وقال عمر بن علي المطوعي: أراد الأمير السيد أبو الفضل عبيد الله بن أحمد، أدام الله فضله، أيام مقامه "بجوين" أن يطلع إلى قرية من قرى ضياعه تدعى "تجاب"، على سبيل التنزه والتفرج، وكنت من جملة من استصحبه إليها، واتفق أنا وصلنا والسماء مصحية، والجو صاف، ولم يطرز ثوبه بعلم الغمام، والأفق فيروزج لم يعبق به كافور السحاب، فوقع الاختيار على ظل شجرة باسقة الفروع، متسقة الأوراق والغصون، قد سترت ما حولها من الأرض طولًا وعرضًا، فنزلنا تحتها مستظلين بسماوة أفنانها، مستترين من وهج الشمس بستارة أغصانها، وأقبلنا نتجاذب أذيال المذاكرة، ونتسالب أهداب المناشدة والمحاورة، فما شعرنا إلا بالسماء قد أرعدت وأبرقت، وأظلمت بعدما أشرقت، وجادت بمطر كأفواه القرب، فأجادت، وحكت أنامل الأجواد وأعين العشاق، بل أربت عليها وزادت، حتى كاد غيثها أن يعود عيثا، وهم وبلها [أن] يستحيل وبالًا، فصبرنا على أذاها، وقلنا: "سحابة صيف عن قريب تقشع"، فإذا نحن بها قد أمطرتنا بردًا كالثغور، لكنها ثغور العذاب، لا من ثغور العذاب، فأيقنا البلاء وسلمنا لأسباب القضاء، فما مرت غلا ساعة من النهار حتى سمعنا خرير الأنهار، ورأينا السيل قد بلغ الزبى، والماء قد بلغ القيعان والربا. فملنا إلى حصن القرية لائذين من السيل بأفنيتها، عائذين من القطر بأبنيتها، وأثوابنا قد صندل كافوريها ماء الوبل، وغلف طرازيها طين الوحل، ونحن نحمد الله على سلامة الأبدان، وإن فقدنا بياض الأكمام والأردان، ونشكره على نجاة الأنفس والرواح، شكر التاجر على بقاء رأس المال إذا فجع بالأرباح، فبتنا تلك الليلة في سماء تكف ولا تكف، وتبكي إلى الصباح بأدمع هوام، وأربعة سجام، فلما سل سيف الصبح من غمد الظلام، وصرف بوالي الصحو عامل الغمام، رأينا صواب الرأي أن نوسع الإقامة [بها] رفضًا ونتخذ الارتحال فرضًا، فما زلنا نطوي الصحاري أرضًا فأرضًا، إلى أن وافينا المستقر ركضًا، فلما نفضنا غبار ذلك المسير، الذي جمعنا في ربقة الأسير، وأفضينا معه إلى ساعة التيسير، بعدما صلينا منه [بالأمس] بالأمر [الصعب] العسير، وتذاكرنا ما لقينا من التعب والمشقة، وفي قطع ذلك الطريق، وطي تلك الشقة، أخذ [مولانا] الأمير القلم فعلق [هذه الأبيات] ارتجالًا:
دهتنا السحاب غداة التجاب ... بغيم على أفقه مسبل
فجاء برعد له رنة ... كرنة ثكلى ولم يثكل
وثنى بوبل عدا طوره ... فعاد وبالًا على الممحل
وأشرف أصحابنا من أذاه ... على خطر هائل معضل
فمن لائذ بفناء الجدار ... وآو إلى نفق مهمل
ومن مستجير ينادي: الغريق ... هناك، ومن صارخ معول
وجادت علينا سماء السقوف ... بدمع من الوجد لم يهمل
كأن حرامًا لها أن ترى ... يبيسًا من الأرض لم يبلل
وأقبل سيل له روعة ... فأدبر كل من المقبل
يقلع ما شاء من دوحة ... وما يلق من صخرة يحمل
كأن بأحشائه إذ بدا ... أجنة حمل ولم يحبل
فمن عامر رده غامرًا ... ومن معلم عاد كالمجهل
كفانا بليته ربنا ... وقد وجب الشكر للمفضل
فقل للسماء ارعدي وابرقي ... فإنا رجعنا إلى المنزل
أخذ المطوعي قوله: "فلما سل سيف الصبح من غمد الظلام" من قول أبي الفتح البستي:
رب ليل أغمد الأنوار إلا ... نور ثغر أو مدام أو ندام
قد نعمنا بدياجيه إلى أن ... سل سيف الصبح من غمد الظلام
وقوله "كاد غيثها يعود عيثا" من قوله [أيضًا]:
لا ترج شيئًا خالصًا نفعه ... فالغيث لا يخلو من العيث
وقال الميكالي في بركة وقع عليها شعاع الشمس فألقته على بهو مطل عليها:
أما ترى البركة الغراء قد لبست ... نورًا من الشمس في حافاتها سطعا
والبهو من فوقها يلهيك منظره ... كأنه ملك في دسته ارتفعا
والماء من تحتها ألقى الشعاع على ... أعلى سماوته فارتج ملتمعا
كأنه السيف مصقولًا تقلبه ... كف الكمي إلى ضرب الكمي سعى
ومن ظريف ما [في] وصف الماء قول ابن المعتز بالله، وذكر إبلًا:
فتبدى لهن بالنجف المقفر ماء صافي الجمام عري
يتمشى على حصى يسلب الما ... ء قذاه فمتنه مجلي
1 / 38