بحث بعنوان: نَدْبُ العيد! ! لِمَ يندُبُ (١) كبارُ السِّنِّ - في كل زمَن - العِيدَ؟ ! لمَ يغيب السرورُ عن كثير من الناس في العِيد؟ ! (٢)

(١). النُّدْبَة والنَّدْبة: ندَب الميت يندبه ندبًا، أي: بكى عليه وعدَّد محاسنه، والندبة تختص بذكر محاسن الموتى، أن تدعو النادبة الميت بحسن الثناء في قولها: وافلاناه، واهناه، ... وهو من الندب الجراح، لأنه احتراق ولذع من الحزن. ينظر: «الصحاح» للجوهري (١/ ٢٢٣)، «مشارق الأنوار» للقاضي عياض ... (٢/ ٧)، «تاج العروس» (٤/ ٢٥٣). (٢). أصل هذه الفائدة مشاركة كتبتها (سنة ١٤٣٢ هـ) في منتدى أسرتي الخاص: «منتدى أسرة المديهش» واستطردت فيه من باب إلى باب، ورأيتُ الآن أنْ أُفرِدَ منه: ... «نَدْبَ العيد» في مقال عام للنشر، مع إضافات وترتيب.

1 / 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد فإن للمسلمين عيدين اثنين سنويين لا ثالث لهما، يأتيان بعد عبادة: الصوم، والحج، وفيهما عباداتٌ جليلة من صدقةٍ، وذبحٍ، وذكرِ لله، وقربات ... وفيهما فرَح مشروط بما أذن به الشارع الحكيم، فنحن عبيد لله في أرضه، نعمل بما شرع لا بما نشرع لأنفسنا ونهوى .. والفرح نوعان: محمود، ومذموم: (١) المحمود: فرح بالمشروع من: تمام عبادة، وإعانة عليها، وحصول علم، ومال وبنين، وصحة، وغير ذلك ... فرحًا وِفْق شرع الله.

(١). انظر: «مفتاح دار السعادة» لابن القيم - ط. دار الصميعي - (٤/ ٢٩٨٥ و٣٠٨٠ - ٣١٠٧). وفيه تفصيل عن: الفرح، والسرور، وأنه لافرق بينهما خلافًا لمن فرَّق. والوصف بالفرح أكمل من معنى السرور، فقد ورد وصف الله بالفرح.

1 / 2

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ يونس: ٥٧ - ٥٨ فذكر الفرح بعد القرآن. لذا قال المفسرون: فضل الله هو: الإسلام، ورحمته: القرآن. وقد عُدَّ من مقامات الإيمان: الفرح بالله، والسرور به. قال ابن القيم: (والله يحب من عبده أن يفرح بالعلم والقرآن والإسلام، ويُسرُّ به، بل يحب من عبده أن يفرح بالحسنة إذا عملها، ويُسَرُّ بها، وهو فرحٌ بفضل الله حيث وفَّقَه لها، وأعانه عليها، ويسَّرها له). (١) ومِن المذموم: الفرح بالمحرَّم، والباطل، والجهل، والإعراض عن الله قال تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ القصص: ٧٦ وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ الأنعام: ٤٤

(١). انظر: «مفتاح دار السعادة» لابن القيم - ط. دار الصميعي - (٤/ ٢٩٨٥).

1 / 3

وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ غافر: ٨٣ إنَّ بعض الناس إذا سمع الإذن بالفرح والاحتفال ظنَّ أنه أُطلق له ما كان محذورًا محرَّمًا قبل الفرح، فترك نفسه وما تهوى، وترك لأولاده ما يريدون، واحتجَّ بالعيد = الفرح. والأصل في الفرح وإظهاره في العيد ما ورد في «الصحيحين» عن عائشة ﵂ قالت: دخل عليَّ ... أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تُغنِّيان بما تقاوَلَت به الأنصار يوم بُعاث، قالت: وليستا بمُغنِّيتين (١)؛ فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في

(١). المقصود: الحداء وتزيين الصوت ورفعه، دون فحش وآلات محرمة، ورُخِّص الدف للنساء في: العيد والزواج والفرح. قال الخطَّابي (ت ٣٨٨ هـ) في «أعلام الحديث» ... (١/ ٥٩٤): (قد بُيِّن في هذه الرواية أنهما لم تكونا مغنيتين، والمغنية التي اتخذت الغناء صناعة وعادة، وذلك ما لا يليق أن يكون بحضرة الرسول ﷺ، فأما الترنم بالبيت والبيتين، وتطريب الصوت بذلك مما ليس فيه فحش أو ذكر محظور، فليس مما يسقط المروءة، أو يقدح في الشهادة، وكان عمر بن الخطاب لا ينكر من الغناء النَّصْبَ والحداء ونحوهما من القول، وقد رخص في ذلك غيرُ واحد من السلف ﵏. =

1 / 4

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وحكم اليسير من الغناء خلافُ حكم الكثير منه كقول الشعر يسيره مباح وكثيره حتى يسمى به شاعرًا مكروه). والمراد بالغناء هنا ليس الغناء المحرم المعروف في زماننا بأدوات الطرب والموسيقى فهو محرم بإجماع المسلمين، بل المراد ما يُعرف بالنشيد والحداء، فهذا مما يطلق عليه الغناء لغةً. قال ابن حجر في «فتح الباري» (٢/ ٤٤٢): («ليستا بمغنيتين» فنَفَتْ عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على: رفع الصوت، وعلى الترنُّم الذي تسميه العرب النَّصَب - بفتح النون وسكون المهملة ـ، وعلى الحداء، ولا يُسمَّى فاعلُه مُغنِّيًَا، وإنما يُسمَّى بذلك مَن ينْشُدُ بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي: قولها «ليستا بمغنيتين» أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرِّك الساكن ويبعث الكامن ...). انتهى المراد من «فتح الباري». والدف إنما هو للنساء والجواري، في أوقات معلومة، دون الرجال، وهو مستثنى من تحريم المعازف: قال ابن رجب (ت ٧٦٥ هـ) في «فتح الباري» (٨/ ٤٣٣): (وفي الحديث ما يدل على تحريمه في غير أيام العيد؛ لأن النَّبيّ ﷺ علَّل بأنها أيام عيد، فدل على أن المقتضي للمنع قائم، لكن عارضه معارض وهو الفرح والسرور العارض بأيام العيد. وقد أقرَّ أبا بكر على تسمية الدف مزمور الشيطان، وهذا يدل على وجود المقتضي للتحريم لولا وجود المانع).

1 / 5

بيت رسول الله ﷺ؟ ! وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله ﷺ: «يا أبا بكر إنَّ لكل قومٍ عيدًا، وهذا عيدنا». وفي لفظ لمسلم: «جاريتان تلعبان بدُف». (١) وفي رواية في «الصحيحين» أيضًا: دخل رسول الله ﷺ وعندى جاريتان تغنيان بغناء بُعاث، فاضطجع على الفراش وحوَّل وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله ﷺ؟ فأقبل عليه رسول الله ﷺ فقال: «دعهما». فلما غفَل غمزتهما فخرجتا ــ وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب ـ

(١). «صحيح البخاري» الحديث رقم (٩٥٢)، «صحيح مسلم» حديث رقم (٨٩٢). قال القاضي عياض (ت ٥٤٤ هـ) ﵀: في «إكمال المعلم» (٣/ ٣٠٨): (وفيه جواز اللعب بالدفِّ في النكاح والأعياد وأفراح المسلمين ما لم يكثر ذلك، وهو الدف العربى المدوَّر بوجهٍ واحد، المسمى بالغربال). قال ابن حجر في «فتح الباري» (٢/ ٤٤٣): (ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه).

1 / 6

ـ فإما سألتُ رسول الله ﷺ وإما قال: «تشتهين تنظرين»؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه خدِّي على خدِّه، وهو يقول: «دونكم يا بني أرفدة». حتى إذا مللتُ قال: «حسبكِ»؟ قلتُ: نعم، قال: «فاذهبي». وفي رواية: أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان من أيام منى تغنيان وتضربان ورسول الله ﷺ مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله ﷺ عنه، وقال: «دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد». وقالت: رأيت رسول الله ﷺ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون، وأنا جارية، فاقدُروا قدْرَ الجارية العَرِبة الحديثة السن. وفي رواية في «صحيح البخاري» عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كان الحبش يلعبون بحرابهم، فسترني رسول الله ﷺ وأنا أنظر، فما زلتُ أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، تسمع اللهو. (١)

(١). «صحيح البخاري» حديث رقم (٥١٩٠)

1 / 7

ففي قوله: «وهذا عيدنا» وإقراره الجاريتين دليل على مشروعية إظهار الفرح في العيد. قال الخطَّابي (ت ٣٨٨ هـ) ﵀: (وقوله: «وهذا عيدنا» يعتذرُ به عنها، يريد أنَّ إظهار السرور في العيد من شعار الدين وإعلان أمرِه والإشادَةِ بذكرِه، وليس كسائر الأيام سواء). (١) قال ابن رجب الحنبلي (ت ٧٩٥ هـ) ﵀: (يريد إظهار السرور في العيد من شعائر الدين ... (٢) وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت ٨٥٢ هـ) ﵀): وفي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم بسط النفس وترويح البدن من كلَف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى. وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين ...). (٣)

(١). «أعلام الحديث» (١/ ٥٩٥). (٢). «فتح الباري في شرح صحيح البخاري» لابن رجب (٨/ ٤٢٦). (٣). «فتح الباري» لابن حجر (٢/ ٤٤٣).

1 / 8

وذكر الصنعاني (ت ١١٨٢ هـ) ﵀: أن إظهار السرور في العيد مندوب، وهو من الشريعة التي شرعها الله لعباده ... (١) ... قال النووي (ت ٦٧٦ هـ) ﵀): قولها: «وأنا جارية فاقدروا قدر الجارية العربة حديثة السن» معناه: أنها تحب اللهو والتفرج والنظر إلى اللعب حبًا بليغًا وتحرص على إدامته ما أمكنها، ولا تمل ذلك إلا بعذر من تطويل. وقولها: «فاقدروا» هوا بضم الدال وكسرها لغتان حكاهما الجوهري وغيره، وهو من التقدير أي: قدروا رغبتنا في ذلك إلى أن تنتهي. وقولها: «العَرِبة» هو بفتح العين وكسر الراء والباء الموحدة ومعناها المشتهية للعب المحبة له. (٢) ما العيد؟ أكثر العلماء والأدباء والشعراء من وصف العيد، وما يجري فيه، وتعددت مذاهبهم في ذلك ...

(١). «سبل السلام» (٢/ ٥٠٢). (٢). «شرح صحيح مسلم» للنووي (٦/ ١٨٥)

1 / 9

والعيد معنى جميل في يوم، وليس اليوم ذاته مجردًا، بدليل أن عيد الفطر قد يختلف من بلد إلى بلد حسب الرؤية. و«الفطر يوم يفطر الناس». (١) قال الرافعي ﵀: «العيد هو المعنى الذي يكون في اليوم، لا اليوم نفسه». (٢) وقال الطنطاوي ﵀: «العيد في حقيقته عيد القلب، فإن لم تملأ القلوبَ المسرَّةُ، ولم يترعها الرضا، ولم تعمها الفرحة، كان العيد مجرد رقم على التقويم». (٣) فالقصد في العيد مع مشاعر الفرح: تنقية النفوس مما اعتراها من الكدر، والعلاقات وما تلبس بها من القذى والقطيعة، «فنَقَاءُ الضمائر، وسيادة الوحدة في الصف والجمع الإسلامي؛ من أعظم أهداف المظهر

(١). من أجمل الكتب عن العيد، رسالة جامعية مطبوعة بعنوان: «الأعياد وأثرها على المسلمين» د. سليمان بن سالم السحيمي، ط. عمادة البحث العلمي في الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية، مجلد فيه (٥٥٠ صفحة)، الطبعة الأولى ١٤٢٢ هـ. (٢). «وحي القلم» (١/ ٦٤). (٣). «صور وخواطر» (ص ٣٦٤).

1 / 10

الإسلامي الذي تجلى به العيد». (١)» ومن أراد معرفة أخلاق الأمم فليراقبها في أعيادها؛ إذْ تنطلق السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها؛ والمجتمع السعيد هو الذي تسمو أخلاقه الاجتماعية في العيد إلى أعلى ذروة». (٢) تَعرف المجتمعَ بعِيدها واجتماعاتها، «فأعياد الأمم هي الأيام التي تستعلن فيها خصائص الشعوب وذخائرها وأخلاقها الأدبية والعقلية والنفسية والسياسية، هي الأيام المبتهجة التي تنبض بالحياة وأسبابها في الأمة ....» (٣) قال الرافعي: يومُ العيد، زمن قصير ضاحك، هو يوم السلام والبِشر والضحك والوفاء والإخاء، وقول الإنسان: وأنتم بخير ... يومُ الزينة، يوم تقديم الحلوى إلى كلَّ فمٍ لتحلوَ الكلماتُ فيه ... يومٌ تعُمُّ فيه الناسَ ألفاظُ الدعاء والتهنئةِ مرتفعةً، فوقَ منازَعاتِ

(١). «الموزون والمخزون» لأبي تراب (ص ٢٠٥). (٢). «أخلاقنا الاجتماعية» للسباعي (ص ١٧١). (٣). «جمهرة مقالات محمود شاكر» (١/ ١٤٩).

1 / 11

الحياة ... (١) وقال الرافعي أيضًا: ليس العيدُ للأمة إلا يومًا تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يومَ الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع ... وقال: ليسَ العيدُ إلا تعليمَ الأمَّةِ كيف تتَّسع روحُ الجِوار وتَمتَدُّ، حتى يرجع البلدُ العظيمُ وكأنَّه لأهلهِ دارٌ واحدةٌ، يتَحقَّقُ فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلةُ الإخلاصِ مُستعلنةً للجميع، ويُهدِي الناسُ بعضُهم إلى بعض هدايا القلوبِ المخلصةِ المحبة، وكأنما العيدُ هو إطلاقُ رُوح الأسرةِ الواحدةِ في الأمَّةِ كُلِّها. وقال: وليس العيدُ إلا التقاءَ الكبارِ والصغارِ في معنى الفرح بالحياة الناجِحَةِ المتقدِّمَةِ في طريقها، وتَرْكَ الصغارِ يُلقون درسَهم الطبيعيِّ في حماسة الفرح والبَهجة، ويُعلِّمون كبارَهم كيف تُوضَع المعاني في بعض

(١). «وحي القلم» - ط. دار القلم - (١/ ٥٩) - بتصرف ـ.

1 / 12

الألفاظ التي فَرَغَتْ عندهم من معانيها، ويُبصِّرونهم كيف ينبغي أنْ تعملَ الصفاتُ الإنسانية في الجموعِ عملَ الحليفِ لحلِيفِهِ، لَا عمَلَ المنَابِذ لمنَابِذِه؛ فالعيدُ يومُ تسلُّطِ العنصرِ الحَيِّ عَلى نَفْسِيَّةِ الشَّعْبِ. (١) وقال علي الطنطاوي: (تمر الأيام متتابعة متشابهة لايكاد يختلف يوم منها عن يوم، ثم يأتي العيد فتراه يومًا ليس كالأيام، وترى نهاره أجمل، وتحس بالمتعة أطول، وتبصر شمسه أضوأ، وتجد ليله أهنأ. ... وما اختلفت في الحقيقة الأيام ذاتها، ولكن اختلف نظرنا إليها؛ نسينا في العيد متاعبنا فاسرحنا، وأبعدنا عنا آلامنا فهنئنا، وابتسمنا للناس وللحياة فابتسمت لنا الحياة والناس، وقلنا لمن نلقى أطيب القول: «كل عام وأنتم بخير» فقال لنا أطيب القول: «كل عام وأنتم بخير». ... في الحاشية علَّقَ بقوله: إن لم يكن بد من هذا التعبير فاحذفوا واو «وأنتم» قولوا: «كلَّ عام أنتم بخير»). (٢) ... وبالمناسبة: صدرت رسالة في عام ١٤٣١ هـ بعنوان «رسالة في

(١). «وحي القلم» - ط. دار القلم - (١/ ٦٤ - ٦٥). (٢). «مع الناس» للطنطاوي (ص ٢٦١).

1 / 13

كل عام وأنتم بخير متضمنة مسائل نادرة في النحو والتصريف والبلاغة وأصولهن» للأستاذ المبدع النحوي الأديب: فيصل المنصور (غلاف ٩٦ صفحة). وقد انتهى إلى أن أبلغ الجُمَل: «كُلُّ عامٍ وأنتم بخير». وذكر جواز: «كلُّ عامٍ أنتم بخير» بدون الواو، و«كلَّ عامٍ وأنتم بخير» بنصب كلَّ ... . وخطّأَ: «كلَّ عامٍ أنتم بخير» بنصب كل، وبدون الواو وذكر أنَّ أبلغ العبارات هي الأولى؛ لثلاثة أوجهٍ ذكرها في (ص ٧٠). وأقولُ: أفضلُ التهاني على الإطلاق: (تقبل الله منا ومنكم)؛ لأمرين: ١. لأنها تهنئة ودعاء، بخلاف الأولى فهي تهنئة مجردة. ٢. ولأنها تهنئة صحابة رسول الله ﷺ فيما بينهم ﵃. فابدأ بها، وارغب في إجابة دعوة من دعا لك بها، وأضف عليها - إن شئت - ما تعارف عليه الناس من «كلُّ عام وأنتم بخير» وغيرها من الجُمَل دون تكَلُّف وشقشقة.

1 / 14

ندب العيد! ! ! كبار السن - في كل جيل - يظنون أن العيد قد تغيَّر، والحقيقة أن غالب التغير من قِبَل أنفسهم ... ! ! وكأنهم انحدوا من بيت المتنبي: عيد بأية حالٍ عدت يا عيد * بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد. (١) كنت أظن أن العيد عند الأجداد أفضل من العيد في هذه الأيام: ... «عيد الرسائل النصية» و«النت» والتهنئة ب «الواتساب» و«تويتر» و... «الفيسبوك»، و«الانستجرام» و«سناب شات»، والتصاميم الجاهزة ... «صورة» مذيَّلَةً باسم المرسِل، فيرسلها برسالة جماعية في «الواتساب» بضغطة زرٍّ واحدة، فتصل الجميع هكذا ساذجة باردة وهو يظن أنه أحسن صنعًا، أندى بها المشاعر، وقوَّى العلائق، وأدَّى صلة العيد! ! وبما أن الواتساب مجاني ميسور، لا تجد منه طيلة السنة (٣٦٠ يومًا) إلا هذه التميمة التي هي بالعقيقة أقرب.

(١) «اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي» للمعري (ص ٤٢١).

1 / 15

كنتُ أظن ذاك، وإذا بالكتبة الكبار (وبعضهم في زمن الأجداد) يتحدثون عن فقدان طعم العيد، ولم يكن قد بلغتهم ملهيات زماننا هذا ... فوجدتُ مثلًا: الرافعي المصري (ت ١٣٥٦ هـ) ﵀ في «وحي القلم» - ط. دار القلم - (١/ ٦٤) والإبراهيمي الجزائري (ت ١٣٨٥ هـ) ﵀ في «آثاره» ... (٤/ ٢٩١) وحسن الزيات المصري (ت ١٣٨٨ هـ) ﵀ في مقالين في مجلته «الرسالة» في (١٣٥١ - ١٣٥٢ هـ) تقريبًا، ونشرها في كتابه «وحي الرسالة» (١/ ١٧، ١٠٥) وأبا تراب الظاهري الحجازي (ت ١٤٢٣ هـ) ﵀ في «الموزون والمخزون» (ص ٢٠٤) وعلي الطنطاوي الدمشقي الحجازي في (ت ١٤٢٠ هـ) ﵀ ... «من حديث النفس» (ص ٨٩)، وغيرهم من الأعلام الكبار، يندبون العيد، وتغيره، ويبكون عليه! !

1 / 16

يذكر الرافعي أن أعيادنا تجئ كالحة عاطلة ممسوحةَ من المعنى، أكبرُ عملها تجديدُ الثياب، وتحديدُ الفراغ، وزيادةُ ابتسامة على النفاق! فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم، لا اليوم نفسه ... (١) ويدعو الأكابر إلى «تغيير النظرة الكالحة الممسوحة المعنى إلى النظرة الباسمة المليئة بالفرحة المغيرة للنفوس والأخلاق» (٢) ولم يذكروا سببًا إلا تغيُّرَ الناس ... ... فهذا العلامة الإبراهيمي (ت ١٣٨٥ هـ) ﵀ يقول: ... (وأصبحوا يلقون أعيادهم بهمم فاترة، وحس بليد، وشعور بارد، وأسِرَّةٍ عابسة، وكأنها عملية تجارية تتبع الخصب والجدب، وتتأثر بالعسر واليسر، والنَّفاق والكساد؛ لاصبغة روحية ذاتية تؤثر ولا تتأثر)! ! وكأنه يُلفت للسبب في ذلك بقوله: (لاننكر أن عوائد الناس تابعة لأحوال الناس رقيًا وانحطاطًا؛ فالأمة الراقية ترقى في عاداتها في الغالب؛ لأن عاداتها تتشعب من مقوماتها ...). (٣)

(١). «وحي القلم» (١/ ٦٤). (٢). البشير الإبراهيمي. (٣) «آثاره» (٤/ ٢٩٥).

1 / 17

وذكر الأديب: الزيَّات المصري (ت ١٣٨٨ هـ) ﵀ تعليلًا تافهًا مضحكًا! لهذا التغيُّر وهو: (غياب المرأة عن المجتمع الإسلامي).! ولو عَلِم بتعليله هذا المنافقون: (من الجالية الأقلية اللبرالية وغيرهم من مرَدَة المنافقات) وغيرِهم؛ لطاروا بها فرحًا، ولجعلوها حجةً على المؤمنين، ألا ساء ما يزرون. ومع كل ما سبق، نجد في رجال اليوم (١٤٣٨ هـ) مَن يرى أن العيد قبل عشرين، وثلاثين سنة من أمتع الأعياد؛ رغم وجود الكتابات في ذلك الزمن تذكر أن العيد قد تغير، بتغير الناس! وهكذا دواليك، كل جيل يندب العيد! فما السبب؟ يظهر لي - والله أعلم - أن الكل يذكر عيد طفولته مع آبائه، والطفولة تحمل فرحًا غير مشوب بَهمٍّ وقَلَقٍ؛ وربما كانت طفولة فقيرة، تفرح بما تُؤتى في العيد من حلوى وجديد .. ولمَّا تعالت سِنُّه، وحمل همومًا وأسقامًا وقلاقل كالجبال ثقُلَتْ نفسُه عن تحمُّلِها؛ نغَّصت عليه العيد، ولم يستطع الخروج الذهني منها إلى وقت الفرح والسرور، لذا لا يجدُ للعيد طعمًا، بل مرارةً وثِقلًا؛ لمسؤولية

1 / 18

السلام والاجتماع والزيارات، والأولاد، والهدايا وسائر التكاليف ... ... إذن الفرق: - عيد الطفولة، وعيد الفقراء من جهة - وعيد الكبار، وعيد الأغنياء من جهة مقابلة. والجهة الأولى أسعد وألذ وأمتع، ولو بالقليل من المطعم والملبس والملعب. وإن كان وقتنا هذا - فيما أزعم - أنه أكثر تعقيدًا ومدنية وتكلفًا وتباعدًا وتشاحنًا من أي زمن مضى، وعليه فهو أبعدُ عن الفرحة الصادقة عند الكثيرين ... يضاف إلى ذلك صعوبة إحداث ملبس ومطعم ومشرب جديد؛ وكذا لعبة وهدية جديدة، لكثرة النِّعم والرخاء طيلة العام (١) ... فلسان حال كثير من الآباء: ماذا أُقدِّم في العيد من جديد؟ ! ! أضف سببًا خفيًا لضعف الفرح عند الكبار، هو: أن التباعد البدني طيلة العام؛ المورث للجفوة، له تأثير على تغيُّر النفوس واستبدال المتعة بالرسمية، وإذا دخلت الرسمية في ملتقيات الأُسَر، والجماعات في القرى

(١). عند كثير من البلدان التي ازدادت غِنى وثروة - والأمر في الغني نسبيٌّ ـ.

1 / 19

والقبائل، والجيران، إذا دخلت في الأعياد؛ حلَّت الكَلَفة وتوسَّط الثِّقل، فأصبح اللقاء طاردًا! ! والفرح مصطنعًا، فأين السعادة إذن؟ ! ! مصداق ذلك أن تقارن بين أعياد المدن وأعياد القرى، والقرى أكثر اجتماعًا طيلة السنة، وعيدهم أجمل وأمتع وليس ثمَّة مهرجانات واحتفالات وأسواق وطرب ومسرحيات! ! كما في المدن. كذلك قارن بين أعياد الأسر التي تجتمع كثيرًا طيلة السنة، مع الأسر التي لا تلتقي إلا في السنة مرَّة واحدة. إذن طول الغياب مورث للجفوة والرسمية. والفرح لابد له من التبسط والأريحية. ونجد أن كثيرًا من الشباب يرغب في العيد مع أصدقائه مع أنه يراهم يوميًا، لأنه يحبهم، و«لقاء الأحبة مسلاة الهموم» (١) ويجد معهم طرحَ الكَلَفَة، وكثيرًا من معاني السرور ما لا يجدها في عيد أسرته أو أخواله أو جيرانه، ناهيك عن ضعف الوازع الديني في كثير من الشباب في أمر «صلة الرحم»، فالهدف عندهم المتعةُ لا غير.

(١). «بهجة المجالس» لابن عبدالبر (٣/ ١٩١).

1 / 20