فلما تغنت غناء الوداع ... بكيت وقلت لبعض الجواري:
لئن عاشت عند هزار اللقاء ... لقد مت عند هزار الإزار
قال ثمامة بن أشري: كنت عند المأمون في مجلس أنس إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، فقال: يا ثمامة ما بك؟ قلت: يا أمير المؤمنين، إذا غنى عمير كرت مواطن الإبل وكثبان الرمل، وإذا غنتنا عريب انبسط أملي، وقوي جذلي، وذكرت الجنان والولدان، كم بين يا أمير المؤمنين أن تغني غادة كأنها غصن بان ترنو بمقلة وسنان، كأنما خرطت من ياقوتة، أو صورت من فضة، بشعر عكاشة العمي حيث تقول:
من كف جارية كأن بنانها ... من فضة قد طرفت عنابا
كأن يمناها إذا ضربن بها ... تلقى على يدها لشمال حسابا
وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الصابع، ششن الكف بشعر ورقاء ابن زهير العبسي:
رأيت زهيرًا تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فضحك وقال: إن الرق لبين، يا غلام لا تأذن له!.. وأحضر قيانه، فظللنا في أطيب يوم.
وكان ابن الرومي يقول: "لو أدركت ملحن ها الشعر قتلته، وهو:
كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسر جرمًا منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فاستمر بطعنة ... كحاشية البرد اليماني المسهم
.. ما الذي يشبه من معاطاة الندمان، ومؤانسة الخلان من ذكر الدم والقتل؟! ... " وذكر أحمد بن الطيب السرخسي أن النعمان بن المنذر أهدى إلى كسرة جارية تغني غناء العرب، اشتراها [له] بمائة ألف درهم، فغنته شعر عنترة العبسي:
فشككت بالرمح الطويل إهابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
ففسر له ما يقول فقال: الحرب بلية، والندام مسرة، وما معنى ذكر البلية مع حصول المسرة؟ ولم يسمعها بعد.
قلت أنا: وليت شعري إذا كان الغناء داعية الأنس، وعشيق النفس، الذي يفكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو المستأذن على القلب، والمنقذ من الكرب، الداخل عليه بغير بعث، والوالج إليه بغير نصب، ما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة، ذات المعاني الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في اللطائف الظريفة الغزلة، التي تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، وذكر الغارات والكتائب، ووصف الأحزان والمصائب، فلأن يسمع من كان ثملًا جذلًا:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
وما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمائله
ألوى بصبري أصداغ لوين له ... وغل صدري ما تحوي غلائله
أحب إليه من أن يسمع:
أسمعاني الصياح بالإمليس ... وصياح العيرانة العيطموس
ودعاني من قرع مزهر ريا ... واختلاف الكؤوس بالخندريس
عزفت [عن] تلكم اللبانات نفسي=وسمعت نحو غير ذاك حدوسي أو يسمع:
ما تغطي عساكر الليل مني ... ما تجلي مضاحك الصبح عني
جسم سيف في جوف غمد ثياب ... صدر أنس من تحته قلب جني
ما ينال الكرى سويداه إلا ... حسوة الطائر الذي لا يثني
كم ظلامٍ جعلته طيلساني ... صاحبي همتي وقلبي مجني
إلا أن يكون كالمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب.
ولأبي عثمان الناجم في وصف الغناء قطع مستملحة، بكل طريقة موشحة، كقوله:
لقد جاد من عاتب ضربها ... وزاد كما جاد تغريدها
إذا نوت الصوت قبل الغناء ... أنشدنا شعرها عودها
وله:
تأتي أغاني عاتب ... أبدًا بأفراح النفوس
تشدو فنزمر بالكؤو ... س لها ويرقص بالرؤوس
وهذا كقوله:
سلامة بن سعيد ... يجيد حث الراح
إذا تغنى زمرنا ... عليه بالأقداح
وقال:
ما صدحت عاتب ومزهرها ... إلا وثقنا باللهو الفرح
لها غناء كالبرء في جسد ... أضناه طول السقام والترح
تعبده الراح فهي ما صدحت ... إبريقنا ساجد إلى القدح
وقال:
ما حضرتنا قتول إلا ... أذكت بنظراتها جوانا
تصدع بالصوت قبل تأتي ... كأن في نايها لسانا
وقال:
إذا أنت ميزت بين الغنا ... ء ميزتها الأحذق الأطيبا
تهز القريض بألحانها ... كما هزت الغصن ريح الصبا
وقال:
1 / 29