لبالمرصاد (الفجر: 6-14)، قال مالك: فضممت ثيابي أيضا مخافة أن يملأني دمه. فأمسك المنصور ساعة، ثم قال: يا ابن طاوس، ناولني الدواة. فأمسك ابن طاوس ولم يناوله إياها وهي في يده، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟! قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع المنصور ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس بعدها فضلا.
المنصور وأبو جعفر
لما كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة، واختلف فيه الشهود أربعين يوما، ركب في رجال معه حتى دخل على المنصور، فقال: إن دولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها؛ لتسرع محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلت منتظرا لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبين الرجل، فنظر إلى وجهه، وباسطه بالقول حتى اطمأن قلبه، فلما خرج قال أبو جعفر: عجبا من كل من يأمرني بقتل مثل هذا.
المنصور والشيخ الجريء
كان المنصور متطلعا إلى الإحاطة بأمور الناس عموما، وإلى معرفة أحوال بني أمية خصوصا؛ فبلغه أن من مشايخ أهل الشام شيخا معروفا، وكان بطانة لهشام بن عبد الملك بن مروان، فأرسل إليه المنصور، وأحضره بين يديه، وسأله عن تدبير هشام في حروبه مع الخوارج؛ فوصف له الشيخ ما دبر، وقال: فعل - رحمه الله - كذا وكذا، ودبر كذا وكذا. فقال له المنصور: قم عليك لعنة الله، تطأ بساطي، وتترحم على عدوي؟! فقال الرجل - وهو مول يريد الخروج: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غال. فلما سمعه المنصور قال: ردوه. فلما رجع قال: يا أمير المؤمنين، إن أكثر الناس لؤما من لم يجعل دعاءه لمن أحسن إليه، وثناءه عليه وحمده لمعروفه عنده؛ وفاء له، ولو أمكنني القدر وقدرني القضاء على الوفاء لهشام بأكثر من ذلك لوجدني أمير المؤمنين وافيا لديه. فقال له المنصور: ارجع يا شيخ إلى إتمام حديثك، أشهد أنك نهيض حر وولد رشيد. ثم أقبل المنصور على حديثه إلى أن فرغ فدعا المنصور بمال وكسوة، وقال: خذ هذا صلة منا لك. فأخذ ذلك، وقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من حاجة، ولقد مات عني من كنت في ذكره؛ فما أحوجني إلى وقوفي على باب أحد بعده، ولولا جلالة أمير المؤمنين ولزوم طاعته وإيثاري أمره لما لبست نعمة أحد بعده. فقال المنصور: لله أنت لو لم يكن لقومك غيرك كنت أبقيت لهم ذكرا مخلدا ومجدا باقيا بوفائك لمن أحسن إليك. ثم أوصى المنصور برعاية أموره وقضاء حوائجه، وصار يذكره في خلواته ويستحسن ما صدر منه.
المنصور ورجل في المسجد
بينما كان المنصور يطوف بالكعبة ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع.
فخرج المنصور وجلس في ناحية المجلس وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى ركعتين واستلم الركن، ثم أقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تقول وتذكر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟! فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني. قال: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني أنبأتك الأمور على جليتها وأصولها، وإلا أجادل عن نفسي. قال له المنصور: أنت آمن على نفسك. فقال: إن الذي داخله الطمع حتى حال بينه وبين إصلاح ما ظهر من البغي والفساد أنت. قال: ويحك! وكيف يداخلني الطمع والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي؟!
قال: وهل داخل أحدا من الطمع ما داخلك؟! إن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد، وحجبة معهم الأسلحة، وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان - سميتهم لهم - ولم تأمر بإيصال الملهوف، ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، وما أحد إلا وله في المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها، قالوا: هذا خان الله، فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه؟! فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه ونفوه؛ حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما اشتهر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال؛ ليتقووا بها على ظلم رعيتك؛ لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا، وصار هؤلاء شركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول عليك، فإن أرادوا رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأوقفت رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك المظلوم إلى الرجل وبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته؛ فإن المتظلم من له بهم حرمة، أجابهم خوفا منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدافعه ولا يقبل عليه، وإذا جهد واضطر وأخرج وقف وصرخ بين يديك، فيضرب ضربا شديدا مبرحا؛ ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تذكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟! وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين، فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا؛ فعزاه بعض جلسائه، فقال: أما إني لست أبكي على ما نزل بي من ذهاب سمعي، ولكني أبكي لمظلوم يقف يصرخ بالباب فلا يسمع صوته. ثم قال: أما إذا ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلا متظلم، ثم صار يركب الفيل طرفي النهار وينظر؛ هل يرى مظلوما؟! فهذا مشرك بالله تعالى غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه، وأنت تؤمن بالله واليوم الآخر غلبك شح نفسك، فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله - جل وعلا - يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست الذي يعطي، بل الله يعطي من يشاء بغير حساب، وإن قلت: إنما أجمع المال لتشديد السلطان وتقويته، فقد أراك الله تعالى ببني أمية ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من الرجال والكراع والسلاح حين أراد الله بهم ما أراد، وإن قلت: إنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه منزلة إلا منزلة لا تنال إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين، هل تعاقب من عصاك بأكثر من القتل أو الصلب؟! قال المنصور: لا. قال: فكيف تصنع يا أمير المؤمنين يوم القيامة عند لقاء الله - عز وجل - الذي خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه من عبيده وعمل بخلاف ما أمر به في كتابه بالقتل، ولكن يعاقبهم في الخلود بالعذاب الأليم، وقد ترى ما عقد عليه قلبك، وحملته جوارحك، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه قدماك، هل يغني ما شححت عليه من قلب الدنيا إذا انتزعه من يديك ودعاك إلى الحساب على ما خولك؟
فلما أتم الرجل كلامه والمنصور يتململ منه بكى بكاء شديدا ثم قال: يا ليت المنصور لم يخلق. ثم قال للرجل: يا ويحك! كنت أفكر في الانتقام منك عما جبهتني به، والآن قد رأيت العفو عن مقالتك لصدق مقصدك أولى، وشكرك على نصحك أحمد، فكيف احتيالي لنفسي والسلامة مع مؤاخذة الله تعالى على ما أوضحت؟
Page inconnue