طرقنا البشير أطال الله بقاء مولاي الشيخ بقدوم فارس ندب شد أزره، وطلوع صبح من أفقه أضاء فجره، وانتضاء نصل من قرابة قاطع، وإشراق بدر من أحشاء ليلته طالع، فتهللت الوجوه فرحًا، واستهلك الجماعة مرحًا، وقلت من بينهم: لله هو؟ فلقد بان جوهره وأغرب، وواهًا له فنعم ما نجل عنصره فأنجب، وأخذنا نزجر للمولود طالع السعود، ونرتاد له اسمًا نشتقه من كنى الجدود، ونعد للنثار نفائس الشعار والدثار، ونبذل للبشير الوارد طرائف الطريف والتالد، ونستعجل الأنس بتدبير عقيقته، وتهذيبه، ونصرف الفكر في تسليمه إلى المكتب وتأديبه، فبينا نحن نستقبل هذه الأمور، ونستلف المنى والسرور إذ فاجأنا من أخبر أن الفارس راجل، والناصر خاذل، والنصل قراب، والعصا جراب، والغلام كعاب، والمنارة محراب، وصور أن المتحرك ساكن والتامر لابن. فانتقلنا في الحال عن تدبير الختان إلى ارتياد الأختان، وعن شراء الألواح إلى شراء الوشاح، وعن بري النبال إلى صوغ الخلخال، وعن إصلاح الدواة إلى إصلاح المرآة، وعن استدعاء الدرج إلى استدعاء الدرج، وعن إصلاح القلم إلى إصلاح ميل الكتم، وحين استفاض الخبر وورد، وتحدث ذو الشنآن والحسد بأن القوس انقلبت ركوة، والصريح عاد رغوة، والنعمة تحولت نقمة، وأن النيل عاد ويلًا، والصبح عاد ليلًا، وأفصح الشامت بأن المعونة صارت مؤونة، والقاسم أصبح ميمونة، وابتدأ كل يفلع نادرة ويورد حكاية، ويجعلها قدحًا فيك ونكاية، علت بها صبرًا، وضقت منها صدرًا، وجعلت أقول عندما جعلت الأخبار تطول: مهلًا فإن مولاي قد بدل من البدر شمسًا، وهي أبهى في العيون، وعوض من الرمح ترسًا وهي أدفع في الحرب للمنون، وربَّ أنثى أنجب من الذكر، واشرف من طريف الخبر:
فما التأنيث لاسم الشمس عار ... ولا التذكير للبدر افتخار
هذه النفس وهي مؤنثة أشرف من الجسم وإن كثف حجمًا، وهذه السماء غير مذكرة وهي ألطف الأشياء وأعظم جرمًا، وهذا النبي الأمي عليه أيمن الصلوات هو أبو البنات، ووجدنا الله العلي العظيم قدم الإناث في كتابه العزيز الحكيم حيث يقول: ﴿يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لم يشاء الذكور﴾، ووجدنا شعيبًا ﵇ بهن تمكن من خدمة الأنبياء الكرام حين صدر الرعاء عن الماء، واحتيج إلى معاونة الأجراء، وكم كاتب استخدم بابنته زمامه، ووزير ملك بها إمامه، وصرف كيف شاء أحكامه، هذا الحسن بن سهل ملك بابنته بوران المأمون، وهذه قطر الندى استخلصت المعتضد لأبيها خمارويه بن أحمد بن طولون، ولعل مولاي ما رزق هذه القادمة إلا ليملك بها سلطانًا عظيمًا، وينال شرفًا جسيمًا، فالدول أسباب وآثار والجدود أسرار وأقدار.
فلما سمع الحسدة ذلك خمد لهبهم وسكن كلبهم، وأنبسو بألسن قد خرست، وبصائر قد اختلست، وأقدام قد تعثرت، وحجج قد دحضت وأبطلت، وأرجو أن يشكر مولاي منابي، ويحمد خطابي، ويرضى مقامي، ويهوى خصامي، والله يمتعه بعثيلة الربرب، ونجيلة الحسب، وجرثومة النسب وجالبة النشب، فأقسم لو أدرك ميلادها شاعر عصرنا لأنشد:
فلو كان النساء كمن رزقنا ... لفضلت النساء على الرجال
قال المأمون لطاهر بن الحسين: صف لي أخلاق المخلوع، فقال: كان واسع الصدر، ضيق الأدب، يبيح لنفسه ما تأنفه همم الأحرار، ولا يصغي إلى نصيحة، ولا يقبل مشورة، يستبد برأيه فيرى سوء عاقبته، ولا يردعه ذلك عما يهم به. قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب بالتبذير، ويفرقها بسوء التدبير، فقال المأمون: لذلك ما حل محله، أما والله لو ذاق لذات النصائح واختار مشورات الرجال، وملك نفسه عند شهواتها لما ظفر به.
ولما عقد الرشيد البيعة للأمين وهو أصغر من أخيه المأمون، رأي فضل المأمون عليه وإنما أرضى بذلك زبيدة، وأخاها عيسى بن جعفر كان يقول:
لقد بان وجه الرأي لي غير أنه ... غلبت على الرأي الذي كان احزما
فكيف برد الدر في الضرع بعدما ... توزع حتى صار نهبًا مقسما
أخاف التواء الأمر بعد استوائه ... وأن ينقض الحبل الذي كان أبرما
1 / 52