Lumière et Papillon
النور والفراشة: رؤية جوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي مع النص الكامل للديوان الشرقي
Genres
من مكتبة فيمار إلى اليوم الخامس من شهر فبراير سنة 1813م، أي قبل عكوفه بصورة جادة على العمل في الديوان الشرقي والاطلاع على كل ما أمكنه التوصل إليه عن الشرق. ويحتمل أن يكون رجوعه لليالي في هذه الفترة بالذات مرتبطا بالكلمة التي كان يعدها «للذكرى الأخوية» لصديقه الأديب كريستوف مارتن فيلاند (1733-1813م) الذي كان قد توفي قبل ذلك بفترة تقل عن الشهر، والذي استلهم الليالي في كثير من حكاياته الخرافية وطالما تحدث عنها مع جوته. ويحتمل أن تكون هذه المناسبة الحزينة قد جددت فيه الشوق للتقليب في الحكايات التي لم تفارق نظره وقلبه أبدا؛ إذ تؤكد الباحثة الكبيرة السيدة كاترينا مومزن أنه أبقى الكتاب لديه - وذلك على غير عادته! - ما يقرب من تسعة شهور قبل أن يعيده إلى المكتبة،
12
كما أنه لم يفكر في استعارته مرة أخرى في الفترة الواقعة بين عامي 1814م و1819م، أي الفترة التي شغل فيها بالديوان حتى صدور طبعته الأولى سنة 1819م.
وليس من المستبعد أيضا أن يكون جوته قد أعاد قراءته لألف ليلة وليلة في غمرة انشغاله بدراسة الآداب الشرقية (لا سيما في مرحلة الذروة بين ربيع 1815م وربيع 1816م) تدل على ذلك إشارته الصريحة إلى شهرزاد في بعض رسائله إلى أصدقائه في تلك الفترة، وبالأخص إلى صديقه المقيم في منطقة الراين الحبيبة إلى قلبه وهو سولبيس ببواسريه، وإلى صديقه تسلتر وناشره كوتا. وقد كان من الطبيعي أيضا أن يتابع الجهود التي يبذلها كثير من المستشرقين والمترجمين لاستكمال طبعة جالان أو تصحيحها على أساس النسخ والمخطوطات التي تم الكشف عنها، فضلا عن الدراسات المتتابعة عن ترتيب الحكايات وأصولها الهندية والفارسية والعربية والعصور التي دونت فيها ومؤلفيها المجهولين، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالكنز الشرقي الثمين والاختلافات الحادة التي اشتعلت حوله بين عدد من المستشرقين في تلك السنوات (مثل فون همر النمسوي ومترجم ديوان حافظ الشيرازي، وسيلفستر دي ساسي عميد المستشرقين في ذلك الحين - وسيدنا الأعز - كما سماه جوته الذي أهدى إليه ديوانه الشرقي عرفانا بفضله، وجوناثان سكوت الإنجليزي الذي أعلن اكتشافه لجزء من مخطوطة بنغالية لليالي تحتوي على حكاية الوزراء السبعة التي لم تظهر في طبعة كالكوتا المشهورة فيما بعد) ولا بأس من أن نذكر هنا أيضا أن الحكاية التي نشرها سكوت ضمن المجموعات الشرقية التي توضح تاريخ آسيا وآثارها القديمة من سنة 1797م إلى سنة 1799م واستعارها جوته من مكتبة فيمار في الفترة من يناير إلى أبريل سنة 1815م، قد ألهمته موضوع «أوبرا شرقية» ملكت عليه عقله وخياله في ذلك الوقت، ولكن «عوامل خارجية» حالت بينه وبين إنجازها، ومن أهمها كما قال جوته نفسه عدم التفاهم مع الملحن «فيبر» وعدم الاقتناع باستعداد الجمهور لتذوقها.
والغريب حقا أن جوته لم يشر إلى ألف ليلة وليلة في تعليقاته وأبحاثه المتأخرة عن الديوان إلا مرة واحدة، وأن هذه المرة الوحيدة لم تكن ضمن الفقرة التي خصصها فيها للكلام عن العرب.
ولعل السبب في ذلك أنه كان بصدد اكتشاف أشياء جديدة عن الشرق لم يتسن لقارئه الألماني أو الغربي أن يعرفها معرفة وثيقة، فانصرف إلى تقديم المعلقات السبع وقصيدة تأبط شرا، بالإضافة إلى عدد كبير من شعراء الفرس الكبار الذين يحمل توءم روحه «حافظ الشيرازي» المسئولية عن شغفه بمعرفتهم عن قرب والاطلاع على ما تيسر له الاطلاع عليه من أعمالهم (مثل سعدي وعبد الرحمن جامي وأنوري ونظامي الكنجوي وغيرهم) ومن ثم نجده يقول هذه العبارة الوحيدة عن الليالي التي اشتهر أمرها منذ زمن بعيد عند الجمهور في فقرة بعنوان «شكوك» لم يجد فيها ما يدعوه لذكر الليالي صراحة بالاسم: «لقد ألفنا منذ وقت طويل حكايات تلك المنطقة.»
بيد أنه يعود فيذكر «المجموعة العربية للحكايات الخرافية» في الفقرة التي تحمل عنوان «محمد»، وذلك لتوضيح الاختلاف بين طبيعة النبي وطبيعة الشاعر، وتفسير نهي القرآن الكريم عن تصديق أساطير الأولين والانسياق وراء الشعراء الذين يهيمون في كل واد، حتى يحتفظ المسلمون بقدرتهم على الجهاد في سبيل الله ولا يستسلموا للانبهار بالحكايات والأساطير كالفرس والهنود (راجع طبعة بدوي للديوان الشرقي، ص395، وص421 من التعليقات والأبحاث). وفي هذه الفقرة يذكر ألف ليلة وليلة في معرض حديثه العابر عن مفهوم الحكاية الخرافية، أو بالأحرى عن جوانبها السلبية التي تجعلها مجرد «ألعاب» نحيلة نزقة تتأرجح بين الواقع والمستحيل، وتقدم غير المحتمل وكأنه هو الأمر الواقع الذي لا ريب فيه، وبذلك تتلاءم مع النزعة الحسية الشرقية في ميلها للراحة والتسلية، بل إنه ليصفها من هذه الناحية بأنها بناءات مشيدة في الهواء، وأنها تكاثرت على عهد الساسانيين الذي قدمت فيه ألف ليلة وليلة على شكل أمثلة غير مترابطة في خيط واحد، بل يصل به الأمر في هذا النص إلى حد القول - بما يخالف اعتقاده العميق بغير شك! - بأنها تتميز «بخلوها من أي هدف أخلاقي، ولذلك لا تعيد الإنسان إلى ذاته، وإنما تبعده عنها وتلقي به في الفضاء المطلق، وقد كان محمد يريد العكس من ذلك تماما.» ويبدو أن جوته في غمرة انشغاله «العلمي والموضوعي» بكتابة تعليقاته، لم تتح له الفرصة الكافية لتناول مفهومه عن الحكاية بصورة أكثر دقة وتحديدا؛ إذ يصعب علينا تصور صدور العبارات السابقة عن شاعر طالما وصف نفسه بأنه حكاء أو راوي حكايات، كما أن «حكايته» - التي أشرنا إليها في هامش سابق - واستلهامه لحكايات ألف ليلة وليلة في العديد من أعماله كما سبق القول، كفيلان بتصحيح كلامه الأخير أو على أقل تقدير بمحاولة فهمه في سياقه المحدد لتبرير نهي القرآن الكريم والرسول العظيم عن الارتداد لأساطير الأولين والانشغال بها عن واجبات الدعوة ومسئوليات الجهاد.
مهما يكن الأمر، فإن ألف ليلة وليلة لم تكن من بين المصادر التي اعتمد عليها جوته في ديوانه الشرقي، وأقرب الأسباب لتبرير غيابها أنه أراد - كما سبق القول - أن يفتح لقرائه آفاقا شرقية لم يألفوها من قبل، ومع ذلك، فهناك حالة واحدة على الأقل ترجح أنه أشار فيها ضمنا إلى الليالي، ونقصد بها «الشعار» الذي استهل به الديوان كله و«كتاب المغني» بقصيدة من أربع أبيات قيل إنه أهداها إلى راعيه وصديقه كارل أوجست أمير فيمار:
أمضيت من عمري عشرين عاما
تمتعت فيها بما قسم لي،
Page inconnue