ودارت الدنيا براشد، واستمر فهمي: إنك على وشك الزواج، وفضيحة كهذه تقضي على زواجك. - هل هذا معقول؟ - وقد عرفت أنا بتحرياتي أن الباشا تزوج سهير ممدوح، وطبعا الورقة منها. - أيمكن هذا؟! - تصور لو وقعت الورقة في يد ابنه عدلي، لقد جن حين أخبرته أن أباه تزوج، وحاول أن يخبر أمه، ولكنها في مرض الموت ولا تعي شيئا. - أهذا فهمي الذي يكلمني؟ - تصور أن عدلي ينوي رفع دعوى سفه على أبيه؟! فكر في أثر هذه الورقة في القضية. - فهمي، المبلغ لا يهمني، وسأعطيك الكمبيالة، ولكن كيف تصنع أنت هذا؟ - ألم أقل لك إن البورصة لا قلب لها؟ - ولكن أنا أيضا ابن البورصة وأنا ... أنا ... - أعرف ما تريد أن تذكره من شهامتك، ولكن الناس معادن، أنت شهم وأنا نذل، أظن أن هذا يوفر عليك كثيرا من الكلام. - هات الورقة. - هات الكمبيالة. - لك حق، فأنت تظن الناس جميعا مثلك، نتبادلها في وقت واحد.
وتمت المبادلة. - هل اطمأننت الآن؟ - كنت أستطيع أن أطلب ضعفي هذا المبلغ، وكنت ستدفع. - الآن اعلم أنك أنت الذي ستدفع، وستدفع أضعاف ما أخذت. - أتظن ذلك؟ - سترى.
الفصل الخامس
وهكذا سافر راشد إلى أوروبا مع عروسه وفي ذهنه كثير يشغله، فقد ترك زوجة زكريا باشا نعيمة هانم بين موت وحياة، وابنه عدلي كاد يجن من خبر زواج أبيه، وهو لا يجد من أمه أذنا أو فهما ليبثها هذا الخبر، فتقضي على هذا الزواج قضاء مبرما، وهو وإن كان قد تجاوز الثلاثين إلا أنه غبي قاصر العقل هزيل التصرف، وليس ببعيد أن يرفع دعوى السفه على أبيه، فجهله يحول بينه وبين معرفة هزل هذه القضية وعدم جديتها. وكل ما يعرف عن أبيه أنه زوج أمه الذي يطيعها في كل شيء، ولو كان على شيء مهما يكن هينا من الذكاء، لعرف أن أباه لا يطيع أمه إلا في تافه الأمور، فلو قد فكرت أن تتعرض لآرائه الفقهية أو السياسية، لكان له معها شأن آخر.
وليس راشد بالذي يفكر هذا التفكير جميعه في شأن زكريا لمجرد الاهتمام بأمره، وإنما خشي أن يشغله شأن ابنه هذا عن السعي إلى الباشاوية التي وعده بها.
وهو يخشى أيضا أن تؤلبه سهير عليه، فقد قطع علاقته بها تماما منذ ذلك اليوم الذي أعلنها فيه أنه سيتزوج، وللسيدات إلى هذه الأمور مداخل لا يلج منها سوى ذكائهن.
ولكنه مع كل ذلك كان يفضل السفر فهو لا يحب أن يظهر أحدا على اهتمامه برتبة الباشوية، ثم لا تأتي، وهو يفضل أن يعرفها الناس من المرسوم لا منه، وأن له أصدقاء خلصا، وهو يخشى - وإن كان يعرف نفسه - أن تفلت منه كلمة تنبئ عما يدور بنفسه من آمال.
وقد حرص راشد ألا يخبر زوجته بما ينتظر، فالرتبة عند السيدات لها مكانة خاصة، وهو يخشى ألا تأتي فتهتز مكانته في نفسها.
لم يستطع شيء من هذا جميعه أن يحول بينه وبين أن يعيش الساعة في فرنسا ساعات مكثفة من البهجة، يشيعها من نفسه إلى قلب زوجته، وإلى قلب كل من يشاركهما في لياليهما أو في بياض نهارهما.
فهو من أولئك القلة التي تعرف لكل لحظة حقها، فلا يعدو التفكير على المتعة، ولا تعدو المتعة على العمل.
Page inconnue