كتبت هذه القصيدة لأنها فريدة، تجري على النفس مجرى الطبع، والكلام الجيد الطبع مقبول في السمع، قريب المتناول، بعيد المنال، أنيق الديباجة، رقيق الزجاجة، يدنو من فهم سامعه دنوه من وهم صانعه، والمصنوع مثقف الكعوب، معتدل الأنبوب، يطرد ماء البديع على جنباته، ويجول رونق الحسن في صفحاته، كما يجول السَّحر في الطرف الكحيل، والأثر في السيف الصقيل، وحمل الصانع شعره على الإكراه في التعمل لتنقيح المباني دون تصحيح المعاني يعفي آثار صنعته، ويطفئ أنوار صيغته، ويخرجه إلى فساد التعسف وقبح التكلف، فإلقاء المطبوع [بيده] إلى قبول ما يبعثه هاجسه، وتنفثه وساوسه، من غير إعمال النظر، ولا تدقيق الفكر، ويخرجه إلى حد المستهدم الرث، وحيز المستوخم الغث، وأحسن ما أجري إليه، وعول عليه، التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين في الطبع والصنعة.
وقد قال أعرابي للحسن البصري: علمين دينًا وسطًا، لا ساقطًا سقوطًا، ولا ذاهبًا فروطًا، قال: أحسنت، (خير الأمور أوساطها) . والله قد جعل البيان مقسمًا في خلقه، وأجل حظ البحتري، إذ كان عن هذه القوس ينزع، وإلى هذا النحو يرجع.
ومن كلام ابن المعتز في صوف الكتاب والقلم قوله: الكتاب والج للأبواب، جريء على الحجاب، مفعم لا يفهم، وناطق لا يتكلم، به يشخص المشتاق إذا أقعده الفراق، والقلم مجهز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفًا، وينطق سائرًا، على أرض بياضها مظلم، وسادها مضيْ، كأنه يقبل بساط سلطان أو يفتح نوار بستان.
وهذا كقوله في القاسم بن عبيد الله، قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي لمات عرض القاسم على المعتضد بالله ليخلف أباه: فقال ابن المعتز:
قلم ما أراه أم فلك يج؟ ... ري كما شاء قاسم ويسير
خاشع في يديه يلثم قرطا ... سًا كما قبل البساط شكور
مرسل لا تراه يحبسه الش؟ ... ك إذا ما جرى ولا التفكير
ولطيف المعنى جليل نحيف ... وكبير الأفعال وهو صغير
كم منايا وكم عطايا وكم حت؟ ... ف وعيش تضم تلك السطور
نقشت بالدجى نهارًا فما أد ... ري أخط فيهن أم تصوير
وقال بعض البلغاء: صورة الخط في الأبصار سواد، وفي البصائر بياض.
وقال أبو الطيب المتنبي:
دعاني إليك العلم والحلم والحجى ... وهذا الكلام النظم والنائل النثر
وما قلت من شعر تكاد بيوته ... إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
وصف أحمد بن صالح بن شيرزاد جارية كاتبة فقال: كأنّ خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها [سواد] شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قلمها بعض أناملها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحظها، وكأن مقطعها قلب عاشقها.
ومن ألفاظ أهل العصر في وصف الخط وسرعة يد الكاتب: الكلام الفائق، بالخط الرائق، نزهة القلب، وفاكهة النفس، وريحانة الروح، خط كأنه يواقيت في نظام، وصفحات نور عليها سطور الظلام. خط أحسن من عطفة الأصداغ، وبلاغة تميل بالآمل أوذن بالبلاغ. خط كما تفتح الزهر غب المطر، كأنه خطوط الغوالي في خدود الغواني. خط أملح من بنفسج الخط، وأحسن من الدر في السمط. خط أحسن من بدور الغرر، في ليالي الطرر. فلان يغرس في ارض القراطيس، وينشر عليها أجنحة الطواويس. خط كأن القلب يشعر منه نورًا، [وتجنى العين منه نورا] . خطه خطة الحسن، ويده ضرة البرق، وقلمه فلكي الجري، ويده ظئر البلاغة، وأم الكتابة، وضرة الريح، وينبوع الفضل.
قطعة من مقطعات تجري في شعرهم في التمثيل والمحاضرات في معانٍ مختلفة: أبو فراس الحمداني:
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغله المهر
أبو الحسن بن لنكك البصري:
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأي دهر على الأحرار لم يجر؟
عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يلقى على الفلك الدوار لم يدر
وقال:
عدنا من زماننا ... عن حديث المكارم
من كفى الناس شره ... فهو في جود حاتم
أبو عبد الله بن الحجاج:
دعوت نداك من ظمأٍ إليه ... فعناني بقيعتك السراب
سراب لاح يلمع في سباخ ... ولا ماء لديه ولا تراب
وقال أيضًا:
1 / 23