مصدر المعرفة
الفصل الرابع
مصدر المعرفة عند التجريبيين
ألقينا على أنفسنا في الباب الأول سؤالا عن طبيعة المعرفة ما هي؟ وتتبعنا الإجابة عند المذاهب المختلفة، وها نحن أولاء نلقي عن «المعرفة» سؤالا ثانيا، هو: ما مصدرها؟ ما وسيلتنا إليها؟ لتكن طبيعتها ما تكون، لتكن كما قال عنها الواقعيون من أنها صورة لعالم الواقع، أو كما قال عنها البراجماتيون من أنها طريقة للسلوك في دنيا الواقع، أو كما قال عنها المثاليون من أنها مدركات عقلية تكون هي الفكر وهي الأشياء في آن معا، لتكن ما تكون في طبيعتها، ولكن سؤالنا الآن هو: من أي السبل جاءتنا؟ ومن أي مصدر استقيناها؟
يجيب التجريبيون بقولهم: إن مصدر معارفنا جميعا هو الخبرة الحسية، ووسيلتها هي الحواس. عرفت البرتقالة - مثلا - لأني رأيت لونها بالعين، وذقت طعمها باللسان، وشممت رائحتها بالأنف، ولمست سطحها بالأصابع فعرفت استدارتها ومدى صلابتها وهكذا، وما البرتقالة عندي إلا هذه الإدراكات الحسية جميعا، ولو أقفلت أبواب الحواس واحدا بعد واحد؛ لامتنعت علي المعرفة جانبا بعد جانب حتى تمتنع المعرفة كلها إذا أقفلت الأبواب كلها.
وسنضرب لك مثلا لهذا الرأي «ديفيد هيوم»؛
1
لأنه تتبع الفكرة إلى نتائجها في جلاء ووضوح.
تتألف معرفة الإنسان من الإحساسات التي يتلقاها عن طريق حواسه المختلفة، فها أنا ذا أشخص ببصري إلى المكتب الذي أمامي فأتلقى صورة لونية، لكنني إذا ما أقفلت عيني فإني سأظل محتفظا بهذه الصورة اللونية التي كنت تلقيتها وأنا شاخص ببصري. غير أن الصورة في الحالة الثانية وإن احتفظت بما كانت عليه في الحالة الأولى من تفصيلات إلا أنها أقل منها وضوحا. ويطلق (هيوم) على الصورة التي تلقيتها في الحالة الأولى اسم «الأثر الحسي»، ويطلق على الصورة التي احتفظت بها في الحالة الثانية اسم «الفكرة». وهكذا يقسم مدركاتنا قسمين أساسيين، هما: «الآثار الحسية» و«الأفكار»، وما «الأفكار» إلا «الآثار الحسية» نفسها ولكن بعد غياب المؤثرات التي أحدثتها؛ ومن هنا كان الفرق بينهما في القوة والوضوح، فكأنما الأفكار آثار حسية تقادم عهدها فوهنت قوتها وقل وضوحها، وما دام الأمر كذلك فلا تنشأ في العقل «أفكار» إلا إذا سبقتها «آثار حسية»؛ وإذن فالأثر الحسي - أو الانطباع الحسي - هو المرجع الذي نقيس به صحة الفكرة التي نريد اختبار صوابها، فإذا استطعنا أن نتعقب الفكرة إلى أصولها الأولى التي جاءت مباشرة عن طريق الحواس، كان للفكرة سند من الواقع تستند إليه؛ وبالتالي كانت فكرة صوابا، أما إذا حللنا الفكرة إلى عناصرها فوجدنا أن هذه العناصر - كلها أو بعضها - لم يكن مما انطبعت به الحواس بادئ ذي بدء، فليست هي بالفكرة الصحيحة التي يصح الركون إليها، وإنما نقول ذلك؛ لأن العقل بعد أن يتلقى ما يتلقاه من انطباعات حسية لا يبقيها على حالها أفكارا بينها وبين تلك الانطباعات تطابق، بل يتناولها بالتركيب حتى لتتكون فيه صور مركبة لا تشبه في تركيبها هذا شيئا مما تلقيناه من الحواس، فعلينا عندئذ أن نعيد تحليل هذه الأفكار المركبة إلى أجزائها وعناصرها؛ لنرى إن كانت تلك الأجزاء والعناصر قد جاءت أول ما جاءت عن طريق الحواس.
والآن فلنطبق هذا المبدأ على ثلاثة أفكار هامة؛ ليتضح المبدأ بتطبيقه أولا، ولنتبين حقيقة هذه الأفكار الهامة ثانيا، وأعني بها فكرة السببية التي نفسر بها ارتباط الحوادث، وفكرة العنصر أو الجوهر التي بواسطتها نتصور أن الشيء يدوم على الرغم من تغير حالاته، وفكرة الذات التي نفترضها في الإنسان لنفسر بها وحدته واستمراره فردا بذاته مهما طرأ عليه من أحداث: (1)
Page inconnue