مصدر المعرفة عند النقديين
رأينا التجريبيين والعقليين يختلفون على مصدر المعرفة: أهو الحواس وحدها كما يقول الفريق الأول أم هو العقل كما يقول الفريق الثاني؟ كأنما اختيارنا لا بد أن يقع على إحدى الوسيلتين دون الأخرى، وكأنما هو محال على الوسيلتين أن تجتمعا معا في تحصيل المعرفة، فجاء «كانت»
1
بمذهبه النقدي ليقرر أن المعرفة لا تتم إلا بالخبرة الحسية والمبادئ العقلية معا.
والمقصود بكلمة «النقد» حين تستعمل في وصف فلسفة بأنها «نقدية» هو تحليل الأحكام التي نطلقها على الأشياء - أو إن شئت فقل هو تحليل المعرفة - تحليلا ينتهي بنا إلى استخراج الأصول الصورية التي لا بد من افتراضها لكي نطلق ما أطلقنا من أحكام أعني لا بد من افتراضها لكي نعرف ما نعرف؛ فافرض مثلا أني قلت هذه العبارة الآتية: ركبت القطار «قبل» قيامه بدقيقتين، فهل كان يمكن أن أقول قولا كهذا وأن يكون له معنى مفهوم ما لم يكن قد سبق ذلك في ذهني افتراض؛ هو أن الحوادث تتتابع في الحدوث؛ أي أن هنالك تسلسلا في اللحظات الزمنية؟ إنه بغير هذا الافتراض يكون محالا أن أنسب حادثة إلى حادثة أخرى فأجعلها «قبلها» أو «بعدها»، ثم هل يمكن أن أفترض وجود اللحظات الزمنية متتابعة دون أن يسبق ذلك في الذهن افتراض بأن العالم ليس حقيقة واحدة بل يتألف من كثرة من حقائق تأتي متتابعة؟ إذن فعبارتي الأولى التي قلتها لأصف بها ما حدث - وهو أني ركبت القطار قبل قيامه - كانت تنطوي على أصل عقلي - أي أصل منطقي - وهو «الكثرة» أو «التعدد»، ولولا تصوري للكثرة لما تصورت تسلسل الزمن، ثم لولا تصوري لتسلسل الزمن لما استطعت أن أقول عن ركوبي القطار إنه جاء «قبل» قيامه. هذه المحاولة وأمثالها التي نحاول بها أن نستخرج ما وراء أحكامنا من أصول عقلية هي التي تسمى في الفلسفة «بالنقد» أو «التحليل». والفلسفة تكون «نقدية» إذا جعلت هدفها الأساسي تحليل أفكارنا لاستخراج الأصول المنطقية الكامنة وراءها، والتي لولاها لما استطعنا أن نكون تلك الأفكار.
والفيلسوف النقدي - إذ يستعرض أحكامنا ويحللها على هذا النحو الذي يستخرج به تلك الأصول المنطقية - يحاول أن يرد هذه الأصول إلى أقل عدد ممكن؛ هي التي تكون - في رأيه - الصور الأولى التي تملأ بالمعارف المختلفة، وهذه الصور أو هذه الإطارات التي تصب فيها خبراتنا تسمى في الفلسفة ب «المقولات»؛ فقولي - مثلا: «إن المنزل قد أحرقته النار.» وقولي: «إن الرجل قد قتله الرصاص.» هما قولان من «مقولة» واحدة على الرغم من اختلاف العبارتين اختلافا بعيدا في مادة معناهما؛ لأن الصورة في كل منهما هي نفسها الصورة في الأخرى، وهذه الصورة أو هذا الإطار أو هذا القالب المشترك بينهما هو أن «أ» سبب «ب». وإذن فهذان القولان وكل قول آخر يشبههما إنما ترتد كلها إلى «مقولة» واحدة هي مقولة السببية؛ فالسؤال الذي يلقيه الفيلسوف النقدي على نفسه ويحاول الإجابة عنه هو: ما هي «المقولات» التي ترتد إليها أحكام الناس البادية في كلامهم مهما اختلفت هذه الأحكام في مضمونها؟
فالفرق الجوهري بين المقولة وما يملؤها من معرفة هو أن الأولى عقلية تكون في طبيعة الإنسان قبل الخبرة، وأما الثانية فتأتي بعد الخبرة؛ أي أن القالب نظري والحشو مكتسب. وإذن فعمل الفيلسوف النقدي وهو يحلل حكما من أحكامنا على الأشياء؛ أي وهو يحلل جملة من الجمل التي نقولها لنعبر بها عن أفكارنا. أقول: إن عمل الفيلسوف النقدي - وهو يحلل حكما من أحكامنا ليستخرج الإطار الذي صب فيه ذلك الحكم - هو أن يحلل الحكم ليفرز فيه أحد عنصريه عن الآخر، فيفصل القالب الصوري عن المضمون التجريبي الذي يملؤه. وقد كانت هذه هي المحاولة التي قام بها «كانت» في كتابه المشهور «نقد العقل الخالص»؛ إذ أراد به أن يقيم البرهان على أنه على الرغم من أن معرفة الإنسان يستحيل أن تجاوز حدود خبرته الحسية إلا أن هذه الخبرة الحسية نفسها لا بد لها من إطارات أو قوالب أو مقولات تكون فطرية في طبيعة العقل لتتشكل الخبرة الحسية على غرارها.
ولكي نفهم رأي «كانت» الذي انتهى إليه لا بد أولا من فهم التفرقة التي فرق بها بين أنواع القضايا؛ أي بين أنواع العبارات اللغوية التي نعبر بها عن أفكارنا، فجعلها من حيث نقلها للمعلومات نوعين: فقضايا إخبارية
2
وأخرى تكرارية،
Page inconnue