Théorie de la connaissance et la position naturelle de l'homme
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
12
بل إنه يحدد هدفه في مقدمة نقد العقل الخالص بكل وضوح على أنه تضييق المجال المتاح للعقل النظري، وهو هدف سلبي لكي يتسع المجال أمام العقل العملي، وهو الهدف الإيجابي، ويشبه مهمة النقد في هذا الصدد بمهمة الشرطة، التي تبدو في ظاهرها مهمة سلبية، وهي منع الجريمة، ولكنها في واقع الأمر إيجابية؛ إذ تتيح للناس الاستمرار في أعمالهم في اطمئنان، ويحدد موقفه بوضوح تام إذ يقول: «لذلك وجدت لزاما علي أن أنكر المعرفة حتى أفسح الطريق للإيمان، وإن التوكيدية الميتافيزيقية، أي الرأي الذي يجزم مقدما بإمكان المضي في الميتافيزيقا دون نقد سابق للعقل الخالص، إنما هي مصدر كل ذلك الافتقار إلى الإيمان، الذي هو دائما مفرط في التوكيدية، والذي يشن الحرب على الأخلاقية.»
13
وهنا يحق لنا أن نتساءل: إلى أي حد يكون من المثمر بحث فلسفة كانت من خلال هذا الترتيب الذي قدمه كانت ذاته، والذي طالما تجاهله عارضو فلسفته، أعني بحثها على أساس أن نقطة بدايتها هي الأخلاق، وأن الآراء النظرية فيها وسيلة قصد بها تبرير أسبقية العقل العملي فحسب؟
ألا نكون قد أطعنا تعاليم كانت ذاته إذا عالجنا فلسفته على أن التفكير النظري فيها قائم على أسس غير نظرية، وأن غرضه الأصلي كان إثبات أولوية العقل العملي، وفي سبيل ذلك وضع للعقل الخالص حدودا لا يستطيع تجاوزها، وأكد أن القضايا الميتافزيقية الرئيسية لا تحل إلا على مستوى العقل العملي (وفكرة وجود حدود للعقل الخالص هي - كما هو معروف - المركز الذي تتجمع حوله كل آراء كانت في التفرقة بين الظواهر والأشياء في ذاتها، وفي إرجاع صور الحاسية ومقولات الذهن إلى أصل ذاتي). •••
ولو تتبعنا نوع الموقف «المعنوي» الذي يرتبط بالمذاهب المثالية لوجدنا أنه - منذ أفلاطون حتى آخر المثاليين - موقف ينطوي على نوع من الاحتقار لشأن الجسم وللعالم المادي بأسره، ومن أصعب الأمور أن يتسنى للمرء الاهتداء إلى حالة واحدة لفيلسوف له آراء مثالية وأفكار غير زاهدة - بالمعنى الواسع لهذه الكلمة - في المجال العملي، وهكذا نستطيع أن نقول: إن التشكيك في الحواس وفي وجود العالم الخارجي - من جهة - هما أمران يرتبطان سويا ارتباط النتيجة بالسبب، أي إن أفلاطون نظر إلى عالم الظاهر على أنه خداع؛ «لأنه» كان يؤمن بالزهد الأخلاقي وبما يرتبط به من أفكار اجتماعية مناظرة، وباركلي أنكر مادية العالم الخارجي؛ «لأنه» أراد دعم الدين ونظر إلى هذه الفكرة - صوابا أو خطأ - على أنها تقف في وجه الدين، وكانت وصف العالم الخارجي بأنه عالم ظواهر؛ «لأنه» أراد أن يفسح مجالا للأخلاق المطلقة ولفكرة وجود الله وخلود النفس في العقل العملي الذي لا يتقيد بحدود عالم الظواهر كما نعرفه، وشوبنهور أكد أن العالم «تمثلي»، وأن المبادئ المتحكمة في إدراكنا له ناشئة عن الذات؛ «لأنه» كان يدعو إلى نوع من الزهد وإنكار إرادة الحياة على نحو لا يمكن معه أن يكون هذا العالم إلا خداعا ظاهريا.
والمشكلة في هذا كله هي أن الفلاسفة كانوا في معظم الأحيان يعرضون آراءهم بالترتيب العكسي، كما لو كانوا قد توصلوا إلى أفكارهم النظرية أولا ثم «استخلصوا» منها ما يتسق معها من النتائج العملية، وهدفهم من ذلك - ولا شك - هو إظهار مذاهبهم بمظهر منطقي صرف: بحيث تكون اعتبارات التفكير النظري هي وحدها التي أملت عليهم آراءهم في صورة العالم، بل في الميدان العملي ذاته، وربما كان الفيلسوف ذاته غير واع بالأصول الحقيقية لتفكيره في كثير من الأحيان، وحتى لو أدرك بعضها، فعليه أن يتبع العرف الشائع لدى الفلاسفة، الذي كان دائما ينطوي على احترام للتفكير النابع من أصول نظرية خالصة، بل على اعتقاد بأن الفلسفة الحقة لا تعمل حسابا لأي اعتبار سوى الاعتبارات النظرية الخالصة، وهكذا يظهر التفكير الفلسفي كأنه كان كله عملية واعية لا ترجع إلى أي أصل سوى مقتضيات التفكير المنطقي، وهو مظهر للفلسفة يعجز المرء معه عن تفسير ذلك التنوع الهائل بين المذاهب، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يكون راجعا إلى اعتبارات المنطق وحدها، كما يعجز عن تفسير ذلك الميل الدائم إلى الخروج عن الموقف الطبيعي، وقبول التناقض بين التفكير النظري والسلوك العملي، والقول بآراء عن طبيعة العالم الخارجي لا تؤثر على الإطلاق في موقف الإنسان الفعلي من ذلك العالم.
وهناك ملاحظتان ينبغي أن نلفت إليهما الأنظار في ختام هذا الفصل؛ الأولى: هي أن «الموقف المعنوي» الذي نقول: إنه سبب الأفكار النظرية المثالية وأصلها، يشمل كل الجانب العملي من مظاهر حياة الإنسان: من أخلاق ودين وتفكير اجتماعي ووضع اقتصادي ... إلخ، وهذه المظاهر كلها متضافرة بحيث إن رأي المفكر في واحد منها يؤثر حتما في رأيه في بقية المظاهر ويصبغها بصبغة محددة، ولكنها تتفاوت ظهورا وخفاء، ولا تتساوى في درجة قابليتها للاكتشاف.
والملاحظة الثانية: هي أن الرأي الذي نقول به هنا يحتاج - قطعا - إلى إثبات أوسع نطاقا بكثير مما ذكرناه في هذا الفصل، وكل ما نهدف إليه هو أن نقدم فرضا يبدو لنا محتما في ضوء ما قلناه من قبل عن طبيعة المثالية بوصفها تفسيرا أو لغة، ولكن الإثبات التفصيلي لهذا الفرض يحتاج إلى جهد أضخم بكثير مما قمنا به في هذا الصدد، ولكم يكون من المثمر أن يكتب تاريخ الفلسفة - وتاريخ الفلسفة المثالية بوجه خاص - في ضوء هذا الفرض: أي أن تكون نقطة البداية - التي تكون أساس المذهب - هي الاعتبارات العملية، أو رأي الفيلسوف في «الإنسان»، ثم تعرض الآراء النظرية بوصفها نتيجة أو تبريرا لاحقا لهذا الرأي، ألا تبدو الفلسفة - على هذا النحو - ألصق بواقع الإنسان العيني؟ ألا يكون تعليل ما فيها من تجريدات تعليلا «إنسانيا» أمرا أيسر بكثير؟ ألن نستطيع عندئذ أن نتخلص من النظرة الشائعة إلى طريقة ظهور المذاهب الفلسفية على أنها انبثاق فجائي بلا مقدمات وبلا أصول؟ إن هذه النتائج وحدها لكفيلة بأن تجعل هذه المحاولة جديرة بأن تجرب.
خاتمة
Page inconnue