ولذا يأخذ نيتشه على عاتقه تحليل هذه الفكرة وكشفها على حقيقتها.
فبينما تبدو الغيرية في ظاهرها شعورا ينم عن فيض من الكمال الذاتي ينتقل من الأنا إلى الآخر، فإنها في حقيقتها ليست إلا وسيلة لإفقار الذات وإضعافها؛ فنيتشه يعتقد أننا كثيرا ما نتجه بفاعليتنا إلى الغير حتى نهرب من أنفسنا، ولا نواجهها مواجهة صريحة. فحب الجار ليس في هذه الحالة تعبيرا عن كمال ذاتي فائض، وإنما هو، على حد تعبير نيتشه، «حب سيئ للذات»؛ ذلك لأن مواجهة الإنسان لنفسه ، وبذله كل جهوده لبعث الكمال فيها، هو أمر عسير إلى أبعد حد، وكثيرا ما يحس المرء ميلا قويا إلى الهروب من مواجهة ذاته، والتحول عن سعيه إلى كمالها، فتنحرف طاقته وفاعليته، وتتخذ شكل الغيرية.
بل إننا إذا تأملنا الأمر بمزيد من العمق، لوجدنا أن الغيرية ترتد في نهاية الأمر إلى الأنانية؛ ذلك لأن حدود الأنا أوسع مما يبدو لأول وهلة، وهي تشتمل في داخلها على تلك المشاعر التي تبدو لنا خارجة عنه؛ فالغيرية بهذا المعنى إنما هي وسيلة لإرضاء الذات عن طريق الإفراط في الاهتمام بأحد مكوناتها؛ أعني بعلاقاتها مع الآخرين، ويعبر نيتشه عن هذه الفكرة بقوله «... إن الجندي ليتوق إلى الموت في ساحة القتال من أجل إحراز النصر لوطنه؛ إذ إن في انتصار وطنه انتصارا لأعز أمانيه. وإن الأم لتمنح ابنها ما تحرم منه نفسها، كالنوم، والطعام الجيد، وفي بعض الأحيان صحتها وطاقتها؛ فهل هذه كلها أحوال غير أنانية؟ ... أليس من الواضح أن الإنسان في كل هذه الأحوال يحب شيئا في داخله، وليكن فكرة، أو أمنية، أو وليدا، أكثر من شيء آخر في داخله، وأنه على ذلك يقسم كيانه، ويقدم جزءا منه قربانا للآخر؟»
4
فعلى أي نحو يكون حكمنا اليوم على رأي نيتشه في هذين المبدأين المترابطين، الشفقة والغيرية؟ لنعترف منذ البداية بأن التعبيرات التي استخدمها نيتشه كانت عنيفة إلى حد بعيد؛ فليست الشفقة أو الغيرية دائما ميلا إلى الهروب من الذات، أو مظهرا من مظاهر حبنا السيئ لها. وإن التناقض في آرائه ليبدو هنا جليا، حين يصف الشفقة أحيانا بأنها هروب من الذات بالخروج عنها، وحين يرد كل شعور بالغيرية إلى نوع من الأنانية المستترة. فلو كانت الغيرية تنطوي على أنانية بالفعل، لما جاز لنا أن ننقد شعورا غيريا كالشفقة بأنه يؤدي إلى الخروج عن حدود الذات والفرار منها إلى الغير.
وفضلا عن ذلك، فليس مما يضير الشعور بالشفقة على الإطلاق أن يكون منطويا على نوع من المقارنة الضمنية بين حالتنا وحالة من نشفق عليه؛ ذلك لأن للقدرة على التعاطف في الإنسان حدودا لا يمكنها أن تتعداها. وليس في وسع الإنسان أن يخرج عن ذاته تماما ليشعر بآلام الغير وحدها دون أن يتخلل هذا الشعور أي عنصر ذاتي، وإنما لا بد أن يقارن بين مشاعر الغير ومشاعره على الدوام، حتى يمكنه أن يتصورها على صورة صادقة بقدر الإمكان. فمع اعترافنا بظاهرة التعاطف، فعلينا أيضا أن نعترف بأن الشفافية بين نفوس الأفراد ومشاعرهم ليست كاملة، بحيث يستطيع كل منهم أن يضع نفسه موضع الآخر تماما، وأن يمارس كل مشاعر الآخر كما لو كانت مشاعره هو. وإنما يحتاج إلى إجراء مقارنة مستمرة بين الظروف التي يمر بها الآخر، وبين ما يمكن أن يحدث له هو لو مر بهذه الظروف، حتى يمكنه تصور موقف الآخر على خير وجه ممكن. تلك إذن حدود كامنة في الطبيعة البشرية؛ فهي ليست نقصا في أخلاق الإنسان. وليست عيبا يلام عليه نظام أخلاقي معين، وإنما هي ترجع، في حقيقة الأمر، إلى الطبيعة الأنتولوجية للإنسان؛ أعني إلى أن العلاقة بين وجودي ووجود الآخرين هي علاقة كثرة، ولا يمكن أن تتحول إلى وحدة شفافة إلا في حدود معينة. وعلى ذلك، فليس مما يعيب الشفقة أنها تنطوي على نظرة ضمنية إلى الذات وعلى دفاع خفي عنها، كما اعترض عليها نيتشه؛ إذ إن تلك الأمور تحتمها حدود التعاطف البشري ذاته.
وفي وسعنا أن نلتمس لنيتشه عذرا واحدا في نقده لمبدأ الشفقة في الأخلاق؛ ذلك لأن الدعوات الإصلاحية الكبرى اليوم لا تنادي بالنهوض بالإنسان عن طريق الشفقة عليه، وإنما عن طريق تمكينه هو ذاته من النهوض بنفسه. فنحن اليوم ننقد الصورة القديمة للشفقة، على أساس أنها تتضمن اعترافا بالأمر الواقع وعجزا عن تغييره، ولا تعدو أن تكون محاولة جزئية للتخفيف من الضرر المحتوم بقدر الإمكان. وفي هذا من السلبية ما يجعلنا نثور على مبدأ الشفقة، مفهوما بهذا المعنى، ونتجه إلى إحلال مبدأ الفاعلية الشاملة محله. فنحن نزيد الآخرين عجزا حين نشفق عليهم. بل إننا نعترف في ذلك بعجزنا نحن عن مواجهة الواقع وتغيير الظروف السيئة التي أدت إلى جعل الآخرين في حالة يستحقون معها الشفقة. وصحيح أن من هذه الظروف ما لا يكون هناك سبيل إلى تغييره، ولكن علينا دائما أن نؤكد لأنفسنا إمكان سيطرتنا على هذه الظروف، إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل. وهذا النقد للشعور بالشفقة - مفهوما على هذا النحو - هو الذي أدى بلا شك إلى تغيير فلسفة الإصلاح الاجتماعي في العصر الحديث، والتخلي عن فكرة الإحسان - وهي الفكرة التي تنبع مباشرة عن الشعور بالشفقة - واستبدال مبدأ آخر للإصلاح الاجتماعي بها، هو مبدأ كفالة العمل، وكفالة العيش، للجميع.
على هذا النحو إذن يمكننا أن نجد مبررا لنقد فكرة الشفقة، ولكن هل كان هذا هو ما يرمي إليه نيتشه من هذا النقد؟ الواقع أن السعي الاجتماعي الشامل إلى الإصلاح كان أبعد الأفكار عن ذهنه؛ فهو ينقد الشفقة لأنها تبعد المرء عن ذاته. وعلى ذلك فهدفه يتركز في «الفرد» وحده، وغايته هي أن يرد إلى الفرد كل مظاهر فاعليته، التي يعتقد أنها تتبدد إذا خرجت عنه إلى الغير، وسعيه يتجه في نهاية الأمر إلى تكوين أفراد تركزت قواهم في داخلهم فحسب. فليس هدفه إذن هو تكاتف الجميع من أجل القضاء على الأضرار التي تستوجب الشفقة، وإنما هدفه هو أن يهتم كل فرد بذاته فحسب، بحيث تتركز كل مشاعره في باطنه، وتتجه إلى داخله فحسب، ليس أدل على ذلك من طبيعة البديل الذي أراده أن يحل محل الشفقة؛ أعني فيض الأقوياء، الذين تمتلئ نفوسهم إلى الحد الذي تفيض معه على الآخرين دون أن يكون هذا الفيض غاية في ذاتها، ودون أن تعبأ باتجاهه أو بمن سينالهم نفع منه. وعلى ذلك، فالأسس التي ينقد بها نيتشه فكرة الشفقة مخالفة تماما للأسس التي تنطوي عليها الأخلاق الإنسانية كما نفهمها اليوم. وإذا كان الإفراط في الشفقة أمرا يحمل عليه ضميرنا الأخلاقي، فإن ذلك راجع إلى أسباب مغايرة تماما لتلك التي ارتكز عليها نيتشه في نقده لهذا المبدأ الأخلاقي.
والأمر لا يختلف عن ذلك كثيرا في نقد نيتشه لفكرة الغيرية. فهو حين يحمل على الغيرية من حيث هي مؤدية إلى ابتعاده عن ذاته، يرمي في آخر الأمر إلى نفس الهدف الذي أشرنا إليه من قبل، وهو أن تتركز قوى الفرد في داخله فحسب. ولست أدري كيف ظل في عالم اليوم مفكرون على هذا النمط، ينكرون ما حققته الإنسانية من تقدم عن طريق العمل المتآزر، ويدعون إلى تلك المثل العليا الساذجة، التي ربما كان لها في حياة العصور الوسطى مجال، بينما أصبحت في حياتنا الحالية مستحيلة التحقق؛ ذلك لأن الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى الوراء لترى في انعكاف كل فرد على نفسه وتركيزه قواه في داخله خيرها الأقصى، ولا يمكنها أن تنظر إلى العلاقة المثلى بين فرد وفرد على أنها علاقة سيل يفيض من القوي إلى الضعيف، بعد أن كشفت لها تجاربها الطويلة عن استحالة مثل هذا السعي الفردي، حتى في المجال المعنوي الخالص، وأثبتت لها أن تعاون الأنداد لا يقف في وجه الشخصية الفردية أو يحد من قدرتها على الإطلاق.
أما حين يحلل نيتشه فكرة الغيرية تحليلا نظريا ليثبت أنها ترتد إلى الأنانية في آخر الأمر، ما دام الأنا من الاتساع بحيث ينطوي في ذاته على كل تمثلاته للعالم، فإنه في هذه الحالة يتخذ موقفا مثاليا واضحا، ولا خلاف بينه وبين موقفنا المعتاد، وفهمنا الشائع للغيرية، إلا في الألفاظ فحسب؛ أعني أنه ليس في فكرته هذه من جديد سوى تعبيرها اللفظي الخادع فحسب؛ ذلك لأننا في لغتنا المعتادة نستخدم كلمة الغيرية في مقابل الأنانية، وبالتالي نعترف بالغير في مقابل الأنا. أما حين يصبح الأنا شاملا للغير، فمن الطبيعي أن تختفي فكرة الغيرية. وكل ما في الأمر هو أن الأنانية في هذه الحالة لن تعود هي الفكرة التي تعنيها لغتنا المعتادة؛ إذ لن تعود شعورا متعلقا بالأنا منظورا إليه من خلال تضاده مع الغير، بل تصبح منطوية في ذاتها على ما نعنيه نحن عادة بالأنانية والغيرية معا؛ فالخلاف كما نرى راجع إلى التلاعب اللفظي فحسب، وفي مثل هذه النظرة المثالية إلى الأنا، لا تعود فكرة الأنانية منطوية على معناها المعتاد مطلقا، وبالتالي لا يكون في ذلك النقد لفكرة الغيرية جديد، ما دام كل ما يتضمنه هو الخروج بالألفاظ عن معناها المصطلح عليه، والتوسل إلى التجديد بالافتقار إلى التحديد.
Page inconnue