وجاء المذهب البراجماتي - أو المذهب العملي - في عصرنا الحديث، فغير النظرة إلى طبيعة المعرفة بحيث لم يجعلها مجرد تصوير لعالم الواقع كما ظن الواقعيون، بل جعلها أداة للسلوك العملي؛ أي أن الفكرة من أفكارنا هي بمثابة خطة يمكن الاهتداء بها في القيام بعمل معين، والفكرة التي لا تهدي إلى عمل يمكن أداؤه ليست فكرة، بل ليست شيئا على الإطلاق، إلا أن تكون وهما في رأس صاحبها.
لو وقفت عند مفترق الطرق ورأيت النور الأحمر في مصباح المرور، ثم قلت: إني «أعرف» أن هذا اللون أحمر، فما معنى «معرفتي» هذه؟ أجابك الواقعيون بأن معناها هو أن في رأسك صورة للواقع - سواء كانت صورة مطابقة للواقع أو غير مطابقة - أما البراجماتي فيقول إنها لا تكون «معرفة» إلا إذا هدتك إلى السلوك الذي تسلكه عند رؤيتك للنور الأحمر، فتعرف إلى أي اتجاه يجوز السير وفي أي اتجاه لا يجوز، أما مجرد ارتسام صورة لون أحمر على صفحة ذهنك فليس «معرفة» في قليل أو كثير. وهكذا تكون الفكرة فكرة إذا كان فيها ما يدل على نوع السلوك الناجح.
ولماذا تشذ «المعرفة» عن سائر وظائف الإنسان العضوية؟ إن كل هذه الوظائف إنما أريد لها حفظ البقاء، فالهضم والتنفس ودورة الدم وما إلى ذلك كلها وسائل لبقاء الكائن الحي حيا، فردا كان أو نوعا، فكيف لا تكون هذه الوظيفة البشرية الهامة، وظيفة «معرفة» الإنسان لما يحيط به هي الأخرى أداة تطورية بيولوجية يراد بها أن يحتفظ الإنسان ببقائه، وهو إنما يحتفظ ببقائه بنوع السلوك الذي يسلكه فينجح به في بيئته، وقد كانت «المعرفة» تفقد كل قيمتها لو كانت مجرد تصوير العالم على صفحة الذهن دون أن تكون إجراءات سلوكية تؤدي إلى حفظ البقاء في هذا المعترك الذي تنازل فيه الكائنات بعضها بعضا؛ ليبقى منها الصالح للبقاء ويفنى منها غير الصالح.
الفكرة التي تحيا في الذهن ولا تخرج إلى عمل ليست من «المعرفة» بمعناها الصحيح، ومقياس صواب الفكرة هو رسمها لطريقة إنجاز عمل معين؛ ولذلك كانت الفكرة الصائبة هي الفكرة النافعة، وإذا لم يكن للفكرة المعينة أثر عملي أو نفع في حياة الإنسان، لم تكن جديرة أن تسمى ب «معرفة»، ففكرة الجاذبية مثلا صادقة بمقدار ما هي نافعة نفعا عمليا، فتراني أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيما يصون لي حياتي وحاجاتي، فأحمل كوب الماء مثلا وفوهته إلى أعلى حتى لا ينسكب الماء بفعل الجاذبية، وأمشي معتدل القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأشيد سكني مستقيم الجدار؛ لئلا ينهار بفعل الجاذبية، وهلم جرا. أما إذا فرضنا أن فكرة الجاذبية لا أثر لها في حياتنا العملية قط، فإنها عندئذ لا تكون من «المعرفة» في شيء ؛ إذ ماذا عساني أن «أعرف» إذا لم أعرف كيف أسلك إزاء العالم الذي أعيش فيه؟
هل تقول عن الطبيب إنه «يعرف» شيئا من علم الطب إذا لم يكن قادرا على ترجمة معرفته إلى عمل ناجح إزاء مريضه؟ وهل تقول عن المهندس الميكانيكي إنه «يعرف» شيئا عن عدة السيارة إذا كان عاجزا عن عمل إزاءها حين يصيبها العطب حتى تعود إلى الحركة والسير؟ هل تقول عن نفسك إنك «تعرف» الطريق إلى المحطة إذا لم تكن قادرا على رسم خطة للسير بحيث تنتهي بك إلى هناك إذا أردت ذلك؟ وهكذا قل في كل ضروب المعرفة، إنها لا تكون معرفة إلا إذا كانت في حقيقتها خطة مرسومة لعمل ناجح يؤدى في عالم الأشياء فيغيره على النحو الذي يجعله أكثر ملاءمة لحياة الإنسان. الفكرة التي لا تساعد صاحبها على تغيير أوضاع الأشياء من حوله تغييرا يؤدي إلى ارتياحه ليست من الفكر في شيء، إنه لا فرق بين الفكر والعمل؛ لأن الفكر في حقيقته وفي طبيعته هو برنامج للعمل.
ومن أكثر الفلاسفة توضيحا لهذا المذهب البراجماتي (أو العملي) في تفسير المعرفة: الفيلسوف الأمريكي «وليم جيمس»
1
الذي يعده العالم ممثلا للفلسفة الأمريكية الحديثة. وأهم ما نهتم له الآن من آرائه نظريته في معنى الكلام؛ لأننا ما دمنا نعبر عن «معرفتنا» في عبارات كلامية، فإن تحليلنا وتحديدنا لماذا عسى أن يكون معنى العبارة التي نقولها، هو في الوقت نفسه تحليل وتحديد لطبيعة ما لدينا من معرفة.
وتستطيع بصفة عامة أن تقول إن طريقة فهمنا لفكرة من الأفكار هي أن نتصور ما قد ينتج عن هذه الفكرة من آثار في خبراتك العملية، فتكون مجموعة هذه النتائج هي بذاتها معنى الفكرة التي أردنا فهمها. وأحب لك أن تلاحظ جيدا مقدار النقلة التي انتقلها البراجماتيون بالنسبة إلى الواقعيين الذين أسلفنا لك شرح رأيهم؛ فقد كان معنى الفكرة من أفكارنا عند هؤلاء الواقعيين هو الشيء الذي في العالم الخارجي والذي كان أصلا للصورة التي ارتسمت في الذهن، أما معنى الفكرة عند البراجماتيين فليس هو «أصلها» بل «نتائجها»، ليس هو في البداية التي ابتدأت منها بل في النهاية التي ستنتهي إليها.
خذ لذلك مثلا قولي «قد نفد المداد من قلمي» فما المعنى الذي تفهمه من هذه العبارة؟ ما المعرفة التي تحصل منها؟ يجيب الفيلسوف البراجماتي عن ذلك بقوله إنني لو أحصيت ما أتوقعه من نتائج في خبرتي العملية لهذه العبارة فقد فهمتها وعرفتها، فمثلا أتوقع ألا يكتب القلم شيئا لو خططت به على الورق، وأتوقع أن يجتذب إلى داخله قطرات من المداد لو أردت أن أملأه وهكذا. خذ مثلا آخر قولي «قد انطفأت النار في غليوني»، فماذا تفهم من هذه العبارة؟ أفهم العبارة لو عرفت نتائجها، كأن أعرف أني لو استنشقت خلال الغليون لما أحسست تبغا، ولو وضعت إصبعي في إنائها لما احترق، وهكذا، ولتلاحظ أن هذه النتائج التي أتوقعها في الخبرة العملية من فكرة بعينها هي بذاتها معنى الفكرة. وإذن فالفكرة التي لا أستطيع أن أهتدي منها إلى ما عساه أن يقع في الخبرة من نتائج لا تكون فكرة على الإطلاق؛ لأنها عندئذ تكون بغير معنى.
Page inconnue