Théorie de la connaissance et la position naturelle de l'homme
نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان
Genres
وعلى من يشك في ذلك أن يجيب على هذا السؤال: إذا كانت الذات هي العنصر الإيجابي الفعال دائما في المعرفة، فما الذي يدفعها إلى «بعث» هذه المقولة أو هذه الصورة الحسية؟ إن الذات لو تركت وحدها لكانت استجابتها على الدوام واحدة، ولا بد أن شيئا خارجها هو الذي أدى بها إلى تغيير الصورة التي تصوغ بها المعرفة، حتى على افتراض وجود مثل هذه الصورة، وإذن فمن المستحيل تعليل تغير موضوعات المعرفة عن طريق الذات، بل إن الموضوع هو العنصر الوحيد الهام، ومن المؤسف أن كانت لم يركز جهوده إلا على العنصر الذاتي، وهو العنصر غير الهام في المعرفة، بينما كان الموضوع - سبب كل تغيير في المعرفة - مجرد «س» مجهولة لا يذكر عنها شيء إلا أنها قد تكون موجودة، ولكنا لا نعرف عنها شيئا، ولا يمكننا أن نفعل من أجلها شيئا أكثر من أن نقول: إننا لا نستطيع أن ننكر وجودها، ولكنا لا ندري ما هي! •••
ولعل هذه الأمثلة لآراء الفلاسفة المثاليين في فكرة العالم الخارجي تكفي لإثبات إخفاق المثالية التام في تفسير خارجية العالم، ولا جدال في أن القارئ قد لاحظ أن المعنى الذي استخدمناه لفكرة الخارجية هنا هو معنى «الاستقلال عن الذات»، بينما أهمل إلى حد ما معنى الخارجية المكانية؛ السبب في ذلك هو أن الشيء يكون خارجا عن «شيء آخر» إذا كان في مكان غير مكانه، أما حين تكون المقارنة بين الشيء وبين ذات مدركة، فمن المحال الأخذ بمعنى الخارجية المكانية إلا إذا نظرنا إلى الذات على أنها متجسمة في شكل مادي يشغل حيزا معينا فحسب، ولما كان هذا المعنى الأخير لا يستوعب جميع خصائص الذات المدركة - التي هي «قوة للإدراك» إلى جانب كونها ذات حيز مكاني - فليس من الممكن الأخذ بمعنى المكانية في هذا الصدد، ولا بد من البحث عن معنى آخر للخارجية، ومن هنا كان معنى «الاستقلال عن الذات» هو أفضل معنى لخارجية الأشياء، فحين نقول: إن العالم يوجد خارج الذات، نعني أنه مستقل في وجوده عنها، ومصير فكرة خارجية العالم يرتبط في الواقع بفكرة استقلال العالم في وجود من الذات.
ولقد تبين لنا من الأمثلة السابقة مدى إخفاق المحاولات التي تبذلها الفلسفة المثالية للقضاء على فكرة استقلال العالم الخارجي هذه، فجميع هذه المحاولات الهادفة إلى تأكيد دور «الذات» في تمثلنا لهذا العالم الخارجي تخفق أساسا في تفسير أصل ذلك الاعتقاد المتأصل بوجود العالم الخارجي أو تعليل التفرقة القاطعة التي تضعها التجربة البشرية بين مجموعتي الظواهر الداخلية والخارجية، حقا إن المثاليين قد ينجحون أحيانا في إثارة الشك في النفوس بالإشارة إلى تلك الحالات «الحدودية» التي لا يكاد المرء يوقن فيها إن كانت التجربة خارجية أو داخلية، كحالات الأحلام وخداع الحواس، غير أن من اليسير إيجاد أساس للتفرقة إذا جمعنا بين معيار «استقلال الظواهر عن الإرادة» الذي قال به ديكارت ومعيار «اتساق الظواهر وترابطها حسب قاعدة محددة» الذي قال به كانت، ففي كل حالات الشك هذه، يكفي لإثبات خارجية موضوع التجربة أن تكون التجربة - من جهة - مستقلة عن إرادة الفرد غير نابعة من تخيله المتعمد، وأن تكون - من جهة أخرى - متسقة مع بقية عناصر التجربة ومرتبطة بها ارتباطا محكما، وكما أثبتنا من قبل فإن أصل هذا الاستقلال عن الإرادة الذاتية والإحكام بين عناصر التجربة البشرية لا يمكن أن يكون هو الذات وحدها، التي يتبدى نشاطها جليا في نوع آخر من التجارب المعتمدة تماما على إرادة الفرد كتخيلات الإنسان التي يبعثها متى شاء ودون أي ارتباط محكم ببقية تجاربه، والأمر الذي أخفقت فيه المثالية إخفاقا أساسيا، هو تعليل تلك الصفات القاطعة التي تتميز بها تلك المجموعة من الظواهر المسماة بالخارجية، فجميع التعليلات «الذاتية» تنتمي - كما رأينا - إما إلى الاعتراف بالعجز عن تفسير عنصر أساسي في التجربة البشرية، وهو عنصر الإحساس أو «المعطى» كما في حالة هيوم وكانت، أو تغطية هذا العجز بافتراض إيماني لا يقدم له أي برهان، ويؤدي إلى تكوين صورة للعالم الخارجي وعلاقته بالذات المدركة أغرب وأبعد عن الفهم ألف مرة من الصورة المألوفة في الموقف الطبيعي، كما في حالة باركلي.
ومن الغريب أن المثاليين - في الوقت الذي يبذلون فيه جهودا جمة من أجل «رد» العالم الخارجي إلى الذات على نحو ما، ويتفننون في تقسيم قوى الذات على النحو الذي يكفل لها «بعث» كل التمثلات المتعلقة بالعالم الخارجي - يصمتون تماما فيما يتعلق بأصل هذه «الذات» نفسها، فهم يبدون روحا نقدية شكاكة بالنسبة إلى طرف واحد، هو الطرف الموضوعي، أما الطرف الثاني فيأخذونه على علاته، وينسبون إليه ما شاءوا من القدرات دون أية محاولة لتعليل أصل هذه القدرات، وإذا كانت الفلسفة قد أسرفت في الكلام عن العالم الخارجي من حيث هو نتيجة لفاعلية الذات، ألا يحق لها أن تبحث قليلا في الذات وفي أصلها، فربما اهتدت عندئذ إلى نوع من التأثير للعالم الخارجي نفسه في تركيب الذات؟ وعلى أية حال، فالتفكير المنطقي ينبغي أن يكون منطقيا في كل شيء، والذهن المنقب لا ينبغي أن يسكت على بعض الظواهر ويفتش عن أصل بعضها الآخر، وسكوت المثالية التام على فكرة الذات وقدراتها وصورها ومقولاتها - التي تفترض افتراضا دون أية محاولة للتعليل - هو، بلا شك، قصور لا يتمشى، على الإطلاق، مع روح الشك التي تبديها إزاء فكرة العالم الخارجي كما تتبدى في الموقف الطبيعي.
دور العقل في مشكلة المعرفة
كثيرا ما نستخدم في أحاديثنا المعتادة عبارة: لن أصدق حتى أرى بعيني! وقد يكون قائل هذه العبارة قد استمع إلى حجج ذات مظهر مقنع تماما من الوجهة العقلية الخالصة، ولكنه - إذ يقول هذه العبارة - يفترض مقدما أن أي برهان منطقي لا يرقى أبدا - في درجة إقناعه - إلى مرتبة «الرؤية» المباشرة، وأن المشاهدة بالعين أصدق إنباء من أية حجة عقلية. وكم حدث أن رويت لنا أمور تبدو غير مقنعة لعقولنا، ثم تبدد كل شك بشأنها حين أكد لنا مصدر موثوق منه أنه شاهد الواقعة موضوع الخلاف بنفسه، أو سمع الأصوات المشكوك فيها بأذنيه، وكلنا نعرف حالة ذلك الشخص المعدم الذي تهبط عليه ثروة مفاجئة، فيظل فترة ما غير موقن إن كان الأمر حقيقة أم أنه في حلم، يكون خلالها في حاجة إلى تنبيه حسي شديد حتى يدرك أنه لا يحلم، وأن ما يحدث حقيقة واقعة!
في كل هذه الحالات تعبير عن إيماننا - عن حق - بأن هناك أمورا معينة تكون شهادة الإدراك المباشر فيها أقوى من شهادة العقل مهما كانت حججه مقنعة، هذه الأمور هي المتعلقة - في معظم الأحيان - بوجود الأشياء، بل إن انتشار قدر كبير من الخرافات كان راجعا، لا إلى اقتناع الناس بها عقليا، بل اعتقادهم بأن موضوعاتها قد أدركت: فإيمان الناس فترة طويلة بوجود الأشباح لم يكن سببه قوة الحجج التي عرضت عليهم لإثبات وجود الأشباح، وإنما كون أشخاص كثيرين قد ظلوا يرددون فترة طويلة - في مختلف الأزمنة والأمكنة - أنهم «رأوا» الأشباح بأعينهم، أو أدركوها على أي نحو آخر من أنحاء الإدراك المباشر، ولا شك في أن شهادة هؤلاء الناس كانت كاذبة، ولكن الإيمان الكامل من ورائها صحيح، وأعني به الإيمان بأن المعيار الحاسم لوجود الأشياء هو إدراكها لا البرهنة عليها، وهو إيمان قد يصل في قوته إلى حد إقناع الجزء الأكبر من البشر وقتا طويلا من تاريخها بوجود أشياء خرافية كالأشباح.
هذا الاعتقاد السليم بأن الإدراك - لا البرهان العقلي - هو المعيار الحاسم في الأمور المتعلقة بوجود الأشياء كان إذن - ولا يزال - متأصلا في نفوس الناس، ولكن الفلسفة المثالية تعكس هذا الاتجاه؛ إذ تحاول منذ البداية أن تركز جهودها في «إثبات» وجود العالم الخارجي، وموضع الخلاف بين الموقف الطبيعي والموقف المثالي أن الإنسان - في الموقف الأول - لا يحاول «إثبات» وجود العالم الخارجي، ولا يثير هذه المشكلة أصلا؛ لسبب بسيط هو أنه إذا وجد الإدراك ووجد الإثبات العقلي - فيما يتعلق بوجود أي شيء - فإنه يرجح كفة الأول على الثاني حتما، بل يعد شهادة الأول هي الحاسمة، ويرى من الضروري أن يطرح الثاني جانبا دون أي تردد، وهكذا لا يستخدم الإنسان عقله - في موقفه الطبيعي - لإثبات وجود الأشياء، أي إنه لا «يفكر» في مشكلة وجود العالم الخارجي، فتكون النتيجة أن يسمى عدم تفكيره هذا «سذاجة»، ويصبح الموقف الطبيعي في نظر الفلسفة تعبيرا عن «الواقعية الساذجة»، ولكن هل دار بخلد الفلاسفة وقتا ما أن هذه قد لا تكون سذاجة، بل قد تكون هي الوسيلة الوحيدة الممكنة للسلوك إزاء مشكلة كهذه؟ وهل خطر لهم أن «جميع براهينهم» لإثبات وجود العالم الخارجي قد تكون سائرة كلها في اتجاه باطل، بغض النظر عن القيمة المنطقية أو الإقناعية لهذه البراهين؛ لأن المسألة - منذ البداية - من ذلك النوع الذي يحسمه قولنا: «أرني إياه!» أكثر مما يحسمه قولنا: «أثبته لي»؟ أو بعبارة أخرى: هل فكروا في احتمال كون الإيمان الطبيعي بوجود العالم الخارجي - نتيجة لإدراكه - أقوى وأفعل ألف مرة من الإيمان به أو إنكاره نتيجة لبرهان عقلي؟ هذه كلها أسئلة مشروعة تماما، وهي ترتد في النهاية إلى إدراك طبيعة مشكلة وجود العالم الخارجي: لو فهمت هذه المشكلة على حقيقتها، وحدد المجال الحقيقي الذي تنتمي إليه، لأمكن حسم الخلاف فيها بطريقة أيسر بكثير مما لو ظل النقاش دائرا حولها دون أي تحليل لطبيعة المشكلة. والواقع أن مشكلة وجود العالم الخارجي - وهي أهم المشاكل التي تعالجها نظرية المعرفة - تختلف عن كثير من المشاكل الفلسفية الأخرى في أنها لا تتعلق بشيء ينبغي استنباطه، بل تتعلق بوجود مدرك بالفعل، فالقواعد الأخلاقية مثلا في حاجة إلى استنباط أو تبرير، وكذلك الحال في القواعد المنطقية والجمالية، أما مشكلة العالم الخارجي فلها طبيعة مختلفة تماما: إنها مشكلة شيء ندركه في موقفنا الطبيعي على أنه موجود فعلا، ولا يثار في ذهننا أي شك بشأنه، ولكن الفلاسفة هم الذين يثيرون هذه الشكوك حين يحاولون إخضاع هذا الوجود للبرهان، أي حين يقولون للإنسان في موقفه الطبيعي: صحيح أنك تدرك هذا العالم وتراه أو تلمسه ... إلخ، ولكن هل لديك إثبات أو برهان عليه؟ والقضية التي ندافع عنها في هذا الفصل هي أن هذا السؤال غير مشروع؛ لأن الإثبات أو البرهان - في المسائل المتعلقة بوجود الأشياء - لا محل له إذا كانت الأشياء مدركة بالفعل، أي إن مهمتنا هنا هي أن نرد على أصحاب الاتجاهات الفلسفية المثالية بقولنا: ولكن المشكلة أصلا تتعلق بميدان لا مجال فيه للبرهان، طالما أن الإدراك يقوم بدوره! فلنبين الآن إلى أي حد أخطأت المثالية بمحاولتها «البرهنة» على وجود العالم الخارجي. •••
من المعروف أن ديكارت قد بدأ تفلسفه بالشك في وجود العالم الخارجي على أسس مختلفة من بينها إمكان خداع الحواس والخلط بين الحلم واليقظة إلخ، وفي هذا الشك عبر ديكارت عن عدم اكتفائه بإدراك العالم بوصفه وسيلة للتأكد من وجوده، وسعى إلى البحث عن وسيلة أخرى من وسائل الإثبات، ومن المعروف أيضا أن ديكارت قد استعاد ثقته في وجود العالم الخارجي بعد أن تأكد من وجود الله، ومن أن الله لا يخدع، وهو يشرح في كتاب مبادئ الفلسفة (القسم الأول من الجزء الثاني) «براهينه» على وجود الأجسام المادية، فيقول: «إن في مشاعر وأحاسيس لا أبعثها في نفسي كلما شئت وكما شئت، بل إن شيئا ما هو الذي يبعثها في، وقد يقال: إن الله هو الذي يبعث فينا إحساسا بوجود هذا الشيء الممتد طولا وعرضا وعمقا، أو إنه يدفع شيئا ليست له مثل هذه الطبيعة إلى بعث هذا الإحساس فينا،
1
Page inconnue