أما الشخصية الثانية فهي ضحلة التجارب، صلتها بالواقع الحسي هزيلة، وخبرتها بالحياة سطحية؛ غير أن هذا الافتقار إلى التجربة الحية يعوضه عندها تجسيم للمشاكل الفكرية وإضفاء الحياة عليها؛ فالمفكر في هذه الحالة منعزل عن الحياة، زهدا فيها أو عجزا عن مجاراتها، ولكنه إذ فقد صلته بما هو حي واقعي، يخلق حياة جديدة من فكره، وينفخ في مشاكله العقلية من روحه. فإذا بالحياة تنبض في هذه المشاكل. وإذا بها كائنات حية يتعامل معها كما لو كان يتعامل مع الأحياء ذاتهم، وهنا أيضا تكون حياة الفيلسوف وتفكيره شيئا واحدا؛ غير أن الأصل هنا هو الفكر، وما الحياة إلا صفة أضفاها هو على هذا الفكر، وظل تابع له.
وأحسب أن الناس إذا صادفوا مفكرا يوصف تفكيره بأنه قطعة من حياته، وبأنه ساير هذه الحياة ولم ينفصل عنها، كان أول ما يتبادر إلى ذهنهم هو المعنى الأول، وظنوا أنهم إزاء شخصية استمدت فلسفتها من واقع حياتها الزاخر بالتجارب . وهذا بالفعل هو أول ما يطرأ على الأذهان كلما رددت أمامها هذه العبارة العامة، القائلة إن فلسفة نيتشه إنما استمدت من حياته ومن وجوده الشخصي؛ غير أن في هذا سوء فهم ينبغي أن نحذر الوقوع فيه؛ فنيتشه في واقع الأمر فيلسوف من ذلك النمط الآخر، الذي جعل فكره حيا عن طريق إثراء الفكر وبعث روح الحياة فيه، لا عن طريق إثراء الحياة واستخلاص الفكر من حكمة تجاربها. وهو لم يقف أمام الحياة وجها لوجه، بل وقف أمام أفكار ومشاكل أحياها ذهنه، وحلت لديه محل الواقع المباشر الذي نتعامل معه في تجربتنا الحية، وكانت الفكرة الواحدة لديه قادرة على أن تبعث فيه الغضب والثورة أو الراحة والسرور، وكل المشاعر التي لا تبعثها فينا عادة إلا المواقف الواقعية الحية.
وهنا نجد أنفسنا إزاء نتيجة غريبة كل الغرابة؛ ذلك لأن هذا المفكر الذي كان يسخر من كل فيلسوف تجريدي، ويؤكد أن أحط صور الإنسان وأكثرها تشويها هي صورة «الإنسان النظري»؛ هكذا المفكر نظري بدوره، تجريدي هو الآخر، وتفكيره إنما هو وجه من أوجه نشاط عقله الخالص؛ ألم نقل إن تجاربه الحية هزيلة، وإن حياته كلها كانت تدور حول محور الفكر، الذي هو أساسها، وهو الذي يعطيها معناها؟ وماذا يكون الإنسان النظري، إن لم يكن إنسانا تتلون حياته بلون مشاكله العقلية، وتدور كلها حول مركز واحد، هو الفكر المنفصل عن الواقع؟ ...
إن نيتشه قد وجه نقده اللاذع إلى أولئك الذين يتفلسفون بين جدران أربعة، وعلى كرسي وثير ... فأين كان يتفلسف هو؟ ألم يكن أكثر الناس عزلة وتفردا؟ ألم تكن حياته كلها تسير في طريق موحش، يزداد بعدا عن الناس بالتدريج؟ ألم يكن يفخر بانطوائه، وبترفعه؟ ففي أي شيء يفترق إذن عن تلك العقول التي كانت تنحصر بين أربعة جدران، وتحيا في جو مفارق لواقع الناس؟
تلك هي النتيجة الغريبة التي ينتهي إليها تحليلنا السابق. ولكن أكان نيتشه بحق متناقضا مع ذاته إلى هذا الحد الصارخ؟ وهل كان هو الآخر إنسانا نظريا له نفس الصورة المقيتة التي حمل عليها ونفر منها؟ الحق أننا لا نهدف إلى إثبات ذلك، ولا ندعي أن طريقة نيتشه وطريقة كنت
Kant
في التفكير تنتميان إلى نمط واحد، بل إن اختلافهما الأساسي أمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل. فكيف نخرج إذن من هذا الموقف المحير، الذي نرى فيه نيتشه من جهة شبيها بالمفكرين النظريين، لترفعه التام على كل ما ينتمي إلى واقع الناس بسبب، ونراه من جهة أخرى مختلفا عن المفكرين النظريين، بما يضفيه على مشاكله من حركة دائمة وانفعال حي؟
إن حل الإشكال إنما يكون في تلك التفرقة التي وضعناها من قبل بين نوعين من التفكير المرتبط بالحياة: نوع يرتبط بالحياة المليئة الزاخرة، التي تتوالى تجاربها لتكسب التفكير عمقا مستمدا من خبرة عينية واقعية، ونوع تنحصر حياته في مشاكله ذاتها، ويجسد هذه المشاكل ليجعل منها عناصر كاملة للحياة.
هذا النوع الأخير هو الذي ينتمي إليه نيتشه، وهو نوع إذا تعمقنا في تحليله وجدناه يحتل موقعا وسطا بين التفكير النظري الخالص، والتفكير العيني الحي؛ فهو نظري لأن العالم الذي يحيا فيه هو عالم العقل، ولكنه أيضا عيني، لأنه لا يتأمل مشاكله بتلك النظرة الهادئة الباردة التي يتأملها بها المفكر النظري الخالص، ولا يشاهد أفكاره كما يشاهد المرء عرضا مسرحيا لا تربطه بما يجري فيه أية صلة عميقة. وإذن، فإن شئت أن تجري مقارنة بين كنت ونيتشه، لكان لزاما عليك أن تنفي عن العلاقة بينهما صفة التضاد الكامل؛ إذ هما معا فيلسوفان يتعاملان مع مشاكل عقلية صرف يستمدان، أولا تفكيرهما من حياة مليئة وتجارب واقعية عميقة. وكل ما في الأمر هو أن أولهما يتأمل مشاكله بعقل محايد، ويشاهدها وهو في موقف المتفرج، أو الحكم الذي يلاحظ عن بعد دون أن يتدخل في الصراع. أما الآخر، فهو طرف أصيل في ذلك الصراع، وهو مندمج فيما يحاول أن يحله من المشاكل على نحو تصبح معه هذه المشاكل هي وحدها قوام حياته. ومن جهة أخرى. فإذا أجرينا مقارنة بين تفكير نيتشه وبين مفكر ينتمي إلى ذلك النمط الآخر، الذي توجه حياته المنطلقة تفكيره وتحل له مشاكله، لوجدنا أن حياة نيتشه لم تكن هي التي تقود تفكيره، بل كان تفكيره هو الذي يقود حياته. وبينما يكون في وسعنا في الحالة الأخرى أن نلقي ضوءا ساطعا على الفكر إذا درسنا الحياة، فإننا في حالة نيتشه نستطيع - على العكس من ذلك - أن نفهم كل تفاصيل الحياة إذا درسنا الفكر.
ومجمل القول إن تلك الهوية القائمة بين الحياة والفكر عند نيتشه، لا تعني أن تفكيره يستمد من حياته، وإنما تعني أن حياته هي التي تستمد من تفكيره.
Page inconnue