نَيْلُ الأمَلِ فِي ذَيْلِ الدُّوَلِ
تأليف
المؤرخ زين الدّين عَبد الباسِط بن أبي الصفاء غرس الدّين خَلِيل بن شَاهِين الظاهِريّ الملطيّ الحنفيّ (٨٤٤ هـ - ٩٢٠ هـ)
مخطوطة مكتبة بودليان بـ "أكسفورد"
رقم ٦١٠، ٢٨٥ Hunt
تَحْقِيق
الْأُسْتَاذ الدكتور عُمر عبد السَّلَام تدمري
الْقسم الأول
(٧٤٤ هـ - ٧٧٠ هـ)
المكتبة العصرية
Page inconnue
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الاول
[القسم الاول]
كلمة بين يدي التحقيق
في كلمتي التي افتتحت بها كتاب «حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران» لابن الحمصيّ، قلت إنه كان يعتقد، حتى سنوات قليلة، أنّ المصادر التي تتناول تاريخ مصر والشام في أواخر عصر دولة المماليك، تقتصر فقط على مصدرين عربيّين أساسيّين، أحدهما لمؤرّخ مصر «ابن إياس» وكتابه «بدائع الزهور» والآخر لمؤرخ دمشق والشام «ابن طولون» وكتابه «مفاكهة الخلاّن». ولذلك لا نجد كتابا أو دراسة أو بحثا يتناول تلك المرحلة من تاريخ مصر والشام إلاّ ويتّخذ الكتابين المذكورين مصدرين أساسيّين له في هذا المجال.
ومن هنا كانت أهميّة المؤرّخين الكبيرين.
ولكن، هل تساءل الباحثون والمحقّقون عن مصادر «ابن إياس» و«ابن طولون»؟
في هذا الكتاب إجابة على أحد المصادر الأساسية التي استقى منها «ابن إياس» وصنّف منها كتابه «بدائع الزهور» فهو ينقل حرفيّا كلّ المادّة التي جمعها المؤرّخ زين الدين عبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهريّ في الكتاب الذي بين أيدينا «نيل الأمل في ذيل الدول»، وفيه أكثر من ١٥٠ عاما من الحوادث والوفيات، بدءا من سنة ٧٤٤ هـ. ولم يزد عليه إلاّ ما ندر أثناء تلك المدّة.
إذن، فكتابنا هذا، قمين به، بعد صدوره، أن يكون المصدر الأساس للفترة التي يؤرّخ لها بعد «المقريزي»، و«ابن حجر»، و«بدر الدين العيني»، و«ابن تغري بردي»، و«السخاوي»، وأن يكون حلقة وصل بينهم وبين: «ابن سباط»، و«ابن الحمصي»، و«ابن العماد الحنبليّ»، وغيره.
وهو مصدر أساس لكثير من الأحداث في بلاد المغرب والأندلس التي عاصرها وشاهدها بنفسه، وهو يتميّز عن «ابن إياس» بأنه تنقل بين مصر والشام وآسية الصغرى والمغرب والأندلس، فيما بقي «ابن إياس» مقيما في القاهرة ولم يرحل عنها إلاّ لأداء فريضة الحج.
1 / 5
والذي يعجب له أنّ لمؤلّفنا عشرين كتابا في شتّى المواضيع، ولم يطبع منها سوى كتاب واحد.
فلعلّ تحقيقنا لهذا الكتاب يكون حافزا للتعريف به وبر صيده المتنوّع.
عمر عبد السلام تدمري
طرابلس الشام المحروسة
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التعريف بالمؤلّف
هو أبو المكارم زين الدين عبد الباسط بن أبي الصفاء غرس الدين خليل بن شاهين الظاهريّ، الملطيّ، الحنفيّ.
ولد في ملطية، ليلة الأحد ١١ من شهر رجب سنة ٨٤٤ هـ / ١٤٤٠ م. وتوفي في القاهرة، يوم الثلاثاء في الخامس من شهر ربيع الآخر سنة ٩٢٠ هـ / ١٥١٥ م. وقد أرّخ «ابن إياس» وفاته دون غيره (١).
- جدّ المؤلّف
وهو من أصول تتريّة، من جهة جدّه لأبيه «شاهين الشيخيّ». فقد ترجم المؤلّف ﵀ لجدّه ضمن ترجمته لأبيه، فقال ما نصّه:
«شاهين من مماليك الظاهر برقوق، ملكه عن شيخ الصفويّ (٢) أمير مجلس لما خرج إلى القدس بطّالا. ويقال إنّه تتريّ الأصل، مسلم، من مدينة سراي. وإنّما سمّي شاهينا لأنّ التتر كانت في أول دولة الظاهر في مقت وإبعاد. وولّي شاهين هذا بعد مدّة من موت الظاهر شادّية القمامة بالقدس بعد حجوبيّتها، ثم ترقّى إلى نيابتها في أواخر دولة الناصر فرج. ثم لما مات الناصر فرج - وكانت تلك الفتن (٣) - انجمع شاهين هذا عن الدولة، وقطن بالقدس مدّة فارّا من الفتن، فإنه كان ممّن له شهرة بالشجاعة والقوّة، ويحكى عنه في ذلك ما يشبه الكذب. ولم يزل إلى سلطنة الأشرف برسباي، فحضر إلى القاهرة بعد أن كان قدمها قبل ذلك في أول سلطنة الظاهر ططر، ثم عاد لإمرته وبقي بها
_________
(١) بدائع الزهور في وقائع الدهور - ج ٤/ ٣٧٤ و٥/ ٩٥.
(٢) ويعرف بشيخ الخاصكي. مات في سنة ٨٠١ هـ. ترجم له السخاوي مرتين في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع - ج ٣/ ٣٠٧ رقم ١١٨٦ و٣٠٨ رقم ١١٨٩.
(٣) امتدّت الفتن والاضطرابات طوال سلطنة الناصر فرج بن برقوق منذ تولّى السلطنة سنة ٨١٢ حتى عزل ومات في ١٧ صفر سنة ٨١٥ هـ. وكان لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره حين تولّى الحكم. انظر عن الفتن في عهده في كتابنا: تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور - ج ٢ (عصر دولة المماليك) - طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛ بيروت ١٩٨١ - ص ٢١٥ - ٢٣٢ وفيه مصادر كثيرة.
1 / 7
مدّة حتى قدم هذه القدمة الثانية في سنة سبع أو ثمان وعشرين. ورتّب له الأشرف ثلاثة آلاف درهم في الشهر يأكلها طرخانا (١)، مع لحم وعليق وغير ذلك. ووعده بالجميل، ودام بداره منجمعا عن الناس لا يتردّد إلى سوى الأتابك بيبغا المظفّري (٢)، وربّما خرج معه إلى الصيد لمعرفته بالجوارح وأحوال الشكرخانه. وكان الأتابك المذكور قد رتّب له شيئا على ديوانه. ومن هنا وهم من قال إنه خدم عند الأتابك، ولم يكن ذلك كما قال. ثم بغته أجله بالقاهرة في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة، ودفن بالقرافة بتربة والد زوجته أسندمر الشيخي (٣)، والدة الوالد السّت عائشة» (٤).
- والد المؤلّف
ووضع المؤلّف ﵀ ترجمة مطوّلة لوالده، فقال:
«خليل بن شاهين الشيخي، الصفوي، الظاهري، المقدسيّ المولد، القاهريّ، الحنفيّ، الأمير، الوزير، الصاحب، غرس الدين، أبو الصفا، المعروف بنائب الإسكندرية، سيّدنا ومولانا وشيخنا، الوالد تغمّده الله تعالى برحمته ورضوانه وأباحه بحبوحة جنّاته.
ولد بالقدس الشريف بالمدرسة الخاتونية (٥) في يوم الجمعة حادي أو ثالث عشر
_________
(١) طرخان: لقب أطلقه المغول باديء الأمر على كبير الضبّاط أو الأمير ممن كان الخان الأعظم - الملك - يمنحهم امتيازات خاصة كالإعفاء من الضرائب والدخول عليه بدون إذن. تحوّل هذا المدلول ليصبح عند المماليك لقبا لكلّ من تقدّمت بهم السنّ في الوظيفة، ولم يعد يطلب منهم القيام بأيّ عمل آخر، وأصبح واحدهم في حكم المتقاعد أو المحال على المعاش في أيامنا. (معجم المصطلحات والألقاب التاريخية - مصطفى عبد الكريم الخطيب - طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت ١٤١٦ هـ / ١٩٩٦ م ص ٣٠٥).
(٢) توفي سنة ٨٣٣ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ٢٢ رقم ١٠٦).
(٣) لم أجد له ترجمة.
(٤) توفيت سنة ٨٥٧ هـ. وقد ضاعت ترجمتها مع القسم الضائع من كتاب: «الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم»، للمؤلّف ﵀. . . أمّا ترجمة جدّ المؤلّف «شاهين» فقد وردت ضمن ترجمة والد المؤلف في: الروض الباسم - ج ٤ / ورقة ٢٢٩ ب، ٢٣٠ أ، وهي في: نيل الأمل ١ / ورقة ٦٣٧. وأورد السخاويّ له ترجمة مختصرة، وبيّض لوفاته فلم يذكر تاريخها. فقال: «شاهين الشيخي، شيخ الصفويّ، والد خليل الماضي أبي عبد الباسط. تنقّل بعد أستاذه في عدّة خدم إلى أن ولّي نظر القدس ونيابته ثم صرف عنه وأقام بالقاهرة بطّالا يتردّد لخدمة أزبك الدوادار كأمير شكار له، ولعلّه كان في خدمته. وكان شيخا طوالا، يجيد لعب الطير من الجوارح. مات؟» (الضوء اللامع ٣/ ٢٩٥ رقم ١١٣٧) و«الشكار» أو «الشكر خانة»: لفظ دارج على ألسنة الناس في العصر المملوكي، كانوا يقصدون به كيس النقود. (معجم المصطلحات. . . - ص ٢٧٥).
(٥) تنسب إلى واقفتها «أغل خاتون بنت شمس الدين بن سيف الدين القازانية البغدادية» في سنة ٧٥٥ هـ. =
1 / 8
شعبان سنة إحدى أو ثلاث عشرة وثمانمائة، وكان والده إذ ذاك حاجبا بها وشادّا على القمامة قبل أن يلي النيابة بها، ومرضت والدته فأرضعته أمّ الشيخ برهان الدين بن الديريّ (١)، قاضي القضاة، وهي زوج شيخ الإسلام قاضي القضاة الشمس بن الديري (٢)، وما علمت هل هي أمّ شيخنا شيخ الإسلام السعد بن الديريّ، أم لا. فإنّ الوالد كان يقول بأنه أخ للبرهان المذكور من الرضاع.
ومن غريب ما وقع في أمر حمل والدته به أنها كانت تلد الإناث، وما ولدت ذكرا قبله، فصارت تتمنّى الذكر، فاتفق أن حملت به فخرجت من القدس إلى مدينة جرون حيث مدفن سيّدنا الخليل - على نبيّنا وعليه أفضل الصلاة والسلام - فدخلت إلى حرمه ليلا، ثم كشفت عن بطنها، وأمسّته سردا به، ونذرت شيئا وافرا من المال أن يكون صدقة لفقراء حرمه إن ولدت ما في بطنها ذكرا، وأن تسمّيه الخليل، فلما وضعته كان ذكرا بإذن الله تعالى، فسمّته الخليل، ثم وفت بما نذرته، ثم ألبسته في أذنه خرصا من ذهب بلؤلؤة، ذكرت أنها شرتها بخمسين دينارا ذهبا، ونذرت بعد عليها إن أكمل ولدها سبع سنين أن تلقي هذه الجوهرة في صندوق النذر لسيّدنا الخليل - على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام -. وترعرع هو ونشأ بالقدس، وحفظ به القرآن العظيم.
وكان ذكيّا، حذقا، فهما، فطنا، حادّ الذهن، كيّسا، ثم أخذ في الاشتغال، فبحث «القدوري» (٣) على بعض أهل العلم بالقدس، وتعانى الطلب وحبّب إليه (٤).
وبعد موت والده «شاهين» اتصل «بخدمة أزبك الأشقر (٥) الدوادار الكبير، وكان عنده في مقام الوالد لا الخدّام لكونه ولد خشداشه، وجعله شادّا على الأحواش السلطانية ومتكلّما على الصيّادين، وقرّبه واختصّ به لحذقه وذكائه وكماله من حالة صغره، ودام إلى أن أخرج أزبك المذكور إلى القدس بطّالا، فانجمع الوالد عن الناس، وداوم الاشتغال بالعلم والمطالعة، وأخذ عن جماعة من كبار العلماء، وجالس العلاّمة العلاء
_________
= انظر عنها في: كنوز القدس - تأليف جماعة من الأساتذة، تنسيق المهندس رائف يوسف نجم - منشورات منظمة المدن العربية، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن ١٤٠٣ هـ / ١٩٨٣ م، ص ٢٤٧ رقم ٩٧، وفيه مصادر ومراجع أخرى.
(١) هو إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن سعد القاضي الديري، المقدسي، الحنفي، توفي سنة ٨٧٦ هـ. (الضوء اللامع ١/ ١٥٠، ١٥١) وستأتي مصادر أخرى في ترجمته.
(٢) هو محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن مصلح بن أبي بكر بن سعد المقدسي، الحنفي، ويعرف بابن الديري، توفي سنة ٨٢٧ هـ. (الضوء اللامع ٨/ ٨٨ - ٩٠ رقم ١٨٥) وستأتي مصادر أخرى في ترجمته.
(٣) هو كتاب «مختصر القدوري» في فروع الحنفية، للإمام أبي الحسين أحمد بن محمد القدوري البغدادي الحنفي، المتوفى سنة ٤٢٨ هـ. (كشف الظنون ٢/ ١٦٣١).
(٤) بعد هذه الكلمة تبدأ ترجمة جدّ المؤلّف التي تقدّمت.
(٥) ويقال: أزبك الظاهري برقوق. مات سنة ٨٣٣ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٢٧٣ رقم ٨٤٨).
1 / 9
البخاري (١)، وحضر دروسه، وأخذ عن السعد بن الديري (٢)، والزين التفهنيّ (٣)، والسراج قاريء «الهداية» (٤) والعلاء الروميّ، والشيخ يحيى السيراميّ (٥)، والكمال بن الهمام (٦)، وشيخنا العلاّمة الكافيجيّ (٧)، وكان شيخنا المذكور يعظّمه جدّا ويجلّه. ومن مشايخه: الأمين الأقصرائي (٨)، والنجم الموقت (٩)، والتقيّ الشمنّيّ (١٠)، ولازمه بأخرة مدّة، وأخذ بدمشق عن جماعة، منهم: القوام قاضي القضاة الحنفيّ (١١)، ومن مشايخه: البدر العينتيّ (١٢)، والعلم البلقيني (١٣)، والشمس القاياتي (١٤)، والشمس
_________
(١) هو محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن السيد البخاري. مات سنة ٨٤١ هـ. (الضوء اللامع ١٠/ ٢٩١ - ٢٩٤ رقم ٧٥١).
(٢) تقدّم قبل قليل.
(٣) هو عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن علي بن هاشم التفهني، القاهري، الحنفي. مات سنة ٨٣٥ هـ. (الضوء اللامع ٤/ ٩٨ - ١٠٠ رقم ٢٨٥).
(٤) هو عمر بن علي بن فارس الكناني، القاهري، الحسيني، الحنفي، ويعرف بقارىء الهداية تمييزا له بذلك عن سراج آخر كان يرافقه في القراءة على العلاء السيرامي شيخ البرقوقية. مات سنة ٨٢٩ هـ. (الضوء اللامع ٦/ ١٠٩، ١١٠ رقم ٣٤٤). و«الهداية» كتاب في فروع الفقه الحنفي لشيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني. الحنفي، المتوفى سنة ٥٩٣ هـ. (كشف الظنون ٢/ ٢٠٣١، ٢٠٣٢).
(٥) السيرامي أو الصيرامي، يحيى بن يوسف بن محمد بن عيسى. مات سنة ٨٣٣ هـ. (الضوء اللامع ١٠/ ٢٦٦، ٢٦٧ رقم ١٠٥٦).
(٦) هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسيّ الأصل، القاهري، الحنفي، مات سنة ٨٦١ هـ. (الضوء اللامع ٨/ ١٢٧ - ١٣٢ رقم ٣٠١).
(٧) هو محمد بن سليمان بن سعيد بن مسعود المحيوي أبو عبد الله الرومي، الحنفي، ويعرف بالكافيجي. مات سنة ٨٧٩ هـ. (الضوء اللامع ٧/ ٢٥٩ - ٢٦١ رقم ٦٥٥).
(٨) هو يحيى بن محمد بن إبراهيم بن أحمد الأقصرائي. مات سنة ٨٨٠ هـ. (الضوء اللامع ١٠/ ٢٤٠ - ٢٤٣ رقم ١٠٠٨).
(٩) في المخطوط غير واضحة، كتبتها على الترجيح.
(١٠) هو أحمد بن محمد بن محمد بن حسن بن علي بن يحيى بن محمد بن خلف الله بن خليفة التميمي، الداري، القسنطيني الأصل، السكندري، القاهري. مات سنة ٨٧٢ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ١٧٤ - ١٧٨ رقم ٤٩٣).
(١١) هو محمد بن محمد بن محمد بن قوام الروميّ الأصل، الدمشقي، الحنفيّ، ويعرف بلقبه قوام الدين. مات سنة ٨٥٨ هـ. (الضوء اللامع ٩/ ٢٦٦ رقم ٦٩٥).
(١٢) هو محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود الحلبيّ الأصل، العينتابي، القاهري، الحنفي، المؤرخ. مات سنة ٨٥٥ هـ. (الضوء اللامع ١٠/ ١٣١ - ١٣٥ رقم ٥٤٥).
(١٣) هو صالح بن عمر بن رسلان بن نصير بن صالح الكناني، العسقلاني، البلقيني الأصل، القاهري، الشافعي. مات سنة ٨٦٨ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ٣١٢ - ٣١٤ رقم ١١٩٩).
(١٤) هو محمد بن علي بن محمد بن يعقوب بن محمد القاياتي، القاهري، الشافعي. مات سنة ٨٥٠ هـ. (الضوء اللامع ٨/ ٢١٢ - ٢١٤ رقم ٥٥٦).
1 / 10
البساطي (١)، والشمس الونائي (٢)، والمجد بن نصر الله (٣)، والبدر التنّيسيّ (٤)، والعزّ عبد السلام البغدادي (٥)، والتقيّ بن قندس (٦)، شيخنا، والبرهان الباعونيّ (٧)، والبدر بن عبد المنعم (٨) وجماعة يطول الشرح في تعدادهم من غالب بلاد الإسلام شرقا وغربا ما بين هند وعجم وروم وغير ذلك من علماء الإسلام، ومشايخ مصر والشام ممّن أخذ عنهم، وأذن له بعض أعيانهم الأكابر بالفتيا والتدريس. ولازم مجالس حافظ العصر، شيخ الإسلام [ا] بن حجر (٩) في سماع الحديث، وسمع عليه الكثير، وسمع عليه بعض تصانيفه أيضا، وأجازه، وأثنى عليه في إجازته وعلى ما صنّفه في جملة قوله في إجازته بحيث يشهد له كلمن (؟) سمعه، فإنه فاق كلمن (؟) سبقه في كلما (؟) جمعه، وطارحه بالشعر، وراسله، وأحبّه، وذكره في مواضع من تاريخه «إنباء الغمر» (١٠)، وسنذكر ما طارحه به من الشعر، بل وما مدحه به، وكفاه فخرا أن امتدحه مثل [ا] بن حجر على ما ستقف على ذلك.
ولما انجمع عن الناس بعد إخراج أزبك إلى القدس، طلبه الأشرف برسباي حين
_________
(١) هو محمد بن أحمد بن عثمان بن نعيم بن مقدّم بن محمد بن حسن بن غانم بن محمد بن عليم البساطي، ثم القاهري، المالكيّ. مات سنة ٨٤٢ هـ. (الضوء اللامع ٧/ ٥ - ٨ رقم ٧).
(٢) هو محمد بن محمد بن عثمان بن محمد بن محمد بن أبي بكر الونائي، المصري، الخانكي، الشافعيّ. مات سنة ٨٩٠ هـ.
(٣) هو أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر بن أحمد التستريّ الأصل، البغدادي، القاهري، الحنبلي. مات سنة ٨٤٤ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٢٣٣ - ٢٣٩ رقم ٦٥٦).
(٤) هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عطاء الله بن عواض بن نجا بن أبي الثناء حمود بن نهار، أبو الإخلاص. مات سنة ٨٥٣ هـ. (الضوء اللامع ٧/ ٩٠ - ٩٢ رقم ١٨٤).
(٥) هو عبد السلام بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد بن كيدوم بن عمر بن أبي الخير سعيد القيلوي، البغدادي، القاهري، الحنبلي، الحنفيّ. مات سنة ٨٥٩ هـ. (الضوء اللامع ٤/ ١٩٨ - ٢٠٣ رقم ٥١٢).
(٦) هو أبو بكر بن إبراهيم بن يوسف التقي، البعلي، الصالحي، الدمشقي، الحنبلي. مات سنة ٨٦١ هـ. (الضوء اللامع ١١/ ١٤، ١٥ رقم ٣٧).
(٧) هو إبراهيم بن أحمد بن ناصر بن خليفة بن فرح بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن الباعوني، الدمشقي، الصالحي، الشافعي. مات سنة ٨٧٠ هـ. (الضوء اللامع ١/ ٢٦ - ٢٩).
(٨) هو محمد بن محمد بن عبد المنعم بن داود بن سليمان، أبو المحاسن البغدادي، القاهري، الحنبلي. مات سنة ٨٥٧ هـ. (الضوء اللامع ٩/ ١٣١ - ١٣٤ رقم ٣٣٦).
(٩) هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد الكناني، العسقلاني، المصري، القاهري، الشافعي. مات سنة ٨٥٢ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٣٦ - ٤٠ رقم ١٠٤، كنوز الذهب في تاريخ حلب، لسبط ابن العجمي الحلبي (ت ٨٨٤ هـ) - تحقيق د. شوقي شعث، والمهندس فالح البكور - دار القلم العربي، حلب ١٤١٨ هـ / ١٩٩٧ م. - ج ٢/ ٢١٩ - ٢٢٢).
(١٠) ذكر في الجزء ٣/ ٥١٣ و٤/ ١٧ و٢٢ و٢٣ و٤١ - ٤٣ و٥٢ و٦٠ و٢٤٥.
1 / 11
أجري له ذكره عنده بالنباهة، فولاّه النظر على الخاصّ بالثغر السكندريّ، عوضا عن [ا] بن الصغير، وباشره بحرمة وافرة وعفّة زائدة حتى عجب الأشرف من ذلك، وأضاف إليه نظر الذخيرة وبيع البهار بها، ثم بعث إليه باستقراره بالحجوبية بها، ثم رقّاه إلى نيابتها عوضا عن جانبك الثور (١)، مضافا لما بعده من الوظائف وغير ذلك من النوادر كون الحاجب الذي هو كالأمير على النائب يصير نائبا على حجوبيته وأقام من يتكلّم عنه من قبله في النظارة والحجوبية. وحمدت سيرته في مباشرة جملة هذه الوظائف، وشكرت أحكامه، وأحبّه أهل الثغر. ثم حضر إلى القاهرة فتلقّاه الأشرف بالرحب، وشكره في الملأ العام من العسكر وأعيان الدولة.
واتفق أن تزوّج بأخت الخوند جلبان الست أصيل (٢)، الماضية ترجمتها، ثم عاد إلى الثغر ودام به وهو مكبّ على الاشتغال واجتماع الكثير من علماء الثغر بذلك العصر في مجلسه ومذاكرته معهم، وسماع الحديث به. ثم بعث يستعفي من الذي هو فيه، ويلتمس حضوره القاهرة غير ما مرة حتى أجيب إلى ذلك، وحضر إليها عن إمرة طبلخاناة كانت بيده، بل وزيادة عليها البسلقون (٣). وغلط - بل كذب - من قال إنه حضر من الإسكندرية على نحو الطبلخاناة، فإنها كانت طبلخاناة وزيادة، وكان يحضر الخدمة السلطانية مع مقدّمين (؟) الألوف ثم أضيف إليه نظر دار الضرب، ثم أمّر على الحاج بالمحمل، وخرج إلى الحج بأبّهة زائدة في سنة تسع وثلاثين، وكانت ثانية له فإنه حج قبلها حجّة الإسلام صحبة والده، ثم عاد في التي تليها، ولازم أيضا مجلس شيخ الإسلام [ا] بن حجر في سماع الحديث، وسمع عليه الكثير وعلى غيره من العلماء. بل كان له بداره مجلس محفوف بالعلماء.
ثم طلبه الأشرف للوزارة فامتنع من ذلك، فألحّ عليه، فاشترط عليه شروطا، ثم وليها في سنة أربعين وباشرها مدّة يسيرة ورأى بها ما لا يليق به من الأمور فاستعفى منها فأجيب إلى ذلك، وبقي على ما بيده من الطبلخاناة. ثم ولاّه نيابة الكرك والشوبك، عوضا عن عمر شاه لاستئمان السلطان إيّاه. وكانت الكرك إذ ذاك من أجلّ النيابات، وكانت قلعتها مشحونة بالأموال والحواصل بالغلال.
حدّثني الوالد صاحب الترجمة قال: لما ولاّني الأشرف الكرك ورأى في وجهي أمارة الكراهة لخروجي من القاهرة قال لي في خلوة: أتدري لماذا ولّيتك الكرك؟ قال: فقلت: نعم، يبعدني مولانا السلطان عن مشاهدة وجهه الذي هو عندي أعظم من ألف كرك، ولأنّه ملّني. فقال: لا والله، إنّما ولّيتها لك لتكون معقلا وذخيرة لولدي، فإنني
_________
(١) هو جانبك الثور السيفي أمير الترك بمكة. مات سنة ٨٤١ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ٥٦ رقم ٢٢١).
(٢) وهي أخت يوسف خال الملك العزيز. انظر: (الضوء اللامع ١٠/ ٣٠٣، ٣٠٤ رقم ١١٧٤).
(٣) البسلقون: بلدة في مصر تحت إسكندرية بقليل. (الضوء اللامع ٦/ ١٤٢ الترجمة رقم ٤٣٩).
1 / 12
سأموت عن قريب، فإنه كان متضاعفا، وكأنه أحسّ من نفسه ما لم يعهده قبل ذلك منها، وكان ذلك مقدّمات مرض موته وكان لا يعهد ذلك. ثم قال له: وأنا أعرف أنني إذا متّ ربّما قاموا على ولدي، وربّما احتاج إلى حصن يأويه، فيجيء إليك، وهذه خالته عندك مثل أمّه. قال: ثم أخذ يوصيني على أشياء كثيرة، ولهذا لما فقد العزيز من الدور السلطانية وكثرت الأقاويل في شأنه كان من جملة ما قيل إنه ذهب إلى زوج خالته بالكرك، وكان هذا القول في الحقيقة سببا لتنبّه الظاهر على صرف الوالد من الكرك. ثم لما خرج الوالد إلى الكرك أقام بها نحو السنتين، ثم صرف عنها بأقبغا التركماني (١)، وبعث به إلى صفد على أتابكيّتها يأكلها طرخانا معفى عن الكلف السلطانية والخدم.
وكان بلغ الظاهر بأنّ الوالد لما خرج من الكرك سلّمها لأقبغا على أجمل وجه وأكمله، مع إظهار حشمة وكلمات فيها تعظيم الظاهر، فعرف له ذلك، وكان سببا لوفور حرمته في دولته واعتنائه بشأنه، وكان ذلك خلاف القياس، وباشر الوالد أتابكيّة صفد وبها إذ ذاك نائبها حينئذ الأمير إينال العلائي (٢) المسلطن بعد ذلك، وهو الملك الأشرف الماضي ذكره، فرافقه بها مدّة يسيرة حتى كان إينال يركب ويحضر إليه في كل قليل بمنزله، وكان بينهما صحبة أكيدة ومحبّة زيادة عمّا كان قبل ذلك، لكن ما ظهر نتيجة ذلك بعد سلطنته لعوارض قد أشرنا إلى شيء منها فيما مضى عند ذكرنا حضور الوالد إلى القاهرة في أوائل سلطنة الأشرف إينال هذا. ثم دام بصفد مسيرا حتى كانت قضية إينال الحكميّ (٣)، وتغري برمش (٤) نائبي الشام وحلب وتوجّه العساكر إليه، فخرج الوالد صحبة العسكر الصفديّ على أن إينال قال له: أنت معفى عن الخدم والأسفار، فلم يرض الوالد بإقامته بصفد، وكان معه جماعة من جياد الأجناد والمماليك النافعة، فقال: لا أتقاعد عن مهمّ السلطان، وخرج بطلب جيّد وأبّهة. واتفق كسرة إينال الحكميّ بعد أن كانت الكسرة أولا على السلطانيين من إينال، ووقعت سناجقهم ولم يبق منها في ذلك اليوم سوى سنجق الوالد بيد شخص من مماليكه يقال له أسندمر، ثبت به بمكان، فاتفق أن تراجعت العساكر فاجتمعوا إلى هذا السنجق، ثم كرّوا وحملوا على إينال الحكميّ فهزموه، وخفي عليهم حال إينال.
وكان الوالد في أثناء هذه الهرجة وجد طبر إينال الحكميّ ملقى على الأرض، فأخذه ووجد به سبعة عشر ضربة سيف، فأحضره الوالد لآقبغا التمرازي (٥) الذي كان
_________
(١) هو آقبغا من مامش التركماني الناصري فرج. مات سنة ٨٤٣ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٣١٦ رقم ١٠٠٩).
(٢) هو الأشرف أبو النصر ويقال له الأجرود. مات سنة ٨٦٥ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٣٢٨، ٣٢٩ رقم ١٠٨٠).
(٣) قتل سنة ٨٤٢ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٣٢٧ رقم ١٠٧٤).
(٤) هو تغري ورمش بن أحمد واسمه حسين، وأبوه يدعى بابن المصري. قتل سنة ٨٤٢ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ٣٥ رقم ١٤٧).
(٥) هو آقبغا العلاء التمرازي. مات سنة ٨٤٣ هـ. (الضوء اللامع ٢/ ٣١٦، ٣١٧ رقم ١٠١٢).
1 / 13
ولاّه الظاهر نيابة الشام من الأتابكية وبعثه لحرب إينال، وعرّفه أنّ هذا طبر إينال، وأنه إن لم يكن مات أو بلغ قريبا من مرتبة الموت ما كان طبره وقع من يده، وحضر جماعة من الأعيان وعرفوا بأنّ هذا طبر إينال، فكتب آقبغا مكاتبات للظاهر بواقعة الحال وهزيمة إينال، وبقضية سنجق الوالد، ووجدانه لطبر إينال، كل ذلك قبل تحرير أمر إينال والقبض عليه، ثم لما قبض عليه أردف ذلك القاصد بآخر على العادة في مثل ذلك، فاتفق أن دخل القاصد الأول قبل الثاني بيسير، وعرف الظاهر الحال فشكر الوالد في الملأ العام، وإذا بالخبر بالقبض على إينال، فزاد سرور الظاهر، وولّى الوالد نيابة ملطية، عوضا عن حسن قجا أخي تغري برمش، وبعث إليه بتقليدها وتشريفها، وأمر له بمبلغ له صورة، واعتذر إليه بأنّ هذا الذي كان نصيبا له، ولو شغر ما هو فوق ذلك لاستقرّ به، فتوجّه الوالد إلى ملطية بعد تمام أمر تغري برمش والحكميّ، وباشرها مدّة، وبها كان مولدي، ثم قدم بي أثناء ذلك إلى القاهرة ومعه هدية مستطرفة للظاهر فاحتفل بقدومه عليه وعظّمه ورفع من محلّه. ثم أخذ الوالد في الاستعفاء من ملطية فلم يجبه إلى ذلك، ووعده بالجميل وأعاده إليها. وكان له بملطية درسا حافلا (كذا)، وصنّف فيها عدّة من الكتب، وكان يحضر مجلسه جماعة من العلماء الأفاضل بها، ودام بها إلى أن استأذن في حضوره إلى القاهرة أيضا، وحضر مستعفيا من ملطية أيضا فأجيب إلى ذلك وقرّر في أتابكية حلب، فعاد إليها ودخلها بأبّهة زائدة، وجرى بينه وبين نائبها قانباي الحمزاوي (١) منافسة، وبعث يشكوه للظاهر على ما بيّنا ذلك في محلّه، ونسبه إلى أمير قبله أنه يخلّ بناموس السلطنة، والحال أنه مما يزيد في ناموسها، فبرز أمر الظاهر بحمله مقيّدا إلى سجن قلعة حلب، فبقي بها قليلا حتى شفع فيه جماعة من الأعيان، منهم الحافظ [ا] بن حجر (٢)، وظهر للظاهر
_________
(١) مات سنة ٨٦٣ هـ. (الضوء اللامع ٤/ ١٩٥ رقم ٦٦١).
(٢) وذكر سبط ابن العجمي سبب نقمة الحمزاوي على والد المؤلّف، فقال: وفي تاسع شهر رجب [سنة ٨٤٧ هـ] استقر الأمير غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري في الإمرة الكبرى بحلب عوضا عن الأمير طوغان العلائي، ووصل إلى حلب وباشر بشهامة زائدة، ودق الكوسات على بابه، فأنف من ذلك كافلها الحمزاوي وقال: هذه الكوسات لا تدق إلا على باب الكافل. وكان يترفّع عن الركوب في الخدم السلطانية فازداد أنفة وحنق عليه، مع ما كان الحمزاوي عليه من رياضة الأخلاق وحسن المعاشرة، ولكن أغراه على ذلك ابن الرسّام كاتب السر، فكتب إلى السلطان يعلمه برقاعته وقلّة عقله. فأحسّ بذلك خليل فكتب خليل محضرا بحسن سيرته وأنه داخل في الطاعة ملازم للخدم السلطانية. وأخذ خط قاضي المسلمين محبّ الدين بن الشحنة، وقاضي المسلمين زين الدين بن الخزري، وخط القاضي ضياء الدين بن النصيبي نائب كاتب السر ويخبرهم على محضره، وألزمني بالكتابة فكتبت فيه: إنه يحب العلماء، ويثني على مشايخ الإسلام، ويواظب على طلب العلم، فسخط من ذلك وقال: ليس هذا المقصود. فدخل ابن الرسّام إلى الكافل وقال له: إن خليلا كتب محضرا بأنك خارج عن الطاعة - وكان ابن الرسام يحبّ الفتن والشرور متحرّكا - فطلب الكافل القضاة وقال: لا بدّ من إحضار هذا المحضر إليّ =
1 / 14
غرض نائب حلب فأطلقه وأقطعه مدينة قاقون (١) يأكلها وهو مقيم بالبيت المقدس، فاستأذن
_________
= لأنظره وإلاّ قطعت أيدي الكاتبين فيه. فقالوا له: إن هذا لم يكتب شيئا يتعلّق بك إنما كتب محضرا بحسن سيرته، وملازمة الطاعة. فدخل ابن الرسام إليه وقال: لا، هذا جواب إقناعي. لا بدّ أن تقف على المحضر لتنظر حقيقة ذلك، فاشتدّ طلب الكافل للمحضر، فحضر القضاة إلى الخليل وطلبوا منه المحضر، فادّعى خليل أنه أرسل المحضر إلى السلطان. ثم إنه أرسله إلى الكافل فقريء عليه فما وجد فيه شيئا مما قاله ابن الرسام فسكت. وتابع سبط ابن العجمي بعد ذلك ترجمة والد المؤلف «خليل بن شاهين» فنال منه ووصفه بخفّة العقل، وأنه افتقر افتقارا زائدا وعزل من المناصب ومات رثّ الحال، وغير ذلك، فقال: وهذا الرجل خفيف العقل له دعاوى عريضة، وكان ولي نيابة اسكندرية، وكان قد اجتمع بجماعة من العلماء وأخذ عنهم كشيخنا الحافظ ابن حجر بينهما مراسلات ومكاتبات عديدة، وله نظم في الدرجة السفلى. وكان يدّعي أن نظمه منسجم، رقيق، فائق في الدرجة العليا، والأمر بخلاف ذلك، ولكن بواسطة مكانته وما هو عليه شهد له بعض الناس - وهم الطامعون بما عنده من الإعطاء والكرم - بحسن النظم وجودته، وفضله وعلمه. ثم ذكر أسماء جماعة من شيوخه، وقال: ووقفت له على مؤلّف سمّاه: «التحفة المنيفة في جمع الأحاديث الشريفة»، جمع فيه أحاديث شريفة كل حديث لا تعلّق له بما قبله. وقال في أوله: «وشرحتها إلهاما»، وهذا دليل قلّة عقله ونظرته. فرأيته قد أخذ كلام العلماء وتصرّف فيه تصرّفا عجيبا: المبتدأ لا خبر له، والشرط لا جزاء له. وله مؤلّف آخر سمّاه «الذخيرة لوقت الحيرة»، يشتمل على فضل لا إله إلا الله. وله تخميس بانت سعاد، ونظمه غير طائل، سدّ وزن، وأولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول وفيه شوق إلى الأحباب موصول من وجدهم في طوى الأحشاء معلول قد زاد حبّا فلا يتلوه تحويل متيمّ إثرها لم يفد مكبول قال في كتاب «التحفة»: ومما أتحفني به شيخنا الحافظ ابن حجر: أيا غرس فضل أثمر العلم والندى فلله ما أزكى وما أطيب الثمر (وستأتي بقية الأبيات في ترجمة والد المؤلف بعد قليل). وولي وزارة مصر وكتب تقليده بذلك، وجاء رؤساء القاهرة إلى بيته لسماع قراءة التقليد على العادة، وكان ممن حضر القاضي عبد الباسط، فقريء منه أن السلطان قلّده وزارة المشارق والمغارب. فقال في وجهه القاضي عبد الباسط: «المفاسي والمضارط». وفي آخر عمره افتقر افتقارا زائدا وعزل من المناصب، ولم يتولّ منصبا ومات رثّ الحال، قليل المتاع، وكان بحلب كتب له القاضي الفاضل زين الدين أبو حفص عمر بن القاضي ضياء الدين محمد النصيبي الشافعي بأبيات منها: ملكت رقاب العالمين جميعهم بفضل صلات منك يا صاحب الفخر غرست ثمار الفضل في كل (بقعة) فلا زلت محبورا من الله بالنصر وفقت الورى بالعلم والفضل والتقى وفي الرأي والأفعال والنهي والأمر وقد صرت من بعض. . . فإن نجد بها من عيوب عظما أنت بالستر (كنوز الذهب ٢/ ١٧٥ - ١٧٩) وفيه وردت «نبعة» ولا معنى لها، فصحّحناها إلى «بقعة».
(١) قاقون: حصن بفلسطين قرب الرملة. وقيل: هو من عمل قيسارية من ساحل الشام. (معجم البلدان ٤/ ٢٩٩).
1 / 15
الوالد أن يكون بمدينة الخليل ﵇، فأذن له بذلك، ثم بعث إليه الظاهر بإضافة عدّة جهات ومرتّبات له إلى قاقون، ثم بعث يستأذن الظاهر في الحج فأذن له فيه وبعث إليه بنفقة جيّدة فحجّ من الخليل مجرّدا مع بعض جماعة من مماليكه، وهي ثالثته.
ثم طلبه السلطان إلى القاهرة، وحين قدمها أجلّه السلطان وقام له وأجلسه، ثم قرّر في نيابة القدس، وذلك في محرم سنة خمسين، وأضاف إليه تقدمة ألف بدمشق، وبعث إليه بأشياء كثيرة ومبلغ ألف دينار، وخرج الوالد إلى نيابتها وباشرها فوق السنة، ثم بعث بالاستعفاء منها فأعفي، وأمر بالتوجّه إلى دمشق على ما بيده من النقدية، وكتب له بأن يكون أمير ميسرة بدمشق، فأقام بها مدّة، والنقّارات تضرب على بابه، وهي من نوادره بدمشق، إذ لم تجر العادة الحديثة بذلك سوى لنائب الشام، والأتابك، وحاجب الحجّاب، وأمّا بقية مقدّمين (كذا) الألوف فكانوا بالطبلين والزمرين أي كلّ منهم.
ثم لما خرج العسكر إلى حلب لحفظها من جهان شاه (١) خرج الوالد إليها في أبّهة وعظمة زائدة وطلب حافل، ثم لما انقضى ذلك قدم إلى القاهرة فأكرمه الظاهر وأنزله بقصر تمرباي (٢) بالكبش وأنس به في حلوله، وكان يسأله في كثير من الأمور الدينية والدنيوية وأحوال قواعد المملكة، ثم زاده على ما بيده بدمشق إمرة عشرين وبعث إليه بمبلغ ألف دينار، غير ما كان قد رتّبه باسمه وهو مقيم بالقاهرة، وغير ما رتّبه لأولاده على الذخيرة بالقدس، وعاد إلى دمشق، ثم بعث يستأذن الظاهر في الحج فلم يأذن له وقال إنه (لا يوافق) (٣) أن يتوجّه بمفرده، وإن توجّه بجماعته يحتاج إلى مصرف كبير. ثم بعث إليه في العام الثاني بإمرة الحاج بالمحمل الشامي، وبعث إليه خلعة هائلة وركوبا خاصا بالسرج الذهب والكنبوش الزركش وبعث بأن يعطى خمسة آلاف دينار من قلعة دمشق ليتجهّز بها، فأخذها وأضاف إليها من ماله نحوها أو زيادة على ذلك، وخرج إلى الحج في أبّهة زائدة، وكنّا معه في تلك السنة، وكانت حجّة حافلة جدا، وعاد وقد مات الظاهر وتسلطن بعده الأشرف إينال فبعث إليه باستقراره في إمرة الحاج على عادته ثانيا، وأضاف إليه الركوب الثلاث: الشامي، والحلبي، والكركي، وبعث إليه بألفي دينار فحجّ الخامسة، ثم بعد حضوره بأشهر قليلة توجّه إلى جهة القاهرة لعهود كانت بينه وبين إينال إن آتاه الله الملك أن يحضر إليه بغير إذن، وظنّ أنّ ذلك يتمّ له، فعورض في ذلك على ما تقدّم بيانه في محلّه، وبعث إليه الأشرف إينال بعوده من قطيا، واعتذر إليه في مكاتبة
_________
(١) هو جهان شاه بن قرا يوسف بن قرا محمد التركماني الأصل، صاحب العراقين وملك الشرق إلى شيراز وممالك أذربيجان. قتل سنة ٨٧٢ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ٨٠ رقم ٣١٤).
(٢) ترجم السخاوي لسبعة أمراء اسمهم «تمرباي»، ومن غير المعروف إن كان المذكور أعلاه واحدا منهم. (انظر: الضوء اللامع ٣/ ٣٩ رقم ١٥٩ - ١٦٥).
(٣) قرأتها بصعوبة، فهي غير واضحة في الأصل.
1 / 16
له ووعده بالجميل، وبعث إليه بأشياء، وعاد إلى دمشق، وأخذ في كل قليل يبعث بالاستعفاء من التقدية التي بيده بدمشق، ولا زال حتى أجيب إلى ذلك بمندوحة قدّمنا ذكرها في محلّها. وأعطي الوالد إمرة عشرين بطرابلس ليأكلها طرخانا، فتوجّه إليها في سنة تسع وخمسين على ما تقدّم، وأقام على ذلك مدّة بطرابلس وهو معفى من الخدم وسائر الكلف السلطانية، منعكفا على الشغل والإشغال بمطالعة الكتب وإسماع الحديث وإلقاء شيئا (كذا) من الدروس، وصنّف بها عدّة من الكتب في تلك الاستراحة، وأنشأ بها دارا وزاوية ومدفنا أعدّه لدفن نفسه آل الأمر بسبب من إنسان أن دخل طرابلس وبها بغته الأجل ودفن به بعد أن خرج من طرابلس وغاب عنها عدّة سنين على ما ستعرف ذلك.
وكان وهو بطرابلس في غاية الراحة والخدمة وجميع أعيانها يعظّمونه ويتردّدون إليه. ثم إنّه بعث إلى الأشرف بما قدّمنا ذكره من السواقة، ولما وصل ذلك للأشرف المذكور أعجبه وذكره بخير، ثم أعاب على نفسه بنفسه كونه لم يقدّمه في دولته ولا نوّه به مع الصحبة القديمة الأكيدة. واتفق أن شغرت إمرة طبلخاناة بدمشق، فاستقرّ به فيها، وكتب إليه بأن يأكلها طرخانا حتى يجد له ما يليق به، ووعده بالجميل، وبعث إليه مشافهة مع قاصده المتوجّه بالسواقة فيها غاية التعظيم، فتوجّه الوالد إلى دمشق في أواخر سنة أربع وستين.
واتفق أن مات الأشرف إينال بعد قليل من ذلك، وتسلطن ولده المؤيّد فبعث إليه يطلبه إلى القاهرة، فقدمها في أوائل شهر رمضان سنة خمس وستين. فاتفق أن جرى للمؤيّد ما جرى من خلعه، ثم سلطنة الظاهر خشقدم فأنس به وقدّمه واختصّ به، وأذن له أن يقيم بالقاهرة على ما بيده من إمريّة بدمشق طرخانا كما كان، وأذن له بالاجتماع به في الأسبوع مرّتين في يومي الجمعة والثلاثاء، وأعاد إليه بعض مرتّبات كانت باسمه وأخرجت عنه، ورتبّت له بحمل عليقا وغير ذلك، وجالسه وسارره وشاوره في كثير من أموره، وقبل الكثير من شفاعاته، وتكلّم في أيامه في كثير من القضايا المهمّة وأنهاها، وانتفع به الكثير من الناس بواسطة ذلك. وقصد وتردّد الناس إلى بابه وازدحموا عليه مع عدم التفاته إلى شيء مما في أيديهم وغاية عفّة عن ذلك ونزاهة، وكوتب من أقاصي المملكة في كثير من المهمّات وأنهاها وأحسن السفارة فيها. داوم على ذلك في حرمة ووجاهة إلى أن كان من أمر الخليفة المستنجد بالله (١) ما تقدّم بيانه في سنة إحدى وسبعين من أن يكلّم له السلطان في عساه أن يأذن له بالنزول إلى محلّ سكنى الخلفاء قبله.
_________
(١) هو يوسف بن محمد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد بن حسين الهاشمي العباسي. مات سنة ٨٨٤ هـ. (حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران، لابن الحمصي (ت ٩٣٤ هـ.) - تحقيق أ. د. عمر عبد السلام تدمري، طبعة المكتبة العصرية، صيدا - بيروت ١٤١٩ هـ / ١٩٩٩ م - ج ١/ ٢٢٩ رقم ٢٩٧).
1 / 17
فاجتمع بالسلطان وكلّمه في ذلك من غير أن يحسب عقباه ولا أعمل فيه فكره إلى أن كان ما قدّمنا ذكره من إخراجه إلى مكة المشرّفة على ما عرفته فلا نعيده.
وقدّمنا أيضا كيف توجّه إلى العراق صحبة الحاج العراقي مع الأمير عبد الحق بن الجنيد (١) أمير الركب في تلك السنة وكيف جال عدّة من تلك البلاد، وكان قصده الاجتماع بجهان شاه ملك العراق وتبريز فكان شأن قتلته على يد حسن الطويل (٢) ما تقدّم ذكره.
ثم كانت وفاة الظاهر خشقدم، فعاد الوالد إلى هذه المملكة من على جهة حلب، ثم دخل طرابلس في سنة ثلاث وسبعين هذه في أوائلها، ونزل بداره فأقام بها منجمعا عن الناس، متوجّها إلى الله تعالى منعكفا على العبادة والخير وتلاوة القرآن، مقبلا على شأنه، وكأنه كان قد أحسّ بفراغ أجله. واتفق أن لم تطل نوبته بطرابلس إلاّ بعض شهور وبغته أجله بها بعد أن تمرّض بالبطن أياما، ولما حدس أنه يموت كان معه بعض شيء من حطام الدنيا مبلغا عينا نقدا (كذا) فأحضره وقسّمه على أولاده وورثته، وكنت أنا إذ ذاك بالقاهرة فأفرز نصيبي وفرّق من ذلك المبلغ في جماعة من ذويه وسراريه وغيرهم من ثلثه، ثم أحضر الغاسل وأعطاه دينارا ذهبا وقال له: كأني بي وقد متّ فاحضر لغسلي، ثم وصف له كيفية يغسّله عليها وقال له: خذ سلبي وما عليّ من الثياب. ثم لزم تلاوة القرآن إلى أن توفي بعد أيام من هذه الفعلة يسيرة، في ليلة الخميس ثالث عشر جمادى الآخرة مبطونا شهيدا، وجهّز وكفّن، وصلّي عليه بداره في صبيحة يوم الخميس، ثم دفن بالمدفن الذي كان أعدّه لنفسه.
وكان رحمه الله تعالى مشكور السيرة في جميع ولاياته، ذا عدل وإنصاف فيما وليه من أمور المسلمين، كثير الشفقة على خلق الله تعالى، بحيث لما عزل عن نيابة الإسكندرية أغلق أهلها بابها واستغاثوا وأرادوا منعه من خروجها حتى تلطّف بهم. وكذا وقع له بمدينة الكرك. بل قام أهل الكرك معه وقالوا له: إن شئت نمنعك بهذا الحصن ونصير أتباعا لك، ولا علينا من السلطان، وكذا فعل أهل ملطية حين صرف عنهم. وكان محبّبا للناس، كثير التواضع لأهل التواضع، لا يحبّ سفك الدماء، وما أقدم في جميع ولاياته على سفك دم لا بحق ولا بغيره، فإنه لم يتفق له ذلك حتى عدّ ذلك من نوادره، سوى شنق حسن قجا بحكم خروجه عن طاعة الظاهر وشق العصا مع أخيه تغري برمش، وكان شنقه بأمر الظاهر وحكمه. وكان شهما، فخما، ضخما، ريّسا، وجيها في الدول، سيوسا، مدبّرا، عاقلا حازما، ذا رأي وتدبير وخبرة بالأمور، ومعرفة تامّة، قائما في
_________
(١) لم أجد له ترجمة.
(٢) هو حسن بك بن علي بك بن قرايلك عثمان صاحب ديار بكر. مات سنة ٨٨٢ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ١١٢، ١١٣ رقم ٤٤٢).
1 / 18
أنواع الخير والبرّ والمعروف بقلبه وقالبه، خيّرا، ديّنا، حسن السمت والملتقى، كثير الأدب والحشمة، ذا تؤدة وسكون. فكه المحاضرة، حلو المذاكرة، جيّد المعاشرة، ضويّ الهيئة، حسن الشكالة، نيّر الوجه، حسن الصورة واللحية وافرها، عارفا بأيام الناس، ذا حنكة وتجارب ودهاء ومعرفة بطرائق الملك والملوك والمملكة بحيث لا يعجبه في ذلك العجب، متأنّقا في سائر أحواله، متجمّلا في جميع شؤونه، قائما بناموس ما ولّيه على قواعد قدماء الملوك والأمراء. وكان يضرب بسماطه المثل بالقاهرة، فضلا عن غيرها حتى كان الكثير من الناس يقرّع جماعة من الأمراء بمصر بتركه سماطه لهم، وكره بعض المماليك، أستاذيهم. وكان يحضر سماط الكثير من الرؤساء والأعيان وغيرهم، خصوصا في أيام المواكب وهو بالقاهرة لزومه ذلك. وكان كريم النفس جدا سخيّا، معطاء، بارّا لأصحابه، كثير التودّد إليهم والقيام معهم بل ومع من قصده لمهمّ كائنا من كان، محبّا في العلم والعلماء والطلبة وأرباب الفضائل والكمالات، معظّما لهم، محبّا في الفقراء والصالحين والمجاذيب، ذا مهابة وحرمة وأبّهة، حتى كان بعض المعتبرين يقول عنه إنه سلطان أولاد الناس، وترشح مرة لنيابة الشام في دولة الأشرف برسباي قبل نيابة الكرك، وأظنّه آخر من كتب في الورق الأحمر كنائب الشام إلى السلطان وهو نائب الكرك. وكان مع ذلك كله شجاعا، مقداما، عارفا بأنواع الفروسية والأنداب والتعاليم، يشارك بفنون ذلك، تخرّج على أكابر مدّعي هذه الفنون، ويقرّر لهم عيوبهم في ذلك، وله في ذلك حكايات لو سردناها لطال المجال، وكان عفيفا عن المنكرات والفروج والمسكرات. ولقد حلف مرة يمينا بأنه لم يدخل المسكر باطنه قطّ، وهو بارّ في يمينه، صادق في ذلك. وكان معظّما عند الملوك، موقّرا، حتى كان الظاهر يخاطبه ب: «يا سيدي»، ويرفع من محلّه، وقام له غير ما مرّة وأجلسه.
وأمّا الظاهر خشقدم فناهيك بما كان يعظّمه به، وكان إذا حضر عنده تحرّك له، وربّما قام له في بعض الأحيان وأجلسه. وكان إذا حضر مجلسه أقبل عليه فلا يتكلّم مع غيره إجلالا له إلاّ على وجه يتضمّن بسؤال لأحد ممن حضر ذلك المجلس في شيء يتعلّق بالوالد. وكان له التوجّه التامّ للعالم الملكوتيّ والإقبال على الله تعالى، مواظبا على تواصل الطاعات والعبادات من صيام كثير من الأيام، وصيام الثلاث (كذا) شهور في المحرم، كل ذلك في أيام إمرته، فما بالك في غيرها، مع المواظبة على صلاة الضحى وصلاة الغفلة، وقيام الليل في بعض الأحيان وملازمة التلاوة والأذكار والأوراد ومطالعة الكتب والاشتغال والتصنيف والتأليف، وبلغت عدّة تصانيفه زيادة على الثلاثين، فمن ذلك:
«البرهان المستقيم في تفسير القرآن العظيم».
و«التحفة المنيفة في الأحاديث الشريفة (١)، وشرحها».
_________
(١) في كنوز الذهب ٢/ ١٧٧ «التحفة المنيفة في جمع الأحاديث الشريفة». ووقع في الطباعة: «جميع».
1 / 19
و«التحرير في أنواع التعزير». (١)
و«إجماع الجمهور على مذمّة شراب الخمور».
و«الإشارات في علم العبارات» (٢) في مجلّدين ضخمين.
و«الكوكب المنير في أصول التعبير» (٣).
و«كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك» (٤) في مجلّدين أيضا، واختصره في نحو نصف حجمه، وسمّاه «زبدة كشف الممالك» (٥)، ثم اختصر «الزبدة» في مجلّد لطيف، سمّاه «زبدة الزبدة» (٦).
و«كتاب الإنشاء الشريف (٧) ونابه من كل بليد وظريف».
و«الغاية في الطبّ».
و«المعتمد في الغلط المتعمّد».
و«الذخيرة لوقت الحيرة» (٨).
و«ديوان خطب».
و«ديوان شعر» في ثلاث مجلّدات.
وعدّة رسائل (٩)، وغير ذلك مما وقف عليه أكابر العلماء من الأعيان، وقرضوا (كذا) عليها.
وله نظم غالبه الوسط، ومنه الجيّد، وله كثير من المقاطيع الحسان، وبعض قصائد في مدح النبيّ ﵊، وفي مدح بعض الأكابر من الملوك
_________
(١) الضوء اللامع ٣/ ٢٩٧، هدية العارفين ١/ ٣٥٤.
(٢) هو في تعبير الرؤيا رتبه على ٨٠ بابا وأورد في خطبته أسماء الأنبياء ﵈. الضوء اللامع ٣/ ١٩٧، كشف الظنون ١/ ٩٧، وفيه وفاته سنة ٨٩٣ هـ، هدية العارفين ١/ ٣٥٣، وفيه: الإشارات إلى علم العبارات، ووفاته ٨٩٣ هـ. وتوجد نسخة من هذا الكتاب نسخها محمد بن محمد بن حماد المتولي الشافعي في ١٠ شعبان سنة ١١٣٠ هـ. في ٤٠٦ ورقات، محفوظة بقبرص. (انظر: فهرس المخطوطات الإسلامية في قبرص - ص ٣١٧ رقم ٥٧٥).
(٣) الضوء اللامع ٣/ ١٩٧، كشف الظنون ٢/ ١٥٢٣، هدية العارفين ١/ ٣٥٤.
(٤) هو التاريخ الكبير. مفقود.
(٥) مطبوع في باريس ١٨٩٤ - نشره بول رافس.
(٦) ويسمّى: «الصفوة في تلخيص الزبدة». هدية العارفين ١/ ٣٥٣، ٣٥٤، التاريخ العربي والمؤرّخون ٤/ ١٩٥.
(٧) هو: «المنيف في الإنشاء الشريف». انظر: الضوء اللامع ٣/ ١٩٧، وإيضاح المكنون ٢/ ٥٩٦، وفيه وفاته ٨٩٣ هـ، وكذا في هدية العارفين ١/ ٣٥٤، التاريخ العربي والمؤرخون ٤/ ١٩٥.
(٨) في كنوز الذهب ٢/ ١٧٧ «الخيرة».
(٩) وله أيضا: «الدرّة المضيّة في السيرة المرضية». انظر: الضوء اللامع ٣/ ١٩٧، وإيضاح المكنون ١/ ٤٦٠ وفيه وفاته ٨٩٣ هـ، وهدية العارفين ١/ ٣٥٣، والتاريخ العربي والمؤرّخون ٤/ ١٩٦.
1 / 20
والسلاطين والأعيان من العلماء والرؤساء على جهة التودّد إليهم والموافاة، وخمّس «البردة»، وخمس «بانت سعاد» بين المصراعين، فمن ذلك في المطلع من تخميسه إيّاها قوله:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... وفيه شوق إلى الأحباب موصول
من وجدهم في طوى الأحشاء مغلول ... قد زاد حبّا فلا يذهبه تحويل
متيّم إثرها لم يعد مكبول
على هذا النمط إلى آخرها.
. . . ووقع بينه وبين الحافظ [ا] بن حجر شيخ الإسلام وقاضي القضاة مطارحات، فمن ذلك ما كتبه للحافظ المذكور وهو قوله:
وقائلة من في القضاة جميعهم ... يلازم تقوى الله طرّا بلا ضجر
وبيان في الأحكام بالخلق كلّهم ... ويدعو لهم في كل ليل إلى السحر
فقلت لها: فهو الإمام أولي النهى ... ذاك الشهاب العسقلاني وبني الحجر
له كتب في كلّ فنّ لقاري ... وشرح عجيب للبخاريّ من الخبر
وفي النحو والتصريف لم ير مثله ... كذا في المعاني والبيان وفي الأثر
فكتب إليه الحافظ جوابا له قوله، وأنشدنيه الوالد عنه وناظمه أجازه:
أيا غرس فضل أثمر العلم والندى ... نبته ما أزكى وما أطيب الثمر
يجود وينشي بالغا ما أراده ... فمستطلع درّ ومستنزل درر
لك الخير قد حرّكت بالنظم خاطرا ... له مدّة في العمر ولّت وما شعر
وقلّدت جيدي طوق نعماك جائدا ... فعالا ونطقا صادق الخبر والخبر
مناسبة اسمينا خليل وأحمد ... له أسّ أولي النظم الإمام الذي غبر
. . . وقد جمع الشيخ الإمام العالم الفاضل شمس الدين محمد بن عبد المحسن السكندري (١) كتابا ضخما في سيرة الوالد وسمّاه: «الدرر السنيّة في المحاسن الغرسية» أتى فيه بأشياء كثيرة، وجمعت له سيرة أخرى لبعض أهل الفضل سمّاها: «الرياض القدسية في المحاسن الغرسية». وجمع الشيخ إبراهيم بن عبد الرزاق (٢) له أيضا كتابا فيه ما امتدح به من القصائد.
ولد لصاحب الترجمة من الأولاد زيادة على الأربعين، وتزوّج من النساء زيادة على
_________
(١) لم أجد له ترجمة: وهو ممّن يستدرك على معجم المؤلّفين لكحّالة.
(٢) لم أجد له ترجمة: وهو ممّن يستدرك على معجم المؤلّفين لكحّالة.
1 / 21
العشرين، وتسرّى من الإماء زيادة على الثلاثين، وملك من المماليك نحو المائتين، وكان يعتق البعض من مماليكه فيزوّجه لبعض من سراريه وأمّهات أولاده بعد عتقهنّ بحيث صار الكثير من أولاد مماليكه إخوة لأولاده من الأمّهات.
وكاتبه عدّة من أكابر ملوك الإسلام غير سلاطين مصر مثل [ا] بن عثمان مراد بك (١)، ومثل [ا] بن قرمان الأمير إبراهيم، ومثل صاحب الحصن الكامل خليل (٢)، وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة خليل المذكور.
وله من الآثار المسجد الذي أنشأه بطرابلس (٣)، والمدفن، والدار، والمقعد المعظّم الذي أنشأه بدار سعادة بثغر الإسكندرية، وتربة بمدينة سيدنا الخليل.
وهذا ما حضرنا من ترجمته على سبيل الاختصار والاقتصار، ولو استقصينا محاسنه وأحواله وجزئيات أموره لاحتجنا إلى عدّة مجلّدات. وكان آخر شأنه أنه مات تاركا للدنيا، منجمعا عنها وعن بنيها والكثير من أهلها مع عدم الالتفات إليهم بالكلّية، ملازما لداره بطرابلس على خير كثير كما قلناه، مقبلا على شأنه من غير أن يتناول شيئا من متعلّقات السلطنة من سنة إحدى وسبعين إلى هذه السنة، وفعل الكثير من البرّ والخير، وشرى عدّة أماكن فوقفها وتصدّق بصدقات كثيرة في حال صحّته ومرضه إلى أن تمرّض بالبطن، ومات شهيدا كما ذكرناه في التاريخ الذي بيّناه. وكان كفنه مرتّبا عنده من سنين، تغمّده الله تعالى برحمته، وجمع بيننا وبينه بجنّته دار كرامته. وترك من الورّاث ستة ذكور، أنا منهم، وابنة، وثلاث زوجات، منهنّ الست فاختة (٤) ابنة الشيخ شمس الدين الحنفيّ، الآتية في محلّها إن شاء الله تعالى (٥).
وكان لوالد المؤلّف أخت تدعى «الست صفر ملك» تزوّجها الخواجا صارم الدين إبراهيم بن الخواجا قرمش (٦).
_________
(١) هو مراد بك بن محمد بن بايزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان الملقّب غياث الدين كرشجي. مات سنة ٨٥٥ هـ. (الضوء اللامع ١٠/ ١٥٢ رقم ٦٠٤).
(٢) هو خليل بن إبراهيم صاحب شماخي. مات سنة ٨٦٨ هـ. (الضوء اللامع ٣/ ١٨٩ رقم ٧٢٧).
(٣) لم أتمكّن من معرفة المسجد الذي بناه بطرابلس رغم أبحاثي الكثيرة في تاريخ هذه المدينة وعمارتها منذ أكثر من ثلاثين عاما.
(٤) تزوّجها بعد سنة ٨٧٠ هـ. وهي: فاختة بنت محمد بن حسن بن علي أمّ الهدى ابنة الشيخ الحنفي. (الضوء اللامع ١٢/ ٨٦ رقم ٥٢٧) ولم يؤرّخ لوفاتها.
(٥) الترجمة بكاملها كتبها المؤلّف في: الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم، مخطوط في مكتبة الفاتيكان، صوّرتها دار الكتب المصرية عام ١٣٤٦ هـ. في ٤ أجزاء، رقم ٢٤٠٣ بالخزانة التيمورية، تاريخ، ومنها نسخة مصوّرة على ميكروفيلم بدار الكتب، رقم ٥٨٧٩ - ج ٤/ ٢٢٩ ب - ٢٣٤ ب. وانظر مصادر ترجمته في وفيات سنة ٨٧٣ هـ. من هذا الكتاب.
(٦) نيل الأمل ١ / ورقة ٦٦٢ (حوادث سنة ٨٣٧ هـ).
1 / 22
- المؤلّف وسيرته
أما المؤلّف فهو أبو المكارم، زين الدين، عبد الباسط بن خليل بن شاهين الظاهري، الحنفي، وقد ولد بمدينة ملطية في ليلة الأحد حادي عشر رجب من سنة ٨٤٤ هـ. حين كان أبوه نائبها. وأمّه أمّ ولد سريّة اسمها «شكرباي» تزوّج بها والده بعد عتقها، وكانت - حسب قوله - من خيار نساء عصرنا دينا وخيرا - ماتت بدمشق في نفاسها سنة ٨٥٢ وله من العمر ٨ سنين، ومات ولدها الذي وضعته بعدها بأيام (١).
وكان له أخ من أبيه يدعى «يوسف بن خليل»، مات في سنة ٨٤٨ هـ. وهو صغير حيث ولد في سنة ٨٤٣ هـ وأمّه أمّ ولد أرضعته معه، وكان يحبّها، ولهذا كانت أكثر إقامتها عنده لمحبّته لها، ولتقديره لمقامها إذ كانت عنده بمقام والدته، وهي عتيقة والده، وكانت خيّرة، ديّنة، كثيرة الصيام والقيام وكثرة الذكر والأوراد، وهي ممن تنتمي لوالدته وبينهما محبّة أكيدة (٢).
وفي سنة ٨٥٩ هـ. انتقل مع أبيه إلى طرابلس، حيث أعطي أبوه إمرة عشرين بها، وتفرّغ للتأليف والتدريس والمطالعة، وفي أول نزولهما طرابلس نزل والده في دار عيسى التاجر الطرابلسي، أحد التجار المياسير بها، وبقي بها مدّة (٣). ثم قام بعمارة أمكنة فوق الجبل المطلّ على محلّة العويراتية بأطراف المدينة (٤)، وسكن في دار تحت الجبل
_________
(١) الروض الباسم ١ / ورقة ١٣ أ.
(٢) الروض الباسم ١ / ورقة ٣١ أ.
(٣) الروض الباسم ٣ / ورقة ١٠٥ أ.
(٤) محلّة العويراتية، هي المحلّة التي فيها حاليّا مقابر المسلمين بطرابلس المعروفة بمقابر باب الرمل، إلى الجنوب من المدينة، ويحدّها شرقا الجبل المطلّ عليها ويعرف الآن بأبي سمراء، ومن الغرب جامع الأمير سيف الدين طينال الأشرفي الحاجب. وهي من أقدم محلاّت طرابلس المملوكية، يرجّح أن نسبتها إلى «العويراتية» أو «الأويراتية» وهم قوم من المغول فرّوا من قائدهم غازان إلى دولة المماليك في سنة ٦٩٥ هـ / ١٢٩٦ م. فأنزلهم السلطان العادل كتبغا على الساحل بين عثليث وقاقول، في فلسطين. ويظهر أنّ جماعة منهم وصلوا إلى طرابلس وأقاموا في المكان الذي نسب إليهم. (نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ٣١/ ٢٩٩، نزهة الناظر لليوسفي ص ١٦٩ بالحاشية) وقد ظلّت المحلّة تحمل اسمهم وتعرف بالعويراتية حتى العصر العثماني، انظر: دفتر مالية لواء طرابلس، رقم ١٠١٧ من محفوظات أرشيف الوثائق العثمانية برئاسة الوزراء التركية، استانبول (المحلّة رقم ٢٢) وكان يسكنها بين سنتي ٩٢٦ - ٩٤٣ هـ / ١٥٢٠ - ١٥٣٧ م، (١٨ أسرة) كلهم من المسلمين. وورد ذكرها في: دفتر مفصّل لواء طرابلس رقم ٣٧٢، المحلّة ذاتها رقم ٢٢، وكان يسكنها قبل سنة ٩٦٢ هـ / ١٥٥٥ م. (٢٨ أسرة) كلّهم من المسلمين. وذكرت أيضا في: دفتر إحصاء لواء طرابلس، رقم ٥١٣ لسنة ٩٧٩ هـ / ١٥٧١ م. المحلّة رقم ١٣ وقد انخفض سكانها إلى ١٣ أسرة. وهي مذكورة أيضا في سجلاّت المحكمة الشرعية بطرابلس. انظر: السجلّ رقم ٣ - لسنة ١٠٨٨ هـ - ص ١١٢ وفيه: «محلّة العويراتية ظاهر طرابلس».
1 / 23