La tendance de la pensée européenne au XIXe siècle
نزعة الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر
Genres
ولقد أخذ الباحثون منذ زمان مضى يفقدون الثقة بكل المحاولات التي أريد بها تركيز المعرفة وتوحيدها، حتى في مجال الاستنتاج العقلي التام، المحرر عن نزعات الغيب وما وراء الطبيعة، فكانت نتيجة ذلك، وعلى الأخص في ألمانيا، أن منتجات كثير من العلوم أصبحت تدفن بين صفحات المجلات الدورية، وفي المذكرات التي اعتادت الجماعات العلمية حفظها في مكاتبها. أما المتون العلمية، فأخذ يكتبها مؤلفون من الطبقة الثانية، أو ينقلها عن الإنكليزية والفرنسوية مترجمون احتذوا في نقلها طرقا عتيقة بالية.
ولقد اختصت بضعة عقول فياضة كبيرة ببث تلك الروح التي خمرت البحث العلمي في أواسط القرن التاسع عشر، وتلك عقول كبيرة ظلت غير معروفة خلال ذلك العصر، شأن العقول التي تظهر في أزمان لا تلائمها، على أن ثلاثة العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر قد كفلت تغيير ذلك كله؛ فإن وسائل الاتصال بين الباحثين التي أدلينا بالكلام فيها من قبل، جعلت انبتات أسباب التواصل في العلم أمرا مستحيلا، فدعت الضرورة إذ ذاك إلى التبدل من النظام القديم الذي ظل متبعا في برامج التعليم الأدبي في معاهد العلم، بآخر أكثر انطباقا على الأساليب الحديثة.
وتطوع كثير من أصحاب العقول الفذة لكتابة متون صحيحة في العلوم التي كانوا يعالجونها؛ فأدى ذلك الأمر إلى إصلاح كثير من وجوه الخلل الذي ساد تلقين العلم في المعاهد العليا، وفي الوقت ذاته، وبعد مضي خمسين عاما أنفقها الباحثون في البحث الاختباري، واستجماع مواد المعرفة الأولية، شعر العلماء بضرورة النظر في المبادئ الأولية التي بني عليها التفكير العلمي، نظرة نقد وتحليل، عثر الباحثون إذ ذاك على روح خاصة من الفلسفة، لا من الغيبيات وما وراء الطبيعة، ممزوجة بحدود العلم الصحيح مندمجة فيها، فإنك في العلوم المجردة الصحيحة، وعلى الأخص في الرياضيات، تجد أن التقدم الحقيقي مرهون على استكشاف أساليب بسيطة أولية، وطرق لمعالجة تلك العلوم تامة النفع، قريبة التناول، كما أنه موقوف على الكشف عن المبادئ التي تحقق وحدتها، والمشاهد التي تضمن تعميمها.
كل هذا ليس بشيء سوى علائم الحياة الحديثة، ودلائل التقدم والارتقاء النشوئي. أما السبب الكامن ونتيجته، وتغير أساليب التفكير التي ظلت مختفية وراء تلك المشاهد الظاهرة المحسوسة، فسوف تكون موضع عنايتنا من البحث فيما بعد، فإن تلك الأساليب والكشف عنها وبحثها هي في الواقع الغرض من كتابي هذا.
إن الرغبة الصحيحة في البحث عن البواعث الخفية الكامنة في عالم الفكر، كانت أكثر ظهورا في تلك الأمة التي أخذت في العصر الحديث قياد التفكير الفلسفي في أوروبا، وأعني بها ألمانيا، يدلك على ذلك المؤلفات التاريخية الضخمة التي خصها كبار المؤلفين في ألمانيا بتتبع درجات الرقي والنماء اللذين مضى فيهما العلم الحديث. والظاهر أن البحث التاريخي قد حل في ألمانيا - في أواخر القرن التاسع عشر - محل الإكباب على التأمل الغيبي - الميتافيزي.
وقد تقع على شيء من الانتقال من الأسلوب المنطقي إلى الأسلوب التاريخي في منتجات العقل الإنكليزي خلال القرن التاسع عشر. كان «دافيد هيوم»
David Hume
قوام ذلك التغير؛ إذ بدأ بدراسة المسائل الغيبية - الميتافيزية - التي وقع عليها في كتابات «لوك»
Locke
و«بركلي»
Page inconnue