والغريب أنه كان مقدرا تماما أنه سيفشل. أما لماذا كان مصرا على متابعة التجربة مع علمه بفشلها، فذلك أمر قد يدفعنا إلى التفكير في طبيعة الإنسان نفسه ... الإنسان الذي حين ييأس من النجاح يعوض هذا بالإكثار من تجاربه الفاشلة، ففشل واحد يعد فشلا، أما فشلان أو ثلاثة أو عشرة فممكن أن تعتبر ربع نجاح أو نصفه.
ما علينا من هذا، فقد خطر لدرش خاطر، نفس الخاطر الذي كان يواتيه وينفذه كلما طارد امرأة، أن يكلمها. وعلى هذا أسرع في خطوه حتى حاذاها. وابتلع ريقه مرة وأدب صوته أكثر من اللازم وروضه، وسألها بلهجة إنجليزية حاول أن تكون سليمة ومنخفضة في الوقت نفسه، سألها عن الطريق إلى فندق «زاخر».
وطبعا لم يكن في حاجة لسؤالها عن شيء كهذا، إذ هو أولا لا ينزل في «فندق زاخر»؛ لأنه من فنادق الدرجة الأولى العريقة التي تغوص الأقدام في أبسطتها العجمية الأصلية الفاخرة، ثم ثانيا لأنه يعرف الطريق جيدا إلى فندق فيكتوريا المتواضع الذي ينزل فيه.
كل ما في الأمر أنه أحب بسؤاله هذا أن يفهمها ويفهم كل من سألهن من النساء ثلاثة أشياء: يفهمها أنه أجنبي، وأنه أجنبي من النوع الفاخر، والثالثة أنه ضال وفي حاجة لمساعدة. يعني يفتح الباب على مصراعيه أمام أية واحدة لديها أقل رغبة في المغامرة.
ورد الفعل الذي حدث كان مفاجئا! فقد التفتت المرأة إلى الناحية الأخرى وكأنها خافت، ولكن روعها سكن في لحظة، وسكن في اللحظة التي كان درش يتم سؤاله بصوت أكثر امتلاء واعتدادا ...
ويبدو أن حالة الخوف والمفاجأة كانت لا تزال تتملكها، فالساعة كانت تقترب من الثانية عشرة والنصف، والشارع نوره قليل، والسؤال غريب ومن غريب، إذ قالت بكلمات إنجليزية مدشدشة النهايات ملخبطة الفاعل والمفعول أنها لم تفهم.
وللمرة الثالثة أعاد درش سؤاله، وقد كاد يزهق ويتركها وينصرف، فامرأة تخاف فقط من مجرد التوجه إليها بسؤال، لا يمكن أن تكون لديها الجرأة للقيام بمغامرة، أي مغامرة. وفقط بعدما انتهى درش من سؤاله للمرة الثالثة، تنفست ملامحها الصعداء وتهلل وجهها وقالت: يا ... يا ... (أي: نعم ... نعم.) وأوقفته، وأخذت المسألة جدا ومضت أيديها تشير ومظلتها توضح ولسانها يتلجلج بالإنجليزية في عجز الأخرس حين يريد أن ينطق، محاولة أن تريه الطريق إلى فندق زاخر.
ودرش لم يكن في هذا كله فاهما، كان يهز لها رأسه بحماس وهو يتابع شرحها مدعيا أنه فاهم كل الفهم، ولكنه يقرأ ملامحها بعين خبير محاولا أن يعثر على الشيء الذي يعرفه جيدا، الشيء الذي تنطق به ملامح المرأة حين تريد الرجل أو لا تريده، ولكنه لم يجد شيئا من هذا. ملامحها كانت جادة لا هزل فيها، وحماسها الصادق لإرشاده هو كل ما هنالك.
وبالابتسامة الباردة المعهودة استأذنت منه، وما لبثت أن تابعت طريقها. ودرش هو الآخر لم يلبث أن تابع طريقه خلفها ضاربا بكل إرشاداتها عرض الحائط. وحاول أن يعثر في مشيتها من الخلف على الشيء الذي لم يجده في ملامحها من أمام. حاول أن يضبط ارتباكا ما في خطوتها؛ لأنه يتبعها ولأنها تحس أنه لا يزال - رغم إرشاداتها - يتبعها، ولكنه لم يعثر على أي هزة أو ارتباك، كل ما حدث أن المرأة حين وصلت إلى عسكري كان واقفا على ناصية الشارع بقبعته المعهودة وقفت، وحدثته سريعا بالألمانية مشيرة إلى درش الذي كان قرر التلكؤ نهائيا على بعد وتجهيز نفسه لأي اتهام قد يوجهه له العسكري.
وقبل أن يكيل درش ما شاء من لعنات للمرأة النمساوية التي خدعته هكذا واشتكته إلى العسكري كما تفعل أي واحدة بملاءة لف في القاهرة، اقترب منه الرجل وحياه بأدب وابتسامة ودخل في الموضوع مباشرة، وراح يصف له بلغة سليمة الطريق الصحيح إلى فندق زاخر.
Page inconnue