Nietzsche : une très courte introduction
نيتشه: مقدمة قصيرة جدا
Genres
إنها الأخلاق المسيحية نفسها. مفهوم الصدق الذي طبق بصرامة أكثر فأكثر. إنها دقة الشعور المسيحي وقد شحذها الاعتراف وتسامت أخيرا إلى وعي علمي، إلى وضوح فكري بأي ثمن كان . إن النظر إلى الطبيعة بوصفها برهانا على طيبة الإله وعنايته، وتأويل التاريخ من أجل مجد سبب مقدس بوصفه شهادة مستمرة على الغائية الأخلاقية للنظام الكوني ... هذا كله يبدو أنه قد «ولى» من الآن فصاعدا، هذا شيء «مناقض» للضمير ... «العلم المرح»، 357
ويواصل نيتشه حديثه في «أصل الأخلاق وفصلها» بإحدى أروع فقراته:
جميع الأمور العظيمة تفسد من تلقاء نفسها بفعل ضرب من «الانتصار على الذات». هذه سنة الحياة؛ سنة «الانتصار المحتوم على الذات» التي تنبع من جوهر الحياة. ولا بد أن ينتهي الحال دائما بالمشرع إلى أن يسمع يوما هذا الحكم المبرم: ينبغي عليك أن تخضع للقانون الذي اقترحته بنفسك. هكذا أسقطت المسيحية نفسها بوصفها عقيدة ثابتة تحت وطأة أخلاقياتها الخاصة. هكذا كان على المسيحية بأخلاقياتها أن تسعى إلى حتفها. وها نحن الآن على أعتاب هذا الحدث. «أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 27
وتدور تعليقاته الأخيرة في هذا الكتاب حول سقوط الأخلاق التي سيطرت عليها المسيحية، مع اكتساب إرادة الحق وعيا ذاتيا.
ملحوظة: يتحدث نيتشه هنا عن «جميع الأمور العظيمة» ثم يصف كيفية تدمير المسيحية لنفسها. يعتبر كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» أكثر كتب نيتشه اتزانا، ليس بفضل رصانة أسلوبه - إذ لم يعد نيتشه مهتما بذلك - وإنما بفضل كثرة استخدام التناقضات وإعطائها حقها، لكي يدير معركة، أو بالأحرى أكثر من معركة، يستمتع فيها بتسليح كلتا الجبهتين بأكبر قدر ممكن وتكريس كل المساعدة التي يستطيع تقديمها ليمكنهما من التعارك وصولا إلى حل. وهذا يمكنه من الانغماس في التحيز المدروس في كتبه الأخيرة. يمثل كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» استرجاعا مبدعا للماضي ونقطة مغادرة تنقله إلى مرحلته التالية، التي انقطعت فجأة.
هذا البعد الاسترجاعي في الكتاب هو ما يكسب مبحثه الثالث «ماذا تعني المثل الزهدية؟» بنيته الغريبة، مبتعدا كثيرا فيما يبدو عن الموضوعات التي كان يثيرها في السابق؛ إذ يجري فيه نيتشه استطلاعا حول ما تعنيه المثل الزهدية بالنسبة إلى جماعات شتى من الأفراد ما داموا مهمين بالنسبة إليه، في ضوء معاناتهم التي جلبوها على أنفسهم. الحياة مروعة على أية حال، فلماذا نزيدها سوءا بممارسة الزهد، تلك الزيادة الطوعية لما قد يتوقع المرء أن يتجنبه الناس؟ إن المعاناة الطارئة فقط، التي تحل بنا دون تفسير، لا تحتمل. ولكن لو سببناها لأنفسنا لأمكننا فهمها، وتوسيع فهمنا للحياة كلها.
الفنانون هم أول من يتم إمعان النظر بشأنهم. لكن سرعان ما يتحول هذا إلى تدبر لأمر فاجنر (وهو الأمر الذي لا يفاجئ نيتشه كثيرا)، الذي نظر إليه نيتشه بوصفه اعتناقا للعفة في سنه المتقدمة. خلال ذلك يقول نيتشه: «من الأفضل أن يفصل الفنان عن نتاجه إلى درجة تجعل من المتعذر النظر إليه على محمل الجد بمثل ما ينظر إلى نتاجه ... والحق أنه لو كان مجبولا على هذا النحو، لما كان بوسعه أن يتصور ويتخيل ويعبر. فنان مثل هوميروس ما كان باستطاعته أن يبتدع «أخيل»، ولا كان باستطاعة جوته أن يبتدع «فاوست»، لو أن هوميروس كان أخيل أو جوته كان فاوست» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 4). الخلاصة هي أن الفنان يفتقر إلى الضمير، ويتبنى أي موقف ينمي به عمله. وهو يستغل خبرته بهدف الإبداع، وهو ما قد لا يكون مرتبطا ب «الحق». «ما هو، إذن، ذلك المعنى الذي ينطوي عليه كل تطلع للمثل الزهدية؟ بالنسبة إلى الفنان، كما نرى، لا يوجد أي معنى!» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 5). وبما أن نيتشه قد قال في مستهل حياته المهنية إن «الفن هو النشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة» ثم هجر الميتافيزيقا، فهو ليس ميالا إلى التفكير بأن ثمة أية علاقة وطيدة بين الفن والواقع. وفي ملحوظة لاحقة كتب يقول: «أن يقول الفيلسوف: إن «الطيب والجميل شيء واحد» لهو عمل شائن؛ وإذا واصل بإضافة «الحق أيضا»، فعلى المرء أن يجلده. فالحق قبيح. ونحن نملك الفن خشية أن «نفنى بسبب الحق»» («إرادة القوة»، 822). ومع هذا، فدائما ما ينظر إلى الفن بوصفه مثالا للنشاط الإنساني. ومن ثم يبدو أن الفنانين - كتناقض آخر لم يتم تناوله - شخصيات شكاكة بطبيعتها، في حين أن الفن هروب من الحق يحافظ على الحياة، وكثيرا ما يطرح - بالتأكيد من خلال فاجنر - بوصفه الحق. أي فنان يحاول فقط أن يقدم تقريرا عن الواقع هو مدان على نحو صريح. وما عدا هذا النمط من الفنانين، فإن الباقين «كانوا في كل زمان خدما لفضيلة أو لفلسفة أو لديانة ما» («أصل الأخلاق وفصلها»، المبحث الثالث، 5). وبقدر ما يمكن فهم المثل الزهدية، «دعونا نتخلص من الفنانين» (المصدر السابق).
ينتقل نيتشه بعد ذلك إلى الحديث عن الفلاسفة. لكي تكون فيلسوفا فإنك تمارس الزهد لمصلحتك الخاصة. ولكن الزهد هنا لا يعني أكثر من كون المرء، في المقام الأول، عاقد العزم على هدف واحد يستقطب كل قواه ويحرم نفسه من متع عديدة من أجل هذا الهدف المنشود بكل عزم، في حين أن «الإجبار» على الزهد هو نتيجة الخوف من احتمالية الاستمتاع بالحياة؛ لأن المرء لا يستحق هذا. فثمة زهد بالاختيار وزهد بالإجبار، وكلاهما ظاهرة منفصلة تماما. أولئك الذين يمارسونه بتوصية من القساوسة لا يمارسونه لتحقيق أي خير يعتبر مطلبا أساسيا له؛ وإنما لأن الإحساس بالذنب الذي غرسه القساوسة في نفوسهم يدفعهم إلى مضاعفة المعاناة التي يستحقونها؛ تلك القسوة الشنيعة التي تفسر لهم السبب في كون الحياة مؤلمة بتوجيه المزيد من الألم لهم؛ فهم مسئولون عن معاناتهم الخاصة.
من الواضح أن مثل هذه الظاهرة الغريبة تثير دهشة نيتشه وتروعه، تماما مثلما تدهشه قدرة الناس على تجاهل الأمر برمته والانغماس في حالة من البؤس الأرعن. «الإنسان هو الحيوان المريض»، ولكن يبدو أن جميع العلاجات المتوافرة قد جربت وثبت فشلها. وهذا يفسر نفاد صبر نيتشه المتزايد، والمتجسد في نصوصه النثرية الشديدة الإيجاز في عامه الأخير، وتوقه للثورة الشاملة. ومع اشتداد قسوة معاناته الخاصة، التي ازدادت بالفعل بمعدل مخيف خلال عامي 1887 و1888، عاد نيتشه غير قادر على تحمل أي رأي يحاول بأية طريقة إكسابها معنى، وبهذه الطريقة كان ينظر إلى الأخلاق خلال هذه الفترة باعتبارها ليست أكثر من مجموعة من الخطوات المتكررة البارعة إلى حد مخيف لإقناع الناس بأن السلوك القويم والنجاح أمران مرتبطان . وفي نهاية كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» يمنح نفسه الأمل بأنه «ما من شك بأن الأخلاق سوف تذوي بالتدريج.» ولكنه لا يمكن أن يكون قد صدق هذا؛ إذ إن الجانب الأكبر من «أصل الأخلاق وفصلها» خصص لعرض الطرق الواسعة الحيلة على نحو غير محدود التي يحاول بها الكهنوتي، الذي لا يحتاج بالطبع أن يكون في خدمة الكنيسة، أن يحافظ على استمرارية الأخلاق. وكلما تناقصت أعدادنا - من دون المسيحية ثمة احتمالية بأن تزيد أعدادنا، ولكن الاحتمالية الأكبر أننا سنتشبث بأخلاقنا المبنية على المسيحية، مدعين أنها تحتاج فقط إلى بعض التعديلات الطفيفة لتحقيق الجنة على أرض النفعية - فقدنا حتى القدرة على إدراك العظمة، مفترضين أنها لم تعد ممكنة. لقد انتصرت أخلاق العبيد! ونحن قانعون بأن نكون عبيدا حتى لو لم يوجد أسياد. ويلخص القسم الأخير الرائع من «أصل الأخلاق وفصلها» هذا كله دون تبسيط أو فجاجة:
الإنسان، الذي هو أشجع الحيوانات وأشدها تمرسا بالشقاء، «لا» يرفض الشقاء بحد ذاته؛ إنه «يريده»، بل هو يسعى إليه، شريطة أن يكشف له عن معنى هذا الشقاء وعن «سبب» لزومه. فاللعنة التي ناءت بكلكلها على البشرية هي خلو الألم من المعنى، «لا» الألم بحد ذاته؛ «والمثال الزهدي يعطي لهذا الألم معنى!» وهذا المعنى ظل حتى الآن المعنى الوحيد. يظل وجود المعنى أفضل من عدم وجود أي معنى على الإطلاق ... لكنه قدم للإنسان فرصة «للخلاص»، وأصبح للإنسان معنى، لم يعد مثل ريشة في مهب الريح ... أصبح بوسعه الآن أن «يريد» شيئا ما، بعد أن كانت لا توجد أية أهمية لما يريد، إذ لماذا كان له أن يريد هذا الشيء بدلا من ذاك؟ باسم ماذا، وكيف؟ أما الآن، «فقد أنقذ الإرادة نفسها».
Page inconnue