وعندي أن الكاتب المسخر الذي لا شأن له إلا أن يكتب ما يفضي به الناس إليه صانع غير كاتب، ومترجم غير قائل، لا فرق بينه وبين صائغ الذهب وثاقب اللؤلؤ، كلاهما ينظم ما لا يملك، ويتصرف فيما لا شأن له فيه، على أن خير ما ينتفع به الأديب من أدبه أن يترك يوم وداعه لهذه الدنيا صفحة يقرأ فيها الناظرون في تاريخه من بعده من أبنائه وشيعته وذوي رحمه صورة نفسه، ومضطرب آماله، ومسرح أحلامه، فإذا كان كل شأنه في حياته أن يكون مرآة تتقلب فيها مختلفات الصور أو وفيعة١ تتمسح بها أعواد الأقلام كان خسرانه عظيما لا يقوم به كل ما يربح الرابحون من مال أو يؤثلون من جاه، والتاريخ أضن من أن يحفظ بين دفتيه من مجد الأدباء إلا مجد أولئك الذي يودعون نفوسهم صفحات كتبهم، ثم يموتون وقد تركوها نقية بيضاء من بعدهم، وحياة الكاتب بحياة كتابته في نفوس قرائها، ولا تحيا كتابة كاتب سيعلم الناس من أمره بعد قليل أنه يكذبهم عن نفسه وعن أنفسهم، وأنه روَّاغ متخلّج٢ يأمرهم اليوم بما ينهاهم عنه غدًا، ويرى في ساعة ما لا يرى في أخرى،
_________
١ الوفيعة خرقة يمسح بها القلم.
٢ المتخلّج المضطرب في مشيته.
1 / 32