما كان له تأثيره بعد ذلك على إحدى قصائد الديوان الشرقي.
2
Page inconnue