شكر وتقدير
تمهيد
1 - شخصية قومية
2 - التعامل مع الأمور فلسفيا
3 - السنوات الرائعة
4 - الجماهير المولعة بالنقد
5 - فيلسوف هرمسي حقيقي
6 - أحد القلة المختارة من الله
7 - الكتاب المقدس
8 - في المدينة
9 - رب الجميع وسيدهم
10 - القناطير وحيوانات أخرى
قراءات إضافية
شكر وتقدير
تمهيد
1 - شخصية قومية
2 - التعامل مع الأمور فلسفيا
3 - السنوات الرائعة
4 - الجماهير المولعة بالنقد
5 - فيلسوف هرمسي حقيقي
6 - أحد القلة المختارة من الله
7 - الكتاب المقدس
8 - في المدينة
9 - رب الجميع وسيدهم
10 - القناطير وحيوانات أخرى
قراءات إضافية
نيوتن
نيوتن
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روب أيلف
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر إلى مارتن بيجلز، وجون يونج، ولوتشيانا أوفلاهرتي، ولاري ستيوارت، وسارة دراي للتعليق على النسخ الأولية من هذا الكتاب، وأيضا لاقتراح إضفاء تحسينات.
تمهيد
في بريطانيا إبان العصر الفيكتوري، كان كل طالب يعرف أن السير إسحاق نيوتن نابغة رياضية وعلمية منقطعة النظير، وكان باستطاعة غالبيتهم أن يقدم بيانا مبسطا لأهم اكتشافاته. ففي علم البصريات، اكتشف نيوتن أن الضوء الأبيض لم يكن عنصرا أساسيا في الطبيعة، بل يتألف من أشعة أولية ممتزجة معا، وكانت الأجسام تبدو بلون معين لأنها تميل لعكس أو امتصاص ألوان بعينها دون غيرها. وفي مجال الرياضيات، اكتشف نيوتن نظرية ذات الحدين لفك مجموع متغيرين مرفوع لأي قوة، وكذلك القوانين الأساسية لحساب التفاضل والتكامل. فتعامل ذلك مع معدل التغيير الذي يطرأ على أي متغير (شكل منحنى أو سرعة جسم متحرك) في أي لحظة، وكذلك أتاح تقنيات لقياس المساحات والأحجام أسفل المنحنيات (وغيرها من الأشياء الأخرى). وقد استغرق عمله في كل من مجالي الرياضيات والبصريات عقودا عديدة ليحوز القبول التام من جانب معاصريه، ويعود ذلك فيما يتعلق بالمجال الأول إلى أن عمله لم يعرض إلا على مجموعة محدودة من العلماء المعاصرين، وبالنسبة للمجال الثاني فيرجع إلى أن كثيرين وجدوا صعوبة في إعادة إنتاج إنجازاته، التي تعد ثورية للحد الذي يتعذر معه فهمها بسهولة.
أما المجد الذي توج طريقة نيوتن، فقد كان مصدره كتابه الذي ألفه تحت عنوان «المبادئ الرياضية » والصادر عام 1687، والذي قدم فيه قوانين الحركة الثلاثة، وذلك المفهوم الرائع الخاص بالجاذبية الكونية، والمتمثل في أن جميع الأجسام الضخمة دائما ما تجذب جميع الأجسام الأخرى وفقا لقانون رياضي. وباستخدام مفاهيم جديدة تماما مثل «الكتلة» و«الجذب»، أعلن نيوتن في قوانينه للحركة: (1) أن جميع الأجسام تظل على حالتها من الحركة أو السكون ما لم تتأثر بقوة خارجية، (2) أن التغيير في حالة جميع الأجسام يتناسب طرديا مع القوة التي تسببت في هذا التغيير، وأنه يحدث في اتجاه تلك القوة المؤثرة، (3) أن لكل فعل رد فعل مساويا له في المقدار ومضادا له في الاتجاه. وقد شكلت دراسة نتائج عمله في هذا المجال الأساس للميكانيكا السماوية خلال القرن الثامن عشر، وأتاحت المجال لظهور فيزياء جديدة - نعتبرها هي الفيزياء الصحيحة - للأرض والسماء (باستثناء تأثيرات النسبية العامة والخاصة). وبذلك، لم يكن من فراغ أن الغالبية العظمى من المتعلمين منحته لقب «مؤسس الفكر».
بخلاف ذلك، عانت نخب بريطانيا في العصر الفيكتوري في التعامل مع جوانب أصعب من حياة نيوتن وأعماله؛ لما كان معروفا عنه أيضا أنه خيميائي متفان ومهرطق متطرف. كذلك أظهرت أدلة لا تقبل الجدل أنه انتهج سلوكا ذميما نحو مجموعة من معاصريه. ومنذ ذلك الحين، ظل تفسير شخصيته ومواجهة مشكلة التوفيق بين الجوانب «العقلانية» و«غير العقلانية» من عمله بمنزلة تحد أمام المؤرخين. إضافة إلى ذلك، أن حقيقة أن الكثير من أوراقه البحثية المهمة لم تصبح متاحة للدراسة والفحص الجاد إلا في سبعينيات القرن العشرين تعني أنه لم يكن من الممكن تكوين صورة متوازنة لأعماله إلا في العقود القليلة الماضية.
وعلى الرغم مما كان معروفا منذ زمن؛ أن نيوتن كان لديه هذه الاهتمامات الشاذة فيما يبدو - والتي كان يدرك بلا شك أنها أهم من مساعيه الأكثر «احتراما» - فقد ظلت التراجم الذاتية الحديثة الشهيرة له تظهر تلك العناصر الشاذة وكأنها توصف لأول مرة. غير أن هذه الكتب لم تقدم رؤى جديدة، وكذلك لم تنهل من المواد المذهلة التي أصبحت متاحة عبر الإنترنت في السنوات القليلة الماضية. وتطلق معظم هذه الأعمال أيضا ادعاءات مبالغا فيها عن الروابط والصلات بين الجوانب المتعددة لنشاط نيوتن الفكري. وتهدف هذه المقدمة إلى تدارك هذه المشكلات مع الأخذ في الاعتبار المؤلفات العلمية الحديثة، والنسخ التي أتيحت مؤخرا عبر الإنترنت من المؤلفات والكتابات. والواقع أن نيوتن الذي يبرز من خلال تلك المصادر أغرب بكثير مما كان يبدو في التراجم الحديثة.
الفصل الأول
شخصية قومية
فقد سير إسحاق نيوتن وعيه في وقت متأخر من مساء السبت، وتوفي مباشرة بعد دقات الساعة الواحدة صباحا من يوم الإثنين الموافق العشرين من مارس عام 1727 عن عمر يناهز 84 عاما. كان يحضره لحظة الوفاة طبيبه ريتشارد ميد، الذي أخبر الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير فيما بعد أن نيوتن أخبره وهو على فراش الموت أنه لم يضاجع امرأة قط. وكان يقوم على رعاية نيوتن أيضا في ساعاته الأخيرة ابنة أخته غير الشقيقة كاثرين وزوجها جون كوندويت، الذي كان أشبه بمساعد شخصي لنيوتن في سنواته الأخيرة. وعلى الرغم من انشغاله وكثرة أعبائه، تولى كوندويت وحده تقريبا تنظيم حفل التأبين لهذا الرجل العظيم الذي عرفه عن قرب، ونجح نجاحا بطوليا في الإشراف على جمع كل المعلومات المهمة المتوافرة لدينا تقريبا فيما يتعلق بحياة نيوتن الخاصة. وكان مسئولا عن ترتيبات جنازة نيوتن في كنيسة ويستمنستر آبي في نهاية مارس من عام 1727، واتفق مع ألكسندر بوب لتأليف الكلمة التي نقشت على قبر نيوتن. وفي السنوات اللاحقة، كلف أعظم فناني العصر من البريطانيين والأجانب برسم عدد كبير من اللوحات ونحت التماثيل النصفية لبطله.
حاول كوندويت على مدار عدة سنوات أن يكتب «حياة» نيوتن على وجه الدقة، وإن لم يتمكن مطلقا من إتمام المهمة. كان قد سجل تفاصيل بعض الحوارات التي دارت بينه وبين نيوتن، ولكنه أرسل لعدد من الأشخاص ليرسلوا له ذكرياتهم معه من أجل الحصول على المزيد من التفاصيل عن أعمال نيوتن العلمية. وبعد وفاة نيوتن بأسبوع، كتب كوندويت إلى برنارد دي فونتنيل الفرنسي، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الملكية بباريس، عارضا عليه تقديم مادة يستطيع استخدامها في «رثائه» لنيوتن. فرأى كوندويت في ذلك فرصة لتحصين سمعة قريبه في الدولة التي كانت من أكثر الدول معارضة للاعتراف بتفوق نيوتن وتميزه في العلوم والرياضيات. ولم تسلم سمعة نيوتن من النيل منها في فرنسا حتى نهاية ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وفي أعقاب وفاته، حرص كوندويت على أن يعي العلماء الفرنسيون وغيرهم من غير البريطانيين على ريادة نيوتن وأسبقيته في ابتكار علم التفاضل والتكامل، وهو شرف ظل معظم العلماء الفرنسيين ينسبونه للعالم الألماني متعدد المعارف جوتفريد لايبنتز. وعلى مدار صيف عام 1727، عكف كوندويت على كتابة «مذكرات» نيوتن، والتي أرسلها إلى فونتنيل في شهر يوليو.
شكل 1-1: تمثال كوندويت النصفي لنيوتن، تنفيذ جيه إم ريسبراك.
1
قدمت «مذكرات» نيوتن بقلم كوندويت سجلا تاريخيا واقعيا - وإن كان يشوبه التملق - لحياة نيوتن الفكرية والأخلاقية، ووصفت فيه حياته الأخلاقية بأنها «نقية وطاهرة فكرا، وقولا، وفعلا». فقد كان متواضعا إلى حد يثير الدهشة، وأظهر قدرا رائعا من الجود والعطاء، إلى جانب شفقة وعطف ووداعة وصلت إلى حد أنه غالبا ما كان يذرف الدموع عند سماع قصة حزينة. وكان عاشقا للحرية، ومحبا لحكم الملك جورج الأول الهانوفري، بيد أنه كان «يمقت ويبغض» الاضطهاد، وكانت الرحمة بالحيوان والإنسان هي «الموضوع الأثير الذي أحب التركيز عليه». وقد أدرج كوندويت بيانا عن تقدم نيوتن المبكر في كامبريدج، وأضاف رواية متحيزة لصراع الأسبقية مع لايبنتز؛ فلم يكن الأمر أن لايبنتز ليس أول من ابتكر علم التفاضل والتكامل فحسب، ولكنه أيضا «لم يستوعبه مطلقا بما يكفي لتطبيقه على نظام الكون، والذي كان الفائدة العظيمة والجليلة التي جناها منه سير إسحاق نيوتن».
ألقي «رثاء» فونتنيل على أعضاء الأكاديمية في نوفمبر عام 1727، وفيه قدم سردا جيدا لتقدم نيوتن العلمي وفي مجال الرياضيات، مقرا بأنه قدم جميع اكتشافاته العظيمة تقريبا في بداية العشرينيات من عمره. واختلف مع الكثير من المعتقدات الموجودة في كتاب «المبادئ الرياضية»، خاصة المعتقد الخاص بمفهوم «الجذب»، إلا أنه أفاض في الحديث عن أهميتها بوجه عام. وعلى الرغم من إدراك فونتنيل أن نيوتن كان يختلف مع الكثير من نظريات عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت، فقد أشار إلى أن كليهما حاول إقامة العلم على أسس رياضية، وأن كليهما كان نابغة في عصره ومنهجه. وسرعان ما ترجم الرثاء إلى الإنجليزية، ليصبح المصدر الغالب لجميع السير الذاتية المكتوبة باللغة الإنجليزية لما يزيد على قرن.
ظهرت أعمال أخرى بسرعة بالغة، وكان من ضمنها «مجموعة الوثائق الأصلية» لويليام ويستون، والذي كان أول نص يتحدى علانية صورة نيوتن كفارس أبيض متألق. وكان ويستون خليفة نيوتن كأستاذ للرياضيات بجامعة كامبريدج، إلا أنه فصل من كامبريدج في عام 1710 لاعتناقه آراء دينية مهرطقة مشابهة لتلك التي اعتنقها نيوتن. وأفصح ويستون لأول مرة عن آراء نيوتن اللاهوتية المتطرفة، وقارن بين «السلوك والطابع الحذر» الذي اتسم به نيوتن وبين «انفتاحه» هو نفسه، ولكنه أشار إلى أن نيوتن لم يكن يستطيع إخفاء اكتشافاته العظيمة في اللاهوت «على الرغم من طابعه شديد التخوف والحذر والتشكك».
حتى قبل أن يقرأ كوندويت كتاب ويستون، استاء من الطريقة الموضوعية التي قارن بها فونتنيل بين نيوتن وديكارت، ومن طريقة معالجته لنزاع الأسبقية. وعلى الفور، كتب مرة أخرى لعدد من أنصار نيوتن في فبراير من عام 1728 مناشدا إياهم؛ «باعتبار أن سير إسحاق نيوتن كان شخصية قومية، فإنني أعتقد أنه على الجميع أن يساهم بعمل يهدف لإنصافه». وكان من بين أكثر الرسائل التي تلقاها ردا على رسالته إثارة، رسالتان من همفري نيوتن (لا توجد صلة قرابة تربطه بنيوتن)، والذي باعتباره سكرتيرا لنيوتن، كان لديه بصيرة فريدة من نوعها لسلوكه خلال السنوات التي ألف فيها كتاب «المبادئ الرياضية» (1684-1687). فبحسب همفري، كان نيوتن أحيانا ما «يقف فجأة، ويستدير، ويركض صاعدا الدرج، وكأنه أرشميدس آخر، ويصيح «وجدتها، وجدتها»، وينكب ليكتب واقفا دون أن يمنح نفسه رفاهية سحب كرسي للجلوس عليه». وكان نيوتن في ذلك الوقت فيما يبدو يستقبل مجموعة مختارة من العلماء في قاعته، من بينهم جون فرانسيس فيجاني، وهو محاضر في الكيمياء في كلية ترينيتي. وظلت علاقة فيجاني بنيوتن على ما يرام، حتى قام فيجاني «بسرد قصة خليعة عن إحدى الراهبات»، بحسب كاثرين كوندويت.
كان جون كوندويت قد تلقى بالفعل معلومات غاية في الأهمية من خبير الآثار ويليام ستوكلي، الذي كان قد انتقل إلى جرانثام قبيل وفاة نيوتن. ولما كان هذا هو المكان الذي التحق فيه نيوتن بالمدرسة الثانوية المحلية فيما كان يقيم مع الصيدلي المحلي، فقد كان ذلك مكانا مثاليا لجمع معلومات متعلقة بمرحلة الشباب من حياته. وبحلول عام 1800، نشر بعض مما ذكره ستوكلي والقليل من أوراق كوندويت. غير أنه في بداية القرن التاسع عشر، ساهمت المعلومات الجديدة بعمق في تغيير طريقة تفكير الناس في نيوتن. وفي عام 1829، كشفت ترجمة لسيرة ذاتية حديثة لنيوتن كتبها جون-باتيست بيو أنه عانى من انهيار عصبي في أوائل تسعينيات القرن السابع عشر. ولكن ما كان أشد تدميرا هو ما حدث في ثلاثينيات القرن التاسع عشر حين انطلق وابل من المعلومات المزعجة من أوراق أول فلكي ملكي، جون فلامستيد، والتي قدمت صورة ذميمة لسلوك نيوتن. ومنذ ذلك الحين، راح الفيكتوريون يتبارون فيما بينهم لتقديم ترجمات لحياة نيوتن وأعماله. والأهم من كل ذلك، أصبح كتاب ديفيد بروستر «مذكرات عن حياة ومؤلفات واكتشافات سير إسحاق نيوتن» (1855)، وهي نسخة منقحة بشكل رائع من كتابه «حياة سير إسحاق نيوتن» (1831)، هي الترجمة الغالبة لحياته لما يزيد على قرن. وقد حاول ببسالة التعامل مع انخراطه الشديد في الخيمياء، وآرائه الدينية غير التقليدية، ومعاملته الفجة غالبا للصديق والعدو، ولكنه لم يرغب مطلقا في الإقرار بالمدى الكامل الذي وصل إليه انحدار نيوتن.
في بداية سبعينيات القرن التاسع عشر، قرر لورد بورتسمث الخامس - وهو حفيد بعيد لكاثرين كوندويت ومالك أوراق نيوتن البحثية - التبرع بمخطوطات نيوتن «العلمية» للدولة. وشكلت لجنة بجامعة كامبريدج لتقييم قيمة المجموعة، وأعلنت نتائجها في كتالوج لهذه الأوراق البحثية في عام 1888. أما الأوراق غير العلمية، بما فيها مؤلفات نيوتن في الخيمياء واللاهوت، فلم تعتبر ذات قيمة كبيرة بوجه عام، وظلت مع عائلة بورتسمث إلى أن بيعت في صالة سوذبي للمزادات في عام 1936 مقابل مبلغ زهيد للغاية تجاوز بالكاد 9 آلاف جنيه إسترليني. واستحوذت إحدى مؤسسات بيع مواد النشر بالتدريج على معظم أوراق نيوتن في اللاهوت من التجار، وبيعت في النهاية لجامع المقتنيات النادرة أبراهام يهوذا، الذي كان خبيرا في فقه اللغات السامية. وتوفي يهوذا في عام 1951، وعلى الرغم من كونه معاديا للصهيونية، فقد ذهبت ملكية مجموعته المدهشة من أوراق نيوتن إلى المكتبة الوطنية الجامعية في الجامعة العبرية بالقدس بعد دعوى قضائية استمرت لما يقرب من عقد كامل.
حضر الاقتصادي الكبير جون ماينارد كينز جزءا من مزاد سوذبي، وركز كل جهوده للاستحواذ على جميع أوراق نيوتن في الخيمياء، وكذلك الأوراق «الشخصية» التي كانت تحت يد جون كوندويت. وبحلول عام 1942 - والذي وافق الذكرى المئوية الثالثة لميلاد نيوتن - أصبح كينز مالكا للغالبية العظمى من أوراق نيوتن في الخيمياء، إلى جانب بعض الأطروحات اللاهوتية. وعلى الرغم من انشغاله بمتطلبات الحرب العالمية الثانية، ألقى كينز خطبة بنيت على هذه المواد كجزء من الاحتفالات الهادئة بالمئوية الثالثة. وكان نيوتن الذي وصفه في خطبته أكثر روعة بكثير من ذلك الشخص الذي قدمه مؤرخو السير الذاتية السابقون، إذ وصفه بأنه «يهودي موحد من أتباع مدرسة موسى بن ميمون»، وأنه لم يكن «صاحب مذهب عقلي» أو «أول وأعظم علماء العصر الحديث»، ولكنه:
آخر جيل السحرة، وآخر البابليين والسومريين، وآخر العقول العظيمة التي أشرفت على العالم المرئي والفكري بنفس أعين هؤلاء الذين بدءوا في بناء تراثنا الفكري منذ ما لا يقل عن 10 آلاف عام.
كان نيوتن ينظر إلى عالمي الطبيعة والنصوص الغامضة المتلازمين كلغز ضخم يمكن حله من خلال فك شفرة «بعض الخيوط الغامضة التي نسجها الله حول العالم لإتاحة نوع من البحث الفلسفي عن الحقيقة للنخبة». وكانت كتاباته في موضوعات الخيمياء واللاهوت، حسبما ذهب كينز، «تتميز بالمعرفة الواعية، والمنهج الدقيق، والرصانة البالغة في التعبير»، وكانت «معقولة ومنطقية شأنها شأن كتاب المبادئ الرياضية».
استفادت أكثر سيرتين ذاتيتين مؤثرتين وقائمتين على مادة علمية - واللتين كتبتا في أواخر القرن العشرين - استفادة واسعة من المواد الواردة بالمخطوطات اليدوية. فيقدم كتاب «لوحة لإسحاق نيوتن» الصادر عام 1968 الذي ألفه فرانك مانويل ترجمة تحليلية نفسية لشخصية نيوتن، اعتمدت اعتمادا كبيرا على الفرضية القائلة بأن سلوك نيوتن اللاواعي اتضح «على نحو أساسي في مواقف الحب والكراهية». ووفقا لمانويل، فإن مصدر مشكلات نيوتن النفسية كان يكمن في حقيقة زواج والدته مرة أخرى ولم يكن نيوتن قد تجاوز الثالثة من عمره فقط. فبعد فقدانه لوالده الحقيقي، والذي توفي قبل شهور قليلة من ميلاده، أصبح نيوتن يكن عداء لزوج والدته، وكرس نفسه للأب الوحيد الذي استطاع أن يدرك وجوده بحق؛ هو الله. وقد أوضح مانويل كيف أن التجارب الصادمة التي واجهها في شبابه كانت داخلية، وأن الشاب المتزمت العبقري المعذب أصبح الطاغية الهرم في بدايات القرن الثامن عشر.
وفي كتاب ريتشارد إس ويستفول الأكثر تقليدية بعنوان «رجل لم يعرف الراحة: ترجمة علمية لحياة إسحاق نيوتن» الصادر عام 1980، تناول المؤلف أعمال نيوتن باعتبارها الجانب الرئيس في حياته. فقد عنيت «ترجمته العلمية» المستقاة من المجموعة الكاملة لمخطوطات نيوتن التي كانت متوافرة آنذاك للعلماء والدارسين، بكل جانب من اهتمامات نيوتن الفكرية، وإن كان مجاله العلمي «يمثل الفكرة الأساسية». وبينما يتعامل ببراعة واقتدار مع إنجازات نيوتن الفكرية، إلا أنه من الواضح أن إعجاب ويستفول الشديد بهذا الجانب من حياة نيوتن لا يمتد ليشمل سلوكه الشخصي.
وقد مقت ويستفول في النهاية ذلك الرجل الذي ظل يدرس أعماله على مدى أكثر من عقدين، ولم يكن أول من يكن مثل هذا الشعور تجاه الرجل العظيم.
هوامش
الفصل الثاني
التعامل مع الأمور فلسفيا
ولد نيوتن في يوم عيد الميلاد عام 1642 (والذي يوافق 4 يناير عام 1643 في معظم دول أوروبا)، وفقا للتقويم المعتمد آنذاك في إنجلترا؛ إذ لم تكن وقتها قد اعتمدت التقويم الميلادي مثل معظم الدول الأوروبية. وشهد العقد الأول من حياته وحشية الحروب الأهلية بين القوى البرلمانية والقوى المؤيدة للحكم الملكي في أربعينيات القرن السابع عشر، والتي وصلت لذروتها بإعدام تشارلز الأول في يناير عام 1649. وكان عمه وزوج والدته قسيسين في الأبرشيات المحلية، ويبدو أنهما قد عاشا دون التعرض لكثير من المضايقات من جانب السلطات الكنسية التي اجتمع بها البرلمان للنظر في «الانتهاكات» الدينية. وفي عقده الثاني، عاش تحت حكم الكومنولث البروتستانتي المتطرف، والذي تغير في عام 1660 حين استعاد تشارلز الثاني عرشه. ولد نيوتن لعائلة ميسورة نسبيا، ونشأ في جو من التقوى والورع. كان والده - واسمه إسحاق أيضا - مزارعا صغيرا ورث في ديسمبر من عام 1639 أرضا وقصرا جميلا في أبرشية وولسثروب بمقاطعة لينكولنشاير. كانت والدته حنا آيسكوف، تنتمي للطبقة المتوسطة العليا، وعلى ما يبدو لم تتلق سوى التعليم الابتدائي (كما كان معتادا بالنسبة لتلك الفترة). غير أن شقيقها ويليام تخرج من كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج في ثلاثينيات القرن السابع عشر، وكان له دور مؤثر في توجيه نيوتن للالتحاق بنفس الكلية.
توفي والد نيوتن، الذي لم يكن فيما يبدو يستطيع توقيع اسمه، في أوائل شهر أكتوبر من عام 1642، قبل زهاء ثلاثة أشهر من ميلاد ابنه. وقد أخبر نيوتن كوندويت بأنه ولد طفلا ضئيل الحجم ومعتل الصحة، وكان بقاؤه على قيد الحياة أمرا مستبعدا؛ لدرجة أن السيدتين اللتين أرسلتا في طلب النجدة من سيدة نبيلة توقفتا للاستراحة وهما في طريقهما إليها، ليقينهما بأن الطفل سيموت قبل عودتهما. وعلى عكس التكهنات، عاش نيوتن، وترعرع في كنف والدته حتى سن الثالثة، حين تقدم للزواج منها بارناباس سميث، وهو قس عجوز بإحدى الأبرشيات المحلية. كان سميث ثريا، وقد تزوجا في يناير من عام 1646 بعد أن تعهد بترك أرض لوليدها الأول. كانت والدة نيوتن تقضي معظم وقتها مع زوجها الثاني، وأنجبت منه ثلاثة أطفال قبل وفاته في عام 1653 (وكان أحد هؤلاء الأطفال هي والدة كاثرين كوندويت). وعلى الرغم من أن جون كوندويت كان كثيرا ما يتكلم بحماس عن فضائل حنا بوجه عام، وكان حريصا على الإشارة إلى أنها كانت «أما رءوما» لجميع أبنائها، فقد كان يؤكد على أن إسحاق الصغير كان المفضل لديها. وأيا كانت حقيقة ذلك، فإن الأدلة التي ساقها نيوتن بنفسه تشير إلى أنه قد جمعته علاقة عصيبة للغاية بوالدته وهو في مرحلة المراهقة، ودائما ما كان المؤرخون يجدون صعوبة في إيجاد تطابق بين رواية كوندويت وبين حقيقة أن نيوتن قد ترك بالفعل لمدة سبع سنوات في وولسثروب لينشأ تحت رعاية جدته لأمه.
التحق نيوتن بمدرستين محليتين حتى بلغ 12 عاما، ليلتحق بعد ذلك بمدرسة جرانثام الثانوية، وهناك أقام مع صيدلي محلي يدعى جوزيف كلارك، الذي تبين أن متجره مصدر رائع للمعلومات. وقد قال أحد أحفاد كلارك لويليام ستوكلي إن نيوتن أظهر اهتماما بالغا بالأدوية والكيماويات الوفيرة هناك، فيما أشار ستوكلي إلى أنه كان يقضي وقتا كبيرا في جمع الأعشاب، وربما تعرف على خصائصها من صبية كلارك. وعاش نيوتن مع أبناء زوجة كلارك، وكان من بينهم كاثرين، التي أصبحت فيما بعد السيدة فينسنت، وأدلت بقدر وافر من المعلومات عن ذلك الصبي المعجزة. وكان كل من يقابل ستوكلي يحكي له عن «نبوغه المثمر الاستثنائي» في صناعة الآلات، ويخبره أنه «بدلا من اللعب وسط أقرانه من الصبية - عند العودة من المدرسة - كان دائما ما يشغل نفسه في المنزل بصنع حلي من أنواع مختلفة، ومجسمات من الخشب، وأي شيء يقوده خياله إليه». وقد أشارت السيدة فينسنت، التي زعم أن المخترع الشاب كان يهيم بها حبا، إلى أن زملاءه في المدرسة كانوا «لا يكنون له قدرا كبيرا من الحب»؛ لإدراكهم أنه «يملك قدرا من العبقرية والنبوغ» يفوق ما يملكونه. وبدلا من ذلك، كان إسحاق الصغير «صبيا مفكرا وصامتا وهادئا دوما»، ولم يكن يلعب قط مع الصبية، بل كان من آن لآخر يصنع أثاثا لبيوت الدمى للفتيات «ليضعن عرائسهن وحليهن عليها».
قام نيوتن ببناء «متجر كامل للأدوات» في جرانثام، وكان ينفق كل النقود التي تعطيها له والدته على شراء المناشير، والأزاميل، والبلطات الصغيرة، والمطارق، وما شابهها من أدوات، «والتي كان يستخدمها بنفس القدر من البراعة والمهارة، وكأنه تربى متشربا بهذه الحرفة». وكان كثير من الآلات التي وصفتها السيدة فينسنت وغيرها قد عرض في الأساس في كتاب من تأليف جون بت بعنوان «أسرار الطبيعة والفن»، والذي كان جزءا من مجموعة كتب تنتمي لجنس أدبي يحظى بشهرة بالغة تدعى «السحر الرياضي»، والتي احتوت على العديد من الوصفات وتصميمات الآلات. لم يكن نيوتن ليتقبل المعلومات ببساطة دون تطويرها على نحو مثير. فلعدم رضاه باستنساخ طاحونة هوائية ورد وصفها في كتاب بت، ذهب ليشاهد نسخة حقيقية منها بنيت في قرية مجاورة، «وكان يلازم العمال يوميا»، و«حصل على فكرة دقيقة عن آليتها، حتى إنه صنع نموذجا حقيقيا ورائعا لها». وقد تجاوز نموذجه المبدئي وقام بتعديل وضبط الآلية بحيث تدار الأشرعة بواسطة فأر يقود عجلة أثناء محاولته للوصول لبعض الذرة. وفيما اختلف رواة ستوكلي حول آليتها، فقد اتفقوا على أن الناس كانوا يقطعون أميالا لمشاهدة «طاحونة الفأر». وقد أشار ستوكلي عن إدراك وفطنة إلى أن الآلات «الهزلية» كانت عادة ما تجذب انتباهه. ففضلا عن طاحونة الفأر وأثاث الدمى، تفحص نيوتن نسيج وأبعاد طائرة ورقية بسيطة، وصنع نموذجا أفضل، وأرفق بها مصباحا يضاء بالشموع، مما بث الفزع في نفوس أهل القرية ومنحهم الكثير لمناقشته بينما يحتسون الجعة.
وكما حدث في حالتي الطاحونة الهوائية والطائرة الورقية، صنع نيوتن ساعة خشبية، وبعدها مباشرة صنع نموذجا أفضل لها. وقد كانت هذه النسخة المعدلة - المزودة بقرص مدرج - تدار بواسطة سيل منتظم من قطرات الماء كان يزودها بها كل صباح، وصنعت من صندوق أعطاه له همفري بابينتون. وبابينتون هو شقيق السيدة كلارك (التي كانت صديقة مقربة لحنا سميث)، وكان قد فصل من كلية ترينيتي لرفضه ميثاق قسم الولاء للكومنولث، ولعب دورا مهما في حياة نيوتن على مدى العقود اللاحقة. ونجح نيوتن في توسيع نطاق براعته الفنية الفائقة لينتقل إلى الساعات الشمسية المعقدة، محولا ملامح منزل كلارك المتنوعة إلى أنواع مختلفة من الساعات، وبحسب ستوكلي، فقد «أظهر عظمة ونطاق فكره برسم خطوط طويلة، وربط خيوط طويلة بكرات متحركة عليها؛ وغرز أوتاد في الحائط لتمييز الساعات وأنصاف وأرباع الساعات». وقد صنع «تقويما» من هذه الخطوط «وكان يعرف من خلالها أي يوم من الشهر أصبح؛ وموعد دخول الشمس في الأبراج، وشهور تساوي الليل والنهار والانقلاب الشمسي». وقد أصبحت ساعات نيوتن الشمسية، شأنها شأن الكثير من إنجازاته الأخرى، معروفة في الأبرشية. ولعل هذه الساعات هي أعظم إنجازاته في مرحلة الصبا، ويعتقد ستوكلي أنها كانت أساس انبهاره بالحركات السماوية.
تفوق نيوتن أيضا في الأنشطة الفنية، مثل الرسم وحتى تأليف الشعر، على الرغم من أن ولعه بالشعر كان مؤقتا. فكان يغطي جدران غرفة علية البيت الخاصة به برسومات من الفحم لحيوانات، وبشر، ونباتات، وأشكال رياضية، ونقش اسمه على الأرفف. وفي منتصف القرن العشرين، اكتشفت رسومات هندسية، رسمها نيوتن بلا شك، محفورة على المبنى الحجري لقصر وولسثروب.
شكل 2-1: كان كتاب جون بت «أسرار الطبيعة والفن» هو المصدر الذي اعتمد عليه نيوتن لتصميم ساعة تعمل بالماء.
ويمكن تقييم النزعة الفنية لدى نيوتن في تلك الفترة من خلال سلسلة من الملاحظات عن كتاب بت، وضعت داخل مفكرة كان قد اشتراها في عام 1659. تشهد هذه الملاحظات على اهتمام نيوتن بالجوانب العملية للرسم، وكذلك اهتمامه بإنتاج مجموعة كبيرة من الأحبار والطلاءات الملونة، سواء من الحيوانات، أو النباتات، والمعادن، أو من خلال مزج ألوان موجودة مسبقا. وبعد مرور ما يزيد عن عقد، ساهم آخر هذه الموضوعات في شهرته. ثمة إرشادات أخرى تتعلق بكيفية صنع طعم صيد السمك، وطرق مختلفة، ليست جميعها بالغة التعقيد، لصيد الطيور بإدخالها في حالة سكر. احتوى كتاب بت أيضا على وصفات لمراهم ودهانات عامة، دون نيوتن عددا منها. وبالفعل، من بين الأشياء القليلة التي تذكرها جون ويكينز فيما بعد - وهو رفيق غرفته لمدة عشرين عاما في كامبريدج - أن نيوتن كان غالبا ما يأخذ وصفة دوائية بشعة كان يصنعها بنفسه («بلسم لوكاتيلو») كواق من الأمراض. وقد جاءت بعض هذه الملاحظات من كتاب «السحر الرياضي» لجون ويلكنز، وهو عمل شهير قدم معلومات مشابهة لمعلومات بت، فيما كانت فقرات أخرى في المفكرة تتعلق بالطرق المختلفة لإحداث حركة مستديمة، وهو موضوع حاز اهتماما بالغا في العقود اللاحقة.
لم يقدم هذا الانغماس في عوالم براعته العملية نذرا لمستقبله العظيم فحسب، ولكنه قاد إليه مباشرة. وبالفعل، قدم ستوكلي وصفا رائعا لكيفية ارتباط ميول نيوتن المبكرة التي استحوذت عليه بانتصاراته اللاحقة. فقد أشار إلى أن براعة نيوتن المبكرة في استخدام الأدوات الميكانيكية، إلى جانب خبرته في الرسم والتصميم، كان لهما نفع بالغ لمهارته التجريبية «وأعدت له أساسا متينا لتطبيق ملكاته العقلية القوية عليه». كان نيوتن يملك كل السمات ليصبح فيلسوفا طبيعيا عظيما على نحو فريد، مثل «البصيرة النافذة»، و«الثبات الذي لا يقهر، والمثابرة في إيجاد حلوله»، و«قوة عقلية ضخمة في توسيع نطاق حججه [و] سلسلة استنتاجاته»، و«مهارة فذة في الجبر وما شابهه من طرق التنويت». ومثل جميع الأطفال، كان يميل للتقليد، ولكنه في رأي ستوكلي «ولد فيلسوفا في واقع الأمر. وكان للتعلم والمصادفة والكد دورهم في توضيح بعض الحقائق البسيطة والعامة أمام عينيه الثاقبتين»، وقد عمد تدريجيا إلى توسيع نطاق هذه الحقائق «حتى كشف عن اقتصاد الكون الأكبر».
طفل ورع
قدر ما كان مستغرقا في ابتكار آلاته، كان الصبي الريفي الموهوب يعاني تعاسة شديدة في شبابه. ففي أواخر مايو من عام 1662، وضع قائمة بأسلوب الاختزال بكل الخطايا التي ارتكبها في العقد السابق من حياته، وظل لفترة قصيرة يدون كل الأخطاء التي ارتكبها أثناء دراسته بكامبريدج. لقد كان مصطلح «متزمت» مصطلحا خاطئا تماما كوصف لعقيدة نيوتن الدينية، ولكن القيم الأخلاقية البروتستانتية المتطرفة المرتبطة بهذا المصطلح تصف على نحو دقيق الشخص الذي تبدى لنا بين فقرات المذكرات. فالكثير من هذه الخطايا غطت أنشطة كان يؤديها في يوم السبت («يوم الراحة») الذي يفترض فيه بالمسيحيين الأتقياء الورعين أن يلزموا الراحة. وفي الكثير من أيام الأحد خلال فترة خمسينيات القرن السابع عشر، كان نيوتن يقرأ كتابا تافها، ويأكل تفاحة في الكنيسة، ويصنع ريشة، وساعة، ومصيدة فئران، وبعض الحبال، وفي المساء يصنع الفطائر. وقد اعترف بأنه كان يثرثر ب «لغو فارغ» في يوم الرب، ومن ثم فلا غرابة في أنه أيضا كان يسمع العديد من العظات ويحفظها بلا اكتراث، فيما دون أيضا أنه قد فاته تماما الذهاب إلى الكنيسة في إحدى المناسبات. وفي بعض الأحيان، كان يكرس نفسه للتعلم وكسب المال أكثر من تكريسها لله، مفضلا «الأمور الدنيوية»، والحق أن الكثير من خطاياه تدل على فشله في العيش كإنسان ورع: «لم أكن أعيش وفقا لعقيدتي»، و«كنت أهمل الصلاة»، وهو ما جعله يصبح بعيدا عن الله، وفشل في حبه لذاته وفي «الاشتياق» لطقوس الرب.
كانت هناك أيضا بعض الوقائع المعتادة لأي مراهق في قريته. فكان يضع دبوسا في قبعة صبي آخر لكي «يوخزه»، وكان يرفض المجيء للمنزل حين تطلب منه والدته ذلك، وكذب على والدته وجدته بشأن امتلاكه لقوس ونشاب. وفي أوقات أخرى، كان «يتشاجر» مع الخدم. كذلك كانت جرائم الطعام بارزة: فكان يسرق ثمار الكرز من إدوارد ستورر، ابن زوجة كلارك، وكان يختلس ثمار البرقوق والسكر من صندوق طعام والدته. بل إنه اعترف بأنه كان يفرط في الطعام أثناء مرضه، وبالفعل كان أول ما كتبه في القائمة القصيرة للخطايا التي ارتكبها حين كان طالبا في كامبريدج تدور حول هذا الخطأ. ثمة تعليقات أخرى في القائمة الأولى تصف عناصر أكثر قتامة من نفسيته. فقد لكم إحدى شقيقاته، وضرب «كثيرين»، وأوسع آرثر ستورر - شقيق إدوارد - ضربا. والمعنى الدقيق لعبارة «لدي أفكار وكلمات وأفعال وأحلام قذرة» في قائمة نيوتن غير واضح، وكذلك الحال فيما يتعلق بأسفه لاستخدامه «وسائل غير مشروعة» لإخراج نفسه من حالة «الكرب والحزن» التي يمر بها. وهناك أيضا اشمئزاز حقيقي يظهر من خلال تذكره «لتمني الموت لنفسه وتمنيه للبعض»، ولعل أكثر هذه الذكريات بشاعة تلك الذكرى البعيدة حين هدد بحرق زوج والدته ووالدته ومنزلهما. كذلك جمع نيوتن قائمة بالكلمات الشائعة الواردة في كتاب فرانسيس جريجوري «إعادة ترتيب المسميات القصيرة» الصادر عام 1651 مرتبة أبجديا. فأضاف لمصطلحات مثل «أب»، و«زوجة»، و«أرملة» كلمات مثل «فاسق»، و«عاهرة» لم يكن لها وجود في كتاب جريجوري، وهي تعبيرات ربما تشير لرأيه في والدته وزوجها.
أعلن غضب نيوتن عن نفسه في مناح أخرى من حياته. فوفقا لكوندويت، الذي عرف نيوتن عن قرب، كان الاستياء والرغبة في المنافسة هما القوتان اللتان دفعتا نيوتن للتفوق على الجميع في بداية مشواره الأكاديمي. وغالبا ما كان نيوتن يروي له قصة عن أيامه الأولى في المدرسة الثانوية حين كان قابعا في مؤخرة الفصل، وهي قصة ربما ترتبط ب «اعترافه» بضرب آرثر ستورر. ففي أحد الأيام، تلقى ركلة في معدته وهو في طريقه إلى المدرسة، وبعد انتهاء الدروس اشتبك في فناء الكنيسة مع الشخص الذي اعتدى عليه. وعلى الرغم من أن نيوتن «لم يكن في قوة خصمه، فقد كان لديه روح وعزم أكثر منه بكثير لدرجة أنه ظل يوسعه ضربا إلى أن أعلن أنه لن يشتبك معه أكثر من ذلك». وفيما بعد، حثه ابن ناظر المدرسة على أن يدفع وجه خصمه للارتطام بجانب الكنيسة. بعد ذلك، كافح نيوتن من أجل التفوق على خصمه في التعلم، ولم يتوقف حتى تفوق عليه في الترتيب الدراسي، وبعناد لم يتوقف صعد ليصبح الأول على المدرسة.
كان لأنشطته الخارجة عن المنهج الدراسي تأثير عكسي على أدائه الدراسي، إلا أن قدرته كانت هائلة حتى إنه استطاع استئناف نشاطه الأكاديمي وتفوق على أقرانه كلما شاء. وقد أشار ستوكلي إلى أن «بعض الصبية الكسالى أحيانا ما كانوا يسبقونه شكليا، لكن هذا دائما ما كان يدفعه لمضاعفة جهوده ليتخطاهم». ويبدو أن ناظر المدرسة جون ستوكس، قد اكتشف موهبة نيوتن في مرحلة مبكرة، لكنه لم يستطع إبعاد الصبي عن مطارقه وأزاميله. غير أنه في النصف الثاني من عام 1659، قررت والدته إخراجه من المدرسة لإدارة ممتلكات الأسرة. وعلى الرغم من أنه قد وضع تحت رعاية موظف موثوق فيه، فإن هوسه ببناء السواقي وغير ذلك من النماذج، وقدرته على الغرق في بحور كتبه، جعلا من نيوتن شخصا غير مناسب تماما لهذه المهمة. فقد شردت الأغنام والماشية الذي كان من المفترض أن يعتني بها إلى الحقول المجاورة، وتوضح الوثائق أنه قد غرم لذلك في أكتوبر من العام نفسه. وكان بالكاد يتذكر تناول الطعام، وبحسب ستوكلي، كانت «الفلسفة تشغل كل أفكاره».
وعند هذه المرحلة، تبدأ القصص الخاصة بتطور نيوتن في تصويره كدارس روحاني زاهد، وليس صانعا موهوبا. وفيما بعد، أشارت أدلة مختلفة إلى أنه قد أصبح معروفا بسلوكه الساذج أو «عديم الحس» حين التحق بجامعة كامبريدج. ولكونه مديرا ميئوسا منه لشئون عائلته، كان يرشو الخادم للتصرف نيابة عنه، ووجد ملاذا علميا في العلية حيث كان يقيم بينما كان في المدرسة، ليغرق وسط كومة من المجلدات الطبية والعلمية التي تركت هناك. وفي مناسبات أخرى، كان يضطجع فحسب أسفل سياج من الشجيرات أو أسفل شجرة ويقرأ كتابا. وذات مرة، أفلت حصان نيوتن من لجامه، وسار لأميال دون وعي فيما كان مستغرقا في كتاب يقرؤه. وكانت والدته «في غاية الانزعاج من ولعه المبالغ فيه بالقراءة»، فيما كان العاملون يصفونه بأنه «صبي سخيف لن يصلح لأي شيء».
جاء طوق النجاة ممثلا في ستوكس، الذي أخبر حنا أن موهبة نيوتن الهائلة يجب ألا تدفن في «عمل ريفي بسيط». فقد رأى «المقدرة غير العادية للصبي، وأعجب بابتكاراته المدهشة، وبراعة يده، وكذلك ذكائه الرائع الذي فاق سنوات عمره القليلة»، وأخبر والدته أنه «سيصبح إنسانا فذا ورائعا للغاية». وعرض ستوكس أن يتركه يقيم بالمدرسة مجانا، وهو ما قد يعتبر عاملا أساسيا في موافقة حنا على السماح لابنها بالعودة إلى المدرسة الثانوية للاستعداد للالتحاق بالجامعة، ليعود إلى هناك في خريف عام 1660، ويتلقى دروسا إضافية في اللغة اللاتينية واليونانية. وفي يومه الأخير بالمدرسة ألقى ستوكس خطابا مؤثرا في وداعه زعم أنه أدمع عيون بقية المدرسة. وقد أشار ستوكلي إلى أن أيا من مثل هذه العواطف لم يراود العاملين الذين أعلنوا صراحة أنه «لا يليق لأي شيء سوى الجامعة».
ترينيتي
في تلك الفترة، كان قد تقرر بالفعل أن يلتحق نيوتن بكلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، أرقى كليات إنجلترا. وعلى الأرجح أن اتحاد قوى ويليام آيسكوف وهمفري بابينتون، الذي كان قد أعيد مؤخرا كعضو بالكلية، كان هو العامل الذي حسم إرسال نيوتن إلى هناك. وصل نيوتن إلى كامبريدج في 5 يونيو من عام 1661، كطالب «يسدد مصروفاته بأداء أعمال خدمية»، وهي مكانة متدنية لا تتماشى مع الثروة التي تملكها والدته بشكل مثير للاستغراب. كان هؤلاء الطلاب الذين كان عليهم الدفع مقابل طعامهم وحضور المحاضرات أيضا، في الواقع بمنزلة خادمين لزملائهم أو للطلاب الأثرياء، ومن المحتمل أن يكون نيوتن قد عمل في هذه الوظيفة لدى بابينتون، وإن كان ذلك مستبعدا. تفاعل كل من قاطني المدينة الجامعية من الطلاب والعاملين بالكلية سريعا وبإيجابية مع إعادة تشارلز الثاني إلى الحكم في الربيع الفائت، وحل المؤيدون للحكم الملكي محل المعينين من جانب الكومنولث في المناصب المرموقة. وصار العالم الأنجليكاني جون بيرسون، مؤلف الكتاب المؤثر «بيان العقيدة» في عام 1659، أستاذا بالجامعة في عام 1662، وفي عهده ركزت الكلية على أشكال أكثر تقليدية للمعرفة والعلم وخاصة الدراسة اللاهوتية.
تلقي الدلائل المقتطفة من مفكرة صغيرة ببعض الضوء على كيفية قضاء نيوتن لوقته وإنفاقه لماله وهو طالب. فتبين العناصر الأولى التي كتبها شراءه لوازم أساسية مثل الكتب، والأوراق، والقلم والحبر، والمواد العادية اللازمة للمعيشة في سكن طلابي في القرن السابع عشر، مثل الملابس، والأحذية، والشموع، وقفل لمكتبه، وسجادة لغرفته، ومبولة. واشترى أيضا ساعة يد، ولوحة شطرنج، ثم اشترى فيما بعد طاقما من قطع الشطرنج (ووفق رواية كاثرين كوندويت، أصبح في غاية البراعة في ألعاب الألواح)، ودفع سبعة بنسات قيمة اشتراكه السنوي للدخول إلى ملعب التنس. وتشير الفقرة الخاصة ب «نفقات الحفلات الراقصة والرحلات» والتي تكررت في موضع لاحق، إلى أنه لم يكن يقضي كل لحظة في الدراسة خلال عامه الأول هناك. والحق أنه قد صنع قائمة منفصلة لنفقات «العبث» و«البذخ»، بما في ذلك شراء الكرز، والجعة، والمرملاد، وكعك الكسترد، والكعك، واللبن، والزبد، والجبن. وفيما بعد تحول إلى شراء التفاح، والكمثرى، والبرقوق المطهي.
وبسرعة بالغة - وعلى نحو فريد غير مألوف بين الطلاب الذين لا تزال سجلاتهم باقية - بدأ نيوتن في إقراض خادمه، وزملائه من الطلاب، والذين كان العديد منهم «موسرين» وكانوا يشغلون مكانة اجتماعية أعلى من مكانته نوعا ما في الكلية. وكان معظم المستفيدين من سخاء نيوتن يردون ماله إليه، وهو ما تبين من خلال علامة ظهرت عبر السجل المتعلق بهذا الأمر. وفي مرحلة ما، تقريبا في عام 1663، التقى نيوتن بطالب موسر آخر، هو جون ويكينز (الذي أشار نجله نيكولاس إلى أن والده وجد نيوتن «وحيدا وكئيبا»)، وقررا الإقامة معا. كان ويكينز يعمل بين الحين والآخر سكرتيرا لنيوتن حتى غادر كامبريدج في عام 1683 ليشغل وظيفة في الكنيسة. وقد علم نيك (نيكولاس) ويكينز من والده أن نيوتن كان ينسى تناول طعامه في أوقات العمل، وفي الصباح كان يستيقظ «في حالة من السرور لاكتشافه افتراض ما؛ دون أدنى اهتمام بنومه الليلي، أو مجرد إظهار حاجة إليه». وإذا صحت ذكريات نيوتن، فقد أصبح مفتونا في العام نفسه الذي التقى فيه بويكينز بعلم التنجيم بأحكام النجوم - وهو تقييم آفاق مستقبل الفرد على أساس دراسة مواقع النجوم والكواكب - واشترى كتابا عن هذا الموضوع. ونتيجة لعدم رضاه بذلك، اتجه في العام اللاحق إلى رياضيات إقليدس، فقط ليرفضها لبديهيتها بشكل يصل إلى حد التفاهة.
وعلى الأرجح أنه حضر المحاضرات الأولى لأستاذ الرياضيات إسحاق بارو، الذي كان أول من شغل هذا المنصب، في مارس من عام 1664، وربما لاحظ الأستاذ الجامعي وجود طالب يقظ للغاية وسط الحضور. وفي الشهر اللاحق لمحاضرة بارو الافتتاحية، أقامت ترينيتي واحدة من مسابقاتها الدورية للمنح الدراسية، واشترك فيها نيوتن. وبحسب روايته للقصة فيما بعد، كان بارو هو ممتحنه، والذي لم يتخيل أن يكون الطالب الشاب قد جرؤ على مطالعة كتاب ديكارت الرائع «الهندسة»، وهو عمل فذ كان من الواضح أن نيوتن لديه من التواضع ما منعه من الاعتراف به، فيما خاب أمله لانعدام معرفة نيوتن بإقليدس. ومع ذلك فاز نيوتن بالمنحة، ومن ثم أصبح مخولا لعدة امتيازات. وفي بداية العام اللاحق، تقريبا في نفس العام الذي اكتشف فيه نظرية ذات الحدين المعممة، أجبر على خوض اختبار مطول في معارف أكثر تخصصا للتأهل للحصول على درجة البكالوريوس. وفي رواية لاحقة، ذكر أنه شارف على الإخفاق في هذا الاختبار، وإن كان من المحتمل أن تكون الرواية قد خلطت بين هذا الحدث وبين اختبار المنحة الدراسية الذي عقد في العام السابق.
دمر الطاعون أجزاء متعددة من إنجلترا في منتصف عام 1665، وعاد نيوتن إلى موطنه مع معظم الطلاب الآخرين في أواخر يوليو أو أوائل أغسطس. وبعد عودته إلى كامبريدج في مارس من عام 1666، استمر في إقراض العديد من الطلاب أنفسهم الذين كان يقرضهم من قبل، ولكن الطاعون عاود الظهور مرة أخرى في بداية فصل الصيف، ليتخذ نيوتن من لينكولنشاير ملاذا له مرة أخرى، والتي شهدت إنتاج جزء كبير من أكثر أعماله إبداعا، على الأرجح في منزل بابينتون في بوثباي باجنل. وفي 20 مارس عام 1667، تلقى 10 جنيهات استرلينية من والدته، والتي أعطته نفس المبلغ حين عاد إلى كامبريدج في الشهر اللاحق. وعلى مدار العام اللاحق أنفق جزءا كبيرا من هذا المال - إضافة إلى الأموال التي استردها من المدينين له - على معدات لصنع أدوات الطحن وإجراء التجارب، وثلاثة أزواج من الأحذية، والخسارة في لعب الورق (مرتين)، ومعاقرة الشراب في إحدى الحانات (مرتين)، إلى جانب شراء بعض المجلدات الأولى من دورية «المعاملات الفلسفية»، وكتاب توماس سبرات المنشور حديثا وقتئذ «تاريخ الجمعية الملكية»، وبعض البرتقال لشقيقته. وفي سبتمبر اشترك في مسابقة أخرى، وهذه المرة لنيل عضوية الكلية. وسواء أكان ذلك بدعم من بابينتون أو بارو، أم ببساطة بسبب عبقريته وتفانيه في المنحة اللذين تألقا خلال الأربعة أيام مدة الاختبار الشفوي، فقد انتخب نيوتن كعضو غير أساسي بالكلية.
ومن الواضح أن هذا يشير ضمنا كذلك إلى أنه كان خبيرا في نوعية المعرفة اللاهوتية التي كان بيرسون يطلبها، وكنتيجة لانتخابه لعضوية الكلية، أقسم على أن يجعل علم اللاهوت محور تركيز دراساته وأن يرسم لدرجة الكهنوتية أو يستقيل. بعد ذلك بفترة وجيزة انتقل نيوتن إلى غرفة جديدة، وعمل على تجديدها لتناسب ذوقه. وفي يوليو من عام 1668، نصب أستاذا في الآداب، مما أتاح له الانتقال إلى منصب عضو أساسي بالكلية. وأنفق مزيدا من المال على المواد اللازمة لتفصيل ردائه الجامعي، واشترى قبعة باهظة الثمن، وحلة، وسجادا من الجلد، وأريكة (اشتراها مناصفة مع ويكينز)، وبعض المواد لصنع سرير جديد من الريش. كذلك اشترى ثلاثة موشورات مقابل شلن للواحد، إلى جانب «قطع زجاجية» على الأرجح للتجارب الكيميائية، فيما قام بأولى رحلاته إلى لندن في أواخر الصيف، وسرعان ما تبعته سمعته.
الفصل الثالث
السنوات الرائعة
شهدت العقود الأولى من القرن السابع عشر نموا سريعا في فهم طبيعة الأرض والسماء، تلك العملية التي عادة ما كان يشار إليها بالثورة العلمية. وكان الاعتماد القديم على فلسفة أرسطو سريع الاضمحلال في الجامعات، على الرغم من أن الفلسفة الطبيعية وعلم الأخلاق الأرسطي كانا يدرسان على نحو روتيني عبر جميع أنحاء أوروبا في مرحلة ما قبل التخرج الجامعي حتى نهاية القرن. وفي المنظومة الأرسطية للفلسفة الطبيعية، كانت حركات الأجسام تفسر «عرضيا» من حيث مقدار ما تحويه من العناصر الأربعة (التراب، والماء، والهواء، والنار)، وكانت الأشياء تتحرك إلى أعلى أو أسفل إلى موضعها «الطبيعي» اعتمادا على أكثرية العناصر التي تتكون منها. وكانت الفلسفة الطبيعية تتعارض بطبيعتها مع علم الرياضيات أو موضوعات «الرياضيات المختلطة»، مثل علم البصريات، والهيدروستاتيكا، وعلم الأصوات الموسيقية، حيث كان يمكن استخدام الأرقام مع الكميات الخارجية القابلة للقياس مثل الطول أو المدة. كل هذا كان يحدث في كون تستقر الأرض في مركزه، محاطة بالشمس والكواكب.
حدث أول تغير دراماتيكي في علم الفلك - حيث اكتسب نظام مركزية الشمس الكوبرنيكي (أي إن الشمس هي مركز النظام الشمسي) مناصرين جددا - على الرغم من المعارضة الرسمية من جانب الكنيسة الكاثوليكية والعديد من الطوائف البروتستانتية. وفيما بين عامي 1596 و1610، كانت هناك ثورة في علم الفلك حركتها أعمال يوهانز كبلر وجاليليو جاليلي. فطرح كتاب «اللغز الكوني» لكبلر عام 1596 نظاما لمركزية الشمس أمكن فيه تحديد المسافات بين الكواكب من خلال رسم مدارات الكواكب داخل مجسمات متناسقة. ونشر كبلر أيضا نظرية مغناطيسية للحركة الكوكبية في كتابه العظيم «علم الفلك الجديد» الصادر عام 1609، وهو أطروحة ضمت أول قانونين مما عرف فيما بعد بقوانين كبلر (والقائلة بأن الكواكب تتحرك في مدارات قطع ناقص أو إهليلجية، وأنه بالنسبة للشمس، التي تقع عند إحدى بؤرتي مدار معين، تقطع كل الكواكب نفس المسافات في نفس الفترات).
في عام 1609، حول جاليليو زوجا من العدسات إلى آلة أتاحت له تكبير الأشياء. وأدار هذا «التلسكوب» نحو السماء، وأدرك أن كوكب المشتري له مجموعة من الأقمار تدور حوله، مثلما تدور الكواكب حول الشمس. وفي كتابه القصير «الرسالة الفلكية» الصادر عام 1610، صرح أيضا بأن القمر به جبال وأودية، وأن درب التبانة يتألف من آلاف النجوم. وفي عام 1613، زاد في تحديه للنظرية التقليدية السائدة، التي كانت تقضي بأن السماء «منزهة عن العيب»، وذلك من خلال إثبات أن الشمس بها بقع. وقد أضاف كبلر قانونه الثالث في كتابه «انسجام العوالم» الصادر عام 1619، والذي نص على أنه بالنسبة لأي مدار كوكبي، فإن مكعب متوسط المسافة بين الشمس والكوكب يتناسب طرديا مع مربع فترة دوران الكوكب حول الشمس. وفيما دحضت اكتشافات جاليليو بفاعلية الاعتقاد في كمال السماء، كانت لقوانين كبلر أهمية محورية لنيوتن في إثبات الفرضيات الأساسية في كتاب «المبادئ الرياضية».
لم ينته إسهام جاليليو في علوم القرن السابع عشر عند أعماله في علم الفلك. ففي عام 1632، أقدم بشجاعة على نشر كتابه «حوار حول النظامين الأساسيين للكون»، وهو عمل حاول إثبات النظام الكوبرنيكي للعالم. وبسبب ذلك وضع قيد الإقامة الجبرية في منزله حتى نهاية حياته في عام 1642، على الرغم من صدور رائعته «حوارات وبراهين رياضية لعلمين جديدين» في عام 1638. وكان أرسطو يفترض أن الأجسام المقذوفة قد تعرضت في البداية لحركة «عنيفة» ثم سيطرت عليها بعد ذلك الحركة «الطبيعية» التي دفعت الجزيئات الأرضية للجسم إلى أسفل نحو موضعها الطبيعي. وذهب أيضا إلى أن الأجسام تسقط بسرعات تتناسب مع وزنها. بدلا من ذلك، أعلن جاليليو في كتاب «الحوارات» أن مسار المقذوفات قطع مكافئ، بينما المكون الرأسي لأي جسم بالقرب من سطح الأرض يمكن التعبير عنه كقانون ينص على أن إجمالي المسافة التي تسقط منها الأجسام من أي وزن أو «حجم» رأسيا تتناسب مع مربع الوقت المستغرق في السقوط. كذلك أوضح أن الأسباب الفيزيائية للجاذبية غير ذات أهمية، وفي الواقع سوف تكون بالغة الصعوبة في اكتشافها، فيما يعد تعارضا آخر مع المشروع الأرسطي بأسره. ومن خلال إظهاره أن عددا من الظواهر في المجال الأرضي يمكن حسابها رياضيا، أرسى جاليليو قواعد علم الميكانيكا الحديث. ويعد انتصار نيوتن الأكبر - والموضح في كتابه العظيم الذي يحمل نفس الاسم - هو توضيح أن «المبادئ الرياضية» كانت أساس العديد من الظواهر الطبيعية.
ثمة بعد أساسي آخر للعلم الحديث موضح في أعمال فرانسيس بيكون. ففي نفس الوقت الذي كان فيه جاليليو وكبلر عاكفين على وضع علم الفلك والميكانيكا، كان بيكون يروج لفكرة أن الطريقة المناسبة لفهم الطبيعة هي الاندماج معها مباشرة بدلا من التعامل معها من خلال النصوص الأرسطية (أو أي نصوص أخرى). وذهب بيكون إلى أن إجراء مشروع تعاوني هو الطريق الأوحد لتحقيق تقدم في الفلسفة الطبيعية، وفي إطار ذلك أشار إلى الاكتشافات الأخيرة لقارة أمريكا والمحيط الهادي وأشاد بالتطورات التي حققتها الفنون والحرف. فإبداء ملاحظات عن حقائق منفصلة من شأنه أن يزيد المعرفة بالعالم المرئي، بينما التجارب المصممة جيدا من شأنها تحليل العالم الطبيعي إلى أجزائه الأساسية المكونة له، واستخراج معلومات عن أسرار الطبيعة الحقيقية. وقد أشاد بيكون أيضا بالطريقة التي استعد بها الخيميائيون لتحليل الطبيعة، وإن كان قد أسف لأساليب حياتهم المنغلقة ولغتهم الاصطلاحية الغامضة.
لم يكن جميع المعادين للأرسطيين يتفقون على أن مشروع جاليليو هو الطريقة الملائمة لكشف الحقائق العلمية. فقد أعد رينيه ديكارت وصفا معقدا لنوعيات البنى متناهية الصغر التي تشكل أساس العالم المادي. فافترض أن الظواهر المتواجدة في العالم من حولنا والتي تشبه الماكينات تعمل أيضا على المستوى غير المرئي. وافترضت فلسفته الميكانيكية وجود عالم مجهري غير مرئي مأهول بالكلابات والبراغي تؤدي إلى تماسك العناصر معا. وقد فسرت ظواهر واسعة النطاق، على غرار المغناطيسية، والحرارة، والجاذبية، والكهرباء، من خلال نشاط «دوامة» شمسية عملاقة، خلفت آثارا كبيرة على الظواهر الأرضية من خلال قذف أشكال متعددة من المادة. شارك ديكارت جاليليو في مناهضته للمنهج الأرسطي (وشاركه أيضا تأييده وتأييد كبلر للمنهج الكوبرنيكي، وإن كان سرا)، ولكنه اتهم العالم الإيطالي بأنه «يبني دون أساس»، قائلا إن التفسيرات العلمية ينبغي أن تصاغ في إطار الأسس الميكانيكية المجهرية للطبيعة. وكما سنرى لاحقا، فقد كان ذلك هو العمل الأكثر تأثيرا بالنسبة لنيوتن الشاب، على الرغم من أنه سرعان ما صار موضع عداء ومناهضة شديدين من جانبه.
مبتدئ في عالم الرياضيات
كان تعليم نيوتن في البداية تعليم طالب جامعي عادي بكامبريدج، وكان مطالبا بقراءة قدر معتبر من الأدب اللاهوتي والأرسطي المقرر قراءته. وربما تكون محاضرات بارو في الرياضيات في ربيع عام 1664 هي ما أثارت اهتمامه بالرياضيات الجادة، ودون نيوتن فيما بعد أنه قد قرأ كتاب ويليام أوتريد «دليل الرياضيات» وكتاب ديكارت «الهندسة» تقريبا في الفترة التي بدأ فيها بارو نشاطه في إلقاء المحاضرات. وفي شتاء عام 1664-1665، درس الرياضيات التحليلية لديكارت عن كثب (والتعليقات الواردة في نسخته من كتاب «الهندسة» والتي كتبها عالم الرياضيات الهولندي فرانز فان شوتن)، وأعمال فرانسوا فييت في الجبر، و«طريقة الكليات» لجون واليس. وباستخدام ما نطلق عليه الهندسة التنسيقية الديكارتية، أتقن المعادلات التي عرفت القطوع المخروطية المتنوعة (الدوائر، والقطوع المكافئة، والقطوع الناقصة، والقطوع الزائدة). وعلى الرغم من أنه استهان في البداية بإنجاز إقليدس في كتابه «العناصر»، فقد احترم الإنجازات القديمة لإقليدس وأبولونيوس فيما بعد، متخذا منهجهما القالب المعياري للأعمال الرياضية.
شكل 3-1: نظرية الدوامات الديكارتية: النظام الشمسي، المحيط بالشمس (S) ، ويحده النقاط
FFFFGG . أما النظم الأخرى فتحوي نجوما في مركزها.
قرب نهاية عام 1664، اكتشف نيوتن كيفية قياس «التواء» أو درجة انحدار أي منحنى عند أية نقطة. وقد عرف ذلك باسم «إشكالية المماسات»، وطورت على يد علماء رياضيات أمثال جيمس جريجوري ورينيه فرانسوا دي سلوز. وسرعان ما بنى نيوتن على منهج صاغه ديكارت أمكن من خلاله تحديد الخط المتعامد على منحنى ما (أي الخط المتعامد على المماسات) عن طريق إيجاد نصف قطر ميل دائرة كبيرة عند نقطة تماسها مع المنحنى. فأخذ نيوتن «الخطوط المتعامدة» بين نقطتين قريبتين، مما سمح للمسافة بينهما بأن تصبح صغيرة اعتباطا. حينئذ استطاع أن يوجد خط التماس لأي نقطة من خلال معادلات «تعبر» عن أي قطع مخروطي، وكذلك الحد الأقصى والحد الأدنى للمعادلات ذات الصلة. وقام بتعميم الإجراء ليعبر عن العناصر الأساسية لما نطلق عليه التفاضل، والذي يمثل من خلاله ميل المماس معدل التغيير الذي يطرأ على منحنى ما عند أي نقطة.
مع بداية شتاء عام 1663-1664، كان نيوتن قد شرع في قراءة تحليل واليس للطرق التي يمكن من خلالها إيجاد المساحات أسفل أجزاء أي منحنى بتقسيم المساحة إلى أجزاء متناهية الصغر. وفي الوقت الذي نشر فيه واليس كتابه «حساب الكميات متناهية الصغر» في عام 1655، كان معروفا أنه للمعادلات الأساسية ، فإن المساحة أسفل المنحنى بين صفر والنقطة
هي . وقد عرف ذلك ب «التربيع»، وكان هذا هو الشكل البدائي لما نطلق عليه الآن التكامل. كانت هناك معادلات أكثر تعقيدا تطلبت أساليب مختلفة مثل استخدام المتسلسلة اللامتناهية، التي أتاحت التقريب لقيمة نهائية مع وصول متسلسلة من الحدود إلى حد معين. وقد طور واليس هذه الفكرة بتربيع القطع الزائد والقطع المكافئ، واكتشاف سلسلة من الحدود والتي تقترب من القيمة .
قرأ نيوتن أعمال واليس بعناية في شتاء 1664-1665، وقدم تقنيات بديلة لتحقيق نفس النتائج. وسرعان ما قام بتنقيح تقنية واليس من أجل التفكير في تربيعات المنحنيات في إطار القوى العشرية (بمعنى إدخال الجذر التربيعي والتكعيبي والجذور الأخرى). وتجاوز ما وصل إليه واليس بإيجاد المتسلسلة الصحيحة لتربيع الدائرة، ونتيجة لتوسيع نطاق الرؤى المكتسبة من هذا النجاح، توصل أخيرا لاكتشاف النظرية ذات الحدين المعممة (أي للقوى الصحيحة والعشرية) من أجل توسيع نطاق أي معادلة على الشكل ، والتي أعلن عنها للمرة الأولى في خطاب إلى لايبنتز في عام 1676.
في أوائل عام 1665، أدرك نيوتن بوجه عام أن تقنيات المماسات والتربيعات هي عمليات معكوسة، بمعنى أنه كان لديه النظرية الأساسية للتفاضل والتكامل. ومع أواخر عام 1665، وفيما قد يعد تقليدا لبارو، كان عادة ما يتعامل مع المنحنيات كنقاط تنقش خطوطا في فراغ افتراضي تحت ظروف معينة، وأشار إلى «السرعات» التي تتعرض لها النقاط في لحظات معينة من الوقت. وكان هذا هو ما أطلق عليه التفاضل والتكامل «المنساب»؛ لأن قيم النقاط على المنحنى «تنساب» من نقطة إلى التي تليها. وحينئذ صار بالإمكان التعامل مع المساحات أسفل المنحنيات ليس كمجرد مجموعات من الأجزاء متناهية الصغر، ولكن كمساحات تتشكل «حركيا» من خلال تقدير الفراغ الذي تمر عبره خطوط تربط نقطة متحركة بقيم مماثلة تقع أسفل النقطة المتواجدة على المحور السيني مباشرة. وقد رتب معظم هذا العمل العبقري منهجيا في مقال رائع صدر في أكتوبر من عام 1666، وكان عبارة عن أطروحة صنفته كأبرز عالم رياضيات في العالم.
التفاحة
تعد القصة المتداولة عن أن التفاحة التي سقطت على نيوتن كانت الحافز الذي دفعه للتفكير في المقارنة بين القوة التي تسببت في إسقاط التفاحة بتلك المطلوبة للحفاظ على القمر في مداره هي القصة الأشهر على الأرجح في تاريخ العلم. وسواء أكانت صحيحة أم لا، فإنه في الوقت الذي كان نيوتن يقوم فيه باكتشافاته الرياضية، كان عاكفا على توسيع نشاطه ليمتد إلى سلسلة استثنائية من الأبحاث في الميكانيكا جعلته أول من يوحد القوى الحاكمة للحركات على الأرض وفي السماء. وبحسب اعترافه، بدأ نيوتن صياغة رؤاه الجديدة باكتشاف القانون الذي يظل بموجبه جسم دوار في مداره. وسرعان ما صاغ سلسلة من قوانين الحركة، كان يتذكر (ويطور) الكثير منها حينما كان عاكفا على تأليف كتاب «المبادئ الرياضية» بعدها بعشرين عاما. وفي مفكرة بعنوان «المسودة»، كتب نيوتن في أوائل عام 1665 ما يزيد عن مائة حقيقة بديهية عن الحركة، شملت مفهوم القصور الذاتي الأساسي، فيما قام أيضا باستحضار تبرير ميتافيزيقي للاعتقاد الخاص بأن تأثيرات التصادمات لا بد أن تكون مساوية لسببها، وهي نسخة بدائية لقانون الحركة الثالث الذي ورد في كتابه «المبادئ الرياضية». وبالأخذ في الاعتبار كتلة الجسم وسرعته، أدى تحليل نيوتن الرائع إلى قانون ينص على بقاء قوة الحركة ، أو الزخم،
كما هي قبل وبعد التصادم.
بعد ذلك، راح نيوتن يبحث بنشاط وبراعة في مسار الجسم الذي يقذف من جوانب مربع مغلق، متخيلا أن إجمالي التصادمات الأربعة التي يمارسها كل جانب من جوانب المربع مماثل ومساو للقوة الإجمالية المطلوبة للحفاظ على جسم ما في مدار حول نقطة مركزية. وبناء على الافتراض القائل بإمكانية تكبير عدد الجوانب التي تحدث تصادما لما لا نهاية (بحيث يكون دائرة)، خلص نيوتن إلى أن القوة الإجمالية المطلوبة لإبقاء الجسم يتحرك في دائرة في دورة واحدة «تعادل بالنسبة لقوة حركة الأجسام نسبة كل تلك الجوانب [أي محيط الدائرة] لنصف قطر الدائرة». فإذا كانت «قوة حركة الأجسام» تساوي ، فإن إجمالي القوة الناتجة في دورة واحدة هي . وإذا كان الوقت المستغرق لدورة واحدة هو ، فإن حاصل قسمة القوة على الوقت، للتعبير عن «القوة المؤثرة على جسم دوار في لحظة معينة»، هو . وقد نشر كريستيان هويجنز هذه النتيجة التي تمثل نواة تطور الميكانيكا لأول مرة في عام 1673، على الرغم من أن نيوتن كان قد استخدمها بالفعل قبل ذلك بسنوات ليتخطى بذلك ما أنجزه هويجنز.
أدرك نيوتن آنذاك أنه استطاع معالجة مشكلة أثيرت أول ما أثيرت على يد جاليليو، وهي تحديدا النسبة بين القوة التي تحافظ على ثبات جسم ما على الأرض (الجاذبية) و«القوة الطاردة المركزية»، أي ميل نفس الجسم للانطلاق في الفراغ بفعل دوران الأرض. وقد اشتق نيوتن الرمز
للتعبير عن القوة الأولى، أي العجلة الناتجة عن الجاذبية. أما بالنسبة للثانية، فقد قرر أن القوة الطاردة المركزية من شأنها دفع الجسم في دورة واحدة للأرض عبر المسافة ، ومن خلال تحديد قيمة لحجم الأرض، خلص إلى أن قوة الجاذبية أقوى من القوة الطاردة المركزية بمقدار 350 مرة (إذ إن من شأن الجاذبية أن تدفع جسما ما للنزول لمسافة 16 قدما في ثانية واحدة، فيما تجعله القوة الطاردة المركزية يتحرك لمسافة نصف بوصة فقط).
وبفعل تأثر نيوتن بمشهد سقوط التفاحة على الأرجح، عقد في أواخر ستينيات القرن السابع عشر مقارنة بين ميل القمر إلى الابتعاد عن الأرض وبين قوة الجاذبية عند سطح الأرض، وهي إشكالية أشار إليها جاليليو. وباستخدام رقم للتعبير عن حجم الأرض جعل القمر بعيدا عن الأرض بحوالي 60 قطر دائرة أرضية (أي المسافة من مركز الأرض إلى خط الاستواء)، استنتج أن ميل جسم ما للابتعاد عن خط استواء الأرض (قوتها الطاردة المركزية) يفوق ميل القمر للابتعاد عن الأرض بقرابة 12 مرة ونصف. فإذا كان استقرار مدار القمر يتطلب أن تقوم القوة الطاردة المركزية بموازنة الجذب الموجه مركزيا الذي تولده الأرض، فإن القوة الطاردة المركزية للقمر تساوي قوة جاذبية الأرض عند سطحها بمقدار 350 × 12,5 (= 4325) مرة.
وفي نفس المخطوطة التي أجرى فيها هذه العملية الحسابية، اشتق نيوتن قانون التربيع العكسي للمسافات
للقوة المؤثرة على جسم دوار بدمج قانونه الخاص لقوة الجسم الدوار في قانون كبلر الثالث. وتذكر نيوتن فيما بعد أن الرقم الذي استخدمه للقوة التي تحفظ القمر في مداره (4325) قد «توافق بشكل شبه تقريبي» مع ذلك الرقم الناتج، بالأخذ في الحسبان مربع المسافة بين القمر والأرض (60
2 = 3600) المطلوب لقانون التربيع العكسي. وعند هذه النقطة، أعزى نيوتن الاختلاف بين هذه النتائج لتأثيرات دوامة أرضية؛ وفيما بعد أدرك أن الاختلاف ناتج عن قياس خاطئ لحجم الأرض، وكذلك رأى في هذا الجهد الخرافي دليلا على أسبقيته في ابتكار قانون للجاذبية الكونية. غير أن هذا الجهد قدر ما كان مدهشا، فقد افتقد العديد من عناصر نظريته العظيمة.
أسئلة فلسفية
لم تستنفد هذه الاهتمامات غزارة نيوتن العلمية بأي حال، وفي مفكرة أخرى دون مجموعة من الملاحظات من نصوص أرسطية ومن تعليقات عليها. وقد غطت هذه الملاحظات موضوعات في المنهج الدراسي العام الذي يدرسه أي طالب بجامعة أوروبية، مثل علم الأخلاق، والمنطق، والبلاغة، والفلسفة الطبيعية. وفي مرحلة ما، على الأرجح في أواخر عام 1664، توقف عن أخذ مقتطفات من الكتب الدراسية الأرسطية وأدرج مجموعة من الملاحظات والاستفسارات الفلسفية تحت عنوان «أسئلة فلسفية محددة». وفوق العنوان دون عبارة شائعة تعني في الإنجليزية «أفلاطون صديقي، وأرسطو صديقي، لكن الحقيقة صديق أعظم».
وضعت الفقرات الأولى في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» تحت عناوين تتعلق بطبيعة المادة، والسبب وراء «تماسك» بعض الأجسام متناهية الصغر معا لتكون أجساما أكبر، وطبيعة الحرارة والبرودة، وأسباب سقوط بعض الأجسام وارتفاع بعضها. وقد قدم انتقادات قوية للنظريات التقليدية، وبالفعل صارت الموضوعات العامة التي علق عليها محور اهتمامه لبقية حياته. وكان للفقرات الأولى نكهة ميتافيزيقية اختلفت تماما عن المنهج التجريبي الذي تبناه بعد ذلك بفترة وجيزة. ففيما يتعلق بطبيعة المادة - على سبيل المثال - اتبع منهج هنري مور في كتابه «خلود الروح» (1659)، وأشار إلى أن الذرات هي أحجار الزاوية الأساسية للعالم المادي لا محالة. وعلى عكس «النقاط الرياضية»، لا يمكن تقسيم المادة إلى أجزاء لا متناهية، إذ إن مجموعة من الأجزاء متناهية الصغر، مهما كانت صغيرة، لا يمكن أن تشكل جسما متناهيا. وفيما يتعلق بالتماسك، عول نيوتن على الافتراض الديكارتي بأن «دوامة» شمسية أطلقت مادة مخلخلة شكلت الغلاف الجوي؛ وهذا بدوره «ضغط» على الأرض مسببا «احتشادا قويا لكل المادة الموجودة في العالم».
ظل نيوتن ملتزما بنموذج الدوامة الديكارتي حتى بدايات ثمانينيات القرن السابع عشر. وأطلق على أدق أجزاء الدوامة مصطلح «المادة الأثيرية»، وإن كان قد استخدم فيما بعد كلمة «أثير» لتمييز ذلك الوسط المتغلغل غير القابل للاكتشاف عن «الهواء» الأكثر غلظة. وتساءل ما إذا كان اهتياج الدوامة قد أدى إلى تسخين الأجسام، وتساءل أيضا ما إذا كانت السخونة قد نتجت عن هواء نقل عن طريق الضوء، أم نتج عن الضوء ذاته مباشرة. كذلك، طرح السؤال الخاص بما إذا كان بالإمكان تجميد الماء بإزالة حرارته داخل مضخة بويل الهوائية (التي كانت تفرغ الهواء أو تضغطه داخل غرفة زجاجية). أما بالنسبة لحركة المادة إلى أسفل التي تسبب الجاذبية، فلا بد أن ترتفع مرة أخرى في شكل مختلف لأن (أ) بدون حدوث ذلك كانت تجاويف الأرض الواقعة تحت سطحها لتتضخم وتنتفخ. (ب) المادة المرتفعة لأعلى كانت لتلغي المادة الهابطة لأسفل، ولما كان هناك جاذبية. وذهب أيضا إلى أن المادة الصاعدة لا بد أن تكون «أكثر كثافة » من المادة الهابطة، وإلا ضغطت على أجزاء (داخلية) «أكثر» من الأجسام الكبيرة، مما يحدث قوة صاعدة أكثر تأثيرا من القوة الهابطة. ولم يخمد ذلك الاهتمام بفكرة الكون الدوري مطلقا، ويمكن رؤية أهميتها في أعماله الخيميائية والعلمية اللاحقة.
حتى الظواهر السماوية أمكن بحثها من خلال التجربة. فقد أعقب ملاحظات من كتاب «مبادئ الفلسفة» لديكارت عن طبيعة المذنبات مباشرة ملاحظات نيوتن الخاصة عن مذنب ديسمبر 1664، وهو حدث استهلك من وقته وطاقته ما تركه في حالة من «الاختلال»، حسبما ذكر فيما بعد. لاحظ نيوتن أن المذنب قد تحرك شمالا «عكس اتجاه تيار الدوامة»، واقترح تجارب رائعة لاختبار الآثار المحتملة للدوامة القمرية. هل تسبب تأثير القمر في حدوث تيارات المد والجزر؟ أشار في البداية إلى أن الإجابة هي لا، لأنها تكون أقل ما يكون عند مولد القمر، ولكن هذا لم يحدث. على الرغم من ذلك، قد يكون من الممكن إحضار أنبوب من الزئبق أو الماء، ونرى ما إذا كان ارتفاع السائل في الأنبوب قد تأثر بالجوانب المتعددة للقمر.
في كل مرحلة كان نيوتن يقترح تجارب لحسم أسئلة فلسفية محورية. ولم يأت طالب جامعي آخر بمثل ما أتى به نيوتن في هذا الصدد. فقد قدم سلسلة من الاختبارات لتحديد جاذبية مختلف العناصر، وكذلك للتثبت مما إذا كان وزن الأجسام قد تأثر بالتسخين أو التبريد، أو بنقلها إلى أماكن أو ارتفاعات مختلفة. وعلى نحو ساحر - وفي إطار نظريته عن الجاذبية - تساءل أيضا عما إذا كان بالإمكان عكس أو كسر «أشعة» الجاذبية مثل أشعة الضوء. فإذا أمكن جعل بعض من أشعة الجاذبية تصطدم بعجلة أفقية ذات أضلاع مزواة على درجة معينة لجعلها تدور مثل طاحونة هوائية، أو إذا سمح لها فقط بالاحتكاك بأحد نصفي عجلة رأسية لجعلها تدور، فقد يكون هناك حركة مستديمة. بالمثل، طرح نيوتن سلسلة من التساؤلات في موضع آخر في المفكرة لاشتقاق نشاط مستديم من الأشعة المغناطيسية. هل يستطيع مغناطيس، ربما من خلال نقل هذه الأشعة، أن يحدث دورات في قطعة حديد ملتهبة على شكل أشرعة هوائية كأشرعة الطاحونة الهوائية؟ ولاختبار هذه الأفكار على الأرجح، اشترى نيوتن مغناطيسا ذا جودة عالية في عام 1667، وبعد ذلك بفترة قصيرة أجرى سلسلة من التجارب المبتكرة بواسطة برادة الحديد المغناطيسية.
ومرة أخرى أثيرت لديه أسئلة حول طبيعة الهواء والماء من خلال قراءاته لكتاب ديكارت «مبادئ الفلسفة»، واستهلك ما كتبه ديكارت عن البنى المجهرية للأجسام الصلبة واللينة قدرا كبيرا من طاقته وجهده. واقترح نيوتن هنا، وفى موضع آخر، استخدام مضخة بويل الهوائية لحسم تخمينات نظرية عويصة، كان الكثير منها يتعلق بالأثير. فانكسار الضوء - على سبيل المثال - حدث في مضخة هوائية مفرغة، حتى أصبح لزاما أن يحدث عن طريق «نفس المادة الرقيقة في الهواء وفي الفراغ». ولكن هل كان مدى الانكسار واحدا في مختلف أنواع الزجاج؟ لم يفكر بويل في ذلك، ولكن نيوتن فعل، وبالفعل كان هناك مضخة هوائية متاحة له في كلية كرايست.
شكل 3-2: فكرتان لماكينات ذات حركة مستديمة تعمل عن طريق موجات الجاذبية من مفكرة نيوتن «الأسئلة الفلسفية» بكلية ترينيتي.
عن العقل والجسد
تتعلق الكثير من الفقرات في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» بطبيعة الروح وموقعها بالتحديد، والأدوار التي لعبها كل من العقل الداخلي الذاتي والأجسام الخارجية في التجربة. وكان نيوتن منبهرا منذ البداية بما نطلق عليه إشكالية العقل والجسد، وأيضا بحقيقة أن الناس على اختلافهم لهم ردود أفعال متباينة تجاه نفس القضية. وتحت عنوان «عن التجانس أو النفور» كتب يقول:
إن ما يبدو مذاقه حلوا في فم شخص قد يكون مرا في فم شخص آخر. ونفس الأشياء التي تبعث رائحة محببة لشخص قد تبعث رائحة منفرة لآخر ... والمشاهد التي لا تحرك البعض تذهل البعض الآخر، والألحان الموسيقية لا يسمعها الجميع بنفس البهجة. والأمر نفسه ينطبق على اللمس.
وفي قسم آخر بعنوان «عن الإحساس» (في ملاحظات مأخوذة من كتاب مور «خلود الروح»)، علق قائلا إن «مذاق الفلفل الحار لأهل جاوة بارد».
وفي نفس سلسلة الملاحظات، علق نيوتن أيضا على المواقع المختلفة من المخ والتي استند إليها الفلاسفة باعتبارها موضع الروح . وقد سجل ظواهر عديدة تثبت أن المخ يمكن أن يلحق به ضرر بالغ دون أن يؤثر ذلك على الإحساس. إن الضفدع يسلب منه «الإحساس والحركة» لو أن مخه قد تعرض للثقب، ولكن الإنسان يحتفظ بقدرته على استخدام حواسه ما لم يصل الثقب إلى الأوعية الدموية الرئيسية. ولا يستطيع الإنسان - حسبما يبدو - أن يرى من خلال الثقب الذي يحدثه منشار جماجم (أو مثقاب) في رأسه، ولكن «أقل ثقل على مخ الإنسان حين يكون مثقوبا يجعله مجردا تماما من الإحساس والحركة».
كان أحد العناصر الأساسية لبرنامج أبحاثه المبكر يتعلق بطبيعة حرية الإرادة، والإشكالية المرتبطة بها والخاصة بكيفية ارتباط الروح ببقية الجسد. فبعض الحركات الجسدية لا إرادية. وتحت عنوان «عن الحركة»، دون نيوتن أن الكثير من الحركات البشرية ميكانيكية على نحو بحت: فالموسيقيون يستطيعون العزف دون تفكير، والمطربون يغنون «دون إلقاء بال لأي نغمة أو إغفالها»، والناس يسيرون دون إدراك منهم لكيفية فعل ذلك. وكان التقيؤ الذي يستحث عن طريق دفع عظمة فك الحوت في حلق المرء مثالا آخر للحركة الميكانيكية البحتة، وقد أثبت ذلك بوضوح أن حركات الحيوانات «ميكانيكية ومستقلة عن الروح».
على الرغم من ذلك، فقد تضمن وصف نيوتن للروح تفنيدا عنيفا لأي تفسير ميكانيكي بحت لسلوكياتها. فشأنه شأن معظم معاصريه، لم يشأ نيوتن أن يوصم بالسمعة الإلحادية التي تلاحق الفلاسفة الميكانيكيين أمثال ديكارت وتوماس هوبز. وفي ظل ارتباط ملكة الروح بالهوية الشخصية، جاءت الذاكرة لتقدم دليلا مهما ذا صلة بمنابع سلوكيات الإنسان. إن تلقي الرأس ضربات يمكن أن يؤدي بالذاكرة للتلاشي التام، فيما يمكن إعادة تنشيطها عن طريق أحداث مماثلة تحدث بعد ذلك بوقت طويل. وفي فقرة بعنوان «عن الروح»، ذهب نيوتن إلى أن الذاكرة تتألف مما هو أكثر من حركة «المادة المعدلة»، وأنه لا بد أن بداخلنا «أساسا» يمكننا من استدعاء شيء ما للذهن بمجرد توقف الحدث الأصلي. وتلك الرؤية كانت واحدة من النقاط الحيوية لفلسفة نيوتن الطبيعية فيما بعد.
وفي مقال استثنائي قصير آخر بعنوان «عن الخلق»، ناقش نيوتن «أرواح» الحيوانات التي كان معظم فلاسفة عصره يعتقدون أنها ذات طبيعة منفصلة تماما عن طبيعة أرواح البشر. وقد أشار نيوتن إلى وجود نوع من «الروح اللاعقلانية» البدائية التي حين اتصلت بأنواع مختلفة من أجسام الحيوانات، تسببت في وجود الحيوانات الضارية المتنوعة الموجودة الآن. وبطريقة الاختزال (نظرا للطبيعة الجريئة لحجته)، أشار نيوتن إلى أن القول بأن الله في الأصل قد خلق أرواحا معينة لفصائل معينة هو تأكيد لفكرة أنه (الله) قد بذل جهدا أكثر مما كان يحتاج. فالاختلافات والفوارق بين الفصائل نبعت من فطراتها، التي اعتمدت على تكوين أجسامها. وعلى نحو أكثر تطرفا، ذهب نيوتن إلى أن الأرواح البشرية كانت متشابهة في الأساس، وأن الاختلافات بين البشر نبعت فقط من فوارق في تكوينهم الجسماني. وفي فقرة أخرى مستقلة ومقتضبة عن الله، أشار إلى أنه ليس من الممكن أن يكون البشر ولا الحيوانات نتاج «اختلاطات وليدة الصدفة بين الذرات». فبذلك كان هناك العديد من الأجزاء غير النافعة، «فتجد هنا قطعة لحم، وتجد هناك عددا مفرطا من عضو ما، وربما كان لبعض الحيوانات عين واحدة فقط، وللبعض الآخر أكثر من عينين».
بدأت المحاولة الأكثر روعة للتمييز بين أعمال الروح والجسد بسلسلة من الملاحظات عن طبيعة «الخيال» والإبداع. فالخيال هو ملكة للروح أنتجت خيالات وصورا كتلك الموجودة في الأحلام والذاكرة. وذهب نيوتن إلى أن الخيال يتقد في أذهاننا عندما نرى الأشياء ونحن «في حالة من الانتباه الشديد»، وذلك في بيئة يتوافر فيها «الهواء الطيب، والإمساك عن تناول الطعام، والاعتدال في الشراب». غير أنه يتهدم ب «السكر، والنهم، وكثرة الدراسة (فمن تلك الأمور ومن الشغف المفرط يأتي الجنون)، واضطرابات الروح». وحذر نيوتن من أن «التأمل» يثير المخ لدى البعض لدرجة تقودهم إلى «التشتت»، فيما يؤدي لدى البعض الآخر إلى «ألم ودوار». ومن الممكن تدريب المخ على التخيل للقيام بأشياء جديدة، وأشار نيوتن إلى قصة مشهورة من كتاب جوزيف جلانفيل «غرور الدوجماتية» (1661) لطالب بأكسفورد تعلم التحكم في العقل من الغجر «بتنمية وتقوية خياله».
بعد الفقرة التي كتبها عن طالب أكسفورد ببعض الوقت، ولكن في موضع لاحق لها مباشرة داخل النص، سجل نيوتن سلسلة من تجاربه الخاصة على الخيال والرؤية. ففي مرحلة ما في عام 1665، أجرى نيوتن سلسلة من التجارب الخطيرة على بصره تضمنت التحديق في الشمس لفترة زمنية ممتدة. ودونت هذه التجارب كتجارب شخصية، ولكن وصفه المفصل لسلسلة من التجارب كان يحوي إشارة تدل على وجود انفصال موضوعي عنها. فبعد أن حدق في الشمس لبعض الوقت بعين واحدة، لاحظ أن جميع الأجسام ذات الألوان الفاتحة بدت له حمراء اللون، بينما الأجسام الداكنة بدت مائلة إلى الزرقة. ومن النظرة الأولى بدت الورقة البيضاء حمراء حين نظر إليها بالعين المصابة، ولكن نفس الورقة بدت خضراء «إذا نظرت إليها عبر ثقب صغير للغاية بحيث لا يصل لعيني سوى شعاع ضوء بسيط».
لم تنته التجربة بأي حال، إذ إنه عندما خمدت حركة «الأرواح» في عينيه (حسبما كان يعتقد)، استطاع أن يخلق صورة تلوية أو طيفا للشمس بإغلاق عينه. وهناك ظهرت بقعة زرقاء اللون صارت أفتح في المنتصف، وأحيطت تدريجيا بدوائر متحدة المركز، ألونها الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي. ومن خلال تنويع التجربة تحت ظروف مختلفة، لاحظ أن البقعة تتحول إلى الأحمر في بعض الأحيان. وعندما كان يفتح عينه مرة أخرى، كان يرى ألوانا بالضبط كما حدث بعد التجربة الأولى. فخلص إلى أن الشمس وخياله يتبعان نفس الأسلوب في التأثير على الأرواح الكامنة في عصبه البصري والمخ. ونظر بالخارج إلى سحابة وشاهد نفس الآثار المائلة للحمرة («والتي تميل أكثر للسواد في معظمها») مثلما حدث عندما حدق في الورقة البيضاء، وبعد فترة استطاع أن يجعل بقعة «تتألق وسط الأحمر القاتم» حين نظر إلى سحابة كانت براقة لدرجة أدمعت عينيه.
إن حقيقة أن هذه التجربة لم تكن سوى بداية لسلسلة من مثل هذه التجارب تبوح بالكثير عن إخلاص نيوتن الشديد لمهمته على نحو فريد من نوعه. فبعد أن منح عينه قدرا من الراحة، انتظر حتى ساعة بعد الغسق «وكرر التجربة السابقة كاملة ». وفي تلك المرة، حين نظر بعينه السليمة إلى أجسام بيضاء مثل ورقة أو سحب، استطاع أن يرى صورة للشمس على خلفيتها، وكانت الصورة محاطة ب «بحمرة قاتمة وسواد». ووجد شبه استحالة في تجنب رؤية صورة للشمس، ما لم يحاول جاهدا لتركيز خياله على مهام أخرى. وحين كانت صورة الشمس محتملة بالكاد في أي من العينين، استطاع أن يتخيل أشكالا عديدة في الموضع الذي كانت فيه الشمس، «وربما كانت تتجمع معا لدرجة تجعل أضعف الناس بصرا يجزم بأن أوضح خيالات الأشياء مرئية وظاهرة». وأضاف: «ومن هنا، قد يجتمع شيء من طبيعة الجنون والأحلام معا». وكانت تلك هي القوة الثابتة لهذه التجارب، حتى إن نيوتن سردها تفصيلا لجون لوك في عام 1691، وسردها مرة أخرى لجون كوندويت في عام 1726، مخبرا إياه أنه لا يزال بإمكانه استدعاء صورة للشمس إذا ركز تفكيره عليها.
نظرية جديدة عن الضوء والألوان
بعد فترة من الفقرة المبدئية التي كتبها عن الألوان، سجل نيوتن مجموعة من التجارب بالموشورات الزجاجية على صفحة جديدة بنفس العنوان. من خلال هذه التجارب، لم يفند نيوتن النظرية الأرسطية عن الضوء والألوان فحسب، بل تحدى أيضا المعالجات الموجودة لهذا الموضوع في أعمال ديكارت وبويل وهوك الحديثة. وليس بالإمكان تحديد التاريخ الذي عكف فيه نيوتن على هذه الأبحاث بوضوح، ولكن في تقارير لاحقة، ركز دافعه المبدئي لأبحاثه في جهوده التي بذلها لاستنساخ تقرير ديكارت عن تجاربه التي أجراها بموشور زجاجي في مقاله «الانكسار». في هذا العمل، ذهب ديكارت إلى أن الألوان التي تنتج عن طريق انتقال الضوء عبر موشور لتنعكس على حائط على بعد 50 سنتيمترا عن الموشور تفسر العمليات الداخلة في تكوين قوس قزح. وفي مرحلة ما، اقتنى نيوتن موشورا من أجل استنساخ «ظاهرة الألوان الشهيرة» تلك، ولكن الفقرات التجريبية الأولى التي كتبها في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» تشير إلى استعانته بأداتين.
كان التعليق الأول في القسم الجديد عن الألوان عبارة عن اقتراح باختبار ما إذا كان مزيج من اللون الأزرق والأحمر الموشوري يؤدي إلى تكوين اللون الأبيض . وكان نيوتن قد انتقد بالفعل النظريات القديمة التي تعتبر أن أي لون هو عبارة عن مزيج من الأسود والأبيض، أو تلك التي تفترض أن الألوان قد نشأت عن طريق امتزاج الظلال بالضوء. وفي موضع آخر بالمفكرة، تعرض نيوتن بالنقد أيضا لفكرة أن الضوء ينتج عن الضغط. فهذا خطأ لا محالة، لأن ضغط الدوامة الذي يثقلنا كان ليجعلنا نرى ضوءا ساطعا طوال الوقت، فيما يكون المرء قادرا على الرؤية في الظلام من خلال مجرد الركض فقط. وأخيرا، هاجم نيوتن النظريات الموجية للضوء على أساس أن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة، بينما الموجات أو «النبضات» التي تنتقل عبر وسط أثيري ليست كذلك. وفي مرحلة مبكرة، أصبح مقتنعا بفكرة أن الضوء يتألف من جسيمات أو كريات، وهو افتراض تعارض مباشرة مع فكرة «النبضات» الموضحة في كتاب روبرت هوك «ميكروجرافيا» الذي كان قد نشر مؤخرا آنذاك.
ورد وصف الملاحظة الرئيسية في ثالث مجموعة من التجارب، اختبر فيها نيوتن خيطا - لون نصفه باللون الأزرق والآخر باللون الأحمر - من خلال موشور. وأشار إلى أن أحد النصفين «يظهر أعلى من الآخر، وكلاهما لا يسير في خط واحد مستقيم، بسبب عدم تساوي الانكسارات في اللونين المختلفين». وقد فسر هذه القابلية المتفاوتة للانكسار في إطار السرعة الأساسية «لجسيمات» الضوء، مفترضا أن الأشعة ذات الحركة الأبطأ تنكسر على نحو مختلف عن الأشعة الأكثر سرعة، وأن الأشعة الزرقاء والبنفسجية شكلت الأشعة الأبطأ. واستنتج أن الأجسام تبدو حمراء أو صفراء كلما كان هناك امتصاص للأشعة الأبطأ، فيما ترى زرقاء وخضراء وبنفسجية حينما لا يكون هناك انعكاس للأشعة الأسرع. وكان هذا هو أساس وصفه اللاحق الأكثر تعقيدا لكيفية نشأة الألوان في الأجسام الطبيعية في إطار نزعتها «لإظهار» أنواع معينة من الأشعة. وباعتبارها جسيمات بطيئة أو سريعة الحركة، فقد كانت الأشعة الملونة سمات ثابتة للضوء العادي - الذي كان عبارة عن مزيج معقد منها - وكان الانكسار الموشوري «يظهر» الأشعة الفردية ولكن لا «ينتجها». وتعارض ذلك مع المفهوم المتفق عليه عموما بأن الألوان الموشورية قد نشأت من خلال «تعديلات» أحدثها الانكسار، وكان بمنزلة تهديد لكل من التفسيرات الأرسطية والتفسيرات الميكانيكية القياسية للضوء والألوان.
كذلك لم تنفصل أعمال نيوتن في هذه المرحلة عن فهمه للطريقة التي تساهم بها العين في تجربة الألوان، وبدأ في إجراء سلسلة من التجارب البصرية تساوت مع تجارب التحديق في الشمس في درجة الإضرار بالعين. فقد شوه عينه عن طريق الضغط العنيف عليها من أحد جانبيها، محدثا عددا من «الخيالات»، ثم أشار إلى أنه قد رأى «صورا وخيالات تشع حيوية» عن طريق «وضع شريحة من النحاس بين عيني وبين العظمة في موضع أقرب لمنتصف غلالة الشبكية مما أستطيع أن أضع إصبعي». وكرر نيوتن هذا الفعل في عدد من المناسبات، مجربا إياه في الظلام، وأيضا بدرجات مختلفة من الضغط. ولا داعي لذكر أن لا أحد آخر في تلك الفترة أتى بشيء مشابه لذلك من قريب أو بعيد.
قياس الانكسارات
واصل نيوتن تجاربه البصرية فيما يسمى مفكرته «الكيميائية»، التي أدرج فيها مقالا آخر بعنوان «عن الألوان». كان ذلك مشروعا مختلفا على نحو جذري، إذ بدأ ببيان لفحص أجري على خيط ذي لونين عبر موشور، ولكنه ضم بعد ذلك سلسلة من التجارب المبتكرة للغاية على الانعكاس والانكسار. وفيما كان معاصروه (الذين لم يعرفوا بإمكانية تفاوت القابلية للانكسار) قد أسقطوا أشعة منكسرة على بعد متر أو نحو ذلك على أقصى تقدير، أوضح نيوتن أن الأشعة الملونة المختلفة تختلف في معاملات انكسارها عن طريق إسقاط أشعة منكسرة على حائط على بعد 7 أمتار (22 قدما و4 بوصات). ففي غرفة مظلمة، سمح لضوء الشمس بالدخول عبر فتحة صغيرة للغاية وسط الستائر، ليجد أن الأشعة عندما انكسرت عبر موشور مثلث الشكل، كونت شكلا مستطيلا وليس دائريا على الحائط. وكما أشار من قبل، فقد انكسرت الأشعة الزرقاء أكثر من الحمراء، وإن كان قد حرص أيضا على الإشارة إلى أن الحمرة والزرقة لم تكونا صفتين أساسيتين للأشعة، ولكنهما كانتا الشكل الذي بدت به الأشعة للعين. وبقياسات فائقة الدقة، قرر أن الأشعة مختلفة الألوان التي تنبثق من الموشور لها درجات الانكسار الخاصة بها، وهي حقيقة لم يكن أحد قد لاحظها حتى ذلك الحين.
في وقت لاحق خلال هذه السلسلة من التجارب، وصف نيوتن إجراء أكثر تعقيدا، تعرضت من خلاله الأشعة المنبثقة من الموشور لمزيد من الانكسار عبر موشور ثان. وتعرضت كل أشعة من الأشعة الزرقاء والحمراء لنفس درجة الانكسار التي تعرضت لها عند تمريرها من الموشور الأول، ولاحظ نيوتن أن الأشعة الملونة الفردية لم تتحول إلى ألوان أخرى عند كسرها عبر الموشور الثاني. وعندما أدخل موشورا ثالثا ووضع جميع الموشورات في وضع متواز، سمح للأشعة المنبثقة من جميع الموشورات بالتداخل معا؛ وكما أشار «أينما تمتزج الأشعة الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية المنبعثة من الموشورات العديدة معا، فإنها تظهر بيضاء». ومن خلال هذه التجارب صار لديه السمات الأساسية لما صار بعد ذلك نظريته الناضجة عن الضوء والألوان. فذهب إلى أن الضوء الأبيض لم يكن كيانا أساسيا أدى لظهور الألوان من خلال «تعديله»، ولكنه تألف من عدد (لم يكن نيوتن قد حدده في هذه المرحلة) من الأشعة الأولية المختلفة، «لكل منها معدل انكسار ثابت خاص به»، متجاهلا بذلك ما ذكره عن الجسيمات.
ثمة ملاحظة مهمة أخرى تمثلت في تحليله للأفلام الرقيقة الملونة، تلك الظاهرة التي كان هوك أول من لاحظها. فمن خلال فحص قطعة مسطحة من الزجاج عبر عدسة وضعت في أقرب موضع ممكن لقطعة الزجاج، تستطيع أن ترى حلقات متحدة المركز ذات ألوان مختلفة. وعن طريق حساب نصف قطر انحناء العدسة، وصل نيوتن إلى حد قياس طبقة الهواء الرقيقة الموجودة بين الحلقات متحدة المركز وبين الشريحة، والتي قدرها بقرابة مائة ألف جزء من البوصة. وقد وضع هذا التحليل في زهاء عام 1670 أو 1671، متوصلا إلى نتائج ظهرت لأول مرة في عمله «حوار حول الملاحظات» الذي أرسل إلى الجمعية الملكية في نهاية عام 1675، ثم بعد ذلك في كتابه «البصريات» الصادر عام 1704. وكان اكتشافه الأساسي هو أن سمك طبقة الهواء الرقيقة عند أي نقطة يتناسب مع مربع قطر كل دائرة أو حلقة. إضافة إلى هذا، فقد شكلت الصعوبة التي واجهها وآخرون في محاولة إحداث احتكاك بين قطعتي الزجاج فيما بعد دليلا رئيسيا على وجود قوى منفرة قصيرة المدى.
أظهر المقال الثاني من مقالات «عن الألوان» على نحو حيوي أيضا أن تجارب العين ظلت جزءا أساسيا من مشروعه. فبعد الاستغناء عن الشريحة النحاسية كأداة فعالة، اقتنى «مخرزا»، وهو أداة حياكة تستخدم لعمل فتحات في القماش، ومرة أخرى غرزه داخل التجويف الذي يقع خلف عينه «في أقرب موضع ممكن لمؤخرة عيني». وكما حدث في السابق، ظهر عدد من الدوائر، وكانت على حد تعبيره «أوضح ما يكون عندما واصلت فرك عيني بسن المخرز، ولكن إذا ثبت عيني والمخرز، حتى وإن واصلت الضغط على عيني به»، كانت الدوائر «تخبو وتبهت، وغالبا ما تختفي إلى أن أقوم بتجديدها بتحريك عيني أو تحريك المخرز».
شكل 3-3: رسم نيوتن لما قام به من تشويه لعينه بواسطة مخرز.
1
صرح نيوتن فيما بعد أن اكتشافه للزيغ اللوني قد وضع نهاية لجهوده لتحسين عملية تجليخ العدسات من أجل التلسكوبات الكاسرة. وكان ديكارت قد أشار إلى أن وضع عدسة مجلخة في أي من قطاعين مخروطيين (قطع زائد أو قطع ناقص) سوف ينتج عنه الصورة الواضحة التي لا يمكن الحصول عليها عن طريق عدسة كروية (نظرا لقانون الانكسار). وقد قضى نيوتن نفسه ساعات عدة يحاول القيام بالشيء نفسه، وسجل نتائجه في «المسودة». ولكن الزيغ اللوني جعل مثل هذه المحاولات مكررة، إذ إن الألوان المختلفة تنكسر على نحو مختلف، ولا يمكن الاستعانة بها لتكوين صورة واضحة. ولو كانت التلسكوبات الكاسرة خارج نطاق الاختيار (على الرغم من أن نيوتن لم يتخل عن الفكرة تماما)، فلربما كان بإمكانه أن يصنع واحدا يستخدم مرآة؟ ففيما اكتفى معاصروه بمناقشة الإمكانية النظرية لصنع مثل هذه الأداة، انطلق نيوتن وصنع نسخة ناجحة، صانعا كل جانب من الجهاز بيديه. وكان المعدن المصنوع منه الجهاز يفقد بريقه بسهولة وكانت الصورة عديمة اللون، ولكنه حل مشكلة الزيغ اللوني وكان يكبر الأجسام كأي نظارة كاسرة جيدة. وكان ذلك إنجازا استثنائيا، وبسببه اكتسب نيوتن - مكررا ما فعله في جرانثام - شهرة في كامبريدج.
هوامش
الفصل الرابع
الجماهير المولعة بالنقد
كان المنحنى المهم الذي اتخذته حياة نيوتن بعد أن أصبح عضوا أساسيا بالكلية في عام 1668 ميسرا إلى حد كبير بفضل إسحاق بارو، الذي كان في ذلك الحين قد أدرك قدرات نيوتن. فقد وجه لنيوتن الشكر (وإن لم يكن بالاسم) على مساعدته له في مراجعة كتابه «المحاضرات الثماني عشرة» عن الظواهر البصرية في عام 1669، وحضر نيوتن بشكل شبه مؤكد محاضراته في علم البصريات الهندسية في عامي 1667 و1668. وكان بارو على الأرجح غير مدرك للطبيعة الجذرية لأعمال نيوتن في هذا المجال، ولكن بفضل دعمه، انتخب نيوتن كخليفة له في كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة كامبريدج في سبتمبر عام 1669.
في أوائل عام 1669، أطلع بارو نيوتن على نسخة من كتاب نيكولاس ميركاتور «تقنية اللوغاريتمات»، الذي نشر في أواخر العام السابق. وفيه اكتشف ميركاتور طريقة لاشتقاق قيم للوغاريتمات باستخدام المتسلسلة اللامتناهية؛ وادعى نيوتن فيما بعد أنه عندما قرأ العمل، اعتقد (خطأ) أن ميركاتور قد اكتشف نظرية ذات الحدين المعممة لتوسيع متعددات الحدود عن طريق القوى الكسرية. وعلى أي حال، فقد كانت رؤية كتاب ميركاتور وإدراك أن ميركاتور قد بدأ في «تربيع» الحدود لإنتاج متسلسلة لامتناهية دافعا له لتأليف عمل رياضي فذ ورائع، يعرف الآن باسم «عن التحليل بواسطة المتسلسلة اللامتناهية» (أو «التحليل»). ولم يذكر نيوتن نظرية ذات الحدين في هذا العمل، ولكنه من بين أشياء ثمينة أخرى عرض عددا من المتسلسلات اللامتناهية المقربة لقيم جيب الزاوية وجيب التمام، إلى جانب تقنيات دمج المنحنى الدويري ومنحنى كوادراتركس، وأعلن أن طرق المماسات والتربيعات كانت تقنيات معكوسة، واستقى من أطروحته الصادرة عام 1666 ليقدم أساسا متينا لطريقة الفروق المستمرة الخاصة به. واستقى من عمله «عن التحليل» في خطابين رياضيين مهمين كتبهما للايبنتز في عام 1676.
نقل بارو هذا العمل إلى عالم الرياضيات جون كولينز الذي ولد وعاش في لندن، في نهاية يوليو عام 1669، مفصحا عن هوية نيوتن كمؤلف للعمل بعد ذلك بشهر. كانت المتسلسلة اللامتناهية رائجة للغاية، وعن طريق كولينز، وإنجازات نيوتن، وكذلك النص الفعلي، لفتت انتباه علماء الرياضيات الآخرين. والواقع أن نيوتن قد التقى كولينز في لندن في نوفمبر، حيث ناقشا معا تلسكوبه العاكس، وتوسعات المتسلسلة، والنسب التوافقية، وحقيقة أن نيوتن قد قام بتجليخ عدساته. غير أن كولينز لاحظ أنه كان راغبا عن الإفصاح عن الطريقة العامة التي تشكل أساس عمله. وفي ذلك الوقت طلب بارو من نيوتن التعليق على كتاب «الجبر» لجيرارد كينكويسين، الذي كان كولينز قد ترجمه مؤخرا. ولم تنشر ملاحظات نيوتن الشاملة قط، ولكنه على أي حال أظهر ما رآه كولينز عزوفا غريبا عن ربط اسمه بالعمل. وأوضح لكولينز في سبتمبر عام 1671 أنه أراد لعمله أن يظهر بلا اسم - إن ظهر من الأساس - ولم تكن لديه رغبة «في أن يحظى بالتقدير كشخص طموح وسط الناس لمجرد طباعة كلامه غير المكتوب بعناية». وكان هذا التوجه هو الحاكم لعلاقاته مع الجماهير المحتملة لأعماله على مدار العقود الثلاثة التالية.
كانت محاضرات نيوتن في علم البصريات الهندسية مختلفة اختلافا جذريا عن تلك التي ألقاها سابقه. فقد وظف مجموعة من التجارب، والموشورات، والعدسات لإثبات نظريته عن تغايرية الضوء الأبيض، ووضع تركيزا كبيرا على الدقة الرياضية واليقينية التي اتسم بها عمله، مجادلا بأن الفلاسفة الطبيعيين عليهم أن يتخصصوا في الهندسة ولا بد أن يكفوا عن التعامل مع المعرفة التي لا تتجاوز حد «الترجيح». وكان هذا هو أول تصريح علني لنيوتن بأن الفلسفة الطبيعية تستطيع بلوغ مستوى مطلق من اليقين ولا بد أن تقوم على المبادئ الرياضية.
في هذه المرحلة، كان بإمكان نيوتن أن ينشر أعمالا من شأنها أن تميزه كواحد من أكثر العلماء إنتاجا وغزارة، وبالتأكيد كأروع وأذكى عالم رياضيات رآه العالم. أمضى كولينز بعض الوقت في حثه على نشر كل من «عن التحليل» ونسخة من محاضراته في البصريات، وبذل نيوتن جهدا كبيرا في تنقيحهما، موسعا نطاق «عن التحليل» (في أوائل عام 1671) ليصبح أطروحة حول طريقتي المتسلسلة اللامتناهية والفروق المستمرة . كذلك أعاد كتابة محاضراته في البصريات في النصف الثاني من عام 1671، مخرجا نسخة جديدة اختلفت عن الأولى في كونها قد أشارت إلى ضرورة قياس الانعكاسات والانكسارات قبل مناقشة طبيعة الألوان. غير أنه عندما حثه كولينز مجددا في أبريل من عام 1672، أخبره نيوتن أنه كان يفكر في إعداد كتاب مشترك لأعماله في مجالي الرياضيات والبصريات، ولكنه تخلى عن الفكرة «إذ وجدت أن تلك الفائدة القليلة التي سأجنيها من النشر ستحرمني من الاستمتاع بحريتي الخالصة السابقة إلى أن أنتهي منه». على الرغم من ذلك، كان اسمه قد ظهر في تلك الفترة كمحرر لكتاب عن الجغرافيا من تأليف برنارد فارينيوس، وهو العمل الذي اعترف لاحقا بأنه لم يضف إليه سوى القليل.
كان احتكاكه الأول بجمهور دولي هو سبب تحرر نيوتن من الوهم. وكان كولينز قد علم من نيوتن بأمر تلسكوبه العاكس، و«أثير» الموضوع مجددا في أواخر عام 1671 حين قام بارو بتسليم نسخة جديدة من الجهاز للجمعية الملكية، ونال الكثير من الإعجاب من جانب أعضاء الجمعية، وجرى فحصه وتدارسه بشيء من التفصيل «من جانب بعض من أبرز الشخصيات في علم البصريات وتطبيقاته العملية»، حسبما أخبره سكرتير الجمعية هنري أولدنبرج. وأخبر أولدنبرج نيوتن أنه قد تم إرسال وصف لتركيب الجهاز وقدراته إلى كريستيان هويجنز في باريس «لمنع ادعاءات الغرباء بملكيته، مثلما رأيت هنا على الأرجح، أو حتى معك في كامبريدج».
في المقابل، ارتدى نيوتن قناع الترفع واللامبالاة المعهود بشأن اختراعه، مخبرا أولدنبرج أنه حاز هذا الجهاز في كامبريدج لبضع سنوات دون إثارة أي جلبة بشأنه. وأضاف نصيحة بشأن كيفية صنع خليط معدني لصنع مرآة التلسكوب، ووجه الشكر للجمعية لانتخابه عضوا بها. وواصل تواضعه في قبول عرض عضوية الجمعية، عارضا إرسال أي شيء يمكن «لمساعيه المتواضعة والمستقلة» أن تفعله لإفادة أنشطتهم. غير أن هناك خطابا آخر أظهر أنه قد وجه إلى صنع تلسكوبه العاكس بواسطة ما يعتبره «أغرب - إن لم يكن أهم - كشف تم التوصل إليه حتى الآن في عمليات الطبيعة». وبموجب ذلك، تلقى أولدنبرج ورقة نيوتن البحثية الخطيرة التي غيرت مجرى التاريخ في أوائل فبراير من عام 1672.
شكل 4-1: رسم تخطيطي لأحد أعضاء الجمعية الملكية لتلسكوب نيوتن العاكس الذي قدمه لهم إسحاق بارو في أواخر عام 1671.
1
نيوتن في الجمعية الملكية
خلال الأعوام التالية على تأسيسها في عام 1660، ابتدعت الجمعية الملكية ما كان في الواقع توجها رسميا فيما يتعلق بأفضل الطرق لإجراء التجارب ووصفها تفصيليا. كان ذلك إلى حد كبير مبنيا على الأسلوب الذي اتبعه روبرت بويل، الذي اقترح في كتاباته أن يتبع المؤلف أسلوب «السرد القصصي». وكان ذلك يتطلب من المؤلفين وصف ما قاموا به فعليا في موقف معين بأكبر قدر ممكن من التفصيل. وأينما يمكنهم ذلك، يتوجب عليهم تجنب أي إشارة إلى فرضيات لم تكن قابلة للاختبار تجريبيا، وعليهم أيضا ألا يصدروا أي بيانات عامة متعجلة عن سلوك الطبيعة في جميع الحالات المتشابهة. كذلك كان عليهم التزام الاعتدال في مزاعمهم، إلى حد أنه كان عليهم ألا يدعوا قطعية لآرائهم أكبر من تلك التي تكفلها الأدلة. فالوقت واستنساخ الظواهر من جانب الكثير من الأشخاص الآخرين في عدد من المواقف من شأنهما إثبات صحة أو خطأ أي ادعاء. وقد كان بويل يعتقد أن بعض الفلاسفة الطبيعيين ذوي الميول الرياضية لديهم ثقة مفرطة في تطبيق التقنيات الرياضية على العالم الطبيعي، وفي ادعاء درجة غير مبررة من القطعية واليقين لأعمالهم.
في بحثه الذي قدمه في فبراير، بدأ نيوتن يروي بأسلوب السرد القصصي أنه - في خضم محاولته لتجليخ العدسات غير الكروية - قام بشراء موشور في عام 1666 ومرر ضوء الشمس من خلاله في غرفة مظلمة على حائط على بعد 22 قدما من أجل اختبار «ظواهر الألوان». وعلى عكس توقعاته بأن يرى صورة دائرية وفقا لقوانين الانكسار، فوجئ بأن الصورة «مستطيلة». وبحسب روايته، فقد استبعد تدريجيا تفسيرات متعددة لظهور «الطيف» المستطيل، ومنها سمك أو عدم استواء الزجاج، وأجرى قياسا دقيقا للإعدادات التجريبية. وكان الفارق بين الزاوية التي تصنعها الأشعة الداخلة إلى الموشور (31') وتلك التي تصنعها الأشعة الخارجة منه (2° 49') أكبر من أن يفسر بقوانين الانكسار التقليدية. «وفي نهاية المطاف»، كما أشار، توصل لما أسماه «التجربة الحاسمة»، وهو مصطلح مشتق من العبارة البيكونية «الظواهر الحاسمة». وكانت هذه التجارب نسخة مصقلة - وإن كانت مبهمة - من تجربة الموشورين الموصوفة في أكثر مقالاته عن الألوان نضجا. فقد أخذ لوحين؛ بكل منهما فتحة صغيرة للغاية، واضعا أحدهما بجوار النافذة (حيث وضع الموشور الأول)، والآخر على بعد 12 قدما من النافذة. وعن طريق تدوير اللوح الأول حول محوره، أتاح لأشعة ملونة مختلفة بالمرور عبر الفتحة في اللوح الثاني لتسقط على موشور ثان يقع بجواره على الجانب الآخر. وكما اتضح أكثر فيما بعد، كان من المفترض أن تظهر التجربة أنه على الرغم من أن جميع الأشعة الملونة لها نفس زاوية السقوط بالنسبة للموشور الثاني، فقد تعرضت كل أشعة على حدة لنفس درجة الانكسار عند خروجها من الموشور الثاني مثلما حدث عند خروجها من الموشور الأول. فلم تتغير درجة قابلية الانكسار بفعل الموشور الثاني «وهكذا كان لكل أشعة ملونة «استعداد» فطري ... للتعرض لدرجة معينة من الانكسار». وعلق قائلا إن الزيغ اللوني قد وضع قيودا على نوعية الدقة التي يمكن الحصول عليها من التلسكوبات الكاسرة.
وفي منتصف النص، تخلى نيوتن عن أسوب السرد القصصي؛ بدعوى أن الاستمرار على ذلك النسق سوف يجعل بحثه «مملا ومحيرا». وقال إن الفلاسفة الطبيعيين سوف يذهلون عند اكتشاف أن نظرية الألوان كانت «علما» قائما على المبادئ الرياضية؛ إنها لم تكن افتراضية، ولكنها كانت مؤكدة تماما لكونها قائمة على تجارب لا تقبل الجدال. وفي بقية البحث، عرض توضيح «العقيدة» التي قامت عليها نظريته، مع إضافة تجربة أو اثنتين كأمثلة توضيحية. إن أي أشعة من أي نوع معين «تتشبث باستعادة لونها» عند تمريرها عبر موشورات متعاقبة «رغم محاولاتي المضنية لتغييرها». وقال متهللا إن أروع ما في الأمر حقيقة أن الضوء الأبيض يتألف من جميع الأشعة الأولية مجمعة معا. واستطاعت نظريته أن تفسر ألوان جميع الأجسام الطبيعية، التي كانت ترى كلون معين نظرا لميلها لعكس أشعة معينة دون غيرها. واختتم بقوله إنه من الأصعب كثيرا أن تحدد ماهية الضوء، وكيف يمكن كسره، أو «بأي أساليب أو أنشطة يخلق في عقولنا خيالات الألوان؟» على الرغم من أنه قد أبدى ملحوظة خطيرة بالتأكيد على أنه «ربما» لم يعد هناك إنكار لفكرة أن الضوء ذو طبيعة حسية (بمعنى أنه مؤلف من أجسام). غير أنه قال إن هذا الزعم الأخير ليس أساسيا لحجته، وإنه لن «يخلط التخمينات بالحقائق».
شكل 4-2: استنساخ للتجربة الحاسمة، من الطبعة الثانية الفرنسية لكتاب نيوتن «البصريات».
2
لم يكن المقال مجرد التحدي الأكثر غلوا للأفكار المتفق عليها بشأن علم البصريات في التاريخ المعاصر، ولكنه كان بيانا واضحا لما اعتبره نيوتن الطريقة الملائمة لفحص وتبرير الادعاءات والمزاعم العلمية. في المقابل، علق أولدنبرج بأن الزملاء قد درسوا البحث ب «انتباه فريد وتصفيق حار واستحسان غير عادي»، وطلب أن يطبع وينشر في دورية «المعاملات الفلسفية». وذكر كذلك أن الجمعية قد قررت ضرورة قيام بعض أعضائها بمحاولة إعادة التجارب الواردة بالبحث، وأيضا بعض التجارب الأخرى ذات الصلة. ورد نيوتن بأنه قد أرسل البحث إلى الجمعية لكونهم «القضاة الأكثر صراحة وكفاءة في الأمور الفلسفية»، وأشار إلى أنه يعتبرها «ميزة عظيمة أن يكون بإمكانه «بحرية» الآن أن يحول انتباهه «إلى مجلس في غاية الحكمة والحيادية» بدلا من توجيه أحاديث إلى جمهور متحامل ومولع بالنقد (ترتبك بسببه العديد من الحقائق وتضيع)».
مشكلة الفرضيات
كان للنشر المشترك لوصف التلسكوب والبحث الخاص بالضوء والألوان فضل في شهرة نيوتن. وقد عبر عدد من الفلاسفة المعاصرين، أبرزهم كريستيان هويجنز، عن إعجابهم واستحسانهم للعمل. غير أن نجم الجمعية الملكية روبرت هوك، كتب إلى أولدنبرج في غضون أسبوع يخبره أن لديه تحفظات خطيرة بشأن النظرية. وعلى الرغم من اتفاقه في الرأي على أن الظاهرة حقيقية، فإنه لم يكن يعتقد أن تفاوت قابلية الانكسار لا يمكن تفسيرها إلا بواسطة نظرية نيوتن عن تغايرية الضوء الأبيض، كما لم يوافق على كونها قد أظهرت أن الضوء ذو طبيعة حسية. وأعلن هوك أنه اكتشف نتائج مماثلة من قبل، وأنه لا يستطيع الموافقة على أن نظرية نيوتن عن الضوء الأبيض مؤكدة كما حاول نيوتن أن يثبت.
كانت فرضية هوك، والتي تنص تحديدا على أن الضوء عبارة عن ذبذبة أو حركة انتقلت عبر وسط غير متمايز وغير مرئي - مع كون اللون تعديلا للضوء يحدث بفعل الانكسار - قائمة، حسبما أكد، على مئات التجارب. ولو أن نيوتن حقا لديه تجربة حاسمة ومقنعة واحدة تثبت فرضيته، لاتفق هوك مع نظريته بسهولة. غير أنه استطاع التفكير في فرضيات أخرى عديدة من شأنها أيضا أن تفسر ما حدث. لم ينبغي أن تكون كل الحركات التي تؤلف اللون مركزة في الضوء الأبيض «قبل» أن يصل إلى الموشور؟ لم يكن هناك ضرورة تستدعي أن يكون الأمر هكذا، مثلما لم يكن يوجد ضرورة لأن تصدر الأصوات الموجودة في المنافيخ فيما بعد من مزامير آلة أرغن. لقد كانت نظرية نيوتن مجرد فرضية - وإن كانت «في غاية الإتقان والبراعة» - ولم تكن مؤكدة للغاية كبرهان رياضي.
استخدم نيوتن في رده المطول على هوك في يونيو 1672 وفرة من المعلومات والبيانات من محاضراته في البصريات وكذلك من مفكرته المعملية، وكان الرد في حد ذاته إنجازا مهما في علم البصريات. بدأ الرد بتوبيخ متغطرس لسلوك هوك. فقد كان على هوك «أن يطوق عنق» نيوتن بخطاب خاص، على الرغم من أن «الفرضية» التي نسبها له هوك لم تكن هي الفرضية التي تحدث عنها نيوتن في بحثه؛ فلا شيء يتوقف على ما إذا كان الضوء جسما أم لا. تجاهل نيوتن «الفرضيات» التي كان يحتقرها، متحدثا عن الضوء «بمصطلحات عامة، معتبرا إياه كشيء أو آخر ذي طبيعة مستقلة ينتشر في كل اتجاه في خطوط مستقيمة من أجسام مضيئة، دون تحديد ماهية هذا الشيء».
بعد ذلك، شن نيوتن هجوما مباشرا على نظرية هوك الموجية للضوء، مستخدما الحجج والبراهين التي كان قد توصل إليها حين كان طالبا. فقال إن المرء قد يقبل أن تعد فرضية هوك تفسيرا للظواهر التي وصفها نيوتن، ولكن الأمر محاط ببعض الصعوبات. فموجات واهتزازات السوائل لا تنتقل في خطوط مستقيمة، مثلما تفعل أشعة الضوء فيما يبدو، والأسوأ أنه باعتبار أن الأجسام المختلفة تطلق نبضات «غير متساوية» بالضرورة، فإن الضوء العادي لا بد وأن يكون مزيجا من النبضات غير المتساوية، أو «مجموعة من الأشعة غير المتناسقة»، وكان ذلك هو نوع التغايرية التي دلل عليها نيوتن. وأسهب نيوتن في هجومه قائلا إن فرضية هوك لم تكن تفتقر للكفاية فقط، ولكنها ملتبسة وغامضة أيضا، ولو أنه باحث كفء، لوجد أن ما قاله نيوتن صحيحا. فمن خلال دراسة الضوء «بوجه عام»، وجد أن هناك أكثر من لونين أساسيين، على عكس ادعاء هوك، بينما كانت التجربة الحاسمة بالفعل كما وصفها نيوتن.
لم تخف على هوك نبرة التوبيخ، وقد أشار في خطاب لأحد كبار أعضاء الجمعية الملكية إلى أنه منذ ذلك الحين أجرى مزيدا من التجارب بالموشورات والحلقات الملونة، كما اقترح نيوتن، إلا أنه ظل غير مقتنع بنظرية نيوتن. غير أنه أضاف أنه يعتذر إذا كان نيوتن قد شعر بالإساءة مما كتبه، إذ إنه لم يعن به شخصه على الإطلاق. وشدد هوك على أن لديه أدلة مقنعة تثبت صحة آرائه، وأنه بالفعل قد أجرى تجارب على انكسار الضوء أظهرت أن الضوء بالفعل - في ظل ظروف معينة - ينتشر في مساحات «ظليلة». وأبدى أسفه لغموض فرضياته، على الرغم من أنه أشار في سخرية إلى أنه لم «يشكك قط» في قدرة نيوتن على تفسير كيفية احتفاظ الأشعة الأولية بقابليتها الثابتة للانكسار بعد الانكسار، ثم جعلها تتجمع مجددا «وتتحد في أشعة واحدة، ثم يفترق كل جزء مجددا ويواصل طريقه مباشرة ودون أي معوقات وكأنها لم تلتق من قبل قط». ربما يكون نيوتن قد استوعب ذلك، ولكن هوك لم يستوعبه، مثلما لم يستوعب أيضا لماذا كان نيوتن يخشى الإفصاح عن الماهية الحقيقية لشعاع الضوء.
أرسى رد هوك - المتمسك بوجهة نظر تذهب إلى أن التفسيرات الفلسفية يجب أن تشير إلى أسباب مادية ملموسة - نموذجا للطريقة التي استوعب بها الفلاسفة الطبيعيون نظام نيوتن فيما بعد. وفي أوائل العام اللاحق، أعاد كريستيان هويجنز إثارة الفكرة التي طرحها هوك ومفادها أن هناك عددا محدودا من الألوان الأساسية يمكن منها تكوين جميع الألوان الأخرى. وصرح أيضا أن نيوتن لم يلتزم بالعقيدة الأساسية للفلسفة الميكانيكية، تحديدا أنه ملزم بوضع فرضية مادية تفسر الألوان الموشورية المختلفة. وعلق هويجنز أنه حتى قيامه بذلك «لم يعرفنا من أين تشكلت طبيعة الألوان واختلافها؟ بل أطلعنا فقط على تلك الظاهرة (المهمة للغاية) الخاصة باختلاف درجة قابليتها للانكسار».
يبدو أن تلك كانت هي القشة الأخيرة بالنسبة لنيوتن، الذي أخبر أولدنبرج برغبته في الاستقالة من الجمعية الملكية؛ لعجزه عن إفادتهم بسبب «بعده» عن لندن. في الوقت نفسه، أخبر كولينز أنه لاقى بعض «الفظاظة» من جانب أعضاء الجمعية، وهو التعليق الذي بلغ إلى مسامع أولدنبرج. فأخبر سكرتير الجمعية الملكية نيوتن أن كل جماعة بها من يثير المشاكل، في إشارة إلى هوك، و«أن الهيئة بوجه عام تكن لك التقدير والحب».
على الرغم من ذلك، أرسل نيوتن ردا عاصفا لهويجنز، فقال إنه من المستحيل أن تستخرج ألوانا موشورية من الأصفر والأزرق، ولا يمكن تصور كيف يمكن لظواهر الضوء الأساسية أن تكون ناتجة عن نوعين فقط من الأشعة. وعلى الرغم من أنه قد ذكر الحقيقة في بحثه الأصلي، فقد أدى تعليق هويجنز إلى إجبار نيوتن على تكرار القول بأن الأشعة البسيطة والمركبة قد تبدو متماثلة، ولا يمكن تمييزها إلا بالتجربة. فإذا كان «يمكن» استخراج الضوء الأبيض من شعاعين ملونين فقط، فهذا يعني أن الأشعة مركبة بالفعل وليست أولية. وكأن الأسلوب لم يكن فظا بما يكفي، قال نيوتن بأسلوب فظ ومتعال إنه كان واضحا للغاية «أنني أرى أنه لا يمكن أن يكون هناك مزيد من الحيرة، خاصة لمن يعرفون كيف يبحثون ما إذا كان اللون بسيطا أم مركبا، ومن أي ألوان يتألف».
وعلى الرغم من إخبار أولدنبرج له أن نيوتن رجل يتسم بقدر كبير من الإخلاص وسلامة النية، فقد غضب هويجنز من موقف نيوتن، مشيرا إلى أنه لا يرغب في التنازع مع نيوتن إذا كان يدافع عن نظريته بمثل هذا الانفعال. غير أنه تكرم بإرسال نسخة من كتابه «الساعة الاهتزازية» إلى نيوتن. وشكره نيوتن على كتابه، الذي كان مليئا «بالتأملات البارعة والمفيدة» (مثل معادلة القوة الطاردة المركزية)، ولكنه رد على نقد أسلوبه بقوله إن الأمر كان «مزعجا» فيما يبدو؛ أن يواجه باعتراضات أجاب عنها بالفعل. وكرر على أولدنبرج - في خطاب احتوى رده على هويجنز - نيته «ألا يهتم مجددا بأمور الفلسفة».
واصل نيوتن مراسلة كولينز وغيره من علماء الرياضيات على فترات متقطعة، مناقشا معهم تقنيات مختصرة لتسهيل إنشاء جداول اللوغاريتمات، والأرقام التربيعية، والجذور التربيعية والتكعيبية. ولكن في تلك الفترة تكالبت عليه موضوعات أخرى واقتحمت حياته. وفي أواخر عام 1674، وجد نفسه في مواجهة الحاجة لأن يرسم كاهنا، ومن ثم تأكيد التزامه نحو عقيدة الثالوث القدوس من أجل الاحتفاظ بعضويته للكلية. ولأسباب سأذكرها في الفصل التالي، لم يعد هذا ممكنا، وفي يناير من العام اللاحق، ألمح لأولدنبرج أنه على وشك فقدان منصبه في ترينيتي. ولكن بعد رحلة إلى لندن في أواخر فبراير لمقابلة مسئولين حكوميين رفيعي المستوى، تلقى نيوتن إعفاء خاصا يمكنه من الاستمرار كعضو بالكلية دون الترسيم كاهنا في ربيع 1675. وربما كان دعم بارو (الذي كان قد أصبح أستاذا بالكلية) عنصرا أساسيا في نجاحه.
أيام غائمة وموشورات سيئة
في الوقت الذي اعتقد فيه نيوتن أنه قد تخلص من التصارع والتشاحن في الساحة العامة، بدأت جولة جديدة من المراسلات لتعيده إليهما تارة أخرى. فقد شن نقد من فرانسيس لينوس - بالكلية اليسوعية بمدينة لييج - نوعا جديدا من الهجوم على نظرية نيوتن، واصله الزملاء نيابة عن لينوس عند وفاته في عام 1675. عني هذا النقد بالصعوبة العملية للاتباع التفصيلي للتعليمات المتعددة التي قدمها نيوتن في أبحاثه، وكذا صعوبة تحقيق النتائج التي قال إنها ستنشأ عن ذلك. وكان نيوتن قد تنبأ إلى حد ما بمثل هذه المشكلات، التي كانت جزءا أصيلا من منهجه الرياضي، حيث التعامل مع موقف أو موقفين تجريبيين يتسمان بالتجريد والمثالية بدلا من التعامل مع مجموعة من التوصيفات المفصلة للعديد من التجارب ذات الصلة. وعندما أرسل إليه أولدنبرج بعض الاستفسارات التي صاغها أعضاء الجمعية الملكية ردا على بحثه الأول عن الضوء والألوان، اعترف نيوتن بأن شرحه كان مبهما، وأن توصيفاته ربما كانت لتصبح أطول وتحتوي على المزيد من المخططات البيانية، لو كان يعتزم نشرها.
تضخمت المشكلة مع لينوس في المراسلات اللاحقة مع زميليه بالكلية اليسوعية، جون جاسكوينز وأنطوني لوكاس. فعلى الرغم مما بدا من أن عددا من الفلاسفة الطبيعيين البريطانيين قد أعادوا إجراء معظم تجارب نيوتن دون مواجهة الكثير من الصعاب، فقد أثبتت المراسلات مع اليسوعيين مدى الصعوبة التي واجهها بعض من الفلاسفة النوابغ في تكرار تجاربه، أو حتى فهم فكرتها. ومن جانبهم، كان اليسوعيون يعتقدون أنهم يتبعون عقائد ومبادئ الجمعية الملكية في تمسكهم بأن المعرفة العلمية لا يمكن بناؤها إلا تدريجيا، من خلال إجراء عدد من التجارب المختلفة التي تلقي الضوء على مختلف جوانب النظرية. ولما كانت نظرية نيوتن جديدة للغاية - بحسب قولهم - فقد كان عليه مسئولية إثباتها. فقال نيوتن، الذي شعر أن اليسوعيين يهاجمون أمانته وكفاءته على نحو صريح، بأن تجربته الحاسمة «وحدها» كافية لإثبات صحة نظريته. وراح ينتقد اليسوعيين لعدم اتباعهم تعليماته، وعجزهم عن قياس الانكسارات بالدرجة المطلوبة من الدقة (بالدقائق وليس بالدرجات فحسب)، واستخدام موشورات غير ملائمة، واعتمادهم على شواهد للمحاولات التجريبية اندثرت منذ زمن.
في وقت ما من عام 1677، قرر نيوتن مجددا نشر عمله في مجال البصريات (ربما مع عمله عن المتسلسلة اللامتناهية)، والذي يتألف من مزيج من محاضراته في البصريات ومراسلاته المنشورة. وقد نقشت صورته لوضعها في صدر كتاب بريشة الفنان ديفيد لوجان في مارس من ذلك العام، ولكن الأمور لم تسر حسب الخطة الموضوعة. وفي فبراير من عام 1678، طلب نيوتن من لوكاس نسخة من خطاب سابق (يعود إلى أكتوبر 1676) أرسل إليه من الكلية اليسوعية، وفقده نيوتن في حريق نشب مؤخرا وقتئذ ودمر الكثير من أبحاثه وأوقفه عن مباشرة العمل الذي خطط له. وبالمصادفة، كان لوكاس قد تلقى تصريحا من نيوتن قبل شهرين بنشر الخطاب نفسه في دورية «المعاملات»، ونقل إلى نيوتن عن طريق روبرت هوك، أحد أفراد السكرتارية الجدد للجمعية الملكية بعد وفاة أولدنبرج مؤخرا. غير أن نيوتن أدرك بطريقة ما أن النسخة التي أرسلها هوك إلى دورية «المعاملات» كانت مختلفة بعض الشيء عن النسخة الأصلية. وفي خطاب أخير للوكاس في مارس عام 1678، صب نيوتن وابلا من الإهانات على مستوى العلم المقدم في خطابات لوكاس السابقة. وبينما كان على شفا انهيار عصبي، وصف لوكاس و«أصدقاءه» بأنهم يحيكون مؤامرة يسوعية ضده. فقد كانوا «يجرونه» إلى نزاعات علنية، وهو أكثر شيء كان يمقته. وأخبر نيوتن لوكاس أنه كان يرى أن معظم أفكاره «واهية» ولذا لا يمكن الاعتراف بها، بينما هناك «أسباب متعقلة أخرى» تفسر عدم رغبة نيوتن في «المجادلة» معه. ومع ذلك، فإذا كان النزاع العلني مع اليسوعيين غير مستساغ، فقد كان هناك اهتمامات أخرى لشغل وقته.
هوامش
الفصل الخامس
فيلسوف هرمسي حقيقي
حظيت الخيمياء بسمعة متقلبة بحلول منتصف القرن السابع عشر. فعلى الرغم من أن الكثيرين كانوا يزدرونها باعتبارها المسعى البائس لتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، رأى آخرون أن لها تراثا طويلا وجليلا، وأن أسرارها أكبر و«أنبل» من أن تخفى في لغة وعبارات مجازية مبهمة. وكان الفلاسفة الطبيعيون، أمثال روبرت بويل، يزدرون ممارسات معينة يطلق عليها «خيميائية»، وفي الوقت نفسه يعتقدون أن بعض النصوص الخيميائية، إذا استوعبت بوجه صحيح، فإن من شأنها أن تقدم وصفا لأهم العمليات في الطبيعة. وكانت الخيمياء في حد ذاتها جزءا من ممارسة أكبر تسمى «الكيمياء»، والتي شملت عمليات خيميائية عادية أو «شائعة» كانت جزءا من مخزون مهارات أي كيميائي، ولكن بدت التقاليد الخيميائية التي تؤمن بأن الطبيعة بأكملها حية وكأنها تعد بإجابات عن الأسئلة المتعلقة بالتخمر، والحرارة، والتعفن، وكذلك نمو الحيوانات، والنباتات، والمعادن. وكان يفترض أن لدى الخيميائيين مدخلا لتقنيات تحاكي تلك العمليات الاستثنائية وتتيح لهم تحويل العديد من العناصر أحدها إلى الآخر. وكان معظم الخيميائيين يعتقدون أن هناك جانبا دينيا أو روحانيا أساسيا للفن، رغم أن الأدلة على ذلك غائبة بوضوح في أبحاث نيوتن الخيميائية.
في خمسينيات القرن السابع عشر، تكونت حلقة من الممارسين في لندن والتفت حول الأمريكي جورج ستاركي، الذي طور نظريات جيه بي فان هلمونت عن القوة الحيوية في عدد من الأعمال. واتجه نيوتن إلى أعمال ستاركي في نهاية ستينيات القرن السابع عشر، وجذبه إلى ذلك تحليله للطريقة التي يمكن بها تخمير أو إنبات عناصر أولية معينة. وفي مذكرات ترجع لهذه الفترة، وضع أيضا قاموسا من المصطلحات التي وجدها في كتابات بويل ودون كل العناصر الكيميائية، والإجراءات، والكثير من الأدوات والمعدات المطلوبة لممارسة فن الكيمياء العادية. غير أنه اتجه إلى التقاليد الكيميائية لتزويده بإجابات عن أسئلة تتعلق بأهم الموضوعات التي حيرته وحيرت معاصريه، تحديدا التخمر، والتحول، والحياة، والتكاثر، والعلاقة بين العقل والجسد. ليس التاريخ الذي أصبح فيه نيوتن منخرطا في دراسة الخيمياء معروفا على وجه التحديد، وإن كان وجود خطاب لصديقه فرانسيس أستون، وشراؤه مصهرين والمجلدات الستة لكتاب لازاروس تستسنر «مسرح الكيمياء» - كل ذلك في عام 1669 - يشير إلى أن اعتلاءه كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة كامبريدج في نفس التوقيت ربما يكون قد صرفه عن اهتمام أعمق.
على الرغم من ذلك، لم يهمل نيوتن مطلقا ما تقدمه الكيمياء «العادية». ففي نفس التوقيت تقريبا، وفي مفكرته «الكيميائية»، دون ملاحظات امتدت على صفحات عدة، من كتاب روبرت بويل «تجارب وملاحظات جديدة عن البرودة» الصادر عام 1665، مضيفا تساؤلات وتجارب ثانوية خاصة به. وقد شكل هذا إلى جانب أعمال أخرى لبويل نشرت في ستينيات وسبعينيات القرن السابع عشر، أعظم منجم للمعلومات امتلكه نيوتن تحت يده، وقدم معلومات تفصيلية وموثوق بها عن العالم الطبيعي. فقد أشار - على سبيل المثال - إلى أنه على الرغم من أن الطقس في آسيا أكثر برودة بكثير، فإن الصينيين لا يشعرون بالبرودة مثل الأوروبيين؛ نظرا لوجود «انبعاثات من تحت سطح الأرض» تحتوي على «تيارات حرارية». وثمة ملاحظات أخرى من مؤلفات بويل، إلى جانب تأملات نيوتن عنها، عكست موضوعات ذات أهمية دائمة داخل نطاق فلسفته الطبيعية، مثل الحرارة، والضوء، والتحول، و«مبادئ» الطبيعة.
وفي موضع آخر، في قسم عن تحول «الأشكال»، أشار نيوتن (نقلا عن كتاب «أصل الأشكال والخصائص» لبويل الصادر عام 1666) إلى أن المواد الحية المتنوعة مثل الشعاب المرجانية، والسلطعون، وجراد البحر تتحول إلى حجر حين تخرج من الماء، وأنه بالقرب من جزيرة سومطرة كانت هناك أغصان أشجار صغيرة تحتوى على «ديدان» كجذور لها، وأنه في البرازيل يوجد حيوان قريب للجندب تحول إلى نبات. ومرة أخرى، يقدم بويل معلومات بالغة الأهمية تتعلق برواسب أرضية بيضاء ظلت على السطح بعد ترشيح مياه الأمطار؛ وعلق نيوتن بلهجة استحسان أن فان هلمونت كان يرى أن الماء هو أساس كل شيء، لأن جميع الأشياء يمكن «اختزالها» إليه «عن طريق عمليات متعاقبة».
وتشير المقتطفات المأخوذة من كتاب جورج ستاركي «ثبوت الاستغلال الكيميائي للنار» - والتي أعقبت الإشارة إلى فان هلمونت - إلى تحول في التركيز في قراءاته. ففي نفس الوقت كان يقرأ ويدون ملاحظات عن كتاب مايكل ماير «الرموز الذهبية للاثنى عشر شهرا»، الذي شكل مع مخطوطة تحوي نصائح للمسافرين الأساس للخطاب الذي أرسله إلى أستون في مايو عام 1669. بدأ هذا الخطاب بنصائح رنانة حول كيفية التعامل مع الأجانب، ولكن نيوتن أيضا أخبر أستون (الذي كان على وشك الانطلاق في جولة في أوروبا) أن ينتبه للتحولات من فلز لآخر، لأنها «تستحق انتباهك لها لكونها التجارب الأكثر تنويرا وتوضيحا للطريق في الفلسفة أيضا». وثمة تعليمات معينة جاءت من قراءته لماير، ولكنها أيضا كانت ترتبط بمعلومات مجمعة من قراءته لأعمال بويل. وسرعان ما شرع نيوتن في قراءة كم ضخم من كل من الأعمال المطبوعة والمكتوبة بخط اليد في مجال الخيمياء. ومن الحقائق ذات الأهمية البالغة أن ملاحظاته تأتي من نسخ مكتوبة بخط اليد من العديد من هذه النصوص، مما يشير إلى معرفته بمجموعة من الخيميائيين في كامبريدج أو لندن، وهو الأكثر ترجيحا. وللأسف إن هوية الكثير من هذه الشخصيات غير معروفة.
إنبات الفلزات
كما في حالة «الأسئلة الفلسفية»، سرعان ما شرع نيوتن في إجراء تجارب جديدة، وإن ظلت فهرسة ومقارنة الأعمال والمصطلحات الخيميائية المختلفة عنصرا أساسيا لاستراتيجيته البحثية. وبعد شرائه مجموعة «مسرح الكيمياء» مباشرة، وضع قائمة قصيرة من «الافتراضات» استقى فيها من النصوص الواردة في المجموعة. وقد أشار في هذه الافتراضات إلى «روح زئبقية» نشطة تسمى «ماجنسيا»، والتي كانت «العامل المساعد الحيوي الفريد» الذي يتغلغل في كل الأشياء في العالم. كان هذا هو ما يعرف بالزئبق الفلسفي؛ أي الشكل البدائي لجميع الفلزات والذي عندما يعيد الخيميائيون تكوينه يمكن أن يؤدي ذلك إلى نتائج تحولية غير عادية. ومن خلال العمل بالحرارة الخفيفة، أمكن تسخيره لتحويل (أو «تحليل») العناصر إلى حالتها الأولية، ثم «تنشيطها» (أو «توليدها») في شكل جديد. وبالاستعانة بقياس تمثيلي يعد أساسيا للتقاليد الخيميائية، لاحظ نيوتن أن أسلوب عمل هذه الروح كان قاصرا على أي مجال تعمل فيه، سواء على الفلزات، أم في جسم الإنسان، أم في مختبر الخيميائي، وأنها تنتج الذهب من «النطفة الفلزية»، فيما تستطيع توليد بشر من نطفة بشرية.
وقد جرت معالجة أفكار مشابهة بقدر أكبر كثيرا من التفصيل في بحث رائع كتب على الأرجح في أوائل سبعينيات القرن السابع عشر. ويعرف هذا البحث بالسطر الأول منه، وهو: «عن قوانين وعمليات الطبيعة الجلية في الإنبات»، وهو واحد ضمن مجموعة من أهم كتابات نيوتن عن أي موضوع. وتظهر العديد من الموضوعات والأفكار - مثل التحول، والتكاثف، والطبيعة باعتبارها «عاملا دورانيا» مستديما - مرارا وتكرارا في مواضع مختلفة من عمله. وقد دون نيوتن - تحت عناوين مرقمة فيما يشبه مخططا تمهيديا لأطروحة - أن نفس القوانين التي تحكم نمو النبات تشمل أيضا نمو الفلزات. فعن طريق الفن الخيميائي، يمكن جعل الفلزات تنبت نتيجة لنشاط «روح خاملة» تقبع بداخلها. وكما هو الحال في الفن، تستطيع الطبيعة بهذا الشكل أن تنمو وتزدهر فقط، ولكنها لا تستطيع تكوين «البروتوبلاست» أو أشكال الأشياء الطبيعية، والتي هي من صنع الله.
شكل 5-1: رسم نيوتن لحجر الفلاسفة؛ وهي مادة يمكنها أن تساعد في إجراء عمليات خيميائية مثل تحويل الفلزات غير النبيلة إلى ذهب ، أو تجديد شباب البشر لمنحهم الخلود.
1
كان هناك عدد من مساحات «الاتفاق» بين مملكة الحيوانات ومملكة الفلزات، وكما رأينا، كان إنبات الفلزات في ظروف معملية - في رأي نيوتن - مناظرا للطريقة التي تقوم بها الطبيعة بعملها. والواقع أن كون الفلزات أشياء حية هو ما يجعل لديها قدرة هائلة على التأثير على الحيوانات سلبا أو إيجابا. وكان هذا واضحا من القوة التي يتمتع بها فصل الربيع على التنشيط وتجديد الشباب، وحقيقة أن التغير في كم ونوعية الجسيمات الفلزية في الهواء تخلق «سنوات صحية وأخرى سقيمة»، وكذا في ملاحظة أن الطبقة الأرضية التي تغطي المناجم غالبا ما تكون جرداء. وتستطيع المعادن أن تتحد مع أجسام الحيوانات وتصبح جزءا منها «وهو ما لا تستطيع فعله إن لم يكن لديها عامل إنبات بداخلها».
أيضا زعم نيوتن أن أفعال الطبيعة إما «نباتية» (أو «منوية»)، أو «ميكانيكية» بحتة، كما فيما يطلق عليه الكيمياء «الشائعة». وفي بعض الأحيان، يمكن إحداث تغيرات في ملمس الأشياء عن طريق «عمليات الاندماج أو الانفصال الميكانيكية» لهذه الجزيئات، ولكن غالبا ما يتحقق ذلك بنبل أرفع عن طريق حركة «المواد النباتية الخاملة». والطبيعة نفسها لها طريقة أكثر «حذقا وسرية ونبلا للعمل» من تلك الموجودة في الكيمياء العادية إلى حد بعيد، وذلك النمط من العمليات هو ما يحاول الخيميائيون محاكاته. وكان الأساس و«العوامل المساعدة» لحركاتها النباتية هي «البذور أو الأوعية المنوية» في قلب المادة (المحاطة بغطاء رطب)، والتي أسماها نيوتن «نار»، و«روح»، و«حياة» الطبيعة. وقد شكلت هذه العناصر «جزءا صغيرا بشكل لا يصدق» من المادة، مما عمل على تنشيط ما كان ليصبح مجرد «مزيج من أرض ميتة وماء عديم الطعم». وفي حين أن جسم المادة الأكبر حجما غالبا ما لا يتأثر بالحرارة الشديدة، يمكن القضاء على «فاعلية» البذور أو إفسادها عن طريق الارتفاع أو الانخفاض الشديد في درجة الحرارة. وقد كان الإنبات جزءا محوريا من هذه العملية، يتألف من حركة البذور «الناضجة» على الأجزاء الأقل نضجا من مادة مختلفة ليجعلها ناضجة قدر الإمكان. وفي موضع آخر من المخطوطة، أشار نيوتن إلى الجزء الدقيق من المادة باسم «الروح النباتية»، والتي كانت واحدة في جميع الأشياء باستثناء ما يتعلق بدرجة «امتصاصها» أو نضجها. وحين امتزجت أرواح نباتية مختلفة معا، «شرعت في العمل»، وتحللت، و«امتزجت معا على نحو تام، ومن ثم تبدأ دورة عمل مستديمة إلى أن تصل للحالة الأقل هضما».
عالج البحث كذلك الطرق التي استطاع بها الخيميائيون الاستفادة من الإنبات، عن طريق محاكاة الطبيعة، لإحداث ظواهر غير عادية. وكان من الشروط اللازمة لتفعيل مهمة الخيميائي و«لكي تكتسب المادة المتحللة بأكملها القدرة على توليد شيء منها» وجود مرحلة أولية من الاختزال إلى «فوضى متحللة». فالتحلل «يحول» شيئا ما عن الماهية التي كان عليها، وهو شرط حدوث عملية التوليد والتغذية، على الرغم من أن التحلل الكامل يحدث «عفونة كريهة سوداء». وكما في الطبيعة، فإن ذلك يحدث في ظل حرارة «هادئة»، وعلى مواد رطبة، بينما البرودة أو الحرارة الشديدة من شأنهما أن يدمرا المهمة. وقد كان بإمكان الخيمياء أن تعزز تأثير الطبيعة على أي شيء كان، دون أن يكون المنتج أقل «طبيعية» مما لو كانت الطبيعة قد أنتجته بمفردها: «هل يكون الطفل مصطنعا لأن الأم تناولت عقاقير، أو تكون الشجرة التي تزرع في حديقة وتروى بالماء أقل طبيعية من تلك التي تنمو وحدها في الحقل؟» إن شجرة بلوط عمرها مائة عام يمكن جعلها تتكاثر، كما يمكن جعل المعادن «تتعفن وتتحلل» من خلال «ترتيبها ومزجها كما ينبغي مع الرطوبة المعدنية».
الأكوان المعدنية
ذهب نيوتن إلى أن الفلزات حين تتحول إلى «أدخنة رقيقة ومتطايرة» تستطيع تخلل الماء (أو السوائل الأخرى)، و«التشرب» فيه. وهي تفقد قدرتها الإنباتية في الماء البارد، لتتحول إلى حالة مالحة «ثابتة» ومتجمدة، وتصبح عودتها مرة أخرى إلى فلزات بالغة الصعوبة. فملح البحر، على سبيل المثال، كان مزيجا من أنواع مختلفة من الأدخنة المعدنية التي تماسكت جميعا معا، وكان لهذه «الكتل الملحية» قدرة أكبر على الاتحاد معا وتكوين قنوات بلورية طويلة. وقد لوحظ هذا الميل لدى الأبخرة أو الأدخنة للتجمد عن طريق تقطير مياه الأمطار وتحويلها إلى أجزائها المكونة لها، وكذلك عن طريق ملاحظة ميل الماء إلى الالتحام بالمعادن وتكوين نتوءات على الصخور.
ولعل أكثر عمليات التكاثف «حميمية» هي تلك التي تمت عن طريق مزج «الأبخرة غير المرئية» لأنواع مختلفة من الأدخنة، وهو ما نتج عنه تجمعات صلبة ذات «بنية أكثر ظهورا ورقة»، مثل «النترات»، وهو عنصر أطلق عليه نيوتن «روحا» تكونت نتيجة «تخمر النار والدم ... وجميع أنواع النباتات». وعندما تكثفت، قامت الأجزاء الرطبة التي كونت النترات بتكوين ملح أيضا، ولكن برودة ماء البحر أعاقت هذه الأبخرة الأكثر رقة ومن ثم لم يتواجد فيها نترات. وفي حالته النترية الأكثر رقة، كان الملح يتخمر ويتحلل، ولكن جزيئات الملح الخشن في حد ذاتها كانت «ميتة». غير أن الملح يمكن «حثه» على الإنبات، سواء طبيعيا أم اصطناعيا «عن طريق مواد أخرى في حالة حية ومنبتة». والأملاح القاعدية تحفظ اللحوم وتعمل من خلال جزيئاتها الخشنة، ولكن في ظروف معينة يمكن تنشيط «العنصر الخامل» بها للعمل «بنشاط» على عناصر أخرى. واعتبرت النترات في حالتها تلك، بوجه عام، أقوى المعادن لإثراء الأرض، وكذلك مصدر البارود ومصدر أنقى جزء من الهواء. وأشار نيوتن إلى أنه إذا أمكن دفع الأملاح للتحلل، فمن الممكن أن تكون دواء رائعا.
وباسترجاع نظريته السابقة، وصف نيوتن نظاما دوريا رائعا تطلق فيه الأرض أبخرة مائية وأدخنة معدنية متنوعة إلى أعلى. ومع ارتفاع الهواء يدفع الأثير باستمرار إلى أسفل نحو الأرض، «وهناك يتكثف ويندمج تدريجيا مع الأجسام التي يقابلها، ويعزز حركاتها باعتباره عامل تخمير حساس». ولكونه لزجا ومرنا، فإنه يسقط أجساما أثقل عند نزوله، ولكونه أخف كثيرا من الهواء، فإنه يفعل ذلك بسرعة أكبر كثيرا من سرعة ارتفاع الهواء. ومن ثم، كانت الأرض أشبه بحيوان ضخم أو «نبات عديم الحياة»، يتنفس في الأثير من أجل التجديد اليومي لنشاطه وحيويته. وأردف نيوتن أن العناصر الأرضية تألفت من الأثير ممتزجا بروح أكثر نشاطا، والتي كانت «العامل المساعد الكوني للطبيعة ، ونيرانها الخفية، وعامل تخمرها، وأساس الإنبات». وباعتبار الأثير «الروح المادية لكل المادة»، يمكن تنشيطه بواسطة الحرارة الخفيفة، وربما يكون مؤلفا في حقيقته من الضوء أو من نفس مكوناته. فكلاهما له «أساس نشط مذهل»، وكلاهما كان «عاملا مستديما»، وكل الأشياء تبعث ضوءا حين تتعرض للحرارة. ومثل ضوء الشمس كانت الحرارة أساسية لعملية التوليد، و«ما من مادة تتخلل كل الأشياء بذلك القدر من التلقائية، والبراعة، والسرعة مثل الضوء، وما من روح تتخلل الأجسام بهذا الكم من البراعة، والسرعة، والقوة مثل الروح النباتية». لم يكن علم الكونيات - الذي يتسم بقدر رائع من الثراء - موجها لشيء أقل من الكشف عن عناصر الحياة النشطة، والكون بأكمله. وكان نيوتن يعود لنفس الأفكار مرارا وتكرارا، وإن كان بأشكال مختلفة.
سحق الضفادع
ظهر علم الكونيات الخيميائي الخاص بنيوتن إلى النور كلية في شكل مختلف من أعماله ألفه في أواخر عام 1675. وعلى الرغم من أنه لم يطبع في حياته، فقد تعاملت «الفرضية» التي ألفها عام 1675 مع جميع الموضوعات المهمة والأساسية التي عاودت الظهور في بدايات القرن الثامن عشر في فقرة «تساؤلات» في الطبعات المختلفة لكتابه «البصريات». وفيما كان نشاطه في الخيمياء موجها بشكل أكثر وضوحا نحو كشف النقاب عن العناصر النشطة في المادة العادية، فإن الأعمال الموصوفة في «الفرضية» عنيت جزئيا بإخضاع الأثير لنفس أشكال التساؤل التجريبية التي تفحص بها روبرت بويل الهواء. والواقع أنه عندما التقى نيوتن ببويل في لندن في أوائل عام 1675، سخر بويل بوضوح من عزم نيوتن على ثقب «الأثير العادي». وفي الوقت نفسه، خاض نيوتن أيضا نقاشا مطولا مع هوك حول سبب حدوث الانعكاس والانكسار، والذي أعزاه نيوتن إلى حركة حافة الوسط الأثيري الذي يمر الضوء بداخله. وفي تكرار لمقترحه الذي طرحه قبل عقد، أخبر هوك أن إجراء تجربة في مضخة هواء يمكن أن يثبت ذلك، من خلال توضيح أن ظواهر الانعكاس والانكسار لا يطرأ عليها أي تغيير بحدوثها في مضخة هواء مفرغة؛ فالأثير - وليس الهواء - هو الذي يحدث الانعكاس والانكسار .
في بداية ديسمبر 1675، أرسل نيوتن إلى أولدنبرج عملين. كان الأول هو «حوار حول الملاحظات» والذي ذكرناه مسبقا فيما يتعلق بالحلقات الملونة، فيما كان الثاني أطروحة صغيرة رفضها نيوتن باعتبارها «أفكار أخرى مصاغة بغير عناية». قرئت هذه الأطروحة في اجتماعات أسبوعية منذ 9 ديسمبر، وكانت بعنوان «فرضية تشرح خصائص الضوء التي نوقشت في أبحاثي العديدة». وعلى الرغم من أنه كان يعتزم فيما سبق ألا ينشر أي شيء من هذا النوع، فقد قال (في إشارة إلى هوك بالتأكيد): «لقد لاحظت أن عقول العلماء العظماء تتجه لوضع الفرضيات بشكل كبير، وكأن أحاديثي [افتقرت] لفرضية تفسرها.» وقال في تفاؤل إنه يأمل أن يضع ذلك حدا للنزاعات الدائرة حول عمله.
بحسب هذه الأطروحة، فإن الأثير هو سبب العديد من أنواع الظواهر الأرضية وليس الهواء. فالأثير أكثر خلخلة ورقة و«مرونة» من الهواء، وهو مزيج مركب يتألف «في جزء منه من الجسم البارد الأساسي للأثير [و] في جزء آخر من «الأرواح الأثيرية»» المتعددة الأخرى، مثلما يتألف الهواء من الجسم الأساسي للهواء ممتزجا ب «أبخرة وانبعاثات». وقد كانت حقيقة أن الأثير يمكنه أن يخلق ظواهر متنوعة؛ مثل الكهرباء والمغناطيسية، دليلا وافيا على طبيعته المركبة. وخمن أنه ربما تكون «الطبيعة» بأكملها قد تكونت من توليفات من الأرواح الأثيرية أو الأبخرة التي تكثفت بواسطة الترسيب. وقد خلق الله الأشكال الأصلية للطبيعة مباشرة، لتستمر في التكون بعد ذلك بقوة الطبيعة ذاتها. وأردف نيوتن (مسترجعا لغة أطروحته الخيميائية) أنه بقوة الأمر الإلهي «ازدادي وتكاثري»، «أصبحت الطبيعة محاكيا تاما للنسخ والنماذج التي تكونت منها بواسطة البروتوبلاست».
وصف نيوتن تجربة بسيطة ألقت الضوء على طبيعة الكهرباء، واستحضرت مجددا فكرة التكاثف. تضمنت التجربة فركا قويا لقطعة زجاج مستديرة محاطة بالنحاس حتى تقفز القطع متناهية الصغر للورقة التي تقع أسفل قطعة الزجاج، «متحركة بخفة جيئة وذهابا». واستمرت قطع الورقة في «القفز» حتى بعد توقف الفرك، قافزة في كل اتجاه بينما استقر بعضها على الجانب السفلي من الزجاج لفترة وجيزة. وقد كتب نيوتن أنه قد ظهر واضحا وجود «مادة دقيقة » في الزجاج تخلخلت وانطلقت منه، مكونة نوعا من الريح الأثيري. بعد ذلك، تكثفت مرة أخرى وعادت إلى الزجاج، مما أحدث الجذب الكهربي الذي جذب الورقة إلى جانبها السفلي.
بعد عشر سنوات من تأملاته الأولية البسيطة عن الموضوع، منحت «الفرضية» نيوتن أيضا الفرصة للتصريح بأفكاره عن الأسباب المحتملة للجاذبية. فمن الممكن أن تكون ناتجة عن التكاثف المستمر لطبيعة ما «دبقة، ولزجة، ومرنة» مناظرة لذلك الجزء من الهواء الذي يدعم الحياة. قد تكون تلك الروح قد تكاثفت في أجسام مختمرة أو محترقة وسقطت كأشعة جاذبة داخل تجاويف الأرض، مكونة «مادة رخوة ربما تكون فيما يبدو العصارة المغذية للأرض أو المادة الأولية التي تنمو منها الأشياء القابلة للتوليد». بعد ذلك، تطلق الأرض تيارا صاعدا من الانبعاثات الهوائية، تصعد بعد ذلك إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي، حين «ترقق» المادة مجددا «وتعود إلى أساسها [الأثيري] الأول». وقد أشار نيوتن، مكررا المصطلحات من النص الخيميائي، إلى أن الطبيعة بذلك كانت «عاملا دورانيا مستديما»، إذ تحول السوائل إلى أجسام صلبة، والمادة النقية إلى مادة «أكثر كثافة»، وجميع الأشياء إلى مضاداتها ثم تعيدها مرة أخرى إلى حالتها الأولى. وعلى نطاق أكبر، قد تلعب الشمس دورا محوريا في نفس الظاهرة، متشربة الأثير «للحفاظ على إشراقها» لمنع الكواكب من الهرب.
كان الأثير - في رأي نيوتن - السبب وراء وقوع معظم الظواهر الأرضية، إذ يستحث أنشطة مثل: التخمر، والتحلل، والانصهار، والانعكاس، والانكسار. وعلى نحو أكثر تأملا، رأى نيوتن أن ذلك قد يفسر «تلك الإشكالية المحيرة»، التي هي تحديدا القدرة على تحريك المرء لجسده، مع انقباض وتمديد العضلات وفقا للكيفية التي يكثف بها المرء الأثير الذي يتخللها أو يمدده. ولا شك أن هذه النظرية كانت أساس النقاش الذي خاضه مع بويل في الربيع الفائت بشأن ثقب الأثير، إذ اقترح نيوتن أن يحاول بويل إجراء مزيد من تجارب ضخ الهواء على العضلات. وعلى الرغم من حقيقة أن الماء غير قابل للانضغاط، نجح بويل في سحق فرخ ضفدع، في إشارة إلى أن «عصاراته الحيوانية »، ربما مع الأثير المخلخل في مسامه الدقيقة، يمكن تقليصها (وتمديدها). بل إن نيوتن قد عدل مفهوم بويل عن «مرونة» أو مطواعية الهواء، ليضع فرضية تفيد بأنه في المواقف الطبيعية، لا بد أن يوجد قدر معين من الأثير الطيع أو «المرن» داخل أي جسم لكي «يدعم ويوازن» ضغط الأثير الخارجي.
في فترة ما في نهايات سبعينيات القرن السابع عشر، أو على الأرجح بدايات الثمانينيات، ألف نيوتن نصا استثنائيا («عن الجاذبية وتوازن السوائل»، والمعروف الآن باسم «الجاذبية»)، جادل فيه بقوة ضد فكرة ديكارت عن أن الحركة لا يمكن قياسها إلا بالمقارنة بالأجسام المحيطة. وفيما يتعلق بنقاشنا، فإن الأمر الرائع هو جدال نيوتن حول أن الفراغ الخاوي ممتلئ بأشكال «محتملة» مختلفة قادرة على «احتواء» أجسام مادية من نفس الحجم (ولكنها ليست مشابهة لها كما كان ديكارت يزعم). فالفراغ برمته كان من صنع الله، ولكنه لا يماثله، إذ إن من خلق قادر على جعل فراغات بعينها غير قابلة للاختراق، أو عكس الضوء بطريقة معينة، ومن ثم خلق أجسام ملموسة: «إنه نتاج عقل إلهي يدرك في كم محدد من الفراغ». ووفقا لنيوتن، فإنه يمكن تحقيق كل ذلك بفعل التفكير والمشيئة الإلهيين لا أكثر، وهو شيء مناظر للطريقة التي نحرك بها أجسامنا وقتما نشاء. وخلص إلى أنه إذا كانت طريقة تحريك أجسامنا معروفة لنا، «فإن نفس النمط من التعقل والتفكير من المفترض أن يعرفنا أيضا كيف يمكن أن يحرك الله الأجسام». وعلى الرغم من الاختلافات العديدة بين الله والإنسان، فإننا جميعا في النهاية خلقنا على هيئته. وكما سنرى، فقد ظهرت نسخة أعظم من هذه النظرية في كتاباته المهمة في القرن الثامن عشر.
وبتبيان كيفية تحكم المخلوقات في عضلاتها، ربما يكون سحق أفراخ الضفادع قد ألقى بعض الضوء على العلاقة بين العقل والجسد. لقد كانت الطريقة التي سيطرت بها الروح على الكثافات النسبية للسوائل المتدخلة في الحركة العضلية معقدة وصعبة، ولكن نيوتن أقدم بشجاعة على طرح عدد من الفرضيات في هذا الصدد. وكان محور رؤيته هو نظريته القائلة بأن عصارات الحيوانات احتوت على «الأرواح الحيوانية» الأثيرية، التي لم تهرب عبر مسام الطبقات الخارجية للمخ والأعصاب والعضلات. وذهب نيوتن إلى أن السبب في هذا هو أن أجزاء معينة من الجسم كانت أكثر أو أقل ميلا لإيواء هذه الروح بمقتضى حقيقة أنه كان هناك «أساس سري للاندماج» أو «التنافر» الأثيري بين مختلف المواد. وقد أتاح ذلك للروح البقاء في بعض أجزاء الجسم دون الأخرى، والنظرية نفسها ربما تفسر لم ظلت الدوامات الشمسية والكوكبية منفصلة. ففي حالة الجزيئات الهوائية، حسبما أشار، من الممكن أن يكون هناك عنصر ثالث قد أدخل لجعل المواد التي كانت «غير مندمجة» معا فيما سبق، مندمجة إحداها مع الأخرى. فهل كان يمكن للروح ألا تتفاعل مع الأثير بنفس الطريقة من خلال إدخال شكل مختلف من الأثير ربما يجعل الأرواح الحيوانية للعضلات وطبقاتها الخارجية مندمجة أو غير مندمجة معا؟
على أكتاف هوك
في مواجهة مباشرة للنظرية الواردة في كتاب «ميكروجرافيا» لهوك، علق نيوتن في أطروحة «الفرضية» بأن الضوء لم يكن الأثير في حد ذاته، ولا حركته المتذبذبة، ولكنه «شيء ما» - لم يصرح بماهيته تحديدا - يفرز من أجسام مضيئة. وثمة «مبدأ حركة» عمل في البداية على تسريع الضوء بعيدا عن هذه الأجسام، ولكن نيوتن مرة أخرى لم يصرح ما إذا كان السبب وراء هذا «ميكانيكيا» أم كان قد تحقق بوسيلة أخرى، ربما تكون مشابهة لمبدأ الحركة الذاتية الذي غرسه الله في الحيوانات.
وأردف قائلا إن الضوء والأثير قد أثر أحدهما في الآخر، حيث الأثير يكسر الضوء، بينما الضوء يؤثر على الأثير لتوليد حرارة. كذلك ربما يكون الضوء قد جعل الأثير يتذبذب، مرسلا ذبذباته في شكل سلسلة عبر جسم أكبر بنفس الطريقة التي يمكن بها للطرق على طبلتين أن يحفز الهواء ليتذبذب. وقياسا على الطريقة التي ينتج بها الهواء المتذبذب الصوت، يمكن أن تنتج الألوان المتعددة عن طريق ذبذبات تطلق في «ألياف» العصب البصري. وأقوى الذبذبات من شأنها أن تنتج أقوى الألوان، بل إن نيوتن افترض إمكانية تحليل الضوء وفقا للطريقة التي «قسم» بها الصوت إلى نغمات. وقد ورد بالفعل في هذا البحث أن نيوتن قد اقترح لأول مرة علانية (بناء على خطوط رسمها أحد أصدقائه) تقسيم الطيف إلى سبعة ألوان، مرة أخرى بالقياس على الأوكتاف. وأخيرا، حاول نيوتن أن يشرح كيف ظهرت الحلقات متحدة المركز في شرائح رفيعة، وكذلك كيفية حيود الضوء. وقد أثار حيود الضوء خلافا في اجتماع الجمعية الملكية في ربيع عام 1675 حيث أثار هوك الموضوع، إذ أكد نيوتن أن ذلك مجرد شكل من أشكال الانكسار، فيما أكد هوك أنه إذا كان كذلك، فهو نوع جديد. غير أن نيوتن أشار في «الفرضية» إلى أنه قد قرأ أن جريمالدي قد أجرى بعض التجارب على حيود الضوء قبل هوك بزمن.
وفي خطاب أرسل بعد أسبوع من إرسال «الفرضية»، وصف نيوتن تجارب كهربية أخرى يمكن إجراؤها بالزجاج وقطع الورق. وقد أثارت هذه التجارب فيضا من الاستنساخات الناجحة، ولعل من علامات تأثير نيوتن وإبداعه أن هذه الملاحظات المرتجلة عن الظواهر الكهربية خلفت تأثيرا عميقا على مدار العقود الأربعة التالية. وكان من اهتمامات نيوتن الأكثر إلحاحا، النزاع الناشئ مع هوك حول الظواهر البصرية. فلدى قراءة الجزء الثاني من «الفرضية» في يوم 16 ديسمبر، وقف هوك وأشار إلى أن معظم مذهب نيوتن قد ورد في كتابه «ميكروجرافيا»، وأن نيوتن طوره فقط بإضافة «بعض التفاصيل». وعندما سمع نيوتن بهذا، رد لأستاذ كلية جريشام في اتهاميه المزدوجين له بالتزييف والسرقة الأدبية الصاع صاعين. فقال نيوتن إن وصف هوك للسبب الأثيري للظواهر البصرية في «ميكروجرافيا» لم يختلف إلا قليلا عن الأسباب التي وجدت في أعمال ديكارت «وآخرين»، وأنه قد «استعار» العديد من مذاهبهم، مطورا إياها فقط بتطبيق نسخته من النظرية على ظاهرتي الشرائح الرفيعة والأجسام الملونة.
وواصل نيوتن حديثه بأن القاسم المشترك بينه وبين هوك كان ضعيفا، ما عدا المفهوم العام بأن الأثير يهتز، وبعدها افترض هوك أن الضوء مماثل للأثير المهتز، بينما لم يعتقد نيوتن ذلك. فشرح الانكسار والانعكاس، وكذلك الطريقة التي تنشأ بها ألوان الأجسام الطبيعية، على نحو مختلف تماما عن هوك، والحق أن تجارب نيوتن على الشرائح الرفيعة «تدحض كل ما قاله عنها». قرئ هذا الخطاب في اجتماع للجمعية في 30 ديسمبر، وبعد يومين أنشأ هوك - على إثر شعوره بالاستياء من نيوتن وأولدنبرج بلا شك - «ناديا فلسفيا» (ضم حلفاء أمثال كريستوفر رين)، حيث كرر اتهامه بأن نيوتن قد أخذ مادة علمية ونظريات بالجملة من «ميكروجرافيا».
وحين قرئ خطاب آخر من نيوتن في الجمعية الملكية في 20 يناير 1676، هرع هوك على الفور لكتابة خطاب استرضائي له، متهما أولدنبرج بإثارة المشاكل بينهما. وكان يعلم ما أراد نيوتن أن يسمعه، متعللا بأنه يبغض الجدال والتشاحن عبر المطبوعات، ومؤكدا أنه يجل «الأبحاث الممتازة» لنيوتن. ومثل التعليقات الأخرى في الخطاب، كان ادعاؤه بأنه سعيد برؤية نيوتن «يطور ويحسن» الأفكار والنظريات التي بدأها قبل ذلك بكثير، ولكن افتقر الوقت لإكمالها؛ سلاحا ذا حدين. ولكن على الرغم من وجود تعليقات أخرى في هذا الشأن، فقد أغدق هوك بالإطراء على قدرات نيوتن، التي قال إنها فاقت قدراته إلى حد كبير. وأنهى خطابه بقول إنه سوف يكون سعيدا بالانخراط في مراسلات خاصة مع نيوتن، لإبداء اعتراضاته في خطابات شخصية إذا حاز ذلك قبولا لديه.
كان ذلك هو السياق الذي كتب فيه نيوتن خطابه الشهير الذي قال فيه إنه لو كان قد طور الأفكار وذهب بها لمدى أبعد، فإن ذلك يرجع لوقوفه على أكتاف عمالقة. وأخبر هوك أن المراسلات الخاصة ستكون أقرب للاستشارات، وأنه يقبلها بل ويرحب بها، إذ إن «ما يتم على مرأى العديد من العيان نادرا ما يخلو من اهتمامات أخرى خلاف العثور على الحقيقة». وبعد أن عكس موضوع خطاباته ليسلطه نحو أولدنبرج، راح يثني على ما أنجزه هوك بعد ديكارت، مشيرا إلى أنه من المحتمل أيضا أن يكون هوك قد أجرى تجارب لم يجرها هو نفسه. ومن الممكن قراءة الجملة الأخيرة - مثل كثير من التعبيرات التي كان طرفا هذا الحوار يتراشقانها - بمعنيين، وأيا كانت المصالحة التي تمت بينهما، فقد دامت لأربع سنوات بالكاد.
بعد بضعة أشهر من انتهاء هذا الصدام المحرج مع هوك، كتب نيوتن إلى أولدنبرج بشأن خطاب كان قد نشر مؤخرا دون توقيع، كتبه بويل عن موضوع الزئبق الخيميائي، الذي عمل على تسخين الذهب المصهور حين مزج معه. وعلى الرغم من أن نيوتن قد تشكك في أن يكون الزئبق قد أثر على الذهب بواسطة جزئيات معدنية «أكثر كثافة»، ومن ثم قد لا يكون له أي فائدة في العمليات الطبية أو الخيميائية، فقد أشار إلى أن بويل قد أحسن صنعا بعدم نشر المزيد عن هذا الموضوع. والواقع أن ذلك ربما كان «مدخلا لشيء أكثر نبلا، ولا يمكن تداوله دون أن يخلف دمارا هائلا على العالم إذا كان من المفترض أن يكون هناك أي صدق أو حقيقة لدى الكتاب الهرمسيين». وكان على بويل أن يأخذ بنصيحة «فيلسوف هرمسي حقيقي»، والذي سيكون رأيه أكثر قيمة من رأي أي شخص آخر؛ «فهناك أشياء أخرى إلى جانب تحويل الفلزات (إذا كان هؤلاء المدعون العظماء يتفاخرون بغير ذلك) ما من أحد غيرهم يفهمها». وقد انتقد فيما بعد بويل لصراحته الزائدة و«توقه للشهرة»، وهي ملاحظة تشير جزئيا لهذه الواقعة بالتأكيد.
تفسير خيميائي لنشأة الكون
في فبراير من عام 1679، كتب نيوتن إلى بويل بخصوص مناقشة أجرياها فيما سبق حول فكرة «السمات الفيزيائية»، على الأرجح خلال زيارته في ربيع عام 1675. ولا شك أن هذا الخطاب قد استقى من أبحاثه الخيميائية، وإن كان أيضا قد ارتبط بالآراء الفلسفية الأكثر تقليدية (وفي مواضع كثيرة كان ملخصا لها)، تلك الآراء التي أبداها في «الفرضية» الصادرة عام 1675. أخبر نيوتن بويل أن هناك أثيرا مرنا ينتشر عبر الغلاف الجوي، وكرر تعليقاته التي أوردها في «الفرضية» لعلها تستطيع تفسير العديد من الظواهر العادية. ومرة أخرى، استحضر نظريته عن «الاندماج» لتفسير حاجة بعض الفلزات لمعالجتها بواسطة «وسيط ملائم» من أجل الامتزاج بالماء أو الفلزات الأخرى. وثمة أجزاء أخرى من الخطاب استقت من أعماله الخيميائية، وقد أخبر بويل أنه بدراسة كيفية تكون المكونات الهوائية عن طريق التخمر المستمر لأعماق الأرض، لم يكن من السخف الاعتقاد بأن الجزء الأكثر ثباتا وبقاء من الغلاف الجوي كان فلزيا. وقد كان هذا هو «الهواء الحقيقي»، الذي جعل فوق الأرض مباشرة وأسفل الأبخرة الأخف عن طريق ثقل جزيئاته الفلزية. غير أنه ليس الجزء الواهب للحياة من الهواء، و«لا يمنح الكائنات الحية أي تغذية إذا سلبت منه الانبعاثات والأرواح الأكثر رقة التي تنتشر بداخله». وكان التأنق الأخير له في هذا الخطاب عبارة عن فقرة عن الجاذبية، والتي شرحها بالاستعانة بنظريته عن الأثير.
كان نيوتن على مدار معظم مشواره المهني شديد الإخلاص - وإن كان ذلك في الخفاء فقط في معظم الأحيان - لكل من الفرضيات الأثيرية ولبرنامجه الخيميائي. فقد أجرى تجارب بنشاط بالغ في أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن السابع عشر، وعاد إلى الموضوع ما أن فرغ من تأليف كتاب «المبادئ الرياضية» في ربيع عام 1687. وكان معظم عمله يتضمن تنظيم وتقييم جودة النصوص المختلفة، ولكن نوبة جديدة من النشاط التجريبي حدثت في بدايات تسعينيات القرن السابع عشر، حين عمل صديقه فاتيو دي دويلير كوسيط بين نيوتن وبين الخيميائيين المقيمين في لندن. ويبدو أن موجة التجريب النشط قد تلاشت حين ذهب إلى لندن في أواخر تسعينيات القرن السابع عشر، ولكنه ظل ملتزما باستقصاء ودراسة الأفكار المحورية داخل إطار التقاليد الخيميائية والرؤية الخيميائية الأساسية القائلة بأن الطبيعة مليئة بنشاط دقيق ولكنه قوي.
تكشفت من حين لآخر لمحات من برنامجه الخيميائي للآخرين. ففي أواخر عام 1680، حين انخرط نيوتن في سلسلة ممتدة من التجارب الخيميائية، اتجه توماس بيرنيت بكلية كرايست بجامعة كامبريدج إلى أفضل الفلاسفة الطبيعيين بكامبريدج لاستشارته بشأن الكيفية التي خلق بها الله الأرض من خلال وسائل طبيعية. وقد كان كتاب «النظرية المقدسة عن الأرض» لبيرنيت الصادر عام 1681 أول عمل في مجال اللاهوت الطبيعي يكتسب شهرة في أواخر تسعينيات القرن السابع عشر، وكان في ذلك الوقت قائما على فلسفة كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية».
أخبر نيوتن بيرنيت أن خلق الجبال والمحيطات ربما حدث في البداية إما بفعل حرارة الشمس، أو بفعل ضغط الدوامات الأرضية والقمرية على المياه القديمة الموجودة منذ بداية الخلق. فانكمشت الأرض في اتجاه خط الاستواء، مما جعل المناطق الاستوائية «أكثر تقعرا»، ومن ثم سمح لمياه المحيطات بالتجمع هناك. إضافة إلى ذلك، كانت تلك الأيام الأولى تمتد لفترة أطول كثيرا من الأيام في عصرنا الحديث، مما أعطى عملية الخلق مدة كافية لتصبح ما هي عليه اليوم تقريبا. ولاستيعاب كيف أصبحت حالة اللاتكون البدائية القديمة متمايزة إلى تلال وتجاويف، عاد إلى تحليل بحثه عن «إنبات الفلزات»، والذي سجل فيه أن المواد الصلبة غالبا ما كانت تتشكل في صورة محاليل، كما حدث عندما ذاب الملح الصخري في المال وتبلور إلى قضبان طويلة من الملح. بخلاف ذلك، فقد أدى جفاف وانكماش الأجزاء الأخرى من حالة اللاتكون تحت تأثير حرارة الشمس إلى ترك قنوات تتيح للماء الهبوط إلى أسفل الأرض، وتتيح «للأبخرة تحت الأرضية»، مثل ينابيع الماء الحار و«الأدخنة» في المناجم الصعود من الأعماق.
وفي إسهام مهم لنيوتن في تفسير الإنجيل، انتقد أيضا وصف بيرنيت للكيفية التي ينبغي بها فهم الوصف الموسوي للخلق. فلم يكن يعتقد أن وصف خلق النورين الكبيرين (أي الشمس والقمر) والنجوم في اليوم الرابع يشير ضمنا إلى أنهما قد خلقا بالفعل في ذلك اليوم، ولا أن موسى قد وصف حقيقتهما الفيزيائية؛ «فالبعض منها أكبر من هذه الأرض، وربما من عوالم صالحة للسكن، ولكنه وصفها فقط كأنوار تضيء هذه الأرض». وقد تبنى نيوتن نهجا مشابها للوصف الموسوي للضوء الذي خلق في اليوم الأول للخلق. وعلى الرغم من أن موسى قد «واءم» لغته لكي تتناسب مع القدرات الإدراكية للجهلاء، فلم يكن الوصف مختلقا. فقد ذهب نيوتن إلى أن وصفه للخلق لم يكن «فلسفيا أو ملفقا» ولكنه كان «حقيقيا» - «فلم تكن مهمته تصحيح مفاهيم العامة في الأمور الفلسفية»، بل كانت «مواءمة وصف للخلق بشكل جذاب وجميل قدر الإمكان ليتناسب مع إدراك وقدرات العامة».
وفضلا عن تلميحه إلى بيرنيت في الخطاب، ذكر نيوتن أيضا أن وجود عوالم أخرى لم يكن أمرا غير قابل للتصديق وذلك في خطاب بعثه إلى ريتشارد بنتلي في بداية عام 1693. كذلك تشير مفكرة «الأسئلة الفلسفية» إلى أنه حين كان طالبا كان يؤمن بتلك النظرية المتطرفة التي تنص على أنه بعد أي حريق هائل، يكون هناك «تعاقب للعوالم»، وفي عام 1694 أخبر ديفيد جريجوري أن المذنبات لها وظيفة إلهية خاصة، وأن الخالق قد احتفظ بمخزون من أقمار المشتري من أجل خلق جديد.
في حوار غير معتاد مع جون كوندويت في نهاية حياته، أخبره نيوتن أن الضوء والمواد الأخرى التي تطلقها الشمس قد التحمت معا في شكل قمر، ثم في شكل كوكب من خلال جذب مواد أخرى، ليصبح في النهاية مذنبا يعود مرة أخرى إلى الشمس ليعيدها إلى حالتها مجددا. وأضاف أن هذا المذنب قد يكون تماما مثل مذنب عام 1680 الكبير الذي اصطدم بالشمس لاحقا في المستقبل القريب. وعندما عاد المذنب إلى الشمس، زاد من حرارتها على نحو هائل إلى حد «احتراق هذه الأرض وسلب قدرة أي حيوانات على البقاء حية»، وهو حدث فسر فيما يبدو ظهور المستعرات العظمى (السوبر نوفا) التي شوهدت في عامي 1572 و1604. ربما يكون كل ذلك قد أدير بواسطة «كائنات ذكية» أسمى تعمل بتوجيه من الله. وأردف نيوتن أن وجود الإنسان على الكوكب كان محدودا، وأشار ضمنا إلى أن القوة الإلهية ربما تكون قد «أعادت إعمار» الكوكب. بعد ذلك، أشار كوندويت إلى فقرة في كتاب «المبادئ الرياضية»، أشار فيها نيوتن إلى استعادة النجوم لحالتها بواسطة المذنبات، وسأل نيوتن لماذا لم يوضح تداعيات ذلك على مستقبل نظامنا الشمسي؟ ولما كان موضوع نهاية العالم موضوعا مسليا بوضوح، فقد علق نيوتن في لحظة عبث نادرة بأن هذا الأمر «يهمنا نحن أكثر، وأضاف ضاحكا أنه قد قال للناس ما يكفي لمعرفة ما يعنيه».
هوامش
الفصل السادس
أحد القلة المختارة من الله
حين التحق نيوتن بكلية ترينيتي، وجد نفسه أمام نظام يؤكد على الأهمية البالغة لدراسة كتابات آباء الكنيسة، وبالطبع الكتاب المقدس. وفي فترة ما - على الأرجح في أوائل سبعينيات القرن السابع عشر - أصبح مناهضا متطرفا لعقيدة الثالوث القدوس؛ لإيمانه بأن عقيدة الثالوث القدوس المألوفة كانت فسادا مبهما وشيطانيا جلبه محرفو الكتاب المقدس في القرن الرابع بعد الميلاد. واقتنع نيوتن بأن من وضعوا أصول العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، أثناسيوس، إلى جانب العديد من الرهبان، وأعضاء الكنيسة، وأباطرة الإمبراطوريات الشرقية والغربية، قد لوثوا العقيدة بإدخال كلمات جديدة على المسيحية، وأقحموا نصوصا ملفقة في الإنجيل وكتابات آباء الكنيسة، وملئوا المجالس الكنسية بأنصارهم الفاسدين. وكان في قلب مخططهم تلك الرؤية الخفية - كما رآها نيوتن - التي مفادها أن المسيح كان مشابها للرب من الناحية الجسدية. وكان نيوتن يؤمن بأنه قد اصطفي من الله لكشف الحقيقة بشأن انحدار المسيحية، وكان يعتقد أن ذلك هو أهم عمل سوف يضطلع به على الإطلاق.
إن في حاجة نيوتن إلى إعفاء خاص من الترسيم الكهنوتي إشارة إلى أن آراءه المهرطقة قد سيطرت عليه بحلول نهاية عام 1674. ومن المستبعد للغاية أن يكون قد دعي لاعتناق هذه المعتقدات من جانب أي شخص آخر، وإن كان قد استطاع من منطلق مبدأ «اعرف عدوك» أن يقرأ آراء مماثلة في الكتابات المعاصرة المناهضة لعقيدة الثالوث القدوس، شأنه شأن طلاب آخرين. غير أن المسيحيين الأرثوذكسيين كانوا يعتبرون مناهضة الثالوث القدوس إلحادا رهيبا، وكان هناك عقوبات شديدة في لوائح القوانين لمن يقللون من شأن طبيعة المسيح. وباستثناء اثنين أو ثلاثة ممن يعرف تعاطفهم معه، قضى نيوتن جل حياته يخفي آراءه الدينية عن الآخرين.
إن الكثير من مذكرات نيوتن الأولى تظهر مناهضة عفوية للمذهب الكاثوليكي كانت لتلقى قبولا اجتماعيا لدى طلاب كامبريدج. ولكن إذا كان ذلك مقبولا، فإن تقليل نيوتن من شأن المسيح فيما يتعلق بالله لم يكن مقبولا. ففي مرحلة مبكرة، آمن نيوتن بأن هناك أدلة إنجيلية وافرة على أن المسيح كان مختلفا عن الرب وأدنى منه، بينما النصوص المؤيدة لعقيدة الثالوث القدوس كانت عبارة عن إقحامات فاسدة أو قراءات خاطئة «متعمدة». وفي مواضع كثيرة من الإنجيل، اعترف المسيح، الذي هو الكلمة التي خلقها الله، بأنه مخلوق أدنى من الله. وإذا كان لدى المسيح قدرات إلهية - وهو ما كان نيوتن يعتقده - فإن ذلك يرجع إلى أن الله قد سمح لذلك بأن يحدث. فقد أذن الله لابنه أن يذل نفسه على الصليب، وهذا بالفعل ما جعله جديرا بأن يعبد، ولكن ليس كإله. وقد أصبح المسيح ابن الله حين أصبحت الكلمة قطعة لحم في أحشاء مريم العذراء؛ وكان هذا المخلوق وحده، وليس الروح البشرية التي تواجدت مع الكلمة الإلهية، هو الذي عانى على الصليب. وأخيرا، كانت مشيئة الله هي ما جعلت المسيح يبعث من جديد.
لا يوجد سوى عاهرة بابل واحدة فقط
كانت عقيدة الثالوث القدوس - في رأي نيوتن - مبهمة وزائفة، وكان الدفاع عنها من خلال حجج وبراهين ميتافيزيقية غامضة، وكانت تفرض على الوثنيين إما بالقوة أو بمزجها بممارسات وثنية لتخفيفها. وقد أعطى أهمية بالغة لبساطة العقائد الأساسية للمسيحية، وشدد على أن عددا محدودا للغاية من المعتقدات عن المسيح - والتي أسماها بولس لبن الرضع - هو اللازم للتحلي بإيمان ينجي من المهالك. وشملت هذه المعتقدات أن يسوع هو المسيح المتنبأ به في العهد القديم، وأنه ابن الرب الذي بعث من جديد بعد أن أذل نفسه على الصليب أمام أبيه، وأنه يوما ما سيعود ليحكم «الأحياء والموتى المبعوثين للحياة». على الرغم من ذلك، كانت هناك حقائق أعمق في الكتاب المقدس، أو ما يسمى «لحم للرجال»، يكتسبه من هم «في سن النضج» بعد تعميدهم وإشراكهم في طائفة. وقد كانت هذه المعرفة، التي تكتسب من خلال الدراسة الممتدة، من الأشياء التي لم تكن ضرورية للعقيدة المسيحية، ولم يكن المسيحيون ليتورطوا في نزاعات بشأنها خشية أن تقودهم إلى الانقسام والشقاق.
كان أهم مبحث دراسي هو النبوءة، خاصة في سفر رؤية يوحنا، آخر أسفار العهد الجديد. كان نيوتن متفقا مع الكثير من أهم المفسرين البروتستانتيين في القرن السابع عشر حول الأساليب الجوهرية المطلوبة لفهم سفر الرؤيا. فكان يؤمن مثلهم بأن الرموز الواردة به تشير إلى معركة بين الخير والشر اندلعت في نهاية القرن الرابع ، فيما أشارت الرموز والتوصيفات الأساسية إلى فترات محددة حين كانت الكنيسة الحقيقية مضطهدة، وكان أعداء الحقيقة يتحكمون في الصالحين أو يغلبون من جانبهم. والحق أن مناهج بعينها كانت معيارية للغاية لدرجة أنه كان يؤمن بأنه يبني على «اكتشافاتها» الأساسية؛ كما في حالة أعمال سلفه في كامبريدج، المدعو جوزيف ميد. وبالعمل وفقا لطريقته، استطاع نيوتن بوضوح أن يناقش القضايا التقنية النبوئية مع واحد على الأقل من معاصريه (هو هنري مور) دون الإفصاح عما يعنيه ذلك بشأن تاريخ المسيحية.
وفي شرح ضخم لسفر الرؤيا يرجع على نحو شبه مؤكد للفترة بين 1675 و1685، قدم نيوتن «براهين» تثبت آراءه مثلما فعل في كتابه «المبادئ الرياضية». فبدأ بادعاء أنه «بفضل الرب» حصد معرفة في الكتابات النبوئية، وأنه مع قرب الإفصاح عنها، صار عليه التزام أخلاقي بتدريس معناها من أجل تنوير وتثقيف الكنيسة. ولم يشمل ذلك كل المسيحيين، وإنما:
بقايا أشخاص قليلين متناثرين ممن اختارهم الرب، كهؤلاء الذين يستطيعون تكريس أنفسهم بإخلاص وجدية للبحث عن الحقيقة، دون أن تقودهم المصلحة، أو الثقافة، أو رموز السلطة البشرية بلا تفكير.
إن البحث في الكتاب المقدس الآن هو «واجب اللحظة الكبرى»، والإخفاق في إدراك علامات المجيء الثاني للمسيح على نحو صحيح سوف يترك المسيحيين عرضة لنفس القدر من النقد الذي تعرض له اليهود لإخفاقهم في إدراك أن يسوع هو مسيحهم المنتظر. وقد كانت تلك مهمة لا يمكن لأحد الاضطلاع بها إلا أنقياء القلب، وقليلون هم المهيئون لهذا. وعلق نيوتن أن المؤمن الحقيقي يعرف أيضا بأنه يبدو جديرا بالازدراء، بينما كانت «توبيخات العالم» هي علامة الكنيسة الحقيقية.
كان من العناصر الأساسية لعملية تفسير الكتاب المقدس «الترتيب المنهجي» للنبوءة وفقا لمجموعة من القواعد. وقد كان العديد من هذه القواعد عناصر قياسية في التفسير الإنجيلي البروتستانتي، مثل الحاجة للإصرار على معنى واحد فقط لنقطة معينة في الكتاب المقدس ما لم تتواجد أسباب لفعل العكس، وهو ما رجح أن المعنى سيكون «حرفيا» في الأساس، ولكن من حين لآخر كان من الممكن إجازة معنى «روحي ». وبالنسبة لهذا المعنى الروحي، كان لزاما أن يتم هذا وفقا لتقاليد «لغة مجازية» نبوئية كان المفسرون القدماء يتقيدون بها. فقد كان التحول إلى قراءة روحية لفقرة ما دون أساس ضربا من الضلال، وهذا التساهل في التفسير هو منشأ كل بدعة موجودة حسب رأي نيوتن. كان لزاما أن تكون التفسيرات «تلقائية»، وكانت لا بد أن تجعل الكتاب المقدس على أكبر قدر من «البساطة». والأهم من كل ذلك أنه كان ينبغي أن تكون الرؤى والرموز النبوئية متجانسة إحداها مع الأخرى وفقا لتلك القواعد قبل تطبيقها على الأحداث التاريخية. لقد كان من الصعب فهم سفر الرؤيا، ولكن بحل شفراته بالشكل الملائم، أصبح ذا أهمية بالغة للكنيسة الحقيقية. فلم يكن بالإمكان إثبات الدين الحقيقي كما يثبت برهان في الهندسة الإقليدية، ولم يكن ليقنع سوى حفنة من الناس؛ ولكن هذا ما كان يجب أن يكون عليه الأمر. وخلص نيوتن إلى أنه يكفي «أنه قادر على حشد قبول هؤلاء الذين اختارهم الرب».
ووفقا لخطته، دون نيوتن قائمة مطولة «للتعريفات» النبوئية والتي اعتمدت على عدد من المصادر المختلفة. ووفقا للأسلوب النبوئي، كانت الشمس تشير إلى ملك، والقمر إلى من يليه في السلطة، والنجوم إلى كبار رجال المملكة. أما الأرض، فكانت تشير إلى أمم الأرض، أو عامة الناس في أية أمة، فيما كان البحر يشير أيضا إلى شعب أو أمم؛ وكانت الأرض والبحر معا يشيران إلى نوعين مختلفين من الناس. وفي بعض الأحيان، كان من الممكن أن تعني الكلمات أكثر من شيء واحد، ومن ثم كان من الممكن أن تشير كلمة جبل إلى مدينة أو معبد، حسب السياق الواردة فيه.
بعد تدوين التعريفات، بين نيوتن بعد ذلك كيفية ارتباط رؤى معينة إحداها بالأخرى. ففيما كانت بعض الرموز في سفر الرؤيا «متعاقبة»، بمعنى أنها تشير إلى أحداث لاحقة أو سابقة، اعتبرت الأخرى «متزامنة»، أي تشير إلى جوانب مختلفة للفترة نفسها. ولكن كما رأينا، فقد كان من الممكن عرض الصلات القائمة بينها قبل ربطها بأحداث معينة. ولفت نيوتن إلى أن جميع المفسرين تقريبا قد أدركوا أن رؤية الأختام السبعة بالسفر، والتي تراءت ليوحنا في بداية النبوءة، كانت تشير إلى أحداث متعاقبة. فقد أشارت الأختام الستة الأولى لفترة سبقت سيطرة الردة الكبرى. ففي الختم الخامس - على سبيل المثال - جسدت التوصيفات الخاصة بامرأة في المخاض وتنين أحمر مستبد (الشيطان) يستعد لالتهام الطفل، المصير المتوقع للكنيسة الحقيقية (المرأة)، والخطر العظيم الذي واجه سلالتها («الطفل الرجل»).
بعد افتتاحية الختم السابع مباشرة تنشق الأرض عن وحش له قرنان، حسبما ورد في سفر الرؤيا، بينما يتحدث كتنين، مما دفع البشر جميعا إلى نقش الاسم الدال على رقم الوحش (666) على جباههم. وقد تم تجسيد الأتقياء في سفر الرؤيا من خلال المصطفين ال 144 ألفا الذين تلقوا ختم الرب، والذين حماهم أحد الملائكة. ثمة رمز آخر جسد الحمل (المسيح) يقف على جبل صهيون مع المصطفين، الذين نقش على جباههم اسم الله. فأطلق التنين سيلا جاريا من الماء من فمه (والذي افترض نيوتن أنه يقصد به جحافل من الفاسدين غالبا ما كانت تجسد من خلال البحر)، فيما كانت المرأة المضطهدة (الكنيسة الحقيقية) الآن تحاول الهروب إلى البرية، وهو الأمر الذي ساعدتها فيه «الأرض»، أي الأتقياء. بعد فترة قصيرة، اتجه معظم المفسرين إلى رمز صوت الأبواق السبعة، والتي أعلنت ظهور دين وحش ذي عشرة قرون (وهو شكل جديد وأكثر بشاعة من التنين)، برز من البحر. وعن طريق المعجزات الزائفة، يغري الوحش ذو القرنين الناس إلى عبادة الوحش ذي العشرة قرون، ومن ثم إقامة دين جديد على الأرض،؛ وقد أدرك معظم البروتستانت أن هذا يشير بوضوح إلى ظهور المذهب الكاثوليكي الروماني.
وبينما استوعب معظم المفسرين البروتستانت رمزا آخر لصب سبعة جامات مملوءة من غضب الله على التابعين الوثنيين للوحش للإشارة إلى تاريخ حركة الإصلاح البروتستانتي، قام نيوتن ب «المزامنة» بين كل جامة وبوق «متوافقين»، وبعدها قام بمجانسة ذلك مع رمز الرعود السبعة. وذهب إلى أن هذه الرعود قد أضيفت حتى تجسد «الفترات الفاصلة» بين الجامات السبعة، والأبواق السبعة، والرعود السبعة نفس لغز الاسم الدال على رقم الوحش (666). وهكذا قدم كل جامة وبوق متصلين رقميا وصفين مختلفين لفترة معينة، وكل رمز يثري الصورة التي يقدمها الآخر. وعن طريق عدم تخصيص مكانة خاصة للجامات باعتبارها وصفا خاصا لتجارب البروتستانتية، أشار نيوتن بوضوح إلى أن الإصلاح قد قلل بالكاد من النفوذ المتنامي للإمبراطورية الوحشية.
عند إطلاق البوق الخامس، نمت قوة الوحش بشكل مذهل، وشن حربا على «بقايا» نسل السيدة. كانت هذه اللحظة النبوئية في نظر معظم المفسرين البروتستانت - ولم يكن نيوتن استثناء - إيذانا بفترة طويلة تجسدت من خلال مجموعة من أكثر الصور والرموز المجازية حيوية يمكن أن تجدها في سفر الرؤيا. كانت هذه هي فترة حكم رجل الخطيئة - أو المسيح الدجال - الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا بوصفه النبي الكذاب أو الوحش ذي القرنين، والذي سيتحول إلى عاهرة بابل. وبحسب وصف نيوتن للوحش ذي القرنين: «إن كونه دولة دينية مسيحية وثنية يجعل منه بحكم الطبيعة عاهرة بأدق معاني الكلمة، وليس لدينا سبب لافتراض وجود أكثر من عاهرة بابل واحدة.» استمرت هذه الفترة، حتى نهاية الختم السادس، (في سفر الرؤيا) لمدة 1260 يوما، احتجزت خلالها السيدة، التي استقرت الآن داخل البرية بشكل تام، في مكانها من جانب الوحش، الذي يشن حربا على القديسين والشهداء ويذبحهم، بينما ملوك العالم يمارسون الفجور مع العاهرة ويعبدونها.
شكل 6-1: عاهرة بابل، كما رسمها ألبريشت دورر، 1498.
1
ووفقا لنيوتن، كان البوق السادس (الذي هو بالنسبة له الجامة السادسة)، يشير إلى فترة، هي فترة الضيقة العظمى، حين تبلغ الردة ذروتها. فتبشر كل أمة بالإنجيل ويقدم ما تبقى من الأتقياء والصالحين الشكر لله. أما البوق والجامة الأخيران، فيصفان وصول العديد من الناس من مختلف الأمم يحملون سعف النخل؛ فيقوم حمل الله بإطعامهم وإرسالهم إلى مياه الحياة، بينما يمسح الرب الدموع من أعينهم. ويلتئم شمل الحمل وزوجته المرتقبة، وهو صورة اصطلح على فهمها بوصفه رمزا لالتئام شمل المسيح مع القديسين والشهداء.
النبوءة كتاريخ
استغرق نيوتن ومعاصروه البروتستانت المتشددون في هذه الرموز النبوئية وغيرها، وكانت في حد ذاتها منطقية وذات معنى لمثل هؤلاء الأفراد. غير أنه في إطار الشرح والتفسير الكامل لها، فقد كانت لا تزال بحاجة «لتطبيقها» على أحداث تاريخية. وقد أعقب نيوتن تعريفاته بتحليل لتاريخ الكنيسة تمت صياغته في شكل «افتراضات» أو «آراء»، وهو شكل يعيد إلى الأذهان صيغة إحدى الأطروحات الرياضية. فأشار الختم الخامس - على سبيل المثال - إلى فترة كان الإمبراطور دقلديانوس يضطهد فيها المسيحيين ويذبحهم في بداية القرن الرابع بعد الميلاد. وأعلن عن مجيء الإمبراطور قسطنطين في الختم التالي، وهي فترة أصبحت فيها المسيحية هي دين الدولة عن طريق تخفيف عقائدها ليستسيغها الوثنيون (حسب اعتقاد نيوتن). وعند وفاة قسطنطين في عام 337، انقسمت الإمبراطورية إلى شرقية وغربية، وكان ظهور الإمبراطورية الغربية (وفقا لنيوتن) ممثلة في خروج الوحش ذي العشرة قرون من البحر.
اختلف ابنا قسطنطين - اللذان أصبحا قائدي هذين النطاقين - في آرائهما الدينية؛ فكان أحدهما وهو قنسطنس، مؤيدا للعقيدة الثالوثية، أو كما أطلق عليه نيوتن «رسوليا»، فيما كان شقيقه (قسطنطيوس الثاني) يدعم المذهب الآريوسي والذي سمي بهذا الاسم نسبة للقس آريوس الذي دافع عن فكرة المكانة الدنيا للمسيح بالنسبة لله. وبحلول عام 364، صار دين الوحش يعبد علنا في صورة أوثان على غرار «عظام الموتى وبقايا الرفات الآخر للشهداء»، وسرعان ما أصبح ذلك شائعا إلى جانب عبادة الأشباح، وأشار نيوتن إلى أن «ذلك قد استمر منذ ذلك الحين». وحينئذ، أطلق العنان للشيطان على الأرض ليمارس ما أطلق عليه نيوتن «لعبته الخبيثة» بإغراء الجهلة من خلال المعجزات الزائفة أو الشيطانية. وقد كان ذلك ممثلا - في إطار فهم نيوتن للأحداث - في انتصار المذهب الكاثوليكي الروماني التثليثي واضطهاد الآريوسيين الصالحين.
وصفت الردة الكبرى، التي حدثت بجعل عقيدة التثليث الأثناسيوسية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية في عام 380، بفتح الختم السابع. كان المرتدون - في رأي نيوتن - الذين اجتاحوا الكنيسة الحقيقية واضطهدوا الصالحين، مسيحيين وإن كانوا من نوع «وثني» وفاسد؛ وجادل بأن البعض قد يعترض على فكرة أنهم كانوا يحملون العقيدة المسيحية ظاهريا، ولكن المسيحي «كان قادرا على أن يكون أسوأ من أي نوع آخر من البشر». فكان إطلاق البوق الأول عام 395 متزامنا مع صورة رمزية تجسد رياحا عاتية قادمة من الشرق، ومع الصورة الرمزية للجامة الأولى. وقد كان ذلك يتحدث عن «بلاء بغيض وبشع» حل ب «الرجال الذين اتخذوا علامة الوحش، وأولئك الذين عبدوا صورته». وعلى نحو عفوي، زود كتاب الكنيسة الكاثوليكية الأولى نيوتن بأدلة مباشرة على فساد رجال الدين المسيحي في هذه الفترة، مما حدا بالرب بالدفع بحشود من القوطيين ضدهم من الجزء الشرقي من الإمبراطورية. وفيما كان الكاثوليكيون يضطهدون جماعات من المسيحيين ممن أرادوا الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية الرئيسة اضطهادا دمويا وعنيفا، وهي ممارسة وجدها نيوتن الأكثر أسفا على الإطلاق، اتجه القوطيون بأنظارهم إلى روما ذاتها بأحداث وحشية، وصلت لذروتها بتعرض المدينة للسلب والنهب في عام 410، وهو ما تجسد من خلال البوق الثاني والجامة الثانية.
ومضى نيوتن لادعاء أن البوق الثالث والجامة الثالثة، اللذين توافقا مع صورة رمزية لرياح قادمة من الجنوب، قد جسدا أحداثا تعرض خلالها الكاثوليكيون الأفارقة للذبح على يد الونداليين، الذين كانوا أكثر وحشية بكثير من القوطيين، والذين على الرغم من إتيانهم بأعمال وحشية من آن لآخر، فقد كانوا يديرون روما بأسلوب ورع. وقد علم نيوتن من كتاب «تاريخ الاضطهادات الوندالية» لفيكتور بالفظائع الوحشية التي مارسها الونداليون على الكاثوليكيين الأفارقة المستبدين، الذين جادل نيوتن بأنهم كانوا دمويين بشكل غير مسبوق، وكانوا يغتالون من يرفضون اتباع ممارساتهم الخرافية، وشرعوا في تطبيق «تلك الاضطهادات الدموية التي كانت تمارس في أوروبا، ولا تزال مستمرة في الكنيسة الكاثوليكية حتى يومنا هذا». ودون نيوتن مرارا وتكرارا، وهو في حالة من الانفعال الشديد، أن الونداليين قد ردوا للكاثوليكيين اضطهاداتهم مضاعفة. فقام القائد الوندالي جينسريك بتعذيب الراهبات بألواح الحديد الساخن، مسببا لهن العديد من التشوهات، وأقر نيوتن بأن ذلك كان أمرا «في غاية القسوة». غير أن الكاثوليكيين كانوا فسقة، وكان ما عانى منه الآلاف منهم هو عدالة السماء. وذهب نيوتن إلى أنه من المهم معرفة أن الونداليين قد اضطهدوهم لفسوقهم وليس لديانتهم. «ظهرت» عبادة الصور والسيدة العذراء في نهاية البوق الرابع والجامة الرابعة، وأذن الله بعودة الكنيسة الكاثوليكية الأفريقية لفترة وجيزة، حتى يتسنى اضطهاد رجالها المتشددين الوقحين مرارا ومرارا على يد الونداليين. وفي بداية البوق الخامس والجامة الخامسة، كان هناك «مشهد جديد للأمور». فقد وصف سفر الرؤيا كيف تصاعد الدخان من حفرة اندفع منها بكميات مهولة وباء من الجراد - الجيوش في اللغة النبوئية - لا يعذب أي كائن حي عدا أولئك الذين لا يحملون ختم الرب على جباههم. وكان ذلك هو علامة ظهور الإسلام، الذي يؤرخ من وقت تولي النبي محمد مهمته كنبي في عام 609 بعد الميلاد (وفقا لتأريخ نيوتن). وكان فتح الحفرة هو إشارة لهجرته من مكة إلى المدينة في عام 622، ولكن البوق الخامس والجامة الخامسة استمرا تحديدا من عام 635 إلى عام 936. وأشار التعذيب الممتد إلى حقيقة أن المسلمين قد فرضوا حصارا على القسطنطينية مرارا دون أن يستطيعوا الاستيلاء عليها. وفي موضع آخر، «دخلت» عقيدتا الاستحالة وتطويب القديسين إلى الكاثوليكية، مع وصول الردة إلى ذروتها.
في البوق السادس والجامة السادسة، حرر أحد الملائكة أربعة آخرين كانوا مقيدين في نهر الفرات للإعداد لذبح «القسم الثالث من البشر» بواسطة «فرسان بدروع صدرية لامعة يمتطون خيولا لها رءوس كرءوس الأسود. وأدين من استمروا في عبادة الأشباح، وأوثان الذهب، والفضة، والنحاس، والحجارة، والخشب «التي لا ترى ولا تسمع ولا تمشي»، إلى جانب هؤلاء الذين لم يتوبوا عن الشعوذة، والزنا، والسرقة. وتحكي الجامة السادسة كيف جف الفرات عندما جاءت، من أفواه التنين والوحش والنبي الكذاب، ثلاث أرواح نجسة في هيئة ضفادع، هي أرواح شياطين صانعة للمعجزات تعمل على إعداد الملوك والمسيحيين لمعركة هرمجدون. وقد جسد البوق - في رأي نيوتن والكثير من معاصريه البروتستانت - صعود الإمبراطورية التركية للحكم، إلى جانب الساراسيين (الشرقيين) «الذين يمثلون النكبة الكبرى التي ابتلي بها العالم المسيحي خلال الألف عام المنصرمة». وكان الاستيلاء على القسطنطينية في عام 1453 هو إشارة ذبح القسم الثالث من البشر، فيما لم يكن أحد في حاجة للسؤال عن المقصودين باتهام النبوءة بالعبادة الكاذبة.
كان هذا التحليل المدهش والمبتكر بكل ما في الكلمة من معنى هو الشغل الشاغل لنيوتن في سبعينيات وثمانينيات القرن السابع عشر. فباستخدام أساليب مشابهة لمعاصريه البروتستانت المتشددين، قام بقلب كل من كان يعتبرهم المسيحيون التقليديون بكل طوائفهم وقناعاتهم أبطال وأشرار التاريخ رأسا على عقب. والحق أنه في نفس التوقيت الذي كان يؤلف فيه نيوتن كتاب «المبادئ الرياضية»، كان يعكف على كتابة تحليل مفصل وشامل للطريقة التي استوفى بها الكاثوليك - الذين كان يطلق عليهم «المشعوذون» و«السحرة» - شروط البوق السادس والجامة السادسة. ولم يكن الكثير من الأحداث التي كانت لتسبق البوق الأخير والجامة الأخيرة قد وقعت بعد، وكرر نيوتن التحذير الذي حواه عمله الفلسفي من أنه لم يكن ليغامر بإطلاق تخمينات غير موثوقة بشأن طبيعة أو توقيت الأحداث المستقبلية. ففي الواقع، كان نيوتن ينظر إلى أعماله كتحليل قائم على الملاحظة والأدلة لكيفية تحقق النبوءات على مر التاريخ. وفي بدايات القرن الثامن عشر، زحزح توقيتاته للأحداث المستقبلية العظيمة، معتقدا أنه لا بد من مضي فترة طويلة من الفساد قبل «المجيء الثاني».
هوامش
الفصل السابع
الكتاب المقدس
في أوائل يونيو 1679، توفيت والدة نيوتن إثر حمى أصابتها فيما يبدو، بينما كانت ترعى أخاه غير الشقيق بنجامين. وبعد أن انشغل نيوتن بأمر مرض والدته، وأعمال المزرعة لقرابة ستة أشهر - دون أن نتجاهل الساعات العديدة التي كان يقضيها يوميا في دراسة الموضوعات اللاهوتية - عاد إلى كامبريدج في نهاية نوفمبر. وفي اليوم اللاحق لعودته من وولسثروب، رد على خطاب من روبرت هوك؛ كانت فاعليات الضيافة العلمية المبتكرة قد توقفت تقريبا في اجتماعات الجمعية الملكية، حين التمس هوك - بصفته سكرتيرا لها - من نيوتن أن يرسل أي شيء «فلسفي» قد يخطر له. وفيما شكل أهمية بالغة لتطوير حركة نيوتن المدارية، سأل نيوتن عن رأيه في نظريته الخاصة بتحليل الحركات الكوكبية بواسطة مسار قصوري مقترن بقوة توجه جسما نحو مركز جسم جاذب.
وفي معرض رده، زعم نيوتن أنه لم يكرس قدرا كبيرا من التفكير للفلسفة لسنوات عدة «من منطلق تكريس نفسي لأمور أخرى»، ولكنه قدم «فكرة خيالية» صغيرة تتعلق بالحركة اليومية للأرض. فإذا سقط جسم على الأرض، فإن الدوران النهاري للأرض لن يؤدي إلى سقوط الجسم خلف النقطة التي تقع أسفله مباشرة («على عكس الرأي الشائع لدى العامة») ولكن نظرا لأن حركته من الغرب إلى الشرق تكون أكبر عند الارتفاع الذي أسقط منه من حركته عند المواضع الأقرب للأرض، فإنه يسقط «أمام» موضعه الأصلي (الجانب الشرقي). وإذا أسقط جسم من برج شاهق، فمن الممكن أن يتم إثبات الدوران النهاري بذلك، وعلى أساس الافتراض بأن الأرض لا تبذل أي مقاومة، رسم مخططا يفصل المسار الحلزوني للجسم نحو مركزه.
شكل 7-1: مسار نيوتن المقترح لجسم ساقط رأسيا من أعلى سطح الأرض. ويفترض بمسار الجسم أن يستمر إلى داخل سطح الأرض، إذ إن الأرض تدور حول نقطة المركز
C
عكس عقارب الساعة أي (BDG) .
رد هوك أنه بحسب افتراضه للحركة القصورية إلى جانب الجذب الموجه مركزيا، فإن جسما كالذي وصفه نيوتن من شأنه أن يكون شكل قطع ناقص بدلا من شكل حلزوني. وهذا الجسم سوف يتحرك للأبد وفقا للمنحنى
AFG
فيما عدا في المواضع التي يواجه فيها مقاومة ليسقط في موضع أقرب لمركز الأرض. هذا التعليق المتبصر - الذي أعلن عنه في أحد مؤلفات هوك الأولى - دفع المؤرخين إلى الشعور بأن هوك يستحق الإشادة أكثر بكثير من نيوتن، وسلم المعلقون اللاحقون برأيه في صياغة العناصر الأساسية للحركة المدارية؛ غير أنه يظل صحيحا أنه لم يستطع قط أن يبين كيف نتجت حركة القطع الناقص للأجسام الدوارة من مبادئه الفيزيائية.
وفي ظل عجزه المعتاد عن تحمل فكرة التعديل عليه، رد نيوتن مفترضا مرة أخرى عدم وجود مقاومة، بأن الشكل لن يكون قطعا ناقصا، بل إن الجسم سوف «يدور في حركة متناوبة بين الصعود والهبوط ناتجة عن «قوته الطاردة» وجاذبيته، واللتين تفقد كل منهما توازن الأخرى بالتناوب». وتظهر إجابة نيوتن مدى ابتعاده عن تحليل الحركات السماوية التي تبناها بعد ذلك بسبع سنوات في كتاب «المبادئ الرياضية»، ولكنه ألمح أيضا إلى طريقة أكثر تعقيدا بكثير للتعامل مع المشكلة وفقا لعناصر مستمرة ومتناهية الصغر للقوة الجاذبة. إضافة إلى ذلك، فقد أشار ضمنا إلى أنه استطاع التعامل مع قوة جاذبية لم تظل ثابتة، ولكنها تغيرت من المركز إلى الخارج.
شكل 7-2: ذهب هوك بدوره إلى أن الجسم الذي وصفه نيوتن سوف يدور في المدار الناقص
AFGHA ، ما لم يواجه بعض المقاومة، وفي تلك الحالة سوف يهبط بالقرب من مركز الأرض.
شكل 7-3: رد نيوتن، مع ملاحظة أن الجاذبية و«القوة الطاردة» تفوق إحداهما الأخرى بالتناوب.
عاود هوك الكتابة له مجددا، مفصحا تلك المرة عن أنه قد افترض أن الجاذبية كانت دائما تتناسب عكسيا مع مربع المسافة من مركز الجاذبية. وقال إن ما تبقى الآن من المفترض أن يبين ماهية المسار الذي يشكله جسم منجذب مركزيا بواسطة جسم معين وفقا لقوة تتناسب عكسيا مع مربع المسافات بينهما. وبعد أن عرض على نيوتن التنويه بالغ الأهمية الخاص بديناميكيات جديدة للقصور الذاتي مستقيم الخطوط والجذب المركزي، طرح هوك مسألة وثيقة الصلة بالموضوع (كان قد ناقشها في لندن من قبل رين وهوك على مدار عدد من السنوات) تتعلق بكيفية ربط قانون التربيع العكسي بمدار كوكبي؛ والمعروف من قانون كبلر الأول بكونه قطعا ناقصا. فأخبر نيوتن أنه لا يساوره أي شك في «أنك سوف تكتشف بسهولة ما ينبغي أن تكون عليه ماهية هذا المنحنى، وخواصه، وتقترح سببا فيزيائيا لهذا التناسب». وعلى الرغم من إنكاره اللاحق لقدرات هوك، ورفضه استمرار المراسلات لأكثر من ذلك، فقد اعترف نيوتن فيما بعد لإدموند هالي أن هذا الحوار قد دفعه للتفكير مجددا بشأن حركة الأجسام السماوية. والواقع أنه من المرجح أن يكون هذا هو الوقت الذي استخدم فيه نيوتن قانون كبلر الثاني على نحو جدي لإظهار أن أي جسم على مدار على شكل قطع ناقص إنما يخضع لقانون التربيع العكسي للجاذبية.
ثمة مراسلات أخرى، ولكن تلك المرة مع أول فلكي ملكي، جون فلامستيد، كانت على نفس القدر من الأهمية في تطور فكر نيوتن بشأن الحركات السماوية . ففي أوائل نوفمبر من عام 1680، ظهر مذنب لامع ومخيف بالنسبة لكثيرين، (والذي يعرف بالمذنب الكبير) ظهورا واضحا للفلكيين، فيما ظهر آخر في الشهر التالي. وجزئيا بسبب عدم ظهور المذنبات كثيرا لم يكن وضعها ومداراتها واضحين للمعاصرين. فذهب ديكارت إلى أنها شموس مستنفدة القوى، فيما اعتقد معظم الفلكيين أنها تتحرك في خطوط مستقيمة. غير أنه في 15 ديسمبر، أخبر فلامستيد نيوتن أنه قد تنبأ بأن مذنب نوفمبر سوف يعاود الظهور، وأنه رآه مجددا بعد البحث عنه قبل بضعة أيام. وبعد ذلك بفترة وجيزة، أخبر فلامستيد إدموند هالي عن اعتقاده بأن الشمس قد جذبت المذنب - الذي هو كوكب ميت - داخل دوامتها. وذهب إلى أن المذنب قد استدار «أمام الشمس» من مساره الأصلي المتجه جنوبا بواسطة قوة جذب القطب الشمالي للشمس، ولكنه تحرك أيضا إلى الجانبين بفعل دوران الدوامة الشمسية (من
e
إلى
g
في الشكل
7-4 ). واستمرت الشمس في جذب المذنب لمركزها، ولكن في الوقت نفسه كانت الدوامة التي تتحرك عكس عقارب الساعة تغير باستمرار من مسار المذنب. وعندما أصبح أقرب ما يمكن للشمس (عند النقطة (C) ، التوى بفعل الدوامة بما يكفي، إلى حد أنه وجه «جانبه» المعاكس للشمس، وتحولت القوة الجاذبة إلى قوة طاردة. وذهب إلى أن الذيل قد نتج بفعل تسخين الشمس للأجزاء الرطبة من الغلاف الجوي.
ولما انبهر نيوتن بالمذنب، راح يراقبه من يوم 12 ديسمبر 1680 حتى اختفائه في أوائل مارس 1681، مستخدما مزيدا من التلسكوبات القوية مع اضمحلال الجسم. ولعدم قدرته على تقبل فكرة أن المذنبين واحد، أبدى بعض الانتقادات التي تنم عن فهم عميق لآراء فلامستيد في نهاية فبراير. وعلق نيوتن أنه بالرغم من أنه قد استطاع تخيل استمرار الشمس في جذب المذنب لتجعله ينحرف عن مساره الأصلي، فإنها لم تكن لتجذب المذنب مطلقا بما يجعل مصيره الانجذاب مباشرة في اتجاه الشمس. إضافة إلى ذلك، لم تكن الدوامة الشمسية لتفعل شيئا سوى جذب المذنب بعيدا عن الشمس فقط. ولكن حتى لو استدار مذنب واحد أمام الشمس، لم يكن ليعود في المسار الذي رآه الفلكيون . إلى جانب ذلك، وعلى فرض أن مذنبي نوفمبر وديسمبر واحد، فقد نشأت مشكلة أخرى بشأن الفترة الزمنية الكبيرة التي انقضت بين آخر مشاهدة لأول ظهور له وبين المشاهدة الأولى لظهور الثاني.
شكل 7-4: المسار الذي اقترحه فلامستيد لمذنب الشتاء 1680-1681. يبدأ هذا المسار عند النقطة β أسفل يمين الصورة، ويطرد أمام الشمس عند النقطة
C .
1
كان الحل الوحيد لهذه المشكلات - حسبما اقترح نيوتن - هو تخيل أن المذنب قد استدار «على الجانب الآخر للشمس»؛ إلا أن الآلية الفيزيائية لذلك لم تكن واضحة حينئذ. تقبل نيوتن فكرة أن الشمس بذلت قوة جاذبة مركزيا أبعدت الكواكب عن الخط المستقيم الذي كانت ستتخذه لولاها، ولكنها لا يمكن أن تكون قوة مغناطيسية؛ نظرا لأن أحجار المغناطيس الساخنة (المغناطيسات الطبيعية) تفقد قوتها. والأهم أنه حتى لو كانت قوة الشمس الجاذبة تشبه المغناطيس، وكان المذنب أشبه بقطعة من الحديد، فإن فلامستيد لم يشرح كيف للشمس أن تتحول فجأة من الجذب إلى الطرد.
شكل 7-5: على الرغم من أن نيوتن كان لا يزال يعتقد أن مذنبي نوفمبر وديسمبر عام 1680 مختلفان، فإن مخططه البسيط والمبتكر في الوقت نفسه يعرض مسارا محتملا لمذنب واحد خلف الشمس.
قدم الشرح المغناطيسي التفسير الأمثل لتأثير الشمس على الكواكب لما يقرب من قرن. وكان رفض نيوتن الكامل له - والقائم على فهم لطبيعة المغناطيسات يعود أصله إلى مفكرته «الأسئلة الفلسفية» - بالغا. ففي خطاب آخر، أشار إلى أن القوة «التوجيهية» للمغناطيس كانت أقوى من قوته «الجاذبة»، ومن ثم فبمجرد أن يصبح جسم ما في موضع يؤهله للانجذاب بواسطة مغناطيس، فإنه يظل دائما في هذا الموضع ومن ثم يظل منجذبا دائما. وما أن تجذب الشمس المذنب، لا تبعده أبدا، إلى جانب أنه حتى إذا وقع تأثير قوة مغناطيسية طاردة، كانت ستبعد المذنب في وقت ما «قبل» الحضيض الشمسي (عند النقطة
K
في الشكل
7-5 ). وكان المذنب سيكمل رحلته، مسرعا بعيدا بسرعة عن الشمس على جانبه الآخر.
كان رفض نيوتن للقوة المغناطيسية الطاردة - كالمعتاد - جديدا ومبتكرا إلى حد هائل. فلو كان المذنب خاضعا فقط لقوة جاذبة متواصلة، لخفف ذلك من سرعة المذنب عند مغادرته للشمس، وجعل المذنب يسير عبر مدار قريب من ذلك المدار المرصود. وربما لم يكن نيوتن قد رأى أن الحل الخاص بوجود مذنب واحد، يستخدم قوة جاذبة فقط، هو حل عملي إلا في هذه المرحلة. غير أنه في خطاب إلى فلامستيد، مستخدما نفس المصطلح الذي ذكره في خطابه إلى هوك، ذهب نيوتن إلى أن «القوة الطاردة» قد «تفوقت» على قوة الجذب عند نقطة الحضيض الشمسي، مما أتاح للمذنب الابتعاد عن الشمس رغم وجود قوة الجذب. وعلى الرغم من أن نيوتن قد تخلى عن هذا المفهوم الخاص بالقوة الطاردة باعتبارها الميل (أو المعيار) للجسم الدوار للابتعاد عن الجسم الجاذب، فقد كان مفهوم الجذب المتواصل حجر الزاوية للديناميكيات الأكثر نضجا لكتاب «المبادئ الرياضية». فقد كان آنذاك على وشك إدراك كيفية التعامل مع المذنبات كأي أجرام سماوية أخرى؛ ولكن كان لا يزال يفصله عن ذلك ثلاث سنوات.
حركة الأجسام الدوارة
حين زار إدموند هالي كامبريدج لرؤية نيوتن في أغسطس 1684، كان ذلك نتاجا للمناقشات التي دارت في لندن فيما بين العلماء لفترة من الوقت حول الحركات السماوية. وعندما سأله هالي - وفقا لما ذكره نيوتن - عن شكل المنحنى الذي سينتج من قانون التربيع العكسي للقوة، أجاب نيوتن على الفور بأنه قدر أنه سيكون قطعا ناقصا. غير أن نيوتن عندما بحث عن إثبات لذلك لم يجده، واضطر هالي للانتظار حتى نوفمبر، عندما تلقى أطروحة رياضية قصيرة بعنوان «عن حركة الأجسام في الفلك». كان الكون الموضح في أطروحة «حركة الأجسام» عبارة عن منظومة مجردة للأجسام المتحركة تتبع قوانين رياضية معينة. وابتكر نيوتن مصطلح «قوة الجذب المركزي» لوصف القوى الجاذبة مركزيا التي تعمل ضمن منظومته تلك، وعرف تلك القوة التي «يسعى بها أي جسم للاستمرار في حركته عبر خط مستقيم» بأنها «قوة فطرية». وبربطه بزعم آخر بأن الأجسام تستمر في التحرك بلا نهاية عبر خط مستقيم ما لم يؤثر عليها شيء، كان هذا هو الأساس لقانون الحركة الأول في كتاب «المبادئ الرياضية». وتحت عنوان «الفرضية 3» وصف أيضا نسخة أولية من قاعدة «متوازي أضلاع القوى» والتي أصبحت في النهاية قانون الحركة الثاني في كتاب «المبادئ الرياضية».
كانت إحدى ركائز تحليله إثباته لقانون كبلر الثاني في «النظرية رقم 1» من أطروحة «حركة الأجسام»، وهو القانون الذي تقطع بموجبه الأجسام مساحات متساوية في أزمنة متساوية، والذي ينطبق على جميع الأجسام التي تدور حول مركز إحدى القوى. قسم هذا التحليل المساحة الناتجة عن الحركة الدوارة إلى عناصر متناهية الصغر، مع ملاحظة أن الجسم الدوار يتعرض في كل لحظة ل «دفعات» تغير اتجاه الجسم بقدر متناهي الصغر وتكون سلسلة من المثلثات متناهية الصغر لكل منها نفس المساحة. غير أن النظريتين 2 و3 لم تتعاملا مع الدفعات، وإنما مع قوى متواصلة، أمكن التعامل معها في النهاية في إطار معادلة العجلة المتواصلة (المنتظمة) التي اكتشفها جاليليو. وقد استمر هذا النزاع بين هذين الحسابين المختلفين للقوة، إحداهما «دفعية» تقاس بضرب الكتلة في السرعة ( = الزخم)، والأخرى «متواصلة» تقاس بضرب الكتلة في العجلة ، في كتاب «المبادئ الرياضية».
شكل 7-6: إثبات نيوتن (في كتاب «المبادئ الرياضية»، الكتاب الأول، الفرضية رقم 1) لقانون كبلر الثاني. إن الجسم الذي يدور عبر المسار
ABCDEF ، والذي ينجذب بواسطة قوة جذب مركزي في اتجاه النقطة
S ، يمكن الاعتقاد بأنه يتعرض في لحظات متساوية من الزمن إلى «قوة دفع واحد ولكنه شديد»، عند النقاط
B ،
C ،
D ، إلخ على التوالي. والمسافة بين هذه النقاط يمكن أن تصبح صغيرة بشكل لا متناه بحيث يصبح المدار منحنى. ولما كانت النقاط
SAB ، و
SBC ، إلخ، مثلثات متساوية، فإن الجسم سوف يقطع مساحات متساوية في أزمنة متساوية.
أظهرت النظرية رقم 3 أن الأجسام الدوارة تخضع لقوة تربيع عكسي، ومضى نيوتن نحو إثبات أن الكواكب تنتمي لمثل هذه الأجسام، إذ تدور حول الشمس وفقا للقوانين المحددة في هذه الأطروحة. وأثبت تحت عنوان «الإشكالية 3» على نحو بالغ الأهمية أن أحد قوانين التربيع عكسي يحكم مسار الأجسام التي تتحرك في مدارات قطع ناقص. إلى جانب ذلك، كانت تلك هي المرة الأولى التي تدمج فيها المذنبات ضمن منظومة عالمية للفلسفة الطبيعية الرياضية، وذهب إلى أنه يمكن حتى من خلال التحليل الدقيق تحديد ما إذا كانت دورية (بمعنى أن لها مدارات قطع ناقص، ومن ثم كانت تعود على فترات منتظمة). وتحت عنوان «الفرضية رقم 1»، أشار إلى أن الأجسام في منظومته كانت تتحرك عبر أوساط غير مقاومة، وإن لم يضف أي مادة عن الحركة في وسط مقاوم في نموذج «الإشكالية» رقم 6 و7.
وتظهر مراسلات رائعة مع فلامستيد على مدار شتاء 1684-1685 أن نيوتن كان يحاول بالفعل ربط تحليله برؤية أدق للحركات الفعلية للكواكب وأقمارها، وكذلك حركات المذنبات، وأنه كان يختبر مدى دقة قانون كبلر الثالث. وكان فلامستيد الذي قرأ أطروحة «حركة الأجسام»، يعي أن أطروحة نيوتن الصادرة في نوفمبر تشير ضمنا إلى أن الكواكب يمكن معاملتها كأجسام جاذبة مركزيا، شأنها شأن الشمس. وفي غضون ذلك ذهب نيوتن لأبعد من هذا، مفترضا أنه لو كان كوكب المشتري يحكم حركات أقماره، فإنه بذلك يكون له تأثير أيضا على الكواكب الأخرى، والعكس بالعكس. وطلب بيانات تتعلق ب «تأثير» المشتري على كوكب زحل في خطاب أرسله في ديسمبر 1684، إلا أن فلامستيد - الذي كان لا يزال يعتقد أن أي قوة من هذا النوع لا بد أن تكون مغناطيسية - رفض الإذعان لفكرة أن الكواكب تستطيع التأثير أحدها على الآخر لمثل هذه المسافات الطويلة.
شكل 7-7: المخطط المرافق لكتاب «المبادئ الرياضية»، الكتاب الأول، الفرضية رقم 11، الإشكالية رقم 6، والذي يثبت فيه نيوتن أن الجسم
، الذي يدور في قطع ناقص حول البؤرة
S ، معرض لقوة جذب مركزي تتناسب عكسيا مع مربع المسافة
SP .
حين ألف نيوتن نسخة منقحة لأطروحة «حركة الأجسام» في أوائل عام 1685، كانت «الفرضيات» قد رفعت لمرتبة «القوانين». وعلى الرغم من أنه كان لا يزال بعيدا بعض الشيء عن نظريته للجذب العام، كان نيوتن آنذاك قد أطلق الادعاء الثوري بأنه نظرا لتقلبات التفاعلات الكوكبية المتبادلة العديدة، فإن مركز ثقل النظام الشمسي لم يكن دائما في نفس موضع الشمس، ومن ثم كانت مدارات الكواكب غير منتظمة دائما، أو لم تكن في شكل القطوع الناقصة الكبلرية. فقد كانت المدارات الكوكبية، التي ظلت لقرون نماذج للكمال الثابت الذي لا يتغير، في الواقع، تمر بتغيرات دقيقة باستمرار. وعلق نيوتن بأن العقل البشري كان عاجزا عن التعامل مع تعقيد الحركات الحقيقية، ولكن في معظم الأحيان أمكن التعامل مع المدارات الكوكبية كمدارات قطع ناقص. وذهب فيما بعد إلى أن استقرار مثل هذه المنظومة يمكن إرجاع الفضل فيه فقط ليد خالق إلهي. وعند هذه المرحلة، قدم نيوتن أيضا حجة كان لها بالغ الأهمية لمنهجه في كتاب «المبادئ الرياضية» فيما بعد، تحديدا أنه بما أن المذنبات لم تتعرض لأي نقصان ظاهر في أذنابها، فإنه لم يكن يوجد شيء بالفعل في الفراغات الحرة للأكوان ليقاوم مساراتها. كذلك بدأ نيوتن في التفكير فيما إذا كان للأثير الغاية في الرقة الذي لا يظهر أي مقاومة وجود «من الأساس».
ثمة تغير هائل في تحليله للطريقة التي تغير بها أية قوة جسما متحركا أتاح له أن يعيد تقديم مفهوم معمم للقصور الذاتي، والذي ينص تحديدا على أن أي جسم يظل على حالته الحالية من الحركة أو السكون «واللتين ترتبطان بماهية النظام الذي اختير كإطار مرجعي». وأعقب ذلك رؤى مهمة وثورية. فأعلن نيوتن، متسلحا بالمفهوم النسبي للقصور الذاتي، في مجموعة جديدة من «التعريفات» (كتبت بعد مراجعة «حركة الأجسام») أن الحركة الدائرية المنتظمة حول مصدر جاذب مركزيا لم تكن نموذجا للحركة القصورية البسيطة، ولكنها في الحقيقة كانت نتاج اتحاد سرعة الجسم وقوة جاذبة باستمرار دفعتها للانحراف عن المسار الذي كانت لتتخذه لولا ذلك.
أثارت المضامين النسبية لمفهوم القصور الذاتي السؤال الشائك المتعلق بما إذا كان من الممكن اكتشاف حركة مطلقة، وهي مشكلة تعود إلى التحليل الذي أورده في أطروحته «الجاذبية». فمن خلال إدراكه للتبعات اللاهوتية والعلمية للمشكلة، أيد نيوتن بقوة - في إضافة أضافها للتعريفات - فكرة وجود فراغ مطلق مستقل عن الأشياء التي بداخله «إذ إن جميع الظواهر تعتمد على كميات مطلقة». وكما رأينا في ملاحظاته لبيرنيت، فقد كان يؤمن بأن الأشخاص العاديين يعرفون العالم بمصطلحات نسبية، وأن مخاطبة الأنبياء لهم بتلك اللغة كانت صحيحة وضرورية. وفي الإضافة التي أضافها للنسخة المنقحة من أطروحة «حركة الأجسام»، أشار نيوتن إلى أن «الأشخاص العاديين الذين يخفقون في استخلاص فكرة من مظاهر ملموسة دائما ما يتحدثون عن الكميات النسبية بإفراط، حتى أنه كان ليصبح من السخف أن يتحدث إليهم الحكماء أو حتى الأنبياء بلغة أخرى». ودون الإشارة إلى اللاهوت، شقت هذه الرؤية المهمة طريقها إلى كتاب «المبادئ الرياضية»، حيث قيل إن العامة يقدرون الكميات فقط في إطار ارتباطها ب «أشياء ملموسة». غير أن نيوتن أردف قائلا إن: «في المناقشات الفلسفية، علينا أن نبتعد عن حواسنا، ونفكر في الأشياء نفسها بمعزل عن اعتبار المقاييس الملموسة لها فقط.» على الرغم من ذلك، فقد اتضح في النهاية أن جهود نيوتن التي بذلها لتوضيح أن المرء بإمكانه اكتشاف إطار مرجعي «مطلق» يتميز عن أية أطر مرجعية أخرى؛ ما هي إلا جهود وهمية.
في نفس المسودة، أضاف نيوتن ستة «قوانين للحركة»، نص ثالثها على أن «كل قوة يسلطها جسم على آخر يقابلها رد فعل مساو لها في المقدار». وقد أقام هذا القانون في الواقع علاقة تساو بين القوة التي «يقاوم» بها أي جسم تحريكه (والتي أصبحت بعد ذلك «القوة الطبيعية للمادة» التي وصفت في التعريف رقم 3 من كتاب «المبادئ الرياضية») والقوة «المبذولة» التي تقع على أي جسم، سواء على نحو متواصل أو على دفعات. وكانت تلك نسخة أولية من قانون الحركة الثالث الوارد في كتاب «المبادئ الرياضية»، وقد منحته - بالتعاون مع نظريته عن الكتلة - الأدوات التي أتاحت له تعميم مفهوم قوة الجذب المركزي على جميع الأجسام في الكون.
وضع نيوتن آنذاك تعريفا أدق بكثير لكمية «كتلة» المادة، والتي أكد في البداية أنها «مساوية في الغالب» لثقلها. وفي مراجعة «للتعريفات» التي كتبت في ربيع أو صيف 1685، عرف نيوتن «كمية المادة»، (أو «الكتلة»)، كمادة أساسية وغير متمايزة، من ثم فإن أي جسم له «ضعف الكثافة وضعف المساحة» يصبح له أربعة أضعاف كمية الكتلة. ولعل الأهم على الإطلاق أن التحليل الجديد اشترط أن تكون كل المادة الأساسية متطابقة بالضرورة، وحيثما لا توجد أي مادة لا يوجد أي شيء على الإطلاق. وفي الكتاب الثالث، الفرضية 6 من النسخة النهائية من كتاب «المبادئ الرياضية» (1687)، ربط نيوتن على نحو غير صريح بين المفهوم الرياضي «للكتلة» وبين تحليله الخيميائي من خلال تقديم «الفرضية 3» والتي أكد فيها أنه نظرا لأن اللبنات الأساسية للمادة جميعها واحدة، فإن جميع أشكال المادة يمكن من حيث المبدأ «تحويلها» إحداها إلى الأخرى.
النيوتنيون القدماء
بحلول نوفمبر من عام 1685، كان نيوتن قد انتهى من مسودة لكتاب «المبادئ الرياضية» جاءت أيضا بعنوان «عن حركة الأجسام في الفلك»، وتألفت من كتابين، ما يسمى «محاضرات عن الحركة»، و«عن نظام العالم». وعمل كتاب «محاضرات عن الحركة» على توسيع نطاق البراهين التي وردت في النماذج الأولى لأطروحة «حركة الأجسام» (ومراجعاتها)، وحاول نيوتن أن يتعامل مع الإشكاليات العسيرة المتعلقة بدراسة التفاعلات المتبادلة القائمة بين أكثر من جسمين.
وعلى مدار شتاء 1685-1686، عمل نيوتن على توسيع كتاب «محاضرات عن الحركة» بتعزيز تحليله لحركات جسم تابع (جسم مجرد ولكنه يحمل خواص مطابقة تقريبا لخواص القمر) واقع تحت تأثير جسمين أو أكثر (مرة أخرى مجردين، ولكنهما يشيران بوضوح إلى الأرض والشمس)، وأضاف فرضية بارعة (هي الفرضية 39) والتي أشارت جليا لدرايته بحساب التفاضل والتكامل. ولا شك أن هذا قد جاء إلى حد ما لتأكيد استقلاليته في تطوير حساب التفاضل والتكامل عن عمل لايبنتز، الذي نشر مسلماته وبديهياته الأساسية لأول مرة في عام 1684. وفي أوائل عام 1686، وسع نيوتن نطاق معالجته للحركات في أوساط مقاومة، وهو التحليل الذي اتسع نطاقه للغاية لدرجة أنه قسمه ليكون نصا أصبح فيما بعد الكتاب الثاني من كتاب «المبادئ الرياضية». فيما أصبح الجزء الأول الذي كان عبارة عن تحليل للحركات في أوساط غير مقاومة، هو الكتاب الأول. وفي النسخة النهائية من الكتاب الثاني، أضاف نيوتن مادة أكثر تعقيدا عن الضغط واللزوجة، قائلا إن وجود الدوامات الديكارتية مستحيل فيزيائيا.
بدأ نيوتن الكتاب الثاني من عمله الصادر عام 1685، والذي ألفه بعنوان «الكون»، بإشارة إلى الفلسفة والفلك اللذين شكلا أساسا لأعمال أفلاطون، وفيثاغورس، والملك الروماني نوما بومبيليوس. فقد قام نوما «بتشييد معبد مستدير تكريما للإلهة فيستا، وأمر بوضع شعلة دائمة من النار في منتصفه» كرمز لشكل العالم الذي تقع الشمس في منتصفه. وكان نيوتن في مجادلته بأنه كان هناك معرفة بالعالم الطبيعي ولكنها أصبحت مفقودة، يحذو حذو غالبية معاصريه. ففي أطروحة ضخمة ترجع لمنتصف ثمانينيات القرن السابع عشر («الأصول الفلسفية للاهوت الوثني»)، ذهب نيوتن إلى أن القدماء كانوا يؤمنون بوجود كون شمسي المركز، ولكن هذه العقيدة فسدت وانحرفت بسبب سوء التأويل. وفيما كان فيثاغورس وآخرون يحملون فهما صحيحا للمعنى الحقيقي للتمثيلات الرمزية لكون شمسي المركز، أحيطت فيه الشمس التي تقع في المركز بمدارات كوكبية متحدة المركز، كان الإغريق أمثال أرسطو يعتقدون أن الجسم المركزي في مثل هذه المنظومة هو الأرض.
وعن طريق أورفيوس وفيثاغورس، تلقى الإغريق فهمهم للعالم الطبيعي في الأصل من الإثيوبيين والمصريين، الذين أخفوا تلك الحقائق عن العامة. وفي هذه الفترة، كانت هناك فلسفة «مقدسة» - لم تكن تنقل إلا لخبراء المجال - وفلسفة «عادية» كان يصرح بها علنا للعامة. فقد قام المصريون:
بوضع الكواكب في الترتيب [الصحيح] بواسطة النغمات الموسيقية؛ وعلى سبيل السخرية من العامة، قاس فيثاغورس المسافات بين أحدها والآخر، والمسافة بينها وبين الأرض، بالطريقة نفسها بواسطة النسب التوافقية في النغمات وأنصاف النغمات - والأكثر عبثا - بواسطة موسيقى الأفلاك.
وفي أطروحة «الكون»، كرر نيوتن نظرية أن المصريين قد عرفوا أن المذنبات كانت عبارة عن ظواهر سماوية، شأنهم في ذلك شأن الكلدانيين، ويمكن التعامل معها وكأنها نوع من الكواكب.
بنى المصريون معابد على شكل النظام الشمسي، واشتقوا أسماء آلهتهم من ترتيب الكواكب. كذلك كانت الديانة القديمة قائمة على فهم السماء، وكان نيوتن يشير بشكل عارض إلى «اللاهوت الفلكي» للقدماء. فإذا أضيفت الكواكب السبعة المعلومة (بما فيها القمر) إلى العناصر الخمسة - الهواء، والماء، والتراب، والنار، والجوهر السماوي - نكون قد توصلنا إلى الآلهة الأساسية الاثنتى عشرة التي كانت مألوفة لجميع الديانات القديمة. فكان نوح هو زحل وجانوس، وكان له ثلاثة أبناء. وقد حذا نيوتن حذو المؤرخين الآخرين في تبني منهج «يوهيميري» والذي اعتبر من خلاله أن الأساطير الوثنية تشير إلى أشخاص حقيقيين قامت الأمم المختلفة بتأليههم تحت أسماء مختلفة. وقد شملت الأدلة على ذلك تشابه الأسماء، لا سيما حقيقة أن أوصاف شخصياتهم وأفعالهم كانت متطابقة بوضوح.
وهكذا كان الجزء الأول من أطروحة «الكون» فرعا لمشروع أكبر بكثير كان العمل جاريا به في الوقت الذي كان يكتب فيه، وتطورت جهود نيوتن الضخمة لتحديد «تلميحات» للفلسفة الحقيقية في الكتابات القديمة بطرق عديدة مختلفة على مدار العقود اللاحقة. ففي عمل صدر بعد ذلك بفترة وجيزة بعنوان «أصل الديانات» - على سبيل المثال - أكد أن قدماء الصينيين، والدانماركيين، والهنود، واللاتينيين، والعبرانيين، واليونانيين، والمصريين، كانوا جميعا يتعبدون وفقا لنفس الممارسات والعادات، فيما كان ستونهنج في إنجلترا يعد معبدا فيستاويا آخر بوضوح. وأضاف نيوتن أن ما من شيء يمكن أن يكون أكثر «عقلانية» من هذا الجانب من الدين: فلم يكن هناك طريقة «خلاف الوحي للوصول إلى معرفة الرب إلا من خلال إطار الطبيعة». وقد استطاع متسلحا بمعرفة الفلسفة الحقيقية أن يسترد الفلسفة المقدسة التي كانت «محجوبة»، فيما كان هذا بدوره بمنزلة ضمان لصحة وصفه للعالم. ومثلما كانت أعماله اللاهوتية تهدف إلى استعادة الدين الحقيقي، كان دائما ما يؤمن بأن أعماله العلمية كانت في الأساس محاولة لاستعادة معرفة مفقودة.
كتاب «المبادئ الرياضية»
بينما كان كتاب «محاضرات عن الحركة» يتعامل مع منظومة رياضية مجردة، تعاملت بقية أطروحة «الكون» مع بيانات ومعلومات عن المد والجزر (استخلصت من فلامستيد في مراسلاتهما في خريف 1685)، وتجارب البندول، والقمر الحقيقي، وظواهر أخرى من العالم الواقعي. ومن خلال مقارنة تلك الظواهر بالعالم الرياضي حسبما وصف في كتاب «محاضرات عن الحركة»، استطاع نيوتن أن يؤكد أن القوانين التي تسري في العالم المجرد تحكم أيضا الظواهر التي تحدث في عالمنا. غير أنه في تلك المرحلة لم يتوفر لديه بيان كاف عن المذنبات من أجل الكتاب الثاني، وعمل بكد على مدار شتاء عام 1685-1686 لتقديم هذا البيان.
اكتمل الجزء الأخير من كتاب «المبادئ الرياضية»، الكتاب الثالث، في بدايات عام 1687، وتناول النظام الفعلي للعالم. فأثبت نيوتن - من خلال مبادئ أساسية ومن خلال معلومات فلكية وفيزيائية - أن الأرض مسطحة عند القطبين (أي كانت كروية مفلطحة). وأخيرا أوضح كيف تمكنت فيزياؤه من تفسير حركة المذنبات، والتي يمكن التعامل مع مدارتها كقطوع مكافئة قريبة من الشمس والتحقق منها من خلال قياسات دقيقة، على الرغم من أن البحث عن مظاهر جزئية للمذنبات لها لمحات مشابهة ربما يظهر أنها دورية ومن ثم قطوع ناقصة. وقد أدرج نيوتن بعض الفقرات الرائعة عن وظيفة المذنبات. فمع اقتراب هذه المذنبات من الشمس، كانت أذنابها تتجدد بواسطة مادة شمسية، تقوم بدورها بتجديد السوائل التي تمنح البقاء للأشياء الحية كلما مر الكوكب عبر الأذناب. وأضاف نيوتن أن أنقى جزء من الهواء - والذي يدعم الحياة بأكملها على الأرض - يأتي أيضا من المذنبات. ومن الواضح أن هذا كان نسخة ممتدة من النظام الدوري الأرضي الموصوف في أعماله الخيميائية الفلسفية في سبعينيات القرن السابع عشر.
عند ظهور كتاب «المبادئ الرياضية» في عام 1687، كان بمنزلة إعلان جريء لعقيدة أثرت على ممارسة العلوم على مدى القرون الثلاثة اللاحقة. فقد نبذت الفرضيات، وأضحت التجارب جيدة التصميم هي الأساس للقوانين الرياضية العامة. وصارت تلك القوانين أقل ما يمكن من حيث العدد، وصار مفترضا أنها صحيحة في كل مكان، ما لم يكن بالإمكان العثور على أدلة مضادة. وكان المجد المفاهيمي المتوج لهذه القوانين هو قانون الجاذبية الكونية، الذي اعتبر أن الأجسام الضخمة يجذب أحدها الآخر وفقا لثابت جذب ، مضروبا في ناتج الكتل ومقسوما على مربع المسافة بينها . وقد أصبحت التداعيات الخطيرة لهذا العمل، والتي أثرت في العصر كله، أكثر وضوحا آنذاك: فلم يعد من الممكن تمييز الأجرام الكوكبية الضخمة بوصفها الحاملات الوحيدة لقوة الجذب المركزي، إذ إن قانون الحركة الثالث ينص على أن جميع الأجسام الضخمة تبذل مثل هذه القوة. وكان الاستنتاج المذهل أن كل جسم ضخم في الكون يجذب كل جسم آخر. وقد أثار هذا مشكلات ضخمة لنيوتن ومعاصريه. فما المقصود بالجذب؟ وكيف يمكن بذله - على سبيل المثال - من أحد طرفي الكون إلى الآخر؟ وعبر أي نوع من الأوساط يعمل؟
قبيل إرسال الأجزاء الأخيرة من الكتاب إلى لندن، ألف نيوتن «خاتمة» رائعة للعمل، ووعد فيها بتوسيع نطاق تحليله في كتاب «المبادئ الرياضية» ليشمل جميع الظواهر الأرضية الأخرى. واستنادا إلى الطريقة التي استخدم بها قانون الجاذبية الكونية لشرح الظواهر الكبيرة، ذهب إلى أن القوى قصيرة المدى يجب الاستدلال بها لتفسير الحركات الموضعية الأخرى التي «لا تحصى» والتي لا يمكن كشفها على أساس حجمها، ولكنها تقف وراء مجموعة كبيرة من الظواهر الأرضية، مثل الكهرباء، والمغناطيسية، والحرارة، والتخمر، والتحولات الكيميائية، ونمو الحيوانات.
وكما فعل بالنسبة للحركات السماوية في الكتاب الثاني، تخلى نيوتن بالكامل عن الأثير الذي خدمه بإخلاص في أشكال عديدة على مدار العقدين السابقين، فيما يتعلق بالظواهر الأرضية. واقترح ببساطة استخدام ما أطلق عليه قوى الجذب والطرد بدلا منه، واستعان بالحديث الشائع ليقول إن مصطلح «الجذب» كان يستخدم على نحو تقليدي لوصف أي قوة تجعل الجسيمات «يهرع نحو أحدها الآخر». هذه القوى - على مدى قصير - كانت جاذبة، وهي تفسر خواص «التكثف» التي أشار إليها في أعماله الخيميائية والفلسفية السابقة. أما على مدى أبعد، كانت القوى طاردة، وهو ما يفسر ظواهر التوتر السطحي (كالذباب الذي يسير على الماء)، والتي فسرت بواسطة الأثير في «الفرضية». غير أن ادعاء نيوتن بأنه قد يكون هناك عدد من مثل هذه القوى يضع عبئا على مطالبته بضرورة أن يتبنى الفلاسفة حدا أدنى من المبادئ العامة.
أضاف نيوتن أنه قد ذكر هذه القوى فقط كحافز لإجراء مزيد من التجارب، ولكنه بعد ذلك قدم افتراضا قام على نظريته بأن الجوهر الأساسي للمادة واحد. فلما كان معظم الفراغ شاغرا، فإن القوى التي أتاحت للأجسام التماسك معا سوف تجعلها تندمج في أشكال منتظمة «شبيهة بتلك الأشكال التي يتم تكوينها بالفن، كما في تكوين أشكال من الثلوج والملح». وعلى المستوى الداخلي، سيكون هناك أشكال أشبه بالشبكة تتكون عن طريق قضبان هندسية مرنة وطويلة للغاية، وهي حقيقة فسرت كيف يمكن لبعض الأجسام أن تسخن بمزيد من السهولة أو تتيح لمزيد من الضوء بالنفاذ عبرها مقارنة بغيرها. ومرة أخرى، يستدعي مفاهيم شبه خيميائية ليجادل بأنه في ظل وجود القوى الجاذبة، سمحت تجمعات مختلفة من العناصر الأساسية للمادة - شبيهة بالشبكة - بحدوث تحولات. وباستخدام مفاهيم هلمونت، أكد أنه عن طريق التخمر أمكن تحويل الماء، «تلك المادة المخلخلة»، أو تكثيفها لتشكل «المواد الأكثر كثافة» للحيوانات، والنباتات، والمعادن، وأخيرا إلى «مواد معدنية وفلزية». على الجانب الآخر، أدت القوى الطاردة إلى تكوين الأبخرة والانبعاثات والهواء، إذا كانت عبارة عن أجسام كثيفة، أو تكوين الضوء ذاته، إذا كانت أقل خلخلة. تراجع نيوتن عن نشر تصوره المذهل للعالم الصغير، واختزله إلى مسودة تمهيد، فشلت أيضا في أن تشكل النسخة النهائية.
روبرت هوك، المدعي الكبير
في مايو عام 1686، وبعد عرض الكتاب الأول على الجمعية الملكية مباشرة، أخبر هالي نيوتن أن هوك لديه «بعض الادعاءات» فيما يتعلق بقانون التربيع العكسي، وزعم أنه قد نبه نيوتن بها. وعلى الرغم من أن هوك لم يدع أي حقوق في المبرهنة الخاصة بأن قطوعا مخروطية قد نتجت عن مثل هذا القانون، فقد نفد صبر نيوتن للمرة الأخيرة. فأخبر هالي أنه قد ضاق ذرعا بهوك طوال مدة مراسلاتهما خلال عامي 1679-1680، ولم يقدم له أي شيء لم يكن يعرفه. وبعد ذلك بأيام، وبعد أن تأمل أبحاثه القديمة، أشار غاضبا إلى أن هوك قد «خمن» فقط أن قانون التربيع العكسي يمتد إلى مركز الأرض، ولكنه كان مخطئا في تخمينه؛ وحينئذ قرر أن يوقف الكتاب الثالث، حسبما أخبر هالي. فقد كانت الفلسفة «أشبه بامرأة مشاكسة شكاءة لدرجة وقحة تزج بمن يتعامل معها في قضايا أمام المحاكم».
لم يتوقف نيوتن عند هذا الحد، وأخبر هالي أنه لدى انتهائه من المضمون الأساسي للخطاب، نما إلى سمعه أن هوك قد أحدث في الجمعية الملكية «ضجة كبيرة مدعيا أنني قد سرقت كل ذلك منه، ومطالبا بأن ينصفوه». وكما فعل نيوتن في السابق، أشار إلى المواضع التي سرق فيها هوك أعمال آخرين ونسبها إلى نفسه، معبرا عن ذلك على النحو التالي:
وكأنه عرف وأشار لكل شيء بما يكفي عدا ما يحتاج لحسمه بكدح الحسابات والملاحظات، معفيا نفسه من ذلك العمل الشاق بداعي انشغاله بأمور أخرى؛ في الوقت الذي كان عليه أن يعفي نفسه بداعي العجز.
وأشار نيوتن ساخرا إلى أنه وفقا لهوك:
ينبغي لعلماء الرياضيات الذين يقومون بمهام الاكتشاف، والحسم، ويقومون بالعمل بأكمله أن يقنعوا أنفسهم بأنهم لا شيء سوى آلات حساب وكد عقيمة، ولا بد للآخرين الذين لا يفعلون شيئا سوى الادعاء والقبض على كل شيء بين أيديهم أن يتخلصوا من كل الاختراعات الخاصة بهؤلاء الذين سيأتون بعدهم وتلك الخاصة بمن سبقوهم.
وفي سياق الحوارات السابقة التي دارت بين نيوتن وهوك، نسج نيوتن قصة معقدة غير قابلة للتصديق بشكل بالغ عن كيف أن هوك ربما يكون قد جمع قانون التربيع العكسي من مراسلاته السابقة. وردا عليه، قام هالي بطمأنة مخاوف نيوتن وأخبره أنه بعد مناقشة الأمر في إحدى المقاهي، لم يصدق سوى قليلين أن هوك يملك الإثبات الذي يربط المدار الإهليلجي بقانون التربيع العكسي أو بمنظومة ضخمة للطبيعة.
بالطبع، لم يوقف نيوتن الكتاب الثالث من «المبادئ الرياضية»، وإن كان قد جعله ذا طابع رياضي أكثر، وأقل سهولة في التناول. ربما كان ذلك في جزء منه لتلقين هوك درسا، على الرغم من أن وضع محتوياته كان يتطلب معالجة أكثر تحصينا على أي حال. وبوجه عام، أصبح كتاب «المبادئ الرياضية» نموذجا للحصانة غير القابلة للاختراق، إذ حاول الكثير من علماء الرياضيات البارعين تجاوز الاقتراحات والافتراضات القليلة الأولى وباءت محاولاتهم بالفشل.
هوامش
الفصل الثامن
في المدينة
قبل أن ينتهي من الكتاب الأخير من «المبادئ الرياضية»، وجد نيوتن نفسه في أزمة جديدة. فبعد اعتلائه العرش في بداية عام 1685 بفترة وجيزة، بدأ الملك الكاثوليكي جيمس الثاني في تخفيف القوانين والممارسات التي كانت تهدف لتحجيم قدرة الكاثوليك على شغل المناصب الحكومية أو الالتحاق بالجامعة. وفي فبراير 1687 تلقى نائب مستشار جامعة كامبريدج أمرا يلزم الجامعة بقبول الأب ألبان فرانسيس للحصول على درجة الماجستير بكلية سيدني ساسكس، وسرعان ما عمل نيوتن على التصدي للتهديد الملاحظ للوحدة البروتستانتية لجامعته. وفي أبريل من عام 1687 كان واحدا من ثمانية «مبعوثين» انتدبوا من الجامعة للمثول أمام لجنة كنسية كان يترأسها القاضي جيفريز - الذي كان يوما ما زميل دراسة لنيوتن - ولكنه آنذاك كان ذا سمعة سيئة بعد أن قام مؤخرا بالحكم بالإعدام على مئات من مؤيدي دوق مونماوث البروتستانتي. وفي 21 أبريل خطب جيفريز في مبعوثي كامبريدج الثمانية بأسلوبه التقليدي، ولكنه منحهم مهلة لتجهيز دفاعهم أكثر. وفي 12 مايو تم إبلاغ نيوتن، وبابينتون، وستة آخرين أن «تلميحاتهم الخبيثة» قد أثارت غضب اللجنة، وأرسلهم جيفريز محملين بإنذار بألا يرتبكوا أي خطايا أخرى لئلا يحل بهم مصير أسوأ.
وفي اجتماع عقد للإعداد للمواجهة مع جيفريز في أبريل، ضغط نيوتن بقوة من أجل اتخاذ موقف حاسم بشأن قبول الأب فرانسيس، وجادل في مقال قصير بأن الموقف في غاية الأهمية بالنسبة للجامعة ما يتعذر معه الوثوق بوعد جيمس بحماية العقيدة البروتستانتية (فعلى الرغم من كونه كاثوليكيا، كان جيمس ملك إنجلترا هو المدافع أيضا عن الكنيسة الإنجليكانية نظريا). وبالفعل لم يكن باستطاعة جيمس أن يقطع على نفسه مثل هذا الوعد؛ أولا لكون ذلك محظورا حسب أوامر ديانته، وثانيا لأنه لم يكن يستطيع على أي حال أن يوظف سلطته التي تخول له الإعفاء من القوانين بشكل قانوني لإلغاء القوانين التي تضمن مركزية البروتستانتية في إنجلترا. ولم يكن الإنجليز ليتخلوا عن القوانين التي تحكم الحرية والملكية؛ وبقدر أقل من المنطق كانوا ليتنازلوا عن تلك التي تضمن الدين.
وفي مقال آخر، مضى نيوتن يبحث حدود سلطة الملك المخولة له الإعفاء من القوانين، ليجد أنه كان يفتقر لهذه السلطة حين لا يكون هناك ضرورة تستدعي منه القيام بذلك. وفي تحليل جعله يصنف كأحد أتباع حزب «الهويج» - وكان بالفعل يتحرك في الدوائر الراديكالية لهذا الحزب حين أصبح عضوا بالبرلمان في عام 1689 - قلل نيوتن من سلطات الملك ليضعها في تصنيف أدنى من سلطات «الشعب» الذي يملك وحده سلطة تقرير ما إذا كان هناك ضرورة تستدعي إلغاء القوانين. وفي وثائق أخرى - أعدت هذه المرة لمواجهة جيفريز مواجهة حاسمة - ذهب إلى أن موقف المفوضين إنما اتخذ للدفاع عن ديانتهم؛ فلم يكن بإمكان الكاثوليك والبروتستانت التعايش «معا في سعادة أو لمدة طويلة» في نفس الجامعة، وإذا كان لينابيع التعليم البروتستانتي أن «تجف يوما ما، فلا بد للأنهار التي تنتشر حتى اليوم من هذا المكان عبر البلاد أن تنضب قريبا».
بحلول عام 1687، توقفت حياة نيوتن العملية كأستاذ للرياضيات. فبعد أن ظل يحاضر أمام ما ربما كان يعد من حين لآخر دفعة دراسية غير موجودة لما يقرب من عقد كامل، قام في عام 1684 بإيداع مخطوطة عن الجبر في مكتبة الجامعة للوفاء بالتزاماته كأستاذ. وأشاد عمل نيوتن، والذي نشره ويليام ويستون في عام 1707 تحت عنوان «علم الحساب الشامل»، باعتماد علماء الرياضيات القدامى على الهندسة، فيما انتقد بشدة إدخال المعادلات والمصطلحات الحسابية في الهندسة على يد المحللين المعاصرين.
هرب جيمس الثاني من إنجلترا في أواخر عام 1688، ومنح وصول ويليام أمير أورانج (فيما سمي الثورة المجيدة) نيوتن فرصة لإظهار ولائه للنظام الجديد. وعلى الرغم من وصفه بأكثر الكلمات حماسة على بطاقات التصويت، فقد كان الأمر مفاجئا بعض الشيء حين تم انتخابه كواحد من البرلمانيين الاثنين عن جامعة كامبريدج في البرلمان الإنجليزي وذلك في يناير عام 1689. وفي أوائل فبراير، صوت مع أغلبية أعضاء البرلمان الذين قرروا أن جيمس قد «تنازل» عن العرش بهروبه، وفي الأسابيع اللاحقة عمل ضمن لجنة لإعداد صياغة لمشروع قانون يتعلق بالتسامح الديني مع مختلف أنواع المنشقين. وبطبيعة الحال، كان نيوتن يؤيد التسامح الديني مع أطياف البروتستانتية المتعددة، وكان يؤمن بأن الدولة يجب أن تسمح للبروتستانتيين ذوي الشأن من مختلف الطوائف (مثله) بشغل وظائف عامة. وعندما تم تمرير مشروع القانون بشأن هذا الموضوع في 17 مايو تحت اسم «قانون التسامح الديني»، أصبح بإمكان المنشقين الانخراط في طقوس العبادة العامة بحرية. غير أن عنصر السر المقدس الخاص بمرسوم الاختبار لم يكن قد ألغي، ورفض منح حرية العبادة للكاثوليك والمناهضين للعقيدة الثالوثية.
عانى نيوتن انتكاسة أخرى في صيف 1689 حين تم رفض ترشحه لعمادة كلية كينجز كوليدج، رغم المساندة القوية من الملك ويليام الثالث. من ناحية أخرى، كان لديه الكثير من المعجبين والأتباع، فتنافس عدد من الأفراد للقيام بدور المحرر للطبعة التالية من مؤلفه العظيم، فيما كرس آخرون أنفسهم لإتقان فهم محتويات العمل التي اتسمت بغموض لا يصدق. وبدوره منح نيوتن أتباعه الرعاية والمساندة، مثلما ساعد ديفيد جريجوري على نيل كرسي أستاذية الرياضيات في جامعة أكسفورد. وقوبل كتاب «المبادئ الرياضية» على مستوى القارة بحفاوة بالغة من جانب الفلاسفة الطبيعيين البارزين أمثال هويجنز ولايبنتز، على الرغم من اعتقاد كليهما أن نيوتن قد أهمل الهدف الكلي للفلسفة الطبيعية بإخفاقه في تقديم تفسير فيزيائي لظاهرة «الجذب».
بعد أن أعلن وفاة فكرة الدوامات في الكتاب الثاني من «المبادئ الرياضية»، كافح نيوتن لتفسير الجاذبية. ففي النصف الأول من تسعينيات القرن السابع عشر، أطلع فاتيو دي دويلير وديفيد جريجوري على العديد من المراجعات والتصحيحات التي كان يدخلها على كتاب «المبادئ الرياضية»، والتي كان بعضها يتعلق بالسبب الفيزيائي للجاذبية، وفي سلسلة من الملاحظات التوضيحية «الكلاسيكية» للافتراضات من 4 إلى 9 من الكتاب الثالث، أوضح أن الجاذبية الكونية وغيرها من المبادئ الأخرى كانت معروفة لدى القدماء، وأمكن التنبؤ بها من خلال قراءة جادة لقصائد فرجيل وأوفيد وآخرين. وزعم نيوتن في هذه المراجعات أن الجاذبية الكونية تدار بواسطة «عنصر ما نشط»، أتاح انتقال القوة من جسم لآخر:
ولذلك علمنا أولئك القدماء الذين أدركوا الفلسفة الصوفية إدراكا سليما أن روحا معينة مطلقة بلا حدود تتخلل الفراغ بأكمله وتحتوي العالم الكوني وتبث فيه الحياة؛ وهذه الروح كانت قوتهم الإلهية، بحسب الشاعر الذي استشهد به بولس الرسول: فيه نحيا ونتحرك ونستمد وجودنا.
كان القدماء يشيرون برمز الإله بان ومزاميره إلى الطريقة التي تؤثر بها تلك الروح على المادة «ليس بطريقة تفتقر للنظام، وإنما بطريقة تناغمية أو وفقا للنسب التوافقية». بعد ذلك بفترة، أشارت كاثرين كوندويت إلى أن نيوتن رأى أن الجاذبية تعتمد على الكتلة، بنفس الطريقة التي تعتمد بها الأصوات والنغمات على حجم الأوتار.
لم يكن ذلك هو الجانب الوحيد من جهود نيوتن العامة لاستعادة المعرفة المفقودة للعصور الأولى؛ ففي نفس التوقيت تقريبا، أقحم بنفسه في مشروع رياضي ضخم يهدف إلى «استعادة» هندسة القدماء المفقودة. وفي أواخر عام 1691 بدأ أيضا في تأليف نص بعنوان «المنحنى التربيعي»، وهو عمل استثنائي عاد فيه لمناقشة اكتشافه لحساب التفاضل والتكامل وتطويره للمتسلسلة اللانهائية. وبالنظر إلى اعتماده البالغ على خطاباته للايبنتز التي ترجع لمنتصف سبعينيات القرن السابع عشر، يتضح أن هدفه الأساسي كان التأكيد على أسبقيته وتفوقه عليه. وعندما اطلع عليه جريجوري في عام 1694، علق بأن نيوتن قد طور نظرية التربيعات (التكامل) «بشكل مدهش [و] يتجاوز ما يمكن تصديقه بسهولة».
شهدت السنوات التي أعقبت الانتهاء من كتاب «المبادئ الرياضية» بعضا من أقوى فترات النشاط الفكري من حياة نيوتن. ففي أواخر ثمانينيات القرن السابع عشر، خطط لإنتاج عمل عن علم البصريات في أربعة كتب، عازما أن يبين في الكتاب الختامي كيف أن المؤثرات البصرية تعمل وفقا لقوى جاذبة وطاردة ذات نطاق صغير. وفي إحدى المسودات، كرر ملاحظاته في التمهيد والخاتمة اللذين حجبهما عن كتاب «المبادئ الرياضية»، بشأن ضرورة أن يفترض الفلاسفة أن أنواعا متشابهة من القوى تعمل في العالم الصغير والكبير على حد سواء. غير أنه أردف بأنه «نظرا لكون هذا المبدأ من مبادئ الطبيعة أبعد ما يكون عن تصورات وأفكار الفلاسفة، فقد أمسكت عن وصفه في [«المبادئ» خشية] أن يعتبر نزوة متهورة». وأيا كانت خطط نيوتن الأصلية، فقد حول النص المقترح إلى ثلاثة كتب بحلول عام 1694، وأخيرا ظهر كتاب «البصريات» في هذا الشكل بعد عقد من الزمان.
في صيف وخريف 1690، راح نيوتن يبحث بنشاط في تلك المسألة التي قتلت بحثا والمتعلقة بكيفية قيام الكاثوليك والمناهضين للعقيدة الثالوثية بتحريف النص الأصلي للعهد الجديد. فنتيجة لتخفيف قوانين الترخيص التي تحكم المطبوعات في عام 1687، ظهر عدد من أعمال المناهضين للعقيدة الثالوثية في شكل مطبوع. وحين قام الكاثوليكي ريتشارد سايمون في عام 1689 بنشر عمل حلل الجزء المعروف بالفاصلة اليوحناوية من النص الثالوثي الأساسي رسالة يوحنا الأولى 5 : 7-8، سأله جون لوك - وهو أحد من تعرف عليهم نيوتن مؤخرا - عن آرائه بشأن الفقرة. وفي نوفمبر عام 1689 تلقى لوك (الذي كان على وشك نشر مؤلفاته الرائعة «رسالة في التسامح»، و«مقال في الفهم الإنساني» و«أطروحتان عن الحكومة»)، تفسير نيوتن المطول لتلك الفقرة وفقرة ثالوثية أخرى هي رسالة تيموثاوس الأولى 3 : 16. ولا يمكن أن يكون هناك شك في أنه قد أدرك تعاطف لوك مع آرائه، على الرغم من ستار الأبحاث الموضوعية السميك الذي حاول نيوتن إخفاء عمله به.
أشار سايمون إلى أن أصالة وموثوقية الفقرة مكفولة بالروايات الكاثوليكية، على الرغم من عدم وجودها في أقدم المخطوطات اليونانية. فأخبر نيوتن لوك أنها صورة أخرى من التحريف الكاثوليكي للكتاب المقدس، ولكنه أخبره أنه على الرغم من معرفة الكثير من علماء الفلسفة الإنسانية والبروتستانت بذلك، فقد فضلوا الاحتفاظ بالنص كما هو باعتباره دليلا أساسيا من الأدلة المقامة ضد المهرطقين. وأشار بأسلوب ماكر إلى أن ما كان على وشك القيام به لم يكن «بيان عقيدة، أو نقطة نظام، لا شيء سوى إبداء نقد يتعلق بنص من الكتاب المقدس». باختصار، قام أب الكنيسة جيروم بإقحام الفقرة المزيفة في طبعته اللاتينية للكتاب المقدس، وبعدها:
لاحظ اللاتينيون تعديلاته في هوامش كتبهم، ومن ثم بدأت في التسلل إلى النص من خلال النسخ في النهاية، وشهد القرن الثاني عشر والقرون التي تلته بشكل أساسي إحياء هذا النزاع من جانب أساتذة الجامعة.
وبعد ظهور الطباعة، «تسللت من اللاتينية إلى النسخة اليونانية المطبوعة مخالفة مرجعية جميع المخطوطات اليونانية والنسخ القديمة».
كان منهج نيوتن في التعامل مع هذه التحريفات ذا ثلاثة جوانب: الأول أنه استطاع توضيح كيف ولماذا أقحم النص في العديد من المخطوطات والنصوص المطبوعة. وتضمن ذلك تحليلا علميا معقدا للنصوص جادل فيه بأن المؤلفين ذوي الثقة الذين سبقوا جيروم كانوا ليشيروا للنص لو كان موجودا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك. ولم يكن هناك دليل على وجوده في أقدم النصوص اليونانية، وبالفعل وجه العديد من معاصريه اتهامهم لجيروم بإقحامه وفقا لهواه. حتى نيوتن نفسه أخضع جيروم للمحاكمة ووجده مذنبا، وهو ما لم يبعث على الدهشة. الجانب الثاني أنه استطاع بالفعل الوصول للمخطوطات القديمة، والطبعات المطبوعة التي أشارت للمخطوطات التي اختفت فيها تلك النصوص المسيئة أو لاحت كنصوص إشكالية. وإذا وجدت نصوص تظهر فيها تلك الفاصلة اليوحناوية، كان نيوتن يحاول أن يوضح أنها قد كتبت بعد ذلك بكثير. أما الجانب الثالث فتمثل في أن الفقرة المستعادة والأصلية كانت أكثر منطقية بشكل واضح، وقام بإعادة صياغة النص محل النزاع لمساعدة لوك.
بعد ذلك مباشرة، أرسل نيوتن إلى لوك بيانا بالعديد من النصوص الإشكالية الأخرى «لأن محاولات تحريف الكتب المقدسة كانت كثيرة للغاية، وفي ظل تعدد المحاولات لا عجب في أن يكون بعضها قد نجح». ووفقا لنيوتن، فقد تمت كل هذه التحريفات في البداية على يد الكاثوليك، «وبعدها - ومن أجل تبريرها والترويج لها - أطلقوا صرخة احتجاج ضد المهرطقين والمترجمين القدماء، وكأن القراءات والترجمات القديمة الأصلية كانت محرفة». وكان المثقفون في تلك الفترة يترنحون من فعل مشين إلى آخر «هكذا كانت حرية هذا الزمن التي علمت الرجال ألا يخجلوا من ترجمة أعمال المؤلفين من أجل تصحيحها كما يحلو لهم، وأن يعترفوا علانية بأنهم فعلوا ذلك وكأن الترجمة بأمانة بمنزلة الجريمة». كان البروتستانت آنذاك يتعاونون في تلك الجريمة، وأخبر نيوتن لوك متظاهرا بالورع أن جميع هذه المخادعات «قد ذكرتها من منطلق كراهيتي الجمة للاحتيال باسم الورع والتقوى، ولإلحاق الخزي بالمسيحيين بسبب هذه الممارسات».
انهيار عصبي
في عام 1692 وأوائل عام 1693 أصبح نيوتن شديد القرب إلى فاتيو دي دويلير، الذي كان يزعج الرجل العجوز بقصص الشفاء الإعجازي الذي يمكن تحقيقه عن طريق جرعة دواء خيميائي اخترعه أحد أصدقائه. وفي أحد الخطابات طلب من نيوتن استثمار قدر كبير من المال في اختراع وتسويق المنتج. وفي بداية صيف عام 1693، ذهب نيوتن من ترينيتي إلى لندن في عدد من المناسبات، على الأرجح لمناقشة هذا الأمر وأمور أخرى معه. وبحلول شهر يوليو كان نيوتن يعاني من انهيار عصبي، وهي تجربة لم تعرف إلا عندما أرسل خطابا إلى صامويل بيبس في منتصف سبتمبر. وفي هذه الرسالة الغريبة - التي كتبها فيما كان لا يزال في حالة من الاضطراب الشديد - انشغل نيوتن بشدة بإنكار محاولته الاستعانة ببيبس أو جيمس الثاني كرعاة له، وأخبر بيبس أنه سيضطر للانسحاب من علاقته به، وبالفعل لم يتصل بأي من أصدقائه مجددا. وتلقى لوك خطابا أكثر إزعاجا، كتبه بعد ذلك بثلاثة أيام من حانة في شورديتش. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها لوك بمخاوف نيوتن شأنه شأن بيبس. واعتذر نيوتن عن اتهام لوك بمحاولة «توريطه» مع النساء، والتمس منه العفو عن تمني الموت له من مرض كان يعاني منه. وعبر عن أسفه لاتهام لوك بأنه هوبزي (نسبة إلى توماس هوبز، أي مادي)، ولقوله إن لوك قد قوض الأسس الأخلاقية في مقاله.
على الرغم من هذه الإهانات الفظيعة، كان رد فعل بيبس ولوك ممزوجا بتفهم مبهر، وبالفعل سرعان ما ادعى نيوتن أنه نسي ما كتبه. وكان إرهاق العمل، والتسمم بالزئبق، وانحصار انتباهه لفاتيو، والفشل في الحصول على عمل في لندن، بمنزلة تفسيرات لسلوك نيوتن الغريب، ولكن يبدو أن أيا منها لم يكن مقنعا.
وعندما استعاد اتزانه واستأنف حياته الطبيعية، خاض نيوتن محاولة أخيرة لحل بعض من المشكلات التي لازمت معالجته للنظرية القمرية في كتاب «المبادئ الرياضية». وربما كان هذا هو آخر مشروع علمي كبير ممتد يضطلع به. ومنذ صيف عام 1694 عاود التصدي للقضية مجددا، وقام بزيارة جون فلامستيد في ضاحية جرينتش للحصول على أحدث المعلومات. ووافق فلامستيد على السماح لنيوتن بالاطلاع على ملاحظاته المتطورة عن القمر، ولكنه أضاف ملحقا يلزم نيوتن بأن يتعهد بألا يطلع أي شخص آخر عليها. وفي المقابل، أراد فلامستيد الحصول على التعديلات التي ادعى نيوتن أنه استطاع إدخالها على ملاحظاته بفضل نظريته المطورة. غير أن نيوتن لم يكن ينوي معاملة فلامستيد بالمثل، مطالبا الفلكي الملكي بشكل فعلي بإرسال ملاحظاته الأولية حسب طلبه. وكما تبين، فقد ثبت أن مشكلة الأجسام الثلاثة التي كان على نيوتن حلها من أجل تحقيق انطلاقة إلى الأمام فيما يتعلق بالمشكلة في غاية الصعوبة بالنسبة له، فيما كافح فلامستيد لإمداد نيوتن بالملاحظات على النحو المطلوب من حيث النوعية والدقة.
وفي ظل جو من الشك المتبادل المتزايد، نما إلى مسامع فلامستيد أن نيوتن كان يعرض «تعديلاته» للمعلومات على هالي وجريجوري، فيما استاء نيوتن من تراخي فلامستيد المزعوم في توفير معلومات أولية وأيضا من رغبته في معرفة الأساس النظري لتنقيحات نيوتن. وعلى مدى السنوات التالية، تدهورت العلاقة بينهما أكثر. وحين هدد فلامستيد في عام 1698 بالإفصاح - في شكل مطبوع - عن أنه كان يمد نيوتن بالمعلومات التي استطاع بها تطوير نظريته، ثارت ثائرة نيوتن وأوقف النشر. وفي ظل استغراقه في عمله كأمين لدار سك العملة، وعدم رغبته في تذكير قطاع عريض من الجمهور بفشله في حل لغز حركات القمر، أخبر فلامستيد أنه لا يعبأ «بتسليط الأضواء عليه في موضوع ربما لن يلائم العامة قط، ومن ثم وضع العالم في حالة ترقب لما قد لا يحبون تلقيه». فلم يكن «يحب أن ينشر له في كل مناسبة»، وما كان يكرهه أكثر هو «مواجهة مضايقة وإلحاح الأجانب فيما يتعلق بالمسائل الرياضية، أو أن يظن بي بنو وطننا أنني أهدر وقتي فيها بلا طائل في الوقت الذي يتوجب علي فيه أن أكون بصدد الاهتمام بشئون الملوك». ولم يكن بالإمكان تحسين علاقتهما، التي طالما كانت متداعية.
الفصل التاسع
رب الجميع وسيدهم
أثمرت جهود نيوتن لإيجاد وظيفة مناسبة في العاصمة أخيرا في عام 1696، لينهي بذلك رحلته الانتقالية الغريبة من ناسك إلى موظف عمومي كبير. فقد قام زميله السابق بكلية ترينيتي، تشارلز مونتاجو (والذي أصبح بارون هاليفاكس بعد عام 1700)، بالتوقيع على خطاب تعيينه كأمين لدار سك العملة في 19 مارس 1696. وكان مونتاجو آنذاك عضوا كبيرا بوزارة المالية ورئيس الجمعية الملكية، وبعدها بقليل أصبح عاشقا لابنة أخت نيوتن غير الشقيقة (كاثرين بارتون قبل زواجها من كوندويت). وكأمين للدار (أي ممثل العرش في عملية سك العملة)، واجه نيوتن عددا من التحديات. فقد كانت بريطانيا بحاجة إلى احتياطيات مالية ضخمة لدعم حملتها العسكرية ضد فرنسا، فيما كانت عملية تقليم عملات المملكة قد انتقصت من قيمة النقود وجودة عملية السك بشكل خطير. إضافة إلى ذلك، لما كانت العملات الجديدة تحتوي على نسبة أعلى من الفضة مقارنة بالعملات القديمة «المطروقة»، فقد كان بالإمكان صهر العملات المسكوكة الجديدة الأكثر ثقلا بغرض الربح، وكانت النقود المزيفة تصنع من مزيج من بقايا تقليم العملات والنحاس. وفي البداية، طلب من نيوتن إسداء النصح بشأن قضية الفضة، وذهب إلى أن صهر العملة كارثة مؤقتة (نظرا لأن قيمة المعدن الخام أعلى من القيمة الاسمية للعملة)، ويمكن التخفيف من وطأتها على المدى القصير من خلال السماح بتداول العملات الورقية التي أصدرها بنك إنجلترا الذي تأسس مؤخرا. كذلك شارك النظرية القديمة القائلة بأن إنفاق الكثير من المال على الرفاهيات الأجنبية يعد إهانة لكل من المبادئ الأخلاقية الشخصية والقوة القومية.
كان العلاج الوحيد طويل المدى لذلك هو سحب جميع النقود «القديمة» وزيادة كمية النقود «الجديدة» التي تقوم دار سك العملة بإنتاجها زيادة هائلة. وأسفرت «حملة إعادة سك العملة الكبرى» عن عملات موحدة إلى حد كبير ذات حواف واضحة، وجميعها كانت من تصنيع أرقى وأحدث مصانع التصفيح. وعلى الرغم من أن المنصب في السابق كان نوعا ما من الوظائف التي تدر دخلا دون جهد، فقد كرس نيوتن نفسه لمهمة إعادة سك العملات وإنشاء دور مؤقتة لسك العملة في نورج، ويورك، وتشيستر، وبريستول، وإكسيتر؛ لمواجهة القدر الضخم المطلوب من السبائك. وعلى الرغم من الجهد المكثف لهذه الدور، ظل القليل من العملات الفضية في نطاق التداول بحلول تاريخ وفاة نيوتن في عام 1727.
وبصفته أمينا للدار، كان نيوتن كذلك مسئولا عن ملاحقة ضاربي ومقلمي العملة ملاحقة قانونية، والتوصية بإعدامهم إذا بررت جرائمهم ذلك. وكانت ملاحقته للمجرمين بنفس القوة ونفس الأساليب التي استخدمها في ملاحقة محرفي الكتاب المقدس. وقد أجرى تحليلا واسع النطاق لفن وتاريخ تقليم وسك العملة، ودفع الأموال لمن يبلغه أي معلومات، وأرسل للشهود المتعاونين أموالا حتى يستطيعوا الظهور بمظهر لائق في المحكمة. وقد هدد بعض ضاربي العملة المحبوسين بقتله، وفي المقابل أظهر هو قليلا من التعاطف تجاه المجرمين أمثال ويليام تشالونر، الذي لم يجد أذنا تسمع استرحاماته في الأيام التي سبقت صعوده على المشنقة. وفي عهد نيوتن، تضاءلت عمليات التقليم والسك، وانخفض عدد من يعدمون عقابا على هذه الجريمة إلى صفر.
بحلول عام 1698، كان قد اضطلع فعليا بالمهام المنوط بها عادة رئيس دار سك العملة، الذي كان في ذلك الوقت توماس نيل، وخلف نيل في منصبه حين توفي في نهاية عام 1699. وكان رئيس الدار مسئولا عن جودة المعادن في السبائك التي كانت تستخدم لصناعة العملة، وكان مسئولا عن تخطيط الدخل المالي من سك العملة.
كانت معرفته بالعمليات الكيميائية تفيده من آن لآخر في السنوات اللاحقة، خاصة ما يسمى «تجربة العملات المسكوكة»، والتي كانت تختبر فيها جودة عينة مختارة عشوائيا من العملات في مقابل «قطع تجريبية» من العملات بحوزة مجموعة من الصائغين. وفي بعض الأحيان أيضا، كان رئيس الدار يشارك في جلب (وفي حالة نيوتن، تصميم) عملات مسكوكة من معادن مختلفة للاحتفال بالتتويجات الملكية، أو الانتصارات العسكرية.
عاش نيوتن حياة موسرة في لندن، ولكنه أظهر قليلا من الاهتمام بالأدب أو المسرح؛ والواقع أنه أخبر ستوكلي ذات مرة أنه قد شاهد نصف الأوبرا الوحيدة التي حضرها، وإن كان المرء قد يتساءل كيف ظل لهذه الفترة الطويلة في العرض. وظل نيوتن يعمل من وراء الستار كما كان يفعل على مدى عقد مضى، وانتخب كعضو بالبرلمان في عام 1701 وخدم في البرلمان الذي استمرت دورته حتى مايو من العام التالي. وفي مايو عام 1705، ترشح مرة أخرى للبرلمان، بدعم جديد من هاليفاكس، لكنه تعرض لهزيمة مذلة. وكان في لقب الفروسية الذي حصل عليه في الشهر الماضي من الملكة آن - حين توقفت بكامبريدج في زيارة لسباقات الخيل في نيوماركت - بعض العزاء له.
كتاب «البصريات»
ربما كانت وفاة روبرت هوك في مارس عام 1703 هي ما عجلت بانتخاب نيوتن رئيسا للجمعية الملكية - دون إجماع الآراء بالطبع - في نوفمبر التالي. وقد أوقظ ذلك اهتمامه بالفلسفة الطبيعية مجددا لأول مرة منذ سنوات، واستغل الفرصة لإتاحة نظرياته البصرية لقطاع من الجمهور أكبر كثيرا من الجمهور الذي استطاع استيعاب كتاب «المبادئ الرياضية». وصدر كتابه «البصريات» في فبراير 1704، والذي أرفق بنهايته أطروحة «التربيعات» وتحليلا «للخطوط من الرتبة الثالثة».
تألف كتاب «البصريات» بصفة أساسية من مادة قديمة، ولكن حقيقة أنه نشر بالإنجليزية، وتألف في أغلبه من تجارب، وتجنب الرياضيات المبهمة لكتاب «المبادئ الرياضية»، جعلته متاحا لجمهور عريض. وقد احتوى على كتاب جديد، وإن كان قصيرا، عن حيود الضوء، وفي نفس الكتاب (الكتاب الثالث) أدخل نيوتن مجموعة من 16 «تساؤلا» قصيرا ناقشت السمات الأساسية لفلسفته الطبيعية. وصيغت هذه التساؤلات في شكل أسئلة، وصيغت في جزء كبير منها بلغة «التجاذبات» الواردة بكتاب «المبادئ الرياضية»، ومثله، لم يرد فيها مفهوم الأثير. وفي مسودة لمقدمة العمل، ذهب إلى أن المرء عليه أن يشتق ثلاثة أو أربعة «افتراضات عامة مسبقة» من مجموعة كبيرة من الظواهر، ثم يفسر جميع ظواهر العالم في إطار هذه الظواهر. وما لم يبدأ المرء بظواهر ويشتق مبادئ عامة منها، «فقد تصنع منظومة فلسفية معقولة ظاهريا لتصنع لنفسك اسما، ولكن منظومتك لن تكون أفضل كثيرا من قصة عاطفية». وكانت العلاقة بين الضوء والأجسام والتي اتضحت في «التساؤلات» المنشورة بالكتاب مصاغة بوضوح في إطار القوى الصغرى التي تعمل عن بعد، وقد هاجم أي محاولات لتفسير الضوء كتغيرات في «ضغط أو قوة الحركة» في شكل «منظومة من الفرضيات».
غير أن نيوتن حين كتب ذلك، كان يعمل بالفعل على مجموعة جديدة ومثيرة من سبعة تساؤلات، ظهرت بعدها بعامين في الترجمة اللاتينية لكتاب «البصريات». وربما تعد هذه التساؤلات - إلى جانب ثمانية أخرى أضيفت في الطبعة الإنجليزية الثانية الصادرة عام 1717 - أكثر النصوص تأثيرا بالنسبة للكيمياء والفلسفة الطبيعية في القرن الثامن عشر. وقد تحدث هنا أيضا علنا ولأول مرة معيدا إلى الأذهان التحليل الرائع الوارد في أطروحة «الجاذبية»، عن فهمه للطريقة التي ارتبط بها الله بخلقه. ففي التساؤل رقم 20 (رقم 28 في طبعة 1717)، أشار إلى أن الفراغ الشاغر كان أشبه ب «مركز الإحساس» لدى الله، وأن الله كان واعيا بكل شيء يحدث في الكون بنفس الطريقة التي يعي بها البشر الصور التي تدخل إلى عقولهم. وفي مسودة للتساؤل رقم 23 واسع النطاق (رقم 31 في طبعة 1717)، دون أن أفكار الكائن الأسمى «تؤثر على المادة بشكل أقوى من تأثير خيال أم على جنينها». وباسترجاع الملاحظات التوضيحية الكلاسيكية، أخبر نيوتن ديفيد جريجوري أيضا في ذلك الوقت أن الله هو السبب المباشر للجاذبية من خلال وجوده القريب. وقد كان الادعاء الوارد في المسودات بأن الفراغ هو مركز الإحساس لدى الله، أو جسد الله، هو في الواقع بدعة مسيحية قديمة، وعلى الرغم من أن هذا الرأي قد شق طريقه في الأمثلة الأولى للترجمة اللاتينية لكتاب «البصريات»، فقد قام نيوتن في الطبعات اللاحقة بتصحيح الفقرة لتنص على أن الفراغ كان «أشبه» بمركز الإحساس لدى الله.
من خلال تطوير تحليل النسخة المحجوبة من «خاتمة» كتاب «المبادئ الرياضية» - وبالتبعية تطوير أعمال سابقة في الفلسفة والخيمياء - وصفت التساؤلات الجديدة مجموعة من الظواهر الكيميائية التي قام بتجميعها تحت عنوان «عناصر نشطة». وقد جمعت هذه النصوص الرائعة معا الكثير من البرامج البحثية المتفرقة التي عكف عليها على مدى العقود الأربعة الأخيرة. وفي مسودات التساؤل رقم 23 الشامل، أشار إلى أن «التنويع في الحركة (الذي نراه) في العالم في تناقص دائم»، ولا يمكن تعويض ذلك إلا بالعناصر النشطة التي تحدث الجاذبية والظواهر المتعددة المرتبطة بالتخمر والتماسك. كانت هذه العناصر خاضعة لقواعد أو قوانين عامة والتي كانت تمثل «المبادئ الحقيقية للفلسفة الميكانيكية» فادعى نيوتن أننا «نواجه كل حركة بسيطة في العالم، إلى جانب ما يعزو (بشكل جلي) لهذه العناصر النشطة، وقوة الإرادة». وقارن نيوتن في هذه المسودات بين طبيعة الأجسام التي لا تحوي سوى القوة السلبية للقصور الذاتي وبين الطريقة التي يجلب بها «التخمر» والحياة والإرادة، حركة جديدة إلى العالم، مع وصف التخمر بكونه «عنصرا نشطا في غاية القوة يؤثر على [الأجسام] فقط حين تقترب أحدها من الآخر». ومضى يقول: «إننا نجد في أنفسنا قوة تحريك أجسادنا من خلال أفكارنا، ولكننا لا نعرف قوانين هذه القوة». وأضاف معقبا على نحو لافت للنظر «إننا لا نستطيع القول إن كل الطبيعة ليست حية».
ما أن أصبح نيوتن رئيسا للجمعية الملكية، بدأت الجمعية في دفع مبالغ منتظمة من المال لصانع الأدوات فرانسيس هوكسبي لإجراء تجارب بمضخة هوائية في اجتماعاتهم الأسبوعية. وبدءا من عام 1706 حتى وفاته في عام 1713، توصل لنتائج استثنائية تتعلق بظاهرتي الخاصة الشعرية والتألق الكهربائي. وترسخ لدى نيوتن، الذي كان على الأرجح من يقدم النصح لهوكسبي بشأن محتوى العديد من هذه التجارب، أن وجود هذه القوة قد ثبت من خلال تجارب هوكسبي، وذهب إلى أن الكهرباء كانت قوة أساسية تؤثر في العديد من الظواهر الأخرى. وفي مقاله «ملاحظة توضيحية عامة»، والذي أضيف إلى الطبعة الثانية من كتاب «المبادئ الرياضية» الصادرة عام 1713، أعلن أن هناك «روحا كهربائية» «فائقة الدقة ولكنها مادية»، كانت مختبئة داخل «جميع الأجسام الكبيرة»، وهي روح عالية النشاط وتبعث ضوءا.
وقد أعزى نيوتن العديد من القوى قصيرة المدى، وكذا الظواهر المرتبطة بالضوء لهذه الروح، وذلك في مسودات التساؤلات الثمانية الجديدة في طبعة عام 1717 من كتاب «البصريات»، معيدا إلى الأذهان وصفه للكهرباء في أطروحة «الفرضية» قبل أربعة عقود. وفي عودة بالذاكرة إلى اهتمامه بقضية العقل والجسد وأيضا لأعماله في الخيمياء، ذهب أيضا إلى أن الروح الكهربائية قد وحدت «الروح المفكرة والجسد غير المفكر»، ويمكن أن تكون ذات نفع كبير في الإنبات «حيث تراعى ثلاثة أشياء، هي التوليد، والتغذية، والإعداد للتغذية». غير أن نيوتن - في نفس «التساؤلات» - أعاد تقديم نوع من الأثير فسر العلاقة بين الضوء والحرارة. وفسر نوع آخر من الأثير ظاهرة الجاذبية بكونها مؤلفة من جسيمات طاردة، جعلتها «مرنة إلى حد كبير»؛ وهو وصف شبه مطابق لذلك الذي أورده في أطروحة «الفرضية» الصادرة عام 1675.
رجل ماكر وفاسد
على الرغم من أن نيوتن قد يكون تجسيدا للعذوبة في نظر من انحنوا أمامه احتراما، فقد كان ذا طابع ظن أصدقاؤه أنه نزاع إلى الشك فطريا، وكان يمكن أن يثور فجأة حين تتعرض مكانته، أو شرفه، أو كفاءته لتهديد ما. ولم تتعاف علاقات نيوتن بجون فلامستيد قط من البرود والجفاء الذي اعتراها سابقا. ووصلت الأمور لذروتها في عام 1704 حين أهدى نيوتن فلامستيد نسخة من كتاب «البصريات»، وهو ما جعل فلامستيد بناء عليه يختار جيمس هودجسون، الذي كان مساعدا له يوما ما، لإلقاء محاضرات في لندن منوها إلى «الأخطاء» التي احتواها الكتاب. وعلى إثر لهفته للحصول على بيانات فلامستيد ليكمل نظريته عن القمر، أخبره نيوتن أنه على استعداد لتوصية زوج الملكة آن «الأمير جورج» بتمويل نشر كتالوج لملاحظات فلامستيد. وبحسب قول فلامستيد فيما بعد، «اندهشت من هذا المقترح [بعد] أن وجدته دائما ماكرا، وطموحا، وبه شره مفرط للثناء والمدح، ولا يتحمل الاختلاف». ومن تلك اللحظة فصاعدا، راح فلامستيد يحصن نفسه ضد حيل ومكائد نيوتن، غير مستعد لأن يضع نفسه «بالكامل في قبضته وأن يكون تحت رحمته وهو من قد يفسد كل ما يأتي بين يديه».
وكما رأينا، كان فلامستيد في أواخر تسعينيات القرن السابع عشر يعتقد بالفعل أن نيوتن قد تأثر أيما تأثر بمجموعة كاملة من «المتملقين» و«المادحين»، والذين كان يستقبحهم باعتبارهم «بعض الأشخاص المتغطرسين الفضوليين الذين لا يهمهم إلا أنفسهم»، والذين كانوا دائما ما يلحون على فلامستيد بشأن إكمال الكتالوج، فيما كانوا يفعلون كل ما بوسعهم لمنعه. وكانت شكوك فلامستيد في محلها، إذ كان نيوتن يعرض عليهم المواد التي طلب منه فلامستيد أن يبقيها سرا، وكانوا هم في المقابل يستخدمون هذه البيانات للتقليل من شأن الفلكي الملكي. وعلى الرغم من كل هذا، ورغم ثورة نيوتن العنيفة ضده في شتاء 1698-1699، أخبر أحد المراسلين في عام 1700 أن نيوتن «رجل طيب في الأساس، ولكنه نزاع إلى الشك بطبيعته». غير أنه بعد عام 1704، كان دائما ما يرى نيوتن شخصا مستبدا مهووسا بالسلطة، يعمل بكل طاقته «لإفساد» عمله.
وفي خطوة انعكست من خلال تعامله اللاحق مع لايبنتز، كون نيوتن لجنة من الخبراء أو «المحكمين» للإشراف على إنتاج كتالوج النجوم قرب نهاية عام 1704. كان فلامستيد يعتقد أن نيوتن يحاول حصد كل الشرف والمجد لعمله، فيما كان يمنع دفعة من تمويل الأمير الذي كان ليتيح لفلامستيد الانتهاء من الأجزاء التي يرغب في استكمالها من عمله، فرفض أعضاء هذه اللجنة باعتبارهم ضعفاء أو مجرد خادمين متزلفين لنيوتن. وبعد أن خلع على نيوتن لقب فارس في عام 1705، كثيرا ما كان فلامستيد يشير إليه بأنه مجرد آثم، ومع انقضاء السنوات ببطء قارن مرارا سلوكه «الصادق والأمين» بما أسماه «دهاء» نيوتن، و«ادعاءاته المغيظة»، و«ممارساته الماكرة والخبيثة».
وفي أبريل عام 1706، أجبر فلامستيد على تسليم الجزء الذي أنهاه من الكتالوج حتى ذلك الحين، على الرغم من تأكيداته أنه لم يكتمل بعد، وأنها ستكون حماقة منه أن يسلم مثل هذا العمل المهم لشخص آخر. وكإجراء احترازي، أغلقه هودجسون، على الرغم مما سببه ذلك من ضيق لنيوتن لأنه بدا انعكاسا مسيئا لأمانته. وبحسب فلامستيد، بدأ نيوتن آنذاك في اتهامه بالغباء وبتدمير عمله، فيما شكا فلامستيد سرا من ضلال وفساد نيوتن المتزايد لعدم دفع مقابل لعمله. وفي مارس عام 1708، سلم فلامستيد المحكمين نسخة من جميع ملاحظاته التي سجلها فيما بين عامي 1689 و1705. كذلك وقع اتفاقية تلزمه بتسليم ملاحظاته عن القمر وكذا كتالوج منقح للنجوم الثابتة، مضاف إليه «أحجامها». وفي السنوات اللاحقة، استمر فلامستيد في إضافة ملاحظات جديدة إلى كتالوج النجوم الخاص به، وتحرر نسبيا من تدخل نيوتن. وكثيرا ما كان يستنكر سرا «دهاء» نيوتن الفاسد، مقحما تعليقاته في انتقادات أعمال نيوتن عن الجاذبية والبصريات.
انتهت فترة الهدوء القصيرة التي تخللت معركتهما فجأة في ديسمبر عام 1710، حين تلقى فلامستيد فرمانا رسميا من الملكة آن تخبره فيه أنه في سبيل تحسين الملاحة، سوف يتولى الإشراف على المرصد الفلكي هيئة مراقبين - برئاسة رئيس الجمعية الملكية - مخول لها المطالبة بجميع ملاحظات الفلكي الملكي عن العام السابق وذلك على فترات سنوية. ومما زاد الأمور سوءا، سمع فلامستيد في ربيع العام التالي أنه مطالب الآن بتقديم بعض أحجام الكويكبات التي لم تكن مدرجة في الكتالوج إلى نيوتن، في إشارة إلى حنث نيوتن بوعده وقيامه بفتح الكتالوج. انزعج فلامستيد من تصرفات نيوتن الدنيئة، وهاله أكثر ما وجده من أن عمله (التاريخ السماوي لبريطانيا) جارية طباعته دون إذنه، وهي خطوة اعتبرها «واحدة من أجرأ الأشياء التي أقدم عليها على الإطلاق». وتأكدت مخاوفه في أواخر مارس عام 1711، حين بلغه أن هالي «يتولى أمر» كتالوجه. وعلى مدار الشهور التالية، تعرض فلامستيد لمزيد من المهانة بمطالبته بتصحيح صفحات من طبعة هالي، فقرر أن ينتج طبعته الخاصة.
وصلت العلاقات إلى نقطة مشتعلة في أحد الاجتماعات بالمقر الرئيس للجمعية الملكية في أكتوبر عام 1711 حينما عرض نيوتن إصلاح معدات المرصد الفلكي، في إشارة ضمنية إلى أنها ملك للدولة وليست - كما كان فلامستيد يصر - ملكا له. وتشير رواية فلامستيد الممتعة للموقف إلى فقدان نيوتن السيطرة على نفسه تماما، إذ:
انفجر في نوبة انفعال، وأهانني على نحو لم أتعرض له من قبل في حياتي: لم أدل بأي ردود، ولكنني فقط طالبته بأن يتحلى بمزيد من الهدوء، وأن يخفف من حدة انفعالاته، وشكرته على الألقاب المشرفة العديدة التي خلعها علي، وأخبرته أن الله قد بارك مساعي حتى الآن.
وبحسب فلامستيد، كان لفظ «تافه مغرور» أقل الألفاظ التي نعته بها نيوتن إهانة؛ فقد سأل فلامستيد عما أنجزه خلال العقود الأربعة التي تلقى فيها أموالا من الدولة، وهو ما دفع الفلكي الملكي الجريء لسؤال نيوتن عما كان يفعله لكي يحصل على 500 جنيه استرليني سنويا كرئيس لدار سك العملة. والأسوأ من ذلك ما ذكره فلامستيد عن أن هناك من ادعى أن فقرة في كتاب «البصريات» (وكان يقصد على الأرجح الملاحظات غير المصححة عن مركز الإحساس لدى الله) قد جعلت نيوتن عرضة للاتهام بالإلحاد. وفي سياق ادعائه أن نيوتن وأتباعه لصوص ، دفع ذلك نيوتن إلى نعته بالغطرسة والصلف. وظهرت طبعة هالي في العام التالي، مصحوبة بهجوم شبه صريح على تلكؤ فلامستيد في نشر ملاحظاته. واستمر البؤس حتى النهاية، إذ عاش فلامستيد عشر سنوات أخرى، ليخلفه في منصب الفلكي الملكي محرر النسخة الزائفة من كتاب «التاريخ السماوي لبريطانيا».
لايبنتز وقلبه المحطم
كان الألماني جوتفريد لايبنتز خصما فكريا أهم وأقوى بكثير، ولعله كان الند الفكري الوحيد لنيوتن في تلك الفترة. زار لايبنتز إنجلترا في عامي 1673 و1676، وبحلول الزيارة الثانية كان قد ابتكر نسخة مختلفة تماما من حساب التفاضل والتكامل الذي كان عمره آنذاك عشر سنوات. في هذه المرحلة، كانت العلاقة بين نيوتن ولايبنتز طيبة، وهو ما ظهر في الخطابين اللذين كتبهما نيوتن للايبنتز في عام 1676. وربما لجهله بأسبقية نيوتن في اكتشاف حساب التفاضل والتكامل (رغم أن كولينز قد أطلعه على نسخة من أطروحة «التحليل» خلال زيارته الثانية للندن)، نشر لايبنتز قواعد التفاضل والتكامل في عام 1684. وفي أواخر القرن السابع عشر، أشار فاتيو إلى أن تفاضل وتكامل لايبنتز كان أقل شأنا من تفاضل وتكامل نيوتن ومتأخرا عنه، مضيفا أنه من الممكن أن يكون لايبنتز قد «استعاره» من نيوتن. وفي المقابل، كتب لايبنتز مقالات نقدية مجهولة الاسم لكل من أطروحة «التربيع» الصادرة عام 1704 وكذلك أطروحة «التحليل» (التي ظهرت لأول مرة في مجموعة حررها ويليام جونز في عام 1711)، والتي ألمح فيها إلى أن حساب التفاضل المتدفق كان مجرد حساب التكامل التفاضلي الذي ابتكره ولكن بتنويت مختلف. وفي السنوات التالية، تفجرت القضية في شكل سلسلة من الحوارات اللاذعة بشأن اللاهوت، والميتافيزيقا، والفلسفة الطبيعية، والرياضيات.
وفيما كانت المشاكل مع لايبنتز على وشك الحدوث، عمل نيوتن مع روجر كوتس، أستاذ الفلك الموهوب وصاحب كرسي الأستاذية في الفلك بجامعة كامبريدج، لإعادة صياغة كتاب «المبادئ الرياضية». فمنذ بداية تسعينيات القرن السابع عشر، عمل نيوتن على نحو دوري على تصحيح رائعته، ولكن بعد أن تعاونا معا كفريق في عام 1709، حثه كوتس على إحداث المزيد من التغييرات الجذرية، خاصة على الكتاب الثاني. وفي بداية عام 1713، أنهى نيوتن مقال «ملاحظة توضيحية عامة» لضمه لكتاب «المبادئ الرياضية». وفيها شن هجوما ضاريا على «فرضيات» الدوامات، ومضى يؤكد أن الدور المجدد للمذنبات بل والبنية الكلية المنظمة للكون كانت دليلا على أن العالم قد خلق بيد إله حكيم وقادر على كل شيء. وكتب يقول إن هذا الكيان الروحاني يبسط حكمه على عبيد في أرضه باعتباره «ربا للجميع». لقد كان الله حاضرا في كل مكان وفي جميع الأزمان، وكان له حضور «قوي» دون أن يخضع للظواهر المعتادة التي تؤثر على الأجسام. وكانت هناك أمور يمكن معرفتها عن الله بالقياس، وعاد نيوتن بالذاكرة إلى التحليل الوارد في أطروحة «الجاذبية» بادعاء أن الله كان «بصيرا وسميعا ومدبرا للأمر وجبارا وعليما ومطلعا وقادرا». غير أن هذا لم يكن «على نحو بشري على الإطلاق ... وليس ماديا، بل كان بأسلوب لا نحيط به علما على الإطلاق».
وفي اللحظات الأخيرة، أشار نيوتن إلى أن الحديث عن الله «يقع بالتأكيد في إطار الفلسفة التجريبية»، واتسع نطاق هذا التعبير ليغطي جميع أجزاء الفلسفة الطبيعية في طبعة 1726 الثالثة والأخيرة. وفي تعظيمه لدور الله لمثل هذا الحد، كان نيوتن كعادته يعبر بحذر عن جانب من معتقداته اللاهوتية الجوهرية. ففي عام 1713، كانت لا تزال كارثة أن يذاع عن أحدهم أنه مناهض للعقيدة الثالوثية - مثلما كان ويستون قبل بضعة أعوام فقط - على الرغم من أن عددا من علماء اللاهوت كانت لديهم شكوك حول صحة مقال «ملاحظة توضيحية عامة» عند نشره.
وفي الفقرتين الختاميتين، عاد نيوتن إلى البندين الرئيسيين لمشروعه العلمي برمته. فأكد أولا أن لا داعي لاختلاق سبب افتراضي للجاذبية في حين أثبتت الملاحظات والتجربة وجودها. كذلك لفت الانتباه إلى «روح معينة ودقيقة إلى أقصى حد تتخلل جميع الأجسام الكبيرة وتختبئ فيها»، مما أدى لنشوء ظواهر التماسك، والضوء، والكهرباء، والطاقة التي نملكها لتحريك أجسادنا. غير أن هذه الأشياء، حسبما أشار، لم يكن من الممكن شرحها في بضع كلمات، ولم يكن هناك تجارب كافية لتحديد القوانين التي تحكمها. على الجانب الآخر من العمل، كتب كوتس على سبيل المساعدة تمهيدا في فصل الربيع أطلق من خلاله مصطلح «زاحف بائس» على أي شخص يعتقد أن بإمكان المرء أن يستنتج نظام العالم من خلال التفكير وحده، أو يؤمن بأن الله قد خلق كونا ليس في طريقة عمله المثالية أي دور للإرادة الحرة أو تدخل من قوة خارقة للطبيعة. ومع تطور المشكلة مع لايبنتز ومؤيديه، أصبح الهدف المجهول واضحا.
قضايا الأسبقية
أخذ ما يسمى بنزاع الأسبقية مجراه كما ينبغي حين رد لايبنتز في مارس عام 1711 على بحث أجراه جون كيل أكد فيه أن نيوتن كان أول من اخترع حساب التفاضل. وقد قدم نيوتن، الذي كان آنذاك قد اطلع على المقال النقدي «مجهول الاسم» لأطروحة «التربيع» التي امتعض منها كيل، قدم المساعدة لكيل لإعداد رد مفحم على ادعاءات أسبقية لايبنتز، ورد لايبنتز ردا وافيا في بداية عام 1712. بعد ذلك بقليل، تلقى نيوتن نقد لايبنتز السلبي لأطروحة «التحليل»، وعلى الفور شرع في تكوين لجنة من الجمعية الملكية للوقوف على حقيقة الأمر فيما يتعلق بنزاع الأسبقية (بناء على طلب لايبنتز). وكما حدث في حالة فلامستيد، شكل نيوتن لجنة تابعة ولكن محايدة ظاهريا، لم يكن من المحتمل أن يكون قرارها في صالح لايبنتز. واستخدم مهاراته البحثية الواسعة في استعراض أبحاثه وخطاباته (بما فيها تلك الواردة في مجموعة جون كولينز، والتي استخدمها جونز من أجل طبعته) بحثا عن الأدلة، وقدم للجنة كل ما كانوا يحتاجون إليه للوصول إلى قرار. وقد جرى تجميع ونشر البيانات والمعلومات ذات الصلة تحت عنوان «مراسلات دكتور جون كولينز وتحليلات متقدمة» والذي ظهر في بداية عام 1713.
رد لايبنتز الذي تعرض للشجب والاستهجان طوال النص، تحت اسم مجهول من خلال ما أطلق عليه «البيان الطائر». كذلك استعان بشهادة «عالم رياضيات علامة» (هو يوهان برنولي) التي أشارت في معناها العام إلى أن نيوتن يفتقر للخبرة الكافية في التفاضل والتكامل لكي يعتبر مخترعه. وأطلقت الهجمات والهجمات المضادة على صفحات الصحف الأوروبية الكبرى، وحين شعر أن موقفه لم يوضح بالشكل الكافي ، نشر نيوتن بيانه عن «المراسلات» الذي أطلق فيه العنان لأهوائه لأقصى درجة وذلك في بداية عام 1715.
ثمة سياق كان على نفس الدرجة من الأهمية لهذا النزاع هو موقف لايبنتز كمؤرخ رسمي لنظام الأمير جورج في هانوفر. فحين توفيت الملكة آن دون أن يكون لها أبناء في صيف عام 1714، وأصبح الحاكم الهانوفري ملكا لبريطانيا بموجب قانون توارث العرش، الصادر عام 1701، سرعان ما شرع نيوتن وحلفاؤه في إقناع الهانوفريين بحقيقة الفلسفة النيوتنية. ورتب نيوتن لإجراء تجارب بصرية لعرضها على خليلة الملك، فيما بدأ صامويل كلارك، وهو قس ملحق بقصر الملك، في التأثير على الأميرة الموهوبة كارولين، زوجة أمير ويلز. غير أنه في نوفمبر عام 1715، أشار لايبنتز إلى الأميرة أن أتباع نيوتن حذوا حذو لوك في اعتبار أن الأرواح مادية، وأنهم يعتقدون أن الفراغ هو عضو في جسد الله كان يدرك به ما كان يدور في الكون. وقد كان مثل هذا الاتهام يحتاج إلى رد، فقدم كلارك نفسه، وهو أكثر أصدقاء نيوتن الموثوقين في العقدين الأخيرين من حياة نيوتن، بوصفه المدافع عن قضية نيوتن.
لم يكن نيوتن يرغب في أن يستدرج علانية لكل هذه القضايا، ولكن التهديدات كانت في أوجها. وحين زار لندن عدد من العلماء والفلكيين الأجانب في عام 1715، أطلع هالي ونيوتن مجموعة منتقاة من الضيوف على مخطوطات نيوتن القديمة لإثبات أسبقية نيوتن في نزاع التفاضل والتكامل. كذلك أطلعهم خليفة هوكسبي المتمكن، جان-ثيوفيل ديزاجيولايه، على تجربة نيوتن بالغة الأهمية، ووردت الأنباء إلى الفلاسفة الفرنسيين عن أن عقائد نيوتن بشأن الضوء والألوان كانت صحيحة. وفي السنوات القليلة التالية، انتشرت عقائد نيوتن بشكل كاسح عبر القنال الإنجليزي: فظهرت طبعة ثانية من كتاب «البصريات» في عام 1719، وتوالى بعدها ظهور طبعات فرنسية في العامين التاليين.
كانت المراسلات المهمة بين كلارك ولايبنتز تتم من خلال خطابات ترسل إلى كارولين. ولاحتوائها على العديد من الموضوعات، فقد غطت كل الفوارق الأساسية بين المعسكرين، وسخر كل طرف من الآخر من أجل إظهار آراء الخصم ساذجة أو مارقة. وقد أولى نيوتن انتباها خاصا بجانب كلارك في النزاع، وكانت رسائل كلارك متسقة تماما مع آرائه الخاصة، على الرغم من أن نيوتن لم يعد مسوداتها. وفي تبادل لعشر رسائل مع كلارك في السنة حتى وفاة لايبنتز في نوفمبر عام 1716، أطلق لايبنتز عددا من الاتهامات، من ضمنها الادعاء بأن أتباع نيوتن قد أحدثوا فراغا في جسد الله؛ وأن الله قد خلق عالما معيبا حتى أنه كان يضطر للتدخل بشكل دوري لإصلاح ماكينته المعيبة؛ وأن باعتقادهم بأن الله قد تصرف بطريقة لم تتقيد بالمنطق، حوله أتباع نيوتن إلى حاكم استبدادي (وهو ما يشير ضمنا إلى العداء الذي يكنه أتباع نيوتن للملك جورج الأول واشتياقهم للحكم الاستبدادي لابن الملك جيمس الثاني). لقد كان مبدأ «الجذب» غير مفهوم، وعاد بالفلسفة إلى عصور الظلام، ودحض كل الأعمال الجيدة للفلسفة الميكانيكية.
كرر كلارك ذلك الاتهام الفج بأن مفهوم لايبنتز للتوافق الموضوع مسبقا قد أنكر وجود الإرادة الحرة وكرر النقطة التي طرحها كوتس بأن رب لايبنتز «المالك المتغيب» قد صنع خلقا مثاليا أشبه بالآلة في البداية، حتى أنه لم يكن لديه حاجة للقلق بشأنه بعد ذلك. فقد بدا أن لايبنتز قد قيد قدرة الله بالإيحاء بأنه قد اضطر للامتثال لقوانين المنطق، بينما في سياق آخر بدا أن لايبنتز كان يعتقد أن بإمكان المرء أن يستنتج من المبادئ المنطقية حقائق بشأن العالم دون الاضطرار لتحمل عناء التجريب. لقد كان الله بالنسبة لنيوتن وكلارك قادرا على كل شيء، وبإمكانه القيام بالأشياء بحرية بمجرد فرض إرادته لتحقيق غايات ربما لم تكن مفهومة للبشر العاديين (حتى نيوتن). لقد كان الجذب مفهوما باعتباره «اسما» يشير لحقيقة مبنية على الملاحظة، ومفضلة أيما تفضيل عن فلسفة «الجوهر الفردي» الغامضة ذات الطابع الميتافيزيقي المفرط التي عرضها لايبنتز. انتهى النزاع بوفاة لايبنتز في نوفمبر عام 1716، وهو الوقت الذي ترسخت فيه الآراء. غير أن «تلميذته» الأميرة كارولين يبدو أنها مالت نحو الموقف النيوتني بحلول وفاته، وهو ما كان ليسبب نوعا من الحرج وخيبة الأمل له.
الفصل العاشر
القناطير وحيوانات أخرى
خلال العقد الأخير من حياته، واصل نيوتن أداء الكثير من واجباته ومهامه الإدارية في الجمعية الملكية ودار سك العملة، على الرغم من أن صحته لم تساعده في ذلك على نحو متزايد. وفي عام 1725 نصحته كاثرين وجون كوندويت بالانتقال إلى أجواء كنسينجتون الأكثر صحية بعيدا عن دخان لندن المميت. وتضاءلت أيضا طاقاته الفكرية، على الرغم من أنه كان يخصص ساعات من كل يوم لدراسة النبوءة، وتاريخ الكنيسة، وعلم التقسيم الزمني للتاريخ. وظهرت طبعة ثالثة من كتاب «المبادئ الرياضية» في عام 1726، عكف على تحريرها هنري بمبرتون، وإن كانت هذه الطبعة لم تضف إلا القليل إلى الطبعة الثانية.
وعلى الرغم من انتهائه كقوة إبداعية منذ زمن، ظل نيوتن الفيلسوف الطبيعي الأبرز في أوروبا. وظل لعقود يضع أتباعه ومريديه في مواقع القمة في كبريات الجامعات الهولندية والبريطانية، وحين لم تعد مثل هذه المواقع متاحة، راح معجبوه يتحدثون عن الفلسفة النيوتنية في العديد من الكتب وسلاسل المحاضرات. وبحلول عشرينيات القرن الثامن عشر، تربع النظام النيوتني على القمة، على الرغم من أن عقائده ومبادئه استغرقت عشر سنوات بعد وفاته لكي تحظى بالقبول والرضا الكامل في فرنسا. وقد تحقق ذلك بفضل المهارات الترويجية لفولتير، وفرانشكو ألجاروتي، ومدام دو شاتليه، إلى جانب الاستكشافات العلمية في بيرو ولابلاند التي أثبتت أن الأرض مفلطحة عند القطبين كما ادعى نيوتن.
واصل نيوتن سعيه المتواصل وراء الحقيقة الدينية، وإن كان قد أصبح أكثر حذرا بشأن قراءة الأحداث المعاصرة كتحقق للنبوءات. ففي مسودة يعود تاريخها إلى عشرينيات القرن الثامن عشر، حدد عام 2060 تاريخا ليوم القيامة في البداية، لا سيما من أجل إرباك هؤلاء الذين كانوا يأملون في بداية سريعة للألفية. ولم يلعب علم المستقبليات التخميني دورا في الأساليب التفسيرية لرجل كان يؤمن بتفسير النبوءة في إطار الحقائق التاريخية. ولا يزال هناك مسودات ضخمة عن تاريخ الكنيسة المبكر، عاصر الكثير منها وارتبط بنزاعاته مع لايبنتز. استكشفت هذه المسودات التاريخ المبكر للمسيحية، وأصبح نيوتن مهتما بالطريقة التي حرفت بها الجماعات المهرطقة المتعددة، مثل الكاباليين والغنوصيين، العقيدة الحقيقية بواسطة الميتافيزيقا، «محولين الكتب المقدسة من إطار أخلاقي إلى إطار ميتافيزيقي».
وكما يرى كوندويت، فقد كان أهم أعماله في فترة شيخوخته بحثا اختار له عنوان «مقترح السلام أو جنوح النظام الكنسي للسلام». لقد كانت مبادئ الدين المسيحي موجودة في «الكلمات المعبرة» للمسيح والحواريين - «ليس في الميتافيزيقا أو في الفلسفة» - ولم يكن بالضرورة أن توجد في الكتاب المقدس كما هي الآن. إذ كانت جميع الأمم في البداية لها دين واحد، كانت مبادئه الأولى هي:
أن يكون لك إله واحد، وألا تنصرف عن عبادته، ولا تدنس اسمه؛ وأن تتجنب القتل، والسرقة، والفسوق، وكل الموبقات؛ وألا تقتات على لحم حيوان حي أو تشرب دمه، ولكن أن تكون رحيما حتى بالوحوش الضارية؛ وأن تقيم محاكم العدل في كل المدن والمجتمعات لتضع هذه القوانين موضع التنفيذ.
اكتسب رجال، مثل فيثاغورس وسقراط وكونفوشيوس، هذه المعرفة، وبالتدريج أصبحت الفلسفة الأخلاقية للوثنيين - «القانون الأخلاقي لكل الأمم» - على الرغم من أن معظمهم كان يلجأ لعبادة الأوثان.
كانت عبادة الأوثان انتهاكا لأولى ما اعتبره نيوتن الوصايا الكبرى؛ أي عبادة وإجلال الله. فليس لنا أن نمنح العبادة المستحقة له لأي مخلوق آخر، «ولا أن ننسب أي شيء لا معقول أو متناقض لطبيعته أو أفعاله خشية أن يظن بنا أننا نجدف على الله، أو ننكره، أو نخطو خطوة في اتجاه الإلحاد أو اللادينية». وكانت الشهوة والغرور - «الرغبة الجامحة في النساء والثراء والرفعة، أو التخنث والجشع والطموح» - هما أبشع انتهاكين للوصية الثانية من الوصايا الكبرى، والتي هي «الإنسانية»؛ أي تطبيق الإنصاف والعدل تطبيقا عمليا، وحب الجيران كحبك لنفسك بمعاملتهم كما تحب أن تعامل به. لقد فرضت المسيحية الفريضة الجديدة المتمثلة في الرحمة بالآخرين، وإن لم يكن الجميع ليتفقوا في الرأي على أن نيوتن قد أظهر ذلك مطلقا في ممارساته الخاصة، كما رأى فلامستيد.
أما بالنسبة للمجتمعات المسيحية، فقد ادعى نيوتن أن جميع هؤلاء الذين تم تعميدهم كانوا أعضاء في جماعة المسيح أو «الكنيسة»، حتى لو لم يكونوا أعضاء بأي كنيسة أو طائفة معينة. بعد التعميد، يفترض أن يترعرع البشر في نعمة الله وفضله من خلال دراسة النبوءات، ومقارنة العهد الجديد والعهد القديم، و«تعليم أحدهم الآخر في خنوع ومحبة دون فرض آرائهم الخاصة أو التشاحن بشأنها». وفي كنيسة إنجلترا، كان بالإمكان قبول الناس في طائفة أو ملة عن طريق طقوس وضع الأيدي على الرأس، وكان يمكن حرمانهم كنسيا إذا خالفوا أيا من البنود التي قبل تعميدهم على أساسها، ولكن هذا لم يكن ينفي عضويتهم للكنيسة الأكبر والتي منحت لهم عن طريق التعميد. وعلى مدار حياته، كان نيوتن يشعر بقدرته على الجهر بإيمانه بالعقيدة الإنجيلية بينما كان يحتقر الكثير من معتقداتها؛ فما كان يهم القلة المختارة مثله هو معتقداتهم الدينية الخاصة.
كرس نيوتن أيضا الكثير من سنواته الأخيرة لدراسة علم التقسيم الزمني للتاريخ. فقد جذب تأريخ الأحداث القديمة والتوفيق اليوهيميري بين السجلات التاريخية وسلالات الأنساب لمختلف الأمم انتباه الكثير من أعظم العلماء في كل من الدول البروتستانتية والكاثوليكية في القرون السابقة. وعلى الرغم من أن العهد القديم كان المصدر الأقدم والأكثر موثوقية للتاريخ القديم، فقد استخدم المؤرخون أساليب متنوعة للتوافق مع السجلات التاريخية الوثنية التي أحيانا ما كانت تسرد نفس الأحداث. ومنذ أواخر القرن السادس عشر، وعدت التقنيات الفلكية بمساعدتهم في تعيين أحداث تاريخية محددة بمزيد من الدقة.
وقد أظهرت أبحاث نيوتن الموسعة في تقسيم التاريخ معرفة ضخمة بالأدب الكلاسيكي وأدب العهد القديم. وفي محاولة منه لإعادة تأريخ - وتقليص طول - التاريخ المسجل بشكل جذري، استخدم أدلة فلكية جديدة تماما مبنية على ظاهرة الكسوف، وتبنى الفكرة المتطرفة القائلة بأن متوسط طول حكم الملوك في التاريخ كان يتراوح بين 18 و20 عاما. وباستثناء هيرودوت، الذي كان يكن له إعجابا، فقد شجب سلالات الأنساب مفرطة الطول لجميع السجلات التاريخية الوثنية الأخرى.
انشغل نيوتن في التأريخ الدقيق لسجلات ما قبل المسيحية منذ بدايات ثمانينيات القرن السابع عشر، ولكن الجزء الأضخم من كتاباته في تقسيم التاريخ يرجع تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر، حين كان رئيسا لدار سك العملة. وقد ظهر «ملخص» في تقسيم الزمن لأول مرة بترجمة فرنسية تم إعدادها بعد سنوات عديدة من إيداع نيوتن نسخة إنجليزية في حوزة الكونت الفينيسي أنطونيو كونتي لتسليمها للأميرة كارولين. وتسبب ظهور هذا النص في إثارة غضب نيوتن بشدة وتسبب في ظهور العديد من التفنيدات لعقائده الأساسية، لا سيما من جانب العالمين الفرنسيين الكبيرين نيكولا فريريه وإيتيين سوسيه. وقضى نيوتن السنوات الأخيرة من حياته في تأليف نسخة أطول بكثير من كتاباته، وإن كانت لم تظهر إلا بعد وفاته في عام 1728 تحت عنوان «تصحيح التقسيم الزمني لتاريخ الممالك القديمة».
كان من المحاور الرئيسة لبرنامج نيوتن تأريخ الرحلة البحرية لبحارة الأرجو، وهو الوقت الذي صنع فيه شيرون القنطور وموزيوس (أستاذ أورفيوس وأحد بحارة الأرجو) «مجالا» انجذبت إليه الكويكبات الظاهرة آنذاك. وباستخدام أدلة مبهمة إلى حد بشع لتعيين المكان الذي حدد فيه شيرون موضع الاعتدالين على المجال، ومقارنتها بقيمة تقدم الاعتدالين السنوية الموجودة في كتاب «المبادئ الرياضية»، استنتج نيوتن تاريخا للبعثة فيما بين 937-936 قبل الميلاد. وكان من العناصر الحيوية لمشروعه اتفاقه في الرأي مع المؤرخ اليهودي يوسيفوس (الذي تلا هيرودوت) في أن الفرعون المصري سيزوستريس هو نفسه شيشق، الملك المصري الذي دمر المعبد «بعد» وفاة سليمان، والذي وصف غزوه ليهودا في سفر الملوك الأول. وقد ازدهر سيزوستريس (أيضا أوزوريس أو باخوس) في الجيل الذي سبق رحلة بحارة الأرجو، وهي حقيقة أتاحت لنيوتن ربط تواريخ التاريخ المصري بالسجل التاريخي الواقعي للعهد القديم.
ميلاد الحضارة
في العصور الأولى - وفقا لنيوتن - كان هناك أمم عديدة مقسمة وفقا للطريقة التي تفرق بها أحفاد نوح (زحل). وقد كان كل تراث خاص بإمبراطورية معينة يدعو أسلافهم بأسماء مختلفة، ولكنه كان يروي بالضرورة نفس التاريخ. وكان أبناء نوح وذريتهم يعيشون في العصر الفضي في ظل شرائع نوح السبع، ومضى ليعمر أجزاء مختلفة من العالم. وعلى الرغم من أن الأحداث كانت قديمة للغاية بما يتعذر معه تأريخها بدقة، فقد تحدث نيوتن بحماس وعاطفة شديدة عن الحياة عبر أوروبا في العصور الأولى قبل ظهور مباهج وزخارف الحضارة سواء في شكل الزراعة ، أو الجعة، أو المال أو الحرب. وفي إحدى نسخ نص بعنوان «الممالك الأصلية»، طور تحليله الذي كتبه في ثمانينيات القرن السابع عشر وعاود التأكيد على أن الشكل الأصلي للعبادة قد ألزم القدماء بممارسة الشكل الفيستاوي للعبادة. غير أن ذلك كان ينحدر في كل الأحوال إلى الفسوق والزنا: فالمصريون - على سبيل المثال - أساءوا فهم معنى لغتهم الهيروغليفية وانحدر دينهم إلى المعتقدات المضحكة الخاصة بعبادة الحيوانات وتناسخ الأرواح.
شكل 10-1: تصوير إينك سيمان لنيوتن عام 1726.
1
وللهفته للرد على الهجمات التي تصاعدت ضد برنامجه عبر القنال الإنجليزي، كان نيوتن يعكف على تأليف كتابه «تصحيح التقسيم الزمني لتاريخ الممالك القديمة» خلال العامين الأخيرين من حياته. وبالفعل كتب عدة نسخ من فصول عديدة من العمل لم تظهر إلا بعد وفاته. واختفت العناصر الأكثر تشويقا وثورية لمشروعاته العظيمة، ولم يتبق سوى قائمة من الأحداث الموجعة المتعاقبة. وفي تلك الأسابيع والشهور الأخيرة، حاول نيوتن فيما يبدو أن يعيش الحياة المثالية التي شرحها بوضوح للمسيحي الصالح، وإن كان غضبه وحاجته لسحق الخصوم يطفوان على السطح من آن لآخر. فكان يصرف مبالغ طائلة من المال لكل من الأقارب والغرباء، وكان يعمل على تنظيم التبرع بالأناجيل. وكما رأينا في بداية هذا الكتاب، فقد كان الزوجان كوندويت يتذكران كراهيته الشديدة للاضطهاد والقسوة على الحيوانات.
وبحلول تاريخ وفاته في ربيع عام 1727، كانت شهرته وإنجازاته قد أتت على سمعة وإنجازات أي فيلسوف طبيعي آخر على الإطلاق. وكانت مكانته نادرا ما تضعف في تلك الأثناء، وفي إطار مدى تجاوز الإنجازات العلمية لأي شخص لإنجازات معاصريه، لا بد أن يحتل نيوتن تصنيفا يفوق الأبطال الآخرين أمثال داروين وأينشتاين. وعلى مدى ثلاثة قرون قدما، لا تزال حياته الخاصة واهتماماته الأكاديمية «الأخرى» مبهرة، فيما تشير استطلاعات الرأي إلى أن الأغلبية على مستوى العالم يعتبرونه أعظم مفكر عرفه العالم.
لقد تبنى نيوتن مناهج متنوعة لحل المشكلات في مختلف مجالات عمله، وإن كان ذلك لا ينفي وجود صلات وروابط دائمة بين الجوانب المختلفة لأبحاثه الفكرية. وعلى الرغم من كونها بالضرورة مشروعا شخصيا، فقد كان هو نفسه ينظر إلى أبحاثه اللاهوتية باعتبارها الجانب المحدد لحياته، وكانت لغة ومعنى الكتاب المقدس - إلى جانب ما يقال عن دوره في التاريخ - يحكمان سلوكه أكثر من أي شخص آخر. ومن الضروري أن ننظر بعين الاحترام لإيمانه القوي، وإن كان موجها نحو الكتب، غير أن الشجاعة والخيال والأصالة المذهلة التي صبغت إنجازاته في علم البصريات، والفيزياء، والرياضيات أكثر جدارة بإعجابنا. وبينما كان كوندويت يكافح من أجل الانتهاء من ترجمته لحياة نيوتن، اقترب بشكل خطير من التأكيد على أن صفات نيوتن قد جعلته أكثر من إنسان. وعلى الرغم من أنه لم يكن إلها، كان هناك مبرر في رأي هالي يفيد بأنه ما من إنسان آخر استطاع الاقتراب من مكانة الآلهة على الإطلاق مثله.
هوامش
قراءات إضافية
حدث تحول في دراسة حياة نيوتن وأعماله في السنوات الأخيرة بفضل المواد التي أتيحت مجانا عبر الإنترنت من موقع نيوتن بروجكت (http://www.newtonproject.ic.ac.uk) . وقد أصبحت أبحاثه في اللاهوت، وغالبية أبحاثه في البصريات متاحة في عام 2010، ويعتقد أن الأبحاث العلمية والرياضية والحكومية سوف تنشر في الوقت المناسب. يضم الموقع أيضا تقييمات ومقالات تمهيدية عن نيوتن وأعماله وكذلك عددا كبيرا من المصادر الأساسية الأخرى مثل جميع المواد المهمة المنشورة وغير المنشورة المتعلقة بالسيرة الذاتية لنيوتن والتي ألفت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد نشر موقع مشروع «الأعمال الكيميائية لإسحاق نيوتن» (
http://webapple.1.dlib.indiana.edu/newton/index.jsp )
العديد من كتابات نيوتن الخيميائية عبر الإنترنت، ويهدف لإتاحة كل أعماله في هذا المجال في السنوات القليلة القادمة.
وكما ذكرنا في الفصل
الأول ، فإن أهم السير الذاتية الدراسية التي كتبت خلال العقود القليلة الماضية هي تلك التي كتبها ريتشارد إس ويستفول وفرانك مانويل؛ ويظل كتاب مانويل «مؤرخ إسحاق نيوتن» (كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج، 1963)، أفضل ترجمة لكتابات نيوتن في التقسيم الزمني للتاريخ.
إن كلا من كتاب «خلفية عن كتاب المبادئ الرياضية لنيوتن» (أكسفورد، مطبعة كلارندون، 1995) لجون هريفل، وكتاب «أبحاث لم تنشر لإسحاق نيوتن» الذي حرره كل من إيه آر وإم بي هول (كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج، 1978)، يستنسخان المسودات والمراجعات المهمة المتعلقة بكتاب «المبادئ الرياضية». كذلك استنسخت محاضرات نيوتن في علم البصريات - بينما كان أستاذا في جامعة كامبريدج - في المجلد الأول من طبعة آلان شابيرو من أبحاث نيوتن البصرية، المزمع نشرها ذات الثلاثة مجلدات (كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج، 1984)، بينما تلك المحاضرات التي تخلو من أي خلفية شاملة في الرياضيات سوف تمر باختبار عصيب من خلال الطبعة الرائعة من كتاب نيوتن «الأبحاث الرياضية» الذي حرره دي تي وايتسايد في ثمانية مجلدات (كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج، 1967-1981). والمواد المتعلقة بالسيرة الذاتية لنيوتن والتي كتبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر متاحة الآن في شكل مطبوع، في الكتاب الذي حرره كل من ريبيكا هيجيت، وروب أيلف، وميلو كينز «الترجمات الأولى لإسحاق نيوتن، 1660-1885» (مجلدان)، (بيكرينج آند شاتو، 2006).
Page inconnue