القسم الأول
النوادر الأدبية
الثقلاء
آباء وأبناء
مع الحكماء
نوادر منوعة
القسم الثاني
في محاسن المحبوب
رباعيات
القسم الثالث
في وصف الشعر
القسم الرابع
في العزل
القسم الخامس
في بعض منظومات لجامع الكتاب
ملحق بالكتاب
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
القسم الخامس
القسم السادس
المصادر
القسم الأول
النوادر الأدبية
الثقلاء
آباء وأبناء
مع الحكماء
نوادر منوعة
القسم الثاني
في محاسن المحبوب
رباعيات
القسم الثالث
في وصف الشعر
القسم الرابع
في العزل
القسم الخامس
في بعض منظومات لجامع الكتاب
ملحق بالكتاب
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
القسم الرابع
القسم الخامس
القسم السادس
المصادر
النوادر المطربة
النوادر المطربة
تأليف
إبراهيم زيدان
القسم الأول
النوادر الأدبية
الأذكياء في مجلس عمر
كان زياد جالسا بمجلس عمر، فأملى عمر على كاتبه كتابا سرا، فكتب الكاتب خطأ، فقال زياد: يا أمير المؤمنين، إنه كتب غير ما أمليته، فتناول عمر الكتاب فوجد الأمر كما قال زياد، فقال عمر لزياد: من أين علمت هذا؟ قال زياد: سمعت كلامك ورأيت حركة قلمه فلم أر بينهما اتفاقا.
ذكاء بهلول
مر بهلول بقوم في أصل شجرة يستظلون بفيئها، فقال بعضهم لبعض: تعالوا حتى نسخر على بهلول، فلما اجتمعوا به قال أحدهم: يا بهلول، تصعد هذه الشجرة وتأخذ من الدراهم عشرة، قال: نعم، فأعطوه الدراهم، فصرها في كمه ثم قال: هاتوا سلما، فقالوا: لم يكن في شرطنا سلم، قال: إن شرطي هو دون شرطكم.
عندك كام سنة؟
قال رجل لهاشم بن القرطي: كم تعد؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردت؟ فقال: كم تعد من السن؟ قال: اثنين وثلاثين سنا من أعلى وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا؟ قال: فما أردت؟ قال: كم لك من السنة؟ قال: ما لي منها شيء، كلها لله عز وجل، قال: فما سنك؟ قال: عظم، قال: فابن كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أب وأم، قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني ، قال: فكيف أقول؟ قال: قل «كم مضى من عمرك».
الكرماء يد بيضاء
أتى روح ابن حاتم برجل كان متلصصا في الطريق، فأمر بقتله فقال: أصلح الله الأمير، لي عندك يد بيضاء، قال: وما هي؟ قال: إنك جئت يوما إلى مجمع موالينا «بني نهشل» والمجلس حافل، فلم يتحفز لك أحد، فقمت من مكاني، ثم جلست فيه، قال ابن حاتم: صدق، وأمر بإطلاقه، وولاه تلك الناحية وضمنه إياها.
هبة يزيد بن مزيد
قال بعضهم: كنا مع يزيد بن مزيد، فإذا نحن بصارخ في الليل ينادي قائلا: يا يزيد بن مزيد، فقال يزيد: علي بالصارخ، فلما جيء به قال له: ما حملك على النداء بهذا الاسم؟ فقال: نقبت دابتي ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر فتمنيت به، فقال له: وما قال الشاعر؟ فأنشده:
إذا قيل من للمجد والجود والندى
فناد بصوت يا يزيد بن مزيد
فلما سمع مقاله هش له وقال: أتعرف يزيد بن مزيد؟ قال: لا ...
قال: أنا هو يزيد، وأمر له بفرس أبلق كان معجبا به وبألف درهم وصرفه.
أكرم الأمة
دخل جعيفران - واسمه جعفر بن علي كركزي - على أبي دلف فأنشده:
يا أكرم الأمة موجودا
ويا أعز الناس مفقودا
لما سألت الناس عن سيد
أصبح بين الناس محمودا
قالوا جميعا إنه قاسم
أشبه آباء له صيدا
لو عبد الناس سوى ربهم
لكنت في العالم معبودا
فقال له: أحسنت يا غلام، أعطه ألف درهم، فقال: أيها الأمير، وما أصنع بها؟ مر الغلام يأخذها ويعطيني منها كل يوم عشرة دنانير إلى أن تنفد، قال أبو دلف: أعطوه الألف، ومتى جاء أعطوه ما سأل، فأكب جعيفران على يديه يقبلهما وخرج شاكرا حامدا.
مروءة ابن جعفر
كان عبد الله بن جعفر من الأجواد الذين يعمون بجودهم طوائف العباد، فانتهى به إلى الإفلاس وضيق عليه، إلى أن سأله رجل فقال له: إن حالتي متغيرة بجفوة السلطان وحوادث الزمان، ولكنني أعطيك ما أمكنني، فأعطاه رداء كان عليه، ثم دخل منزله وقال: اللهم استرني بالموت، فما مر بعد دعوته إلا أيام حتى مرض ومات.
لله در بني سليم
وفد عمرو بن معدي كرب الزبيدي على مجاشع بن مسعود السلمي، وكان بين عمرو وبني سليم حروب في الجاهلية، فقدم عليه في البصرة يسأله الصلة، فقال له: اذكر حاجتك، فقال له: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشر آلاف درهم وفرسا من بنات الغبراء وسيفا جرارا ودرعا حصينة وغلاما خبازا، فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس: كيف وجدت حاجتك؟ قال: لله در بني سليم، ما أشد في الهجاء لفاءها وأكثر في الأواء عطاءها وأثبت في المكرمات بناها.
الكريم والعاشق
رجع أسماء بن خارجة يوما إلى داره فرأى فتى بالباب جالسا فقال: ما أجلسك هاهنا؟ قال: خير، قال: والله لتخبرني، قال: جئت سائلا أهل هذه الدار ما آكل، فخرجت إلي جارية اختطفت قلبي وسلبت عقلي، فأنا جالس لعلها تخرج ثانية فأنظر إليها، قال: أتعرفها إذا رأيتها؟ قال: نعم فدعا كل من في الدار من الجواري وجعل يعرضهم عليه واحدة بعد أخرى حتى مرت الجارية، فقال: هذه فقال: قف مكانك حتى أخرج إليك، ثم دخل وخرج والجارية معه فقال للفتى: إنما أبطأت عليك لأنها لم تكن لي إنما كانت لإحدى بناتي، ولم أزل بها حتى ابتعتها منها، خذ بيدها فإني قد وهبتها لك، وهذه الألف أصلح بها من شأنك.
إكرام النفس
قال الأصمعي: اجتزت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من الحي وعلى كتفه جرة وهو ينشد ويقول:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقلت له: تكرمها بمثل هذا، فقال: نعم، وأستغني عن سفيه مثلك إذا سألته يقول صفح الله لك، فقلت: تراه عرفني، فأسرعت فصاح بي يا أصمعي، فالتفت إليه فقال:
لنقل الصخر من قلل الجبال
أحب إلي من منن الرجال
يقول الناس كسب فيه عار
وكل العار في ذل السؤال
الثقلاء
الثقيل والدواء
قيل لمحمد بن زكريا الرازي: أيهما أمر؟ الثقيل المبرم أم شرب الدواء الكريه الرائحة المر الطعم؟ فقال: ما أكسب الدواء إن أعقبه الشفاء، فإن مجالسة الثقيل تجلب الإسقام وتحل الأجسام وتورث الأحزان وتؤلم الأبدان وتهد الأركان، وشرب الدواء يجلو الأجسام ويحلل الإسقام ويدفع الأحزان وينشط الكسلان ويقوي الأبدان.
الضيف الثقيل
دخل ثقيل على الصاحب بن عباد فأطال الجلوس وأبرم في المحادثة، فكتب الصاحب رقعة وأعطاه إياها فقرأها فإذا فيها:
إن كنت تزعم أن الدار تملكها
حتى نقوم فنبغي غيرها دارا
أو كنت تعلم الدار أملكها
فقم لكي تذهب الأشجان والعارا
وثقيل آخر
قصد حماد الراوية دار مطيع إياس، فكتب إليه يسأله الدخول عليه:
هل لذي حاجة إليك سبيل
لا يطيل الجلوس فيمن يطيل
فلما قرأها أجابه:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل
وكثير من الثقيل القليل
آباء وأبناء
عدي بن حاتم وابنه
حكي أن عدي بن حاتم الطائي أقام مأدبة فقال لولده - وكان صغيرا -: يا ولدي، أقم على الباب، وأذن لمن تعرف وامنع من لا تعرف، فقال: والله لا يكون أول شيء وليته من أمر الدنيا منع أحد عن طعام، فقال عدي: والله يا ولدي أنت أكرم مني وأفطن، افتحوا الباب لمن شاء فليدخل.
أعرابي يرثي ولده
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا
أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
فإن تقطعي منك الرجاء فإنه
سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وقال آخر:
بني لئن ضنت جفون بمائها
لقد قرحت مني عليك جفون
دفنت بكفي بعض نفسي فأصبحت
وللنفس منها دافن ودفين
وأعرابي آخر يرثي ابنه
مات ابن الأعرابي فاشتد حزنه عليه، وكان الأعرابي يكنى به فقيل له: لو صبرت لكان عظم ثوابك، فقال:
بأبي وأمي من عبأت حنوطه
بيدي وودعني بمساء شبابه
كيف السلو وكيف صبري بعده
وإذا دعيت فإنما أكنى به
الأم الثكلى
قيل لأعرابية مات ولدها: ما أحسن عزائك؟ قالت: إن فقدي إياه أمتني فقد كل سواه، وإن مصيبتي به هونت علي المصائب بعده، ثم أنشدت تقول:
كنت السواد لناظري
فعمي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
فعليك كنت أحاذر
ليت المنازل والديا
ر حفائر ومقابر
إني وغيري لا محا
لة حيث صرت لصائر
مع الحكماء
كاتب ونديم
فاخر كاتب نديما فقال: أنا للجد وأنت للهزل، أنا للحرب وأنت للسلم، أنا للشدة وأنت للذة، فقال له نديم: أنا للنعمة وأنت للخدمة، أنا للحضرة وأنت للمهنة، تقوم وأنا جالس، وتحتشم وأنا مؤانس، تذوب لراحتي وتشقى لما فيه سعادتي، وأنا شريك وأنت معين، كما أنك تابع وأنا قرين.
معلم المعلم
قال عمر بن عتبة لمعلم ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بعينيك، فالحسن عندهم ما أحببت والقبيح عندهم ما تركت، علمهم كتاب الله ولا تملهم منه فيتركوه ولا تتركهم فيه فيهجروه، روهم من الحديث أشرفه ومن الشعر أعفه، ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه؛ فإن ازدحام الكلام في القلب مشغل للفهم، وعلمهم سنن الحكماء وجنبهم محادثة السفهاء، ولا تتكل على عذر مني لك، فقد اتكلت على كفاية منك.
معافى ومبتلى
مرض عمر بن العلاء فدخل عليه رجل من أصحابه فقال له: أريد أن أساهرك الليلة قال له: أنت معافى وأنا مبتلى، فالعافية لا تدعك تسهر والبلاء لا يدعني أن أنام، وأسأل الله أن يهب لأهل العافية الشكر، ولأهل البلاء الصبر.
الراهب
قال عمر البناني: مررت براهب في مقبرة وفي كفه اليمنى حصى أبيض وفي اليسرى حصى أسود، فقلت: يا راهب، ماذا تصنع هاهنا؟ فقال: إذا فقدت قلبي أتيت المقابر فاعتبرت بمن فيها، قال: وما هذه الحصى التي في كفك؟ قال: أما الحصى الأبيض فإذا عملت حسنة ألقيت واحدة منها في الأسود، وإذا عملت سيئة ألقيت من هذا الأسود واحدة في الأبيض، فإذا كان الليل نظرت، فإن زادت الحسنات على السيئات أفطرت وقمت إلى وردي، وإن زادت السيئات على الحسنات لم آكل طعاما ولم أشرب شرابا في تلك الليلة، هذه هي حالتي والسلام.
الزاهد
قال محمد بن رافع: أقبلت من بلاد الشام، فبينما أنا في بعض الطريق رأيت فتى عليه جبة من صوف وبيده ركوة فقلت: أين تريد؟ قال: لا أدري، قلت: من أين جئت؟ قال : لا أدري، فظننته موسوسا، فقلت: من خلفك؟ فاصفر لونه حتى خيل كفه قد صبغ بالزعفران، ثم قال: حلفني من لا يغيب عنه مثقال ذرة مما في الأرض والسماء، فقلت: رحمك الله، أنا من إخوانك، وممن يأنس إلى أمثالك فلا تقبض مني، فقال: إني والله أود لو جاز لي نزل القفار حتى أنفرد في واد سحيق صعب المنال أو في غابة لعلي أجد قلبي ساعة يسلو عن الدنيا وأهلها.
فقلت: وما جنت عليك الدنيا حتى استحقت منك هذا البغض؟ فقال: جناياتها العمى عن جناياتها، فقلت: هل من دواء تعالج به من هذا العمى؟ فقال: ما أراك على هذا العلاج، فاستعمل الدواء أصبره.
فقلت: صف دواء لطيفا، قال: فما دوائك؟ قلت: حب الدنيا، فتبسم وقال: أي داء أعظم من هذا، ولكن أشرب السموم الطرية والمكاره الصعبة، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم الوحشة التي لا أنس فيها والفرقة التي لا اجتماع معها.
قلت: ثم ماذا؟ قال: السلوى عما تريد والصبر عما تحب، فإن أردت فاستعمل هذا وإلا فتأخر واحذر الغش؛ فإنه كقطع الليل المظلم، قلت له: دلني على عمل يقربني إلى الله عز وجل، فقال: يا أخي، قد نظرت في جميع العبادات فلم أر أفضل من البر والإحسان، ثم غاب عني ولم أره.
نعم الصديق
يحكى أن رجلا أراد صحبة إنسان فسأل بعض أصدقائه عنه فأنشده:
كريم يميت السر حتى كأنه
إذا استخبروه عن حديثك جاهله
ويبدي لكم حبا شديدا وهيبة
وللناس أشغال وحبك شاغله
قال مثل هذا ينبغي أن تناط بمحبته القلوب ويطلع على خفايا السرائر والغيوب.
ذل المعصية وعز الطاعة
قال أبو علي الدقاق: ظهرت علة ليعقوب بن الليث أعيت الأطباء فقالوا له: في ولايتك رجل صالح يسمى سهيل بن عبد الله، لو دعا لك لعل الله سبحانه يستجيب له، فاستحضره وقال له: ادع الله سبحانه وتعالى لي، فقال سهيل: كيف يستجيب الله دعائي فيك وفي حبسك مظلوم؟ فأطلق كل من كان في حبسه، فقال سهيل عندئذ: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة، وخرج عنه فعوفي بعد مدة، واستدعى سهيل وعرض عليه مالا فأبى أخذه.
الراهب وحب الدنيا
قال عبد الواحد بن زيد: مررت بصومعة راهب من رهبان الصين، فناديته: يا راهب، فلم يجبني، فناديته ثانية فلم يجبني، فناديته ثالثة فأشرف علي وقال: يا هذا، ما أنا براهب، إنما الراهب من رهب الله عز وجل في سمائه وعظمه في كبريائه ورضي بقضائه وحمده على آلائه وشكره على نعمائه وتواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته وخضع لهيبته وفكر في حسابه وعقابه، فنهاره صائم وليله قائم، قد أسهره ذكر النار ومسألة الجبار، فذلك هو الراهب، أما أنا فكلب عقور، حبست نفسي بهذه الصومعة لأبعد عن الناس لئلا أعقرهم بلساني، فقلت: يا راهب، ما الذي قطع الخلق عن الله عز وجل بعد أن عرفوه؟ فقال: يا أخي، لم يقطع الخلق عن الله عز وجل بعد أن عرفوه إلا حب الدنيا وزينتها لأنها محل الذنوب والمعاصي، والعاقل من رمى بها عن قلبه وتاب إلى الله من ذنبه وأقبل على ما يقربه من ربه.
عبد الله بن طاهر والرجل
وقف رجل لعبد الله بن طاهر في طريقه فناشده أن يقف له حتى ينشده ثلاثة أبيات، فوقف وقال له: قل فأنشد:
إذا قيل أي فتى تعلمون
أهش إلى الضرب بالذابل
وأضرب للقرن يوم الوغى
وأطعم في الزمن الماحل
أشارت إليك أكف الأنام
إشارة غرقى إلى ساحل
فأمر له بخمسين ألف درهم وانصرف.
سحنون والخصال الأربع
قال أحد الصالحين: رأيت سحنون بالطواف وهو يتماثل، فقبضت على يده وقلت: يا شيخ، بحق موقفك بين يديه، ألا أخبرتني بالأمر الذي أوصلك إليه؟ فلما سمع بذكر الموقف بين يديه سقط مغشيا عليه، فلما أفاق أنشد:
ومكتئب لح السقام بجسمه
كذا قلبه بين القلوب سقيم
يحق له لو مات خوفا ولوعة
فموقفه يوم الحساب عظيم
ثم قال: يا أخي، أخذت نفسي بأربع خصال أحكمتها، فأما الخصلة الأولى أني أمت مني ما كان حيا وهو هوى النفس، وأحييت مني ما كان ميتا وهو القلب.
وأما الثانية: فإني أحضرت ما كان غائبا عني وهو حظي من دار الآخرة، وغيبت عني ما كان عندي حاضرا وهو نصيبي من الدنيا.
وأما الثالثة: فإني أبقيت ما كان فانيا عندي وهو النفي وأفنيت ما كان باقيا عندي وهو الهوى.
وأما الرابعة: فإني آمنت بالأمر الذي منه تستوحشون وفررت من الأمر الذي إليه تشتكون، ثم ولى عني يقول:
روحي إليك بكلها قد أقبلت
لو كان فيك هلاكها ما أقلعت
تبكي عليك تخوفا وتلهفا
حتى يقال من البكاء تقطعت
زاهد في الطريق
قال بعضهم رأيت في طريق مكة فتى يتبختر في مشيته كأنه صحن داره، فقلت له: ما هذه المشية يا فتى؟ فقال: هذه مشية الفتيان خدام الرحمن، ثم أنشد:
أتيه بك افتخارا غير أني
أذوب من المهابة عند ذكرك
ولو أني قدرت لمت شوقا
وإجلالا لأجل عظيم قدرك
فقلت له: وأين زادك وراحلتك؟ فنظر إلي منكرا قولي ثم قال: أرأيت عبدا ضعيفا قاصدا مولى كريما حمل إلى بيته طعاما وشرابا؟ فلو فعل ذلك لأمر الخدام بطرده عن بابه، إن المولى جلت قدرته لما دعاني إلى القصد إليه أورثني حسن التوكل عليه، ثم غاب عني وما رأيته بعد.
خير الدواء
مر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أحد شوارع البصرة، فإذا هو بحلة كبيرة والناس حولها يمدون إليها الأعناق ويشخصون إليها الأحداق، فمضى إليهم ينظر ما سبب اجتماعهم، فإذا فيهم شاب حسن الشباب نقي الثياب عليه هيئة الوقار وسكينة الأخيار وهو جالس على كرسي والناس يأتون بقوارير من الماء وهو يداوي المرضى ويصف لكل واحد منهم ما يوافقه من أنواع الدواء، فتقدم إليه وقال: عليك السلام أيها الطبيب ورحمة الله وبركاته، هل عندك شيء من أدوية الذنوب فقد أعيا الناس دواؤها؟ فرفع الطبيب رأسه بعدما رد السلام وقال: أتعرف أدوية الذنوب بارك الله فيك؟ قال: نعم، قال: صف وبالله التوفيق، قال: تذهب إلى بستان الإيمان فتأخذ من «عروق» حسن النية ومن «حب» الندامة و«ورق» التدبير و «بذر» الورع و«ثمر» العفة و«أغصان» اليقين و«لب» الإخلاص و«قشور» الاجتهاد و«عروق» التوكل و«أكمام» الاعتبار و«ترياق» التواضع، تأخذ هذه الأدوية بقلب حاضر وافركها بأنامل من التصديق وكف من التوفيق، ثم نضعها في «طبق» التحقيق، ثم نغسلها بماء الدموع، ونضعها في «قدر» الرجاء، ثم توقد عليها بنار الشوق حتى ترغي زبد الحكمة، ثم نفرغها في «صحاف» الرضا، وتروح عليها بمراوح الاستغفار ينعقد لك من ذلك «شربة» جيدة تشربها في مكان لا يراك فيه أحد غير الله، فإن ذلك يزيل عنك الذنوب حتى لا يبقى عليك ذنب، ثم أنشأ الطبيب يقول:
يا خاطب الحوراء في خدرها
شمر فتقوى الله من نهرها
وكن مجدا ولا تكن وانيا
وجاهد النفس على سيرها
ثم شهق شهقة فارق بها الحياة الدنيا: فقال والله إنك لطبيب الدنيا وطبيب الآخرة، ثم أمر بتجهيزه ودفنه.
داء ودواء
قال أبو القاسم الجنيد: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد ما كنت أجد من الحلاوة، فأردت أن أنام فلم أرقد، فقعدت فلم أطق القعود، ففتحت الباب وخرجت، فإذا برجل مغطى بعباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي رفع رأسه وقال: يا أبا القاسم، إلى الساعة؟ فقلت: قمت يا سيدي من غير موعد، فقال: بلى، سألت محرك القلوب أن يحرك إلي قلقك، قلت: قد فعل، فما حاجتك؟ قال: متى يصير داء النفس دواءها؟ قلت: إذا خالفت النفس هواها صار دواؤها، فأقبل على نفسه فقال لها: اسمعي، لقد أجبتك بهذا الجواب سبع مرات، فأبيت إلا أن تسمعيه من الجنيد، فقد سمعت، وانصرف عني ولم أعرفه ولم أقف عليه.
سعدون المجنون
قال مالك بن دينار: دخلت جبانة بالبصرة، فإذا أنا بسعدون المجنون فقلت له: كيف حالك؟ قال: يا مالك، كيف يكون حال من أصبح وأمسى يريد سفرا بعيدا بلا أهبة ولا زاد، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد؟ ثم بكى بكاء شديدا، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: والله ما بكيت حرصا على الدنيا ولا جزعا من الموت والبلاء ، ولكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني والله قلة الزاد وبعد المفازة والعقبة الكئود، ولا أدري بعد ذلك أأصير إلى الجنة أم إلى النار؟
فسمعت منه كلام حكمة فقلت له: إن الناس يزعمون أنك مجنون، فقال: وأنت اغتررت بما اغتر به بنو الدنيا؟ زعم الناس أني مجنون وما بي جنة، ولكن حب مولاي قد خالط قلبي وأحشائي وجرى بين لحمي وعظمي، فأنا والله من حبه هائم مشغوف، فقلت: يا سعدون لم لا تجلس الناس وتخالطهم؟ فأنشد يقول:
كن عن الناس جانبا
وارض بالله صاحبا
قلب الناس كيف شئت
تجدهم عقاربا
خذوا الحكمة
قال ذو النون المصري: وصف لي رجل من أهل المعرفة في جبل «أكام» فقصدته، فسمعته يقول بصوت حزين وبكاء وأنين:
يا ذا الذي أنس الفؤاد بذكره
أنت الذي ما سواك أريد
تفنى الليالي والزمان بأسره
وهواك غصن في الفؤاد وحيد
قال ذو النون: فتبعت الصوت، فإذا بفتى حسن الوجه جميل الصوت، وقد ذهبت تلك المحاسن وبقيت رسومها، نحيل قد اصفر واحترق، وهو يشبه الولد الحيران، فسلمت عليه فرد علي السلام وبقي شاخصا يقول:
أعميت عيني في الدنيا وزينتها
فأنت والروح مني غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق
من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطايرت الأحداق عن سنة
إلا رأيتك بين الجفن والحدق
قال: يا ذا النون، ما حداك إلى طلب المجانين؟ قلت: أومجنون أنت؟ قال: نعم، وماذا تريد؟ قال: مسألة، قال: سل، قلت: أخبرني ما الذي حبب إليك الانفراد وقطعك عن المؤانسين وهيمك في الأدوية والجبال؟ فقال: حبي له هيمني وشوقي إليه هيجني، قال: يا ذا النون، هل أعجبك كلام المجانين؟ قلت: أي والله أشجاني، ثم غاب عني فلم أدر إلى أين ذهب.
الزاهدة
قال ذو النون المصري: رأيت امرأة تسبح على طريق النيل وعليها مدرعة من شعر ومقنعة من صوف، فقلت لها: يرحمك الله، ليس السباحة للنساء، فقالت: إليك يا مغرور، ألست تقرأ كتاب الله؟ قلت: بلى، قالت: اقرأ.
قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .
1
فقلت: إنها ملمة بالعلم، فقلت لها: وبأي شيء عرفت الله؟ قالت: عرفت الله بالله، وعرفت ما دون الله بنور الله، فقلت لها: وما اسم الله؟ قالت: إن اسم الله هو الأعظم.
المسافر الحزين
قال عبد الواحد بن زيد: رأيت راهبا وعليه مدرعة شعر سوداء، فقلت: ما الذي حملك لبس السواد؟ قال: هو لباس المحزونين وأنا من أكبرهم، فقلت له: ومن أي شيء محزون؟ قال: إني أصبت في نفسي، وذلك أني مت لها في معركة الذنوب، فأنا حزين عليها، ثم أسبل دمعة، قلت: وما الذي أبكاك الآن؟ قال: ذكرت ما مضى من أجلي ولم يحسن فيه عملي، فبكائي لقلة الزاد وبعد المفازة وعقبة لا بد لي من صعودها، ثم لا أدري أين تهبط بي على الجنة أم إلى النار؟ ثم أنشد:
يا راكبا يطوي مسافة عمره
بالله هل تدري مكان نزولكا
شمر وقم من قبل حطك في الثرى
في حفرة تبلى بطول حلولكا
ثم أستأذنني وذهب لأنه صار وقت الصلاة فرجعت من حيث أتيت.
السيدة العجوز
قال صالح: رأيت في محراب داود عجوزا عليها مدرعة شعر، وقد كف بصرها وهي تصلي وتبكي، فتركت صلاتي ووقفت أنظر إليها، فلما فرغت من صلاتها رفعت وجهها إلى السماء وأنشدت:
أنت سؤلي وعصمتي في حياتي
أنت ذخري وعدتي في مماتي
يا عليما بما أكن وأخفى
وبما في بواطن الخطرات
ليس لي مالك سواك فأرجو
لدفع العظائم الموبقات
فسلمت عليها وقلت لها: ما الذي أوجب ذهاب عينيك؟ قالت: بكائي على ما فرط مني في مخالفتي الله ومعصيته، وما كان من تقصيري عن ذكره في خدمته، فإن عفاني سيدي عوضني في الآخرة خيرا منها، وإن لم يعف عني فما حاجتي بعين تحرق في النار؟ فبكيت رحمة لها، فقالت: يا سيدي، هل لك في أن تقرأ علي شيئا من كتاب مولاي؛ لأنه قد طال شوقي إليه؟ فقرأت لها هذه الآية:
وما قدروا الله حق قدره
2
قالت: يا صالح ومن خدمة حق الخدمة ؟ ثم صرخت صرخة يتصدع قلب من سمعها وسقطت علي، فأردت إنهاضها فإذا بها قد فارقت دنياها.
الطريق إلى الله
قال السري السفطي: قعدت يوما أتكلم بجامع المدينة، فوقف علي شاب حسن الشباب فاخر الثياب ومعه أصحابه، فوعظت فسمعني أقول في وعظي: «عجبا لضعيف كيف يعصي قويا؟!» فتغير لونه وانصرف، فلما كان الغد جلست في مجلسي، وإذا به قد أقبل فسلم وصلى ركعتين وقال: يا سري؟ سمعتك بالأمس تقول: «عجبا لضعيف كيف يعصي قويا» فما معناه؟ فقلت: لا أقوى من المولى ولا أضعف من العبد وهو يعصاه، فنهض وخرج، ثم أقبل في الغد وعليه ثوبان أبيضان وليس معه أحد وقال: يا سري، كيف الطريق إلى الله تعالى؟ فقلت: إن أردت العبادة فعليك بصيام النهار وقيام الليل، وإن أردت الله عز وجل فاترك كل شيء سواه تصل إليه، ولا تسكن إلا المساجد والخرائب والمقابر، فقام وهو يقول: والله لا سلكت إلا أصعب المسالك والطرق، وولى خارجا.
فلما كان بعد أيام أقبل إلي غلمان كثيرة فقالوا: ما فعل أحمد بن يزيد الكاتب؟ فقلت: لا أعرفه، إلا أن رجلا جاء بصفة «كذا وكذا» فجرى معه «كذا وكذا» ولا أعلم حاله، فقالوا: بالله عليك، متى عرفت حاله عرفنا ودلنا على داره، فبقيت سنة لا أعرف خبرا، فبينما أنا ذات ليلة بعد العشاء جالس في البيت، وإذا بطارق فأذنت له بالدخول، فإذا أنا بالفتى وعليه قطعة من كساء في وسطه وأخرى على عنقه وبيده زنبيل فيه نوى، فقبل بين عيني وقال: يا سري، أعتقك الله من النار كما أعتقتني من رق الدنيا، فنظرت فأومأت إلى صاحبي أن أمضي إلى أهله فأخبرهم، فمضى، فإذا بزوجته قد أقبلت ومعها ولده وغلمانه، فدخلت وألقت الولد في حجره وعليه حلي وحلل وقالت له: يا سيدي، أرملتني وأنت حي، وأيتمت ولدك وأنت حي.
قال السري: فنظر إلي وقال: يا سري: ما هذا وفاء؟ ثم أقبل عليهما وقال: والله إنكما لثمرة فؤادي وحبة قلبي، وإن هذا ولدي وأعز الخلق علي، إلا أن هذا السري أخبرني أن من أراد رضا الله انقطع عما سواه، ثم نزع ما على الصبي وأراد أخذ ما معه فقال المرأة، والله لا أقدر أن أرى ولدي في هذه الحالة، وانتزعته منه، فحين رآها قد اشتغلت به نهض وقال: قد ضيعتم علي ليلتي، بيني وبينكم الله، وولى خارجا، فضج أهل الدار بالبكاء فقالت المرأة: إن عاد يا سري أو سمعت عنه خبرا فأعلمني إن شاء الله.
فلما كان بعد أيام أتتني عجوز، وقالت: يا سري، في جهة كذا غلام يسألك الحضور، فمضيت، فإذا أنا به مطروح على الأرض وتحت رأسه لبنة، فسلمت عليه ففتح عينيه وقال: يا سري، ترى يغفر لي الله تلك الجنايات؟ فقلت: نعم، قال: أيغفر للذين مثلي؟ قلت: نعم، قال: أنا غريق، قلت: هو ملجأ الغرقى، قال: يا سري يوجد معي دراهم من لقط النوى، إذا أنا مت فاشتر أنت ما أحتاج إليه وكفني ولا تعلم أهلي لئلا يغيروا كفني بحرام، فجلست عنه قليلا، ففتح عينيه، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، ثم مات.
فأخذت الدراهم واشتريت مما يحتاج إليه وسرت نحوه، فإذا الناس يدعون فقلت: ما الخبر؟ فقيل: مات ولي من أولياء الله، نريد أن نصلي عليه، فجئت وغسلته وصلينا عليه ودفناه، فلما كان بعد مدة وفد أهله يسألون خبره، فأخبرتهم بموته، ورأيت امرأته فأخبرتها بحاله، فسألتني أن أريها قبره، فقلت: أخاف أن تغيروا أكفانه، فقالت: لا والله، فأريتها القبر وبكت وأمرت بإحضار شاهدين فحضرا فأعتقت جواريها وأوقفت عقارها وتصدقت بمالها ولزمت قبره حتى ماتت.
أصحاب القبور
قال صدفة بن مرداس البكري: نظرت إلى ثلاثة قبور على مشرف من الأرض مما يلي بلاد طرابلس، وعلى كل واحد منها شيء مكتوب، وإذا هي قبور مسنمة على قدر واحد مصطفة بعضها إلى جنب بعض ليس عندها غيرها، فعجبت منها ونزلت إلى القرية القريبة منها، فقلت لشيخ جلست إليه: لقد رأيت في قريتكم عجبا، قال: وما رأيت؟ فقصصت عليه قصة القبور، قال: فحديثهم أعجب مما رأيت، فقلت: حدثني بأمره ، قال: كانوا ثلاثة إخوة، أحدهم أميرا كان يصحب السلطان ويأمر على المدائن والجيوش، والثاني تاجرا موسرا مطاعا في ناحيته، والثالث زاهدا قد تخلى بنفسه وتفرد لعبادة ربه، فحضرت المنية أخاهم العابد، فاجتمع عند أخواه، وكان الذي يصحب السلطان قد ولي بلادنا هنا، وكان قد أمره عليها عبد الملك بن مروان وكان في إمرته ظالما غشوما، فلما حضرا عند أخيهما قالا له: ألا توصي؟ قال: والله ما لي مال أوصي به، ولا لي على أحد دين فأوصي به، ولا أخلف من الدنيا شيئا فأسلبه، فقال له أخوه الأمير: يا أخي، قل ما بدا لك وما تشتهيه أن يفعل، فهذا مالي بين يديك فأوص منه بما أحببت واعهد إلي بما شئت لأفعله، فسكت عنه ولم يجبه، فقال أخوه التاجر: يا أخي، قد عرفت مكسبي وكثرة مالي، فلعل في قلبك حاجة من الخير لم تبلغها إلا بالاتفاق، فهذا مالي بين يديك فاحكم فيه بما أحببت لأنفذه لك، فأقبل عليهما وقال: لا حاجة لي في مالكما، ولكن أعهد إليكما عهدا فلا يخالفني فيه أحد، قالا: اعهد، قال: إذا مت فغسلاني وادفناني على مشرف من الأرض واكتبا على قبري هذا الشعر:
وكيف يلذ العيش من هو عالم
بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه ظلمه لعباده
ويجزيه بالخير الذي هو فاعله
ثم قال: فإذا فعلتما ذلك فأتياني كل يوم مرة على ثلاثة أيام متوالية لعلكما تتعظان بي.
فلما مات فعلا ذلك، فكان أخوه الأمير يركب كل يوم في جنده حتى يقف على القبر فيقرأ ما تيسر ويبكي، فلما كان في اليوم الثالث جاء كما كان يجيء مع جنده فنزل وبكى، ولما أراد الانصراف سمع أنة من داخل القبر كاد يتصدع لها قلبه، فقام مذعورا فزعا، فلما كان في الليل رأى أخاه في منامه فقال: يا أخي، ما الذي سمعته من داخل قبرك؟ فأجاب: أخبرت أنك رأيت مظلوما فلم تنصره ولكن استعد لملاقاتي، قال فأصبح مهموما، ودعا أخاه وخاصته وقال: ما أرى أن أخي أراد بما أوصانا أن نكتبه على قبره غيري، وإني أشهدكم أني لا أقيم بين أظهركم، وترك الإمارة ولزم العبادة، فكتب أصحاب عبد الملك بن مروان إليه في ذلك فكتب أن خلوه وما أراد، فصار يأوي الجبال إلى أن حضرته الوفاة في الجبل وهو مع الرعاة، فبلغ ذلك أخاه، فأتاه وقال: يا أخي، ألا توصي؟ فقال: مالي من مال فأوصي به، ولكن أعهد إليك عهدا: إذا أنا مت وجهزتني فادفنني بجانب أخي واكتب على قبري هذين البيتين:
وكيف يلذ العيش من كان موقنا
بأن المنايا بغتة ستعاجله
فتسلبه ملكا عظيما ونعمة
وتسكنه القبر الذي هو أهله
قال: ثم توافيني ثلاثة أيام بعد موتي فادع لي لعل الله يرحمني.
فلما مات فعل به أخوه ذلك، فلما كان اليوم الثالث من إتيانه جاء على حسب عادته وبكى عند قبره، فلما أراد الانصراف سمع رجة في القبر كادت تذهب بعقله، فرجع مقلقلا، فلما كان في الليل إذا بأخيه قد أتاه في منامه، قال: فحينما رأيته وثبت إليه وقلت: يا أخي، أأتيتنا زائرا؟ قال: هيهات يا أخي، بعد المزار فلا مزار وقد اطمأنت بنا الدار، فقلت: كيف يا أخي؟ قال: ذاك مع أئمة الأبرار، قلت: وما أمرنا عندكم؟ قال: من قدم شيئا من الدنيا وجده، فاغتنم وجودك قبل فقدك.
قال: فأصبح أخوه معتزلا من الدنيا متخلفا عنها، ففرق أمواله وقسم أرزاقه وأقبل على طاعة الله عز وجل، ونشأ له ابن حسن الشباب والهيئة، فاشتغل بالتجارة، فحضرت أباه الوفاة فقال له: يا أبت، ألا توصي؟ قال: يا بني ما بقي لي مال لأوصي به، ولكن إذا أنا مت فادفنني إلى جنب عمومتك واكتب على قبري هذين البيتين:
وكيف يلذ العيش من هو صائر
إلى جدث تبلي الشباب منازله
ويذهب حسن الوجه من بعد موته
سريعا ويبلى جسمه وقائله
وإذا فعلت ذلك فقاعدني بنفسك ثلاثا وادع لي، ففعل الفتى، فلما كان في اليوم الثالث سمع من القبر صوتا اقشعر له جلده وتغير لونه ورجع مصفرا إلى أهله، فلما أتاه الليل أتاه أبوه في منامه وقال له: يا بني، أنت عندنا عن قريب، والأمر ناجز، والموت أقرب من ذلك، فاستعد لسفرك وتأهب لرحلتك، وحول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ولا تغتر بما اغتر به قبلك الغافلون من طول آمالهم فقصروا عن أمر ميعادهم، فندموا عند الموت أشد الندامة، وأسفوا على تضييع العمر أشد الأسف، فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف على التقصير ينقذهم من شر ما يلقاه المغبونون يوم الحشر، فبادر ثم بادر ثم بادر.
فدخلت على الفتى ثاني يوم فقصها علي وقال: ما أرى الأمر إلا وقد قرب، فجعل يوزع ماله ويتصدق ويقضي ديونه ويستحل من خلطائه ومعامليه ويرتد عنهم، كهيئة رجل قد أنذر بشيء فهو يتوقعه ويقول: قال أبي: «بادر ثم بادر ثم بادر» فهي ثلاث ساعات، وقد مضت أو ثلاثة أيام وأنى لي بها وما أراني أدركها، أو ثلاث سنين وهو أكثر ذلك، فلم يزل يقسم أمواله ويتصدق حتى إذا كان في اليوم الثالث من ليلة هذه الرؤيا دعا أهله فودعهم ثم أغمض عينيه ومات.
نوادر منوعة
الأعرابي والبخلاء
وقف أعرابي بقوم فقال: يا قوم، أشكوا إليكم زمنا كلح بوجهه وأناخ علي بكلكله بعد نعمة من المال وثروة من المال وغبطة من الحال، اعتورني بنبال عن قسي نوائيه، فما ترك لي شيئا ارتجي به نفعا، فهل فيكم من معين على صرفه أو مساعد على حنفه؟ فردوا عليه ولم ينيلوه شيئا، فولى عنهم وهو يقول:
قد ضاع من يأمل من أمثالكم جودا
وليس الجود من فعالكم
لا بارك الله لكم في مالكم
ولا أزاح السوء عن عيالكم
فالفقر خير من صلاح حالكم
أشعب مطربا
قال الأصمعي قدم جرير المدينة فأتاه الشعراء وغيرهم، وأتاه أشعب بينهم، فسلموا عليه وحادثوه ساعة وخرجوا وبقي أشعب فقال له جرير: أراك قبيحا لئيما، ففيم قعودك وقد خرج الناس؟ فقال له: أصلحك الله، إنه لم يدخل عليك اليوم أحد أنفع مني، قال: وكيف ذلك ؟ قال: لأني آخذ رقيق شعرك فأزينه بحسن صوتي، فقال له جرير: أسمعني، فاندفع جرير يغني:
يا أم ناجية السلام عليكم
قبل الرواح وقبل لوم العزل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
قال: فاستخف جرير الطرب لغنائه بشعره فزحف إليه وأعنقه وقبله بين عينه وسأله عن حاجته فقضاها له.
الضراير
تزوج رجل من الأعراب امرأة جديدة على امرأة قديمة وكانت الجديدة على باب القديمة فتقول:
وما تستوي الرجلان رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
ثم مرت بعد أيام فقالت:
وما يستوي الثوبان ثوب به البلى
وثوب بأيدي البائعين جديد
فخرجت إليها القديمة فقالت:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
السائل بمسجد الكوفة
قال أبو زيد: سأل سائل بمسجد الكوفة وقت الظهر فلم يعط شيئا، فذهب الرجل، وفي العشاء عاد، وبعد أن قضيت الصلاة توجه للقبلة، وسمعوه يدعو الله: «اللهم إني أسألك صبرا جميلا وفرجا قريبا وبصرا بالهدى وقوة فيما تحب وترضى، اللهم إن كان رزقي الذي كتبت لي أجريته على أيدي هؤلاء القوم فإني أسألك أن تكفلنيه» فتبادروا إليه يعطونه فقال: والله لا أخذت الليلة شيئا منكم، مالي سوف يأتيني، ثم خرج وهو يقول:
ما نال بازل وجهه لسؤاله
عوضا ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع السؤال وزنته
رجح السؤال كفة كل نوال
الحساد الثلاثة
حكي أن ثلاثة من الحساد اجتمعوا، فتساءلوا عما بلغوه من الحسد، قال أولهم: ما اشتهيت أن أفعل بأحد خيرا قط لئلا أرى أثر ذلك عليه، وقال الثاني: أنت رجل صالح، أما أنا فما اشتهيت أن يفعل بأحد خيرا قط لئلا تشير الأصابع بالشكر إليه، وقال الثالث: ما في الأرض خير منكما، لكني ما اشتهيت أن يفعل بي خيرا أحد قط، فقالوا: ولم؟ قال: لأني أحسد نفسي على ذلك، فقالا له: أنت ألأمنا جسدا وأكثرنا حسدا.
ما خاب من استشار
قال الأسلي: ركبني دين أثقل كاهلي، وطالبني به مستحقوه، واشتدت حاجتي، فضاقت بي الأرض ولم أهتد إلى ما أصنع، فشاورت من أثق به من ذوي المودة والرأي، فأشار علي بقصد المهلب بن أبي حفرة بالعراق، فقلت له: يمنعني بعد المسافة، ثم أني عدلت عن ذلك المشير إلى استشارة غيره، فلا والله ما زادني عما ذكره لي الصديق الأول، فرأيت أن قبول المشورة خير من مخالفتها، فركبت ناقتي وصحبت رفقة في الطريق وقصدت العراق، فلما وصلت دخلت على المهلب فسلمت عليه وقلت له: أصلح الله الأمير، إني قطعت إليك الهناء وضربت بأكباد الإبل من يثرب، فقد أشار علي ذوو الحجى والرأي بقصدك لقضاء حاجتي، فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو قرابة وعشيرة؟ فقلت: لا، ولكني رأيتك أهلا لحاجتي، فإن قمت بها فأنت أهل لذلك، وإن يحل دونها حائل لم أذمهم يومك ولم أيئس عندك، فقال المهلب لحاجبه: اذهب وادفع إليه ما في خزانة مالنا، فأخذني معه فوجد ثمانين ألف درهم فدفعها إلي، فلما رأيت ذلك لم أملك نفسي فرحا وسرورا وأعادني إليه مسرعا فقال: هل وصلك ما يقوم بسد حاجتك؟ فقلت: نعم أيها الأمير وبزيادة، فقال: الحمد لله على نجاح سعيك، واجتنائك جني مشورتك، وتصديق ظن من أشار عليك بقصدنا.
قال الأسلمي فلما سمعت كلامه وقد أحرزت صلته أنشدته وأنا واقف بين يديه:
يا من على الجود صاغ الله راحته
فليس يحسن غير البذل والجود
عمت عطاياك من بالشرق قاطبة
وأنت والجود منحوتان من عود
من استشار فباب النجح منفتح
لديه ما ابتغاه غير مسدود
ثم عدت إلى المدينة ووفيت ديني ووسعت على أهلي وجازيت المشيرين علي، وعاهدت الله تعالى أني لا أترك الاستشارة في جميع أمري ما عشت.
ليتهم علموني كيف أبتسم
قال أبو العباس بن حماه الكاتب: قصدت أبا الجيش خمارويه بن أحمد بمصر ممتدحا له ببابه زمنا لا أصل إليه، فرثى لي كل من عرف حالي، وأرشدت إلى كثير المغني، فسرت إليه وسألته أن يشفع لي فقال: ما جرت العادة أن أكلمه في أحد، ولكن إن قدرت أن تعمل شعرا أقدمه أمام حضرته، فإن سألني عن قائله عرفته عن حالك ما يكون فيه عائد صلاح عليك، فعملت شعرا على البديهة ودفعه إليه وهو:
كتمت حبهم صونا وتكرمة
فما درى غير إضماري به وهم
هم علموني البكا لا ذقت فقدهم
يا ليتهم علموني كيف أبتسم
فسرت إلى أبي الجيش وأنشدته إياها، فطرب وقال: لمن هذا الشعر؟ فقلت: لأبي العباس، فدعا به وأحسن جائزته.
عين الحسود
قيل لعبد الله: كيف لزمت البدو وتركت قومك؟ قال: وهل بقي في الناس إلا من إذا رأى نعمة بهت وإذا رأى عثرة شمت، ثم أنشد:
عين الحسود إليك الدهر ناظرة
تبدي المساوئ والإحسان تخفيه
يلقاك بالبشر يبديه مكابرة
والقلب ملتئم فيه الذي فيه
الزرقاء ومعاوية
قيل: إن معاوية بن أبي سفيان ولي الخلافة وانتظمت إليه الأمور وامتلأت منه الصدور وأذعن لأمره الجمهور، وعاونه على أمره القدر المقدور، فاستحضر ليلة خواص أصحابه وذاكرهم وقائع أيام صفين ومن كان يتولى يوم الكريهة من المعروفين، فانهمكوا في القول الصحيح، وآل حديثهم إلى ما كان يجتهد في إيقاد نار الحرب عليهم بزيادة التحريض فقالوا: امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي، كانت تعتمد الوقوف بين الصفوف وترفع صوتها صارخة بأصحاب علي تسمعهم كلاما كالصوارم، مستحثة لهم بقول لو سمعه الجبان لقاتل والمدبر لأقبل والمسالم لحارب والفار لكر والمزلزل لاستقر، فقال لهم معاوية: أيكم يحفظ كلامها؟ فقالوا: كلنا نحفظه، فقال: فما تشيرون علي بها، قالوا: نشير بقتلها؛ فإنها أهل لذلك، فقال لهم معاوية: بئسما أشرتم به، أيحسن أن يشتهر عني أنني بعد ما ظفرت وقدرت أقتل امرأة قد وفت لصاحبها؟ إني إذن للئيم، لا والله لا فعلت ذلك.
ثم دعا بكاتبه وكتب كتابا إلى واليه بالكوفة أن أوفد علي الزرقاء بنت عدي مع نفر من عشيرتها وفرسان من قومها، ومهد لها وطاء لينا ومركبا ذلولا.
فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها وأقرأها إياه، فقالت: ما أنا بزائغة عن الطاعة، فحملها في هودج وجعل غشاءه خزا مبطنا، ثم أحسن صحبتها، فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحبا وأهلا خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك يا خالة؟ وكيف رأيت سيرك؟
قالت: خير مسيرة، قال: هل تعلمين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: ألست أنت راكبة الجمل الأحمر يوم صفين وأنت بين الصفين توقنين نار الحرب وتحضين على القتال؟ قالت: نعم، قال: فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد مات الرأس وكثر الذنب والدهر ذو عبر، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر، فقال: صدقت، فهل تحفظين كلامك؟ قالت: لا والله، قال: لله أبوك، لقد سمعتك تقولين: «أيها الناس، إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكوكب لا يضيء مع القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد إلا الحديد، من استرشدنا أرشدناه ومن ساءلناه جاوبناه أن الحق كان يطلب ضالة فاطلبوها، يا معاشر المهاجرين والأنصار مكانكم، وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل وغلب الحق الباطل؛ فإنه لا يستوي المحق والمبطل، أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا وأنه خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدم، والصبر خير الأمور عاقبة، هيا إلى الحرب، هيا يا رجال».
أليس هذا القول قولك وتحريضك؟ قالت: لقد كان ذلك، قال: لقد شاركت عليا في كل دم سفكه، فقالت: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك، مثلك من بشر بخير ويسر جليسه، فقال: أوقد سرك ذلك؟ قالت: نعم والله لقد سرني قولك، وإني له لصديقة، فقال معاوية: والله لوفائك له بعد موته أعجب إلي من حبك له في حياته، فاذكري حوائجك تقضى، قالت: يا أمير المؤمنين إني آليت على نفسي لا أسأل أحدا حاجة، فقال: قد أشار علي بعض من عرفك بقتلك، قالت: لؤم من المشير، ولو أطعته لشاركته، قال: كلا، بل نعفو عنك ونحسن إليك ونرعاك، قالت: كرم منك يا أمير المؤمنين، ومثلك من قدر وعفا وتجاوز عمن أساء وأعطى من غير مسألة، قال: فأعطاها كسوة ودراهم وأقطعها ضيعة تغل لها في كل سنة عشرة آلاف درهم وأعادها إلى وطنها، وكتب على والي الكوفة بالوصاية بها وبعشيرتها.
المنصور والرجل
قال الربيع (مولى الخليفة المنصور): ما رأيت رجلا أربط جأشا وأثبت جنانا من رجل سعي به إلى المنصور أن عنده ودائع وأموالا لبني أمية فأمرني بإحضاره، فأحضرته إليه، فقال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك، فقال الرجل: أأنت وارث بني أمية؟ قال: لا، قال: أوصي لك في أموالهم ورعاياهم؟ قال: لا، قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟
قال: فأطرق المنصور ثم تفكر ساعة ورفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيه، فاجعله في بيت أموالهم، قال: يا أمير المؤمنين، فتحتاج إلى بينة عادلة أن ما في يدي لبني أمية فما خانوا به ولا ظلموا، فإن بني أمية كانت لهم أموال غير أموال المسلمين، قال: فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ربيع، ما أرى الشيخ إلا قد صدق، وما يجب عليه شيء، وما يسعنا ألا أن نعفو عما قيل عنه، ثم قال: هل لك من حاجة؟ قال: أن تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فولله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح، وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه، فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به، فجمع بينهما، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي، فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال، قال: فما حملك على السعي كاذبا؟ قال: أردت قتله ليخلص لي المال، فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك، ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي، فاستحسن المنصور فعله وأكرمه وأعاده إلى بلده مكرما، وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط ولا أثبت من جنانه ولا من حجته، ولا رأيت مثل حلمه ومروءته.
وعد الأمير
قال مالك بن عمارة اللخمي: كنت أجالس في ظل الكعبة أيام المواسم عبد الملك بن مروان وقبيضة بن ذؤيب وعروة بن الزبير، وكنا نخوض في الفقه مرة وفي المذاكرة مرة وفي أشعار العرب وأمثال الناس مرة، فكنت لا أجد عند أحد ما أجده عند عبد الملك بن مروان من الاتساع في المعرفة والتصرف في فنون العلم وحسن استماعه إذا تحدثت وحلاوة لفظه إذا حدث، فخلوت معه في ليلة فقلت: والله إني لمسرور بك لما شاهدته من كثرة تصرفك وحسن حديثك وإقبالك على جليسك، فقال: إن تعش قليلا تر العيون طامحة إلي والأعناق نحوي متطاولة، فإذا صار الأمر إلي فلعلك أن تنقل إلي ركابك فلأملأن يديك، فلما أفضت إليه الخلافة توجهت إليه فوافيته يوم الجمعة وهو يخطب على المنبر، فلما رآني أعرض عني فقلت: لم يعرفني أو عرفني وأظهر نكره، فلما قضيت الصلاة ودخل لم ألبث أن صرخ الحاجب فقال: أين مالك بن عمارة؟ فقمت، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فمد إلي يده وقال: إنك تراءيت لي في موضع لا يجوز فيه إلا ما رأيت، فأما الآن فمرحبا وأهلا، كيف كنت بعدي؟ فأخبرته فقال: أتذكر ما قلت لك؟ قال: نعم، فقال: والله ما هو بميراث ادعيناه ولا إرث ورثناه، ولكن أخبرك مني بخصال سمت لها نفسي إلى موضع ما تراه، حيث إنني ما شمت بمصيبة عدو قط، ولا أعرضت عن محدث حتى ينتهي، ولا قصدت كبيرة من محارم الله متلذذا بها، فكنت أأمل بهذه أن يرفع الله منزلتي، وقد فعل.
يا غلام، بوئه منزلا في الدار، فأخذ الغلام بيدي وأفرد لي منزلا حسنا، فكنت في ألذ حال وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، ثم دخل عليه في وقت عشائه وغذائه فيرفع منزلتي ويقبل علي ويحادثني ويسألني مرة عن العراق ومرة عن الحجاز حتى مضت لي عشرون ليلة، فتغذيت مرة عنده، فلما تفرق الناس نهضت فقال: على رسلك فقعدت، فقال: أي الأمرين أحب إليك ؟ المقام عندنا مع المناصفة لك في المعاشرة أو الرجوع ولك الكرامة، فقلت: يا أمير المؤمنين، فارقت أهلي وولدي على أن أزور أمير المؤمنين وأعود إليهم، فإن أمرني اخترت رؤيته على الأهل والولد، فقال: لا، بل أرى لك الرجوع إليهم والخيار لك بعد في زيارتنا، وقد أمرنا لك بعشرين ألف دينار وكسوناك وحملناك، أتراني ملأت يديك؟ فلا خير في من ينسى إذا وعد، ودع إذا شئت صحبتك.
إذ جاءه الأعمى
قال ابن سوار: انصرفت يوما من دار الخليفة المهدي، فلما دخلت منزلي دعيت بالطعام فلم تقبله نفسي، فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم، فنهضت وأمرت ببغلة لي فأسرجت وأحضرت فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه مال فقلت: ما هذا؟ فقال: ألفا درهم جئت بها من مستغلك الجديد، قلت:امسكها معك واتبعني.
فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر، ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنهار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم، فعطشت، فقلت للخادم: أعندك ماء تسقينه؟ قال: نعم، ثم دخل وأحضر قلة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل، فناولني فشربت، وحضر وقت العصر فدخلت مسجدا على الباب فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي إذا أنا بأعمى يتلمس فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد، قلت: فما حاجتك؟ فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال: شممت منك رائحة طيبة فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن أحدثك بشيء، فقلت: قل، فقال: ألا ترى إلى باب القصر؟ قلت: نعم، قال: هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه، ثم زالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت، فقدمت هذه المدينة فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئا يصلني به فأتوصل إلى سوار، فإنه كان صديقا لأبي.
فقلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، فعرفته، فإذا هو كان أصدق الناس إلي، فقلت له: يا هذا، إن الله تبارك وتعالى قد أتاك بسوار ومنعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك، ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت: إذا كان الغد فاحضر إلى منزلي.
ثم مضيت وقلت ما أحدث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا، فأتيت فاستأذنت عليه فأذن لي، فلما دخلت عليه قال: ادفعها إلى الأعمى، فنهضت فقال: اجلس فجلست، فقال: أعليك دين؟ قلت: نعم، قال: كم دينك؟ قلت: خمسون ألفا، فحدثني ساعة، وقال: امض إلى منزلك، فمضيت إلى منزلي، فإذا بخادم معه خمسون ألفا، وقال: يقول لك أمير المؤمنين أقض بها دينك، قال: فقضيت منه، فلما كان الغد أبطأ علي الأعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئت فقال: قد فكرت البارحة في أمرك فقلت: يقضي دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضا؟ وقد أمرت لك بخمسة آلاف أخرى، قال: فقبضتها وانصرفت، فجاءني الأعمى فدفعت إليه ألفي دينا، وقلت: قد رزقك الله تعالى بكرمه وكافأك على إحسان أبيك وكافأني على إسداء المعروف إليك، ثم أعطيته شيئا آخر من مالي فأخذه وانصرف.
القسم الثاني
في محاسن المحبوب
قال الحكم بن أبي فنن:
لو قسم الله جزءا من محاسنه
في الناس طرا لتم الحسن في الناس
قال الحكم بن قنبر:
كأنما البدر من أزراره طلعا
وقال البحتري:
أضرت بضوء البدر والبدر طالع
وقامت مقام البدر لما تغيبا
وقال ابن الرومي:
يا شبيه البدر في الحس
ن وفي بعد المنال
من هو كالشمس الطالعة أو الجانحة
قال قيس بن الحطيم:
فرأيت مثل الشمس عند طلوعها
في الحسن أو كدنوها لغروب
وقال البحتري يصف مرتحله:
دنت عند الوداع لوشك بعد
دنو الشمس تجنح للأصيل
وقال علي بن الأصفهاني:
وقد خجلت شمس الضحى منك غدوة
فكانت كما جاءت إلى الشرق ترجع
ولكثير:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى
في الحسن عند موفق لقضى لها
ولجميل:
لها النظرة الأولى عليهم وبسطة
وإن كرت الأبصار كان لها العقب
من قيد النواظر لجماله
قال أبو فراس:
وإذا بدا اقتادت محاسنه
قسرا إليه أعنة الحدق
ولابن المعتز:
منظر قيد عيون الورى
فليس خلق يتعداه
من أعطى الحسن مشتهاه
قال المتنبي :
حبيب كأن الحسن كان يحبه
فآثره أو جار في الحسن قاسمه
وقال محمد بن وهب:
قد خلع الحسن على وجهه
سربال محمود ومحسود
حسن السافرة
قال الشماخ:
أطارت من الحسن الرداء المحبرا
وقال يزيد بن التترية:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت
بأحسن موصولين كف ومعصم
وقال بعضهم:
لها حاجبان الحسن والقبح منهما
كأنها لونان من كف عاشق
العين المكسرة
ويستحسن في صفتها قول بشار:
حوراء إن نظرت إليك
سقتك بالعينين خمرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
وسمع ذو الرمة إنسانا ينشد قوله:
وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
فقال ذو الرمة «فعولان» كأنه تورع أن يقول: «فعولين» فيكون ذلك بأمر الله تعالى.
العين الفاترة
قال البحتري:
وكأن في جسمي الذي
في ناظريه من السقم
وله:
ما بعيني هذا الغزال الغرير
من فتون مستجلب من فتور
ولهارون الرشيد:
وتنال منك بحد مقلتها
ما لا ينال بحده النصل
ولأبي تمام:
إن لله في العباد منايا
سلطتها على القلوب العيون
وقال جعفر المصري:
نظرت إليها نظرة فكأنما
نظرت بتلك العين سكينا شاطرا
العين الساحرة
قال كشاجم:
بالله يا متفردا في حسنه
ومقلبا هاروت بين محاجره
وقال الصاحب:
ولو أن هاروتا رأى فتر عينه
تعلم كيف السحر في حد جفنه
العين الكحلاء
قال صالح بن عبد القدوس:
كحل الجمال جفون أعينها
فغنين من كحل بلا كحل
وقال:
كأنهما مكحولتان بأثمد
وما بهما غير الملاحة من كحل
الثغر
قيل: الثغر الحسن يحلي الوجه القبيح.
قال البحتري:
كأنما يبسم عن لؤلؤ
منضد أو برد أو أقاح
وله:
لك من ثغره ومن خده ما
شئت من أقحوان أو جلنار
الجيد
وفي الجيد قال أبو علي:
إذا ما اجتلى الراني إليها بطرفه
غروب ثناياها أضاء وأظلما
الأسنان
قال البحتري:
لها مبسم كالبدر يضحك عن در
وقال الزاهر:
نونات در على دالات مرجان
طيب الفم
قال المتنبي:
وأشنب معسول برد الثنايا
لذيذ المقبل والمبتسم
ويقال:
فمها أعذب من برد الشراب وجسمها أعجب من برد الشباب.
من ذكر طيب فم رغم أنه لم يذقه
أول من ذكر النابغة قال:
زعم الهمام ولم أذقه أنه
يشفي بريقتها من العطش الصدى
ولبشار:
يا أطيب الناس ريقا غير مختبر
إلا شهادة أطراف المساويك
طيب الفم وحسن المبتسم معا
قال ابن الرومي:
وقبلت أفواها عذابا كأنها
ينابيع خمر حصبت لؤلؤ البحر
وقال:
أحاذر في الظلمات أن تستشفني
عيون الغيارى في وميض المضاحك
وقال:
كأن ابتسام البرق بيني وبينها
إذا لاح في بعض البيوت ابتسامها
ولمسلم:
تبسم عن مثل الأقاحي تبسمت
له مزنة صيفية فتبسما
وقال:
كأن درا إذا هي تبسمت
من ثغرها في الحديث ينتشر
الحسن الحديث والكلام
قال البحتري:
ولما التقينا والنقا موعد لنا
تعجب رائي الدر حسنا ولاقطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها
ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
وقال بشار بن برد: كأن حديثها سكر الشراب.
وقال ابن الرومي:
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المحدث أنها لم توجز
أحسن النساء
قيل لأعرابي: أي النساء أحسن؟
فقال: الحسنة المفترة عن الثغر الوافرة الشعر، فمها بارد وشعرها وارد.
وصف الشعر والوجه معا
قال بكر بن النطاح:
بيضاء تسحب من قيام فرعها
وتغيب فيه وهو ليل أسحم
وكأنها فيه نهار ساطع
وكأنه ليل عليها مظلم
وقال ماني الموسوس:
نشرت غدائر شعرها لتظلني
خوف العيون من الوشاة الرمق
فكأنه وكأنها وكأنني
صبحان باتا تحت ليل مطبق
وقال منصور النمري:
ودنت عناقيد الكرو
م على الأهلة والبدور
السوالف
قال ابن الرومي:
أساءني إعراضه
عني ولكن سرني
سالفتاه عوض
من كل شيء حسن
وللصنوبري:
للغصن أعطافها وقامتها
وللرشا جيدها وعيناها
الصدغ
قال ابن المعتز:
ألم ترني بليت بذي دلال
خلي ما يرق وما يبالي
غلالة خده ورد جني
ونون الصدغ معجمة بخال
وقال ديك الجن:
كأن قافا أديرت فوق وجنته
واختط كاتبها من بعدها ألفا
وللصنوبري:
عقرب الصدغ لماذا
سالمته وهو وحده
تلدغ الناس جميعا
ثم لا تلدغ خده
العذار
قال أبو الفضل بن العميد:
من عذيري من عذارى قمر
عرض القلب لأسباب التلف
علم الشعر الذي عاجله
أنه جار عليه فوقف
وقال بعضهم:
رأيت وقد لاح العذار بخده
على وجهه نملا يدب على عاج
حسن الكف والأنامل
قال النابغة:
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
ولابن المغتر:
أثمرت أغصان راحته
لجناة الحسن عنابا
وقال آخر: أطرافها تعقد من لينها.
البنان المخضبة
قال ابن الرومي:
وكف كأن الشمس أبدت بنانها
على الليل مخضوبا فقمعها الليل
طول القامة
قال بشار:
وحوراء المدامع من معد
كأن حديثها قطع الجمان
إذا قامت لمشيتها تثنت
كأن عظامها من خيزران
ولآخر:
كأنه في اعتداله ألف
ليس له في الكتاب تحريف
دقة الخصر
قال ابن الرومي:
ظبي كأن بخصره
من ضمره ظمأ وجوعا
وقال آخر:
مخصر الخصر هضيم الحشى
صغير أثناء الوشاحين
وقال السري الرفاء:
ضعفت معاقد خصره وعهوده
فكأن عقد الخصر عقد وفائه
وللمتنبي:
وخصر تثبت الأبصار فيه
كأن عليه من حدق نطاقا
وللسري الرفاء:
أحاطت عيون العاشقين بخصره
فهن له دون النطاق نطاق
وقال عباس:
بكى وشاحاها ولم يشكيا
وإنما أبكاهما الجوع
وقال المتنبي:
كأنما قدها إذا انفلتت
سكران من خمر طرفها ثمل
طيب الرائحة
وصف رجل امرأة فقال:
إنها كنور يبتسم في الأسحار ونور يبتسم في الأشجار.
قال امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقا
وجدت طيبا وإن لم تطيب
وقال العباس:
فكيف أصنع بالواشين لا سلموا
والعنبر الورد يأتيهم بأخباري
وللنوبجي:
إذا كتمت زيارتها
أذاع الطيب ما كتمت
فأنطق ألسن الواشين
لا كانت ولا نطقت
الثني في المشي
قال ابن مقبل:
يهززن للمشي أوصالا منعمة
هز الجنوب ضحى عيدان يبرينا
يمشين هيل النقا مالت جوانبه
ينهال حينا وينهاه الثرى حينا
البحتري:
لما مشين بذي الأراك تشابهت
أعطاف قضبان به وقدود
تفضيل السود
إن سعدي والله يكلأ سعدي
ملكت بالسواد رق سوادي
أشبهت مقلتي وحبة قلبي
وبها فهي ناظري وفؤادي
وقال ابن الرومي في سوداء:
كأنها والمزاح يضحكها
ليل تفرى دجاه عن فلق
وذكرت قصيدة ابن الرومي في وصف السوداء وأبو الحسن الموسوي حاضر فأسرف بعضهم في مدحها فقال أبو الحسن بديهة:
سكنت سواد العين إذ كنت شبهه
فلم أدر من عز من القلب منكما
أحبك يا لون السواد لأنني
رأيتكما في العين والقلب توأما
أوصاف مجموعة من الجمال
قيل لأعرابي: أي امرأة أحسن فقال: التي لطفت كفاها ونهد ثدياها وسال خداها.
ويقال: كأن وجهه البدر ليلة سعده وتمامه قد ركب في غصن بان وقضيب ريحان أهيف القد أدعج العينين مقرون الحاجبين أسيل الخدين مسبل الذراعين أرق من الهواء والماء وأحسن من الدمى وأضوأ من النهار إذا استنار، وأبهى من سرابيل الأنوار، لا يجري بوصفه الوهم ولا يبلغ نعته الفهم، كأن أنفه قصبة در وحد حسام، وكأن فمه حلقة خاتم، وكأن جيده جيد ظبي قد أتلع لرؤية قانص، سبط الأنامل لين القلب دقيق الخصر حلو الشمائل، كأنما خلق من كل قلب، فكل حسن له فيه حظ ولكل قلب إليه ميل.
وفي وصف جارية: وجهها كضوء البدر وخدها كجني الورد ولسانها ساحر وطرفها فاتر ضمها يهيج اللوعة ونطقها ينقع الغلة، ثغرها كالؤلؤ النظيم يجلو دجى الليل البهيم، ريحها كالراح المعتق ختامه كالمسك المفتق، يستجمع صنوف النعيم مجالسها ولا يأسى على ما فاته مالكها، صبيحة الحدقة مريضة الجفون كأن ساعدها طلعة ومعصمها جمار وأصابعها مداري فضة، وكأن نحرها من ساج وبشرتها من زجاج.
وقال أعرابي في وصف امرأة: عذب ثناياها وسهل خداها ونهد ثدياها ولطف كفاها ونعم ساعداها هي النفس ومناها.
وللمتنبي:
سهاد لأجفان وشمس لناظر
وسقم لأبدان ومسك لناشق
ما يحب أن تكون عليه الحسان.
رباعيات
يجب أن يكون في المرأة أربعة أشياء سود: شعر الرأس والحاجبان وأشفار العين والحدقة.
وأربعة بيض: اللون وبياض العين والأسنان والساق.
وأربعة حمر: اللسان والشفتان والوجنتان واللثة.
وأربعة مدورة: الرأس والعنق والساعد والعرقوب.
وأربعة طوال: الظهر والأصابع والذراعان والساقان.
وأربعة واسعة: الجبهة والعين والصدر والوركان.
وأربعة دقيقة: الحاجبان والأنف والشفتان والأصابع.
القسم الثالث
في وصف الشعر
قال الشريف الرضي:
رأت شعرات في عذاري طلقة
كما افتر طفل الروض عن أول الوسمي
فقلت لها ما الشعر سال بعارضي
ولكنه نبت السيادة والحلم
يزيد به وجهي ضياء وبهجة
وما تنقص الظلماء من بهجة النجم
ظهور الشيب واختلاط البياض
قال الفرزدق:
والشيب ينهض في السواد كأنه
ليل يصيح بجانبيه نهار
وقال الطائي: كالصبح أحدث للظلام أفولا.
وقال ابن الرومي:
شعرات في الرأس بيض ودعج
حل رأسي جيلان روم وزنج
من شاب قبل أوانه
قال أبو نواس:
وإذا عددت سني كم هي لم أجد
للشيب عذرا في النزول برأسي
كشاجم:
إذا فكرت في شيبي وسني
عتبت عليه فيما نال مني
وقال:
لو كان يمكنني سفرت عن الصبا
فالشيب من قبل الأوان يلثم
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى
شيبا يميت ولا سوادا يعصم
وقال:
قد رأيناه بالعشي غلاما
فعدونا نعده في الكهول
وقال الموسوي:
وعارضني في عارضي منه أنجم
ظلمن شبابي وهي في القلب أسهم
من شاب من الوقائع والشدائد
قال الحسن بن رجاء:
أن يشب رأسي فمن كرم
لا يشيب المرء من كبره
وقال الشريف الرضي:
وما شبت من طول السنين وإنما
غبار حروب الدهر غطى سواديا
المتذمم لتعاطي ما تعاطاه في أيام الصبا
قال الواسطي: حان حصادي ولم يصلح فسادي.
وقال البحتري:
وأضللت حلمي فالتفت إلى الصبا
سفاها وقد جزت الشباب مراحلا
ولأبي سعيد الرستمي:
قبيح بذي الشيب أن يطربا
وما للمشيب وما للصبا
أمن بعد خمسين ضاعت سدى
وأودى بها اللهو أيدي سبا
تشيم بروق الدما دائما
وقد شامت العارض الأشيبا
وأقبح بذي عارض أشيب
إذا قابل العارض الأشنبا
وأهلك والليل بادر به
فقد كادت الشمس أن تغربا
قال كثير: أتيت جميلا أستنصحه هل أظهر الشعر فأنشدته:
وكان الصبا خدن الشباب فأصبحا
وقد تركاني في مغانيمها وحدي
فقال: حسبك، أنت أشعر الناس.
وقال أحمد بن طيفور:
ركبت الصبا حتى إذا ما ونى الصبا
نزلت من التقوى بأكرم منزل
ودين الفتى بين التنسك والنهى
ودنيا الفتى بين الصبا والتغزل
فيمن زعم أنه ترك التصابي لغير ملالة
قال البحتري:
إني وإن جانبت بعض بطالتي
وتوهم الواشون أني مقصر
ليشوقني سحر العيون المجتلى
ويروقني ورد الخدود الأحمر
تارك الصبا قبل هجوم شيبه
قال البحتري:
لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت
نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد
لم ينهني فند عنها ولا كبر
لكن صحوت وغصني غير مخضود
مدح الشيب بالوقار والعفة
تأمل حكيم شيبه فقال: مرحبا بزهرة الحنكة وثمرة الهدى ومقدمة العفة ولباس التقوى.
وروي أن إبراهيم (عليه السلام) لما بدأ الشيب بعارضيه قال: يا رب، ما هذا؟
قال: وقار.
قال: يا رب زدني وقارا.
وعير حكيم بالشيب فقال: الشيب نور يورثه تعاقب الليالي والأيام، وحلم يفيده مر الشهور والأعوام، ووقار تلبسه مدة العمر ومضي الدهر، قال دعبل:
أهلا وسهلا بالمشيب فإنه
سمة العفيف وحلية المتحرج
ضيف أحل بي النهى فقريته
رفض الغواية واقتصاد المنهج
ازورار النساء عن المشيب
قال: ابن الرومي:
أعر طرفك المرآة وانظر فإن نبا
بعينيك عنك الشيب فالبيض أعذر
إذا شنئت عين الفتى وجه نفسه
فعين سواه بالشناءة أجدر
وقال ابن المعتز:
لقد أبغضت نفسي في مشيبي
فكيف يحبني البيض الكواعب
وقال الصاحب: قد سبق ابن المعتز كل من قال في رغبة النساء عن المشيب بقوله:
فظللت أطلب وصلها بتذلل
والشيب يغمزها بألا تفعلي
ذم الشباب بقلة الوفاء والبقاء
قال بعضهم:
لم أقل للشباب في دعة الله
وفي حفظه غداة تولى
زائر زارني أقام قليلا
سود الصحف بالذنوب وولى
وقال منصور الفقيه:
ما كان أقصر أيام الشباب وما
أبقى حلاوة ذكراه التي يدع
تمني عوده والدعاء له
قال أبو العتاهية:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
وقال النميري:
والله لو أعطى المنى
لوددت أيام الصبا
ومعاتبات كن لي
ومداعبات للدمى
القسم الرابع
في العزل
قال المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وقال ابن المعتز:
وجاءني في قميص الليل مستترا
يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فقمت أفرش خدي في الطريق له
ذلا وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
مثل القلامة قد قدت من الظفر
فكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
وقال سعيد النصراني:
وعد البدر بالزيارة ليلا
فإذا ما وفى قضيت نذوري
قلت يا سيدي ولم تؤثر الليل
على بهجة النهار المنير
قال لا أستطيع تغيير رسمي
هكذا الرسم في طلوع البدور
من صار الطيب والحلي واشيا عند زورته
قال البحتري:
وزارت على عجل فاكتسى
لزورتها أبرق الحزن طيبا
فكان العبير بها واشيا
وجرس الحلي عليها رقيبا
وقال العباس:
قامت تثنى وهي مرعوبة
تود أن الشمل مجموع
بكى وشاحاها ولم يشكيا
وإنما أبكاهما الجوع
فانتبه الهادون من أهلها
وصار للموعد مرجوع
امتناع المحبوب
قال أبو أدهم:
لما رأيت معذبي
ألفيته كالمحتشم
طلبت منه زورة
تشفي السقيم من السقم
فأبى علي وقال لي
في بيته يؤتى الحكم
من سأل رفيقه أن يزور به صديقه
قال عوف بن سعد:
خليلي عوجا بارك الله فيكما
وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجازنا
ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
وقال نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب
وقل إن تملينا فما ملك القلب
النهي عن كثرة النظر وذمه
قال الله تعالى:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست الآخرة».
وقيل: «من كثرت لحظاته دامت حسراته». «فضول المناظرة من فضول الخواطر»
قال أبو الفيض: خرجت حاجا، فمررت بحي، فرأيت جارية كأنها فلقة قمر، فغطت وجهها، فقلت: يرحمك الله، أنا سفر وفينا أجر فمتعينا برؤية وجهك، فقالت:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ومرت أعرابية بجماعة من بني نمير، فأداموا لها النظر، فقالت: يا بني نمير، ما فعلتم بقول الله:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
ولا بقول الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا سعدا بلغت ولا كلابا
فأطرقوا حياء.
وقال أبو العباس بن الأحنف :
ومستفتح باب البلاء بنظرة
تزود منها شغله آخر الدهر
وقال أبو تمام:
إن لله في العباد منايا
سلطتها على القلوب العيون
النهي عن تمكين المرأة من النظر إلى الرجل
قال بعضهم: لأن يرى رجل امرأتي أسهل عندي من أن ترى امرأتي رجلا.
قال ذو الرمة:
لا تأمنن على النساء ولو أخا
ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تحفظ جهده
لا بد أن بنظره سيخون
الرخصة في النظر
قال الحسن: «النظر على الوجه الحسن عبادة».
معناه أن الرائي يقول: سبحان الله.
ورؤي شريح بقارعة الطريق، فقيل له: ما وقوفك؟ قال: عسى أن أنظر إلى وجه حسن أتقوى به على العبادة.
قال ابن الدمية:
يقولون لا تنظر وتلك بلية
ألا كل ذي عينين لا بد ناظر
وليس اكتحال العين بالعين ريبة
إذا عف فيما بينهن الضمائر
وقال مصعب بن الزبير - وكان جميلا - لصوفي رآه يحد النظر إليه: لم تحد النظر إلي؟
فقال: لا تنكر نظري، فإنك من زينة الله في بلاده، أما سمعت قول ابن العلاف:
ما لمن نمت محاسنه
أن يعادي طرف من رمقا
لك أن تبدي لنا حسنا
ولنا أن نعمل الحدقا
وقال آخر:
أبرزوا وجهه الجميل
ولاموا من افتتن
لو أرادوا عفافة
نقبوا وجهه الحسن
وقال تمار:
لا تمنعني إن نظر
ت فلا أقل من النظر
دع مقلتي تنظر إليك
فقد أضر بها السهر
من تمنى النظر إلى محبوبه والاستشفاء بلقائه
قال الخبزارزي:
مفتاح كل لذاذة
نظر المحب إلى الحبيب
طوبى لعين أبصرت
وجه الحبيب بلا رقيب
وقال ابن قنبر:
رمدت في الحب عيني
فأكحلوها بالحبيب
وقال العباس:
إذا ما التقينا كان أكثر حظنا
وغاية ما نرضى به النظر الشزر
ازدياد الوجد بالنظر
قال وهب الهمذاني:
زودت العين من لواحظها
زادا فكان الحمام في النظر
وقال إبراهيم الموصلي:
ولو أني نظرت بكل عين
لما استقصت محاسنه العيون
ترك الذنب على العين والقلب
قال الصولي:
فمن كان يؤتى من عدو وصاحب
فإني من عيني أوتيت ومن قلبي
هما اعتوراني نظرة ثم فكرة
فما أبقيا لي من رقاد ومن لب
وقال:
إذا لمت عيني التين أضرتا
بجسمي يوما قالتا لي لم القلبا
فإن لمت قلبي قال عيناك قادتا
إليك البلايا ثم تجعل لي الذنبا
وقال أبو القاسم المصري:
ألوم قلبي وناظري فهما
تعاونا والنوى على قلبي
ترك الذنب على العين دون القلب
قال أبو تمام:
لأعذبن جفون عيني إنما
بجفون عيني جل ما أتعذب
وقال العطوي:
فلا عجب ولا أمر بديع
جنايات العيون على القلوب
تركه على القلب دون العين
كفى بكون القلب مذنبا وداعيا إلى فعل الشر أن النفس لأمارة بالسوء.
وقال الشاعر: ألا إنما العينان للقلب رائد.
وقال الشريف الرضي:
النفس أدنى عدو أنت حاذره
والقلب أعظم ما يبلى به الرجل
قلة شبع العين من النظر
قيل: لا تشبع عين من نظر ولا أذن من خبر ولا أرض من مطر.
وقال أبو العباس:
ليتني إذ أراه كلي عيون
فبعينين لست أشبع منه
اختلاس النظر خشية الرقباء
قال أبو الشيص:
ونظرة عين تعللتها
حذارا كما نظر الأحول
تقسمتها بين وجه الحبيب
وطرف الرقيب متى يغفل
ونحوه:
إذا ما التقينا والوشاة بمجلس
فليس لنا رسل سوى الطرف بالطرف
فإن غفل الواشون فزت بنظرة
وإن نظروا نحوي نظرت إلى السقف
وقال أبو العيناء:
حمدت إلهي إذ بلاني بحبها
على حول يغني عن النظر الشذر
نظرت إليها والرقيب يظنني
نظرت إليه فاسترحت من العذر
التخاطب بالنظر
قال علي بن هشام:
فسلمت إيماء وودعت خفية
فكان جوابي كسر عين وحاجب
وقال ابن أبي طاهر:
وفي غمز الحواجب مستراح
لحاجات المحب على الحبيب
وقال:
ومجلس لذة لم نقو فيه
على شكوى ولا عد الذنوب
فلما لم نطق فيه كلاما
تكلمت العيون عن القلوب
وقال الهند: اللحظ ترجمان القلب واللسان ترجمان البدن.
كون نظر المحبوب إلى محبه قاتلا
قال ابن الرومي:
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها
ثم انثنت عنه فكاد يهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم
تحير العاشق بالنظر إلى معشوقه
قال أحمد بن أبي طاهر:
عتابا كأيام الحياة أعده
لألقى به بدر السماء إذا حضر
فإن أخذت عيني محاسن وجهه
دهشت لما ألقى فيملكني الحصر
السهل اللقاء الصعب المنال
قال أبو عيينة:
فقلت لأصحابي هي الشمس ضوؤها
قريب ولكن في تناولها بعد
وقال أبو نواس:
مبذولة للعيون زهرته
ممنوعة من أنامل الجاني
ولست أحظى به سوى نظر
يشركني فيه كل إنسان
وقال العباس:
هي الشمس مسكنها في السماء
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود
ولن تستطيع إليك النزولا
من سهل بالكلام وصعب بالمنازل
قال إبراهيم بن المهدي:
وقد يلين ببعض القول يبذله
والوصل في وزر صعب مراقيه
فالخيزران منيع منك مكسره
وقد يرى لينا في كف لاويه
استحسان التقاء المتحابين
قال مسلم العتبري:
لا شيء أحسن في الدنيا وساكنها
من وامق قد خلا فردا بموموق
المعانقة
وقال إبراهيم الصولي:
ساعدنا الدهر فبتنا معا
نحمل ما نجني على السكر
فكنت كالماء له قارعا
وكان في الرقة كالخمر
وقال علي بن الجهم:
سقى الله ليلا ضمنا بعد فرقة
وأدنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الراح فيما بيننا لم تسرب
وقال:
فبتنا على رغم الحسود كأننا
مزيجان من ماء الغمامة والخمر
وقال ابن المعتز:
كأنني عانقت ريحانة
تنفست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجا
حسبتنا من جسد واحد
من ذكر تمكنه من محبوبه
قال حجظة:
حبيب جاد لي بالري
ق والظلماء معتكفه
وسامحني بما أهوا
ه بعد التيه والأنفة
ستشكر فعله نفس
بعجز الشكر معترفه
وقال المأمون:
يا ليلة فزنا بها حلوة
جامعة في ظلها الشمل
شرابنا الريق وكأسنا
شفاهنا والقبل النقل
تمني تقبيل الحبيب والاقتصار منه عليه
قال الصنوبري:
نويت تقبيل نار وجنته
فخفت أدنو منه فأحترق
تقبيل الحبيب اعتراضا
قال ابن المعتز:
وكم عناق لنا وكم قبل
مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفة
من النواطير يانع الرطب
وقال أبو نواس:
وعاشقين التف خداهما
عند التثام الحجر الأسود
فاشتفيا من غير أن يأثما
كأنما كانا على موعد
لولا دفاع الناس إياهما
لما استفاقا آخر المسند
نفعل في المسجد ما لم يكن
يفعله الأبرار في المسجد
استطابة تقبيله اختلاسا واختفاء:
قال ابن سكرة:
سألته في صحوه قبلة
فردني والموت في رده
حتى إذا السكر ثنى جيده
قبلته ألفا بلا حمده
وقال الحسن بن وهب: قبلتها فوجدت بين شفتيها ريحا لو نام فيها المخمور لصحا.
وقال الصابئ:
أقبلت ثم قبلت ظهر كفي
قبلة تنقع الغليل وتشفي
فتلظى فمي عليها وودت
شفتي أنها هنالك كفي
فعضضت اليد التي قبلتها
بفم حاسد يريد التشفي
وقال الموسوي:
ومقبل كفي وودت بأنه
أوما إلى شفتي بالتقبيل
موضع التقبيل
قيل: قبلة المؤمن المؤمن المصافحة، وقبلة الرجل زوجته الفم، وقبلة الوالد الولد الرأس، وقبلة الأم الابن الخد.
قال أمير المؤمنين (رضي الله عنه): قبلة الولد الرحمة، وقبلة الوالدين عبادة، وقبلة الأخ الأخ رقة، وقبلة الإمام العادل طاعة.
من سأل محبوبه الوصل
قال الدمشقي:
تعال بنا نعصي الوشاة ونشتفي
من الوصل قبل الموت ثم نتوب
سؤاله عودة النائل
قال بشار:
قد زرتنا مرة في الدهر واحدة
عودي ولا تجعليها بيضة الديك
يا رحمة الله حلي في منازلنا
حسبي برائحة الفردوس من فيك
المستكثر قليل الوصل من حبيبه
قال بعضهم:
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم
من الوصل إلا عدتم بجميل
وأبى ليرضيني قليل نوالكم
وإن كنت لا أرضى بقليل
وقال آخر:
قفي ودعينا يا مليح بنظرة
فقد حان منا يا مليح رحيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتها
إليك وكان ليس منك قليل
وقال ابن المعتز:
قل لمن حيا فأحيا
ميتا يحسب حيا
ما الذي ضرك لو أب
قيت في الكأس بقيا
أتراني مثل أو لا
كيفما قد قيل فيا
الرضا بأن حبيبه يخطر في قلبه
قال ابن الدمينة:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالك
وقال:
رضيت بسعي الوهم بيني وبينه
وإن لم يكن في الوصل منه نصيب
الرضا بأن ينظر أرض حبيبه
يقر بعيني أن أرى من مكانها
ذرى عقدات الأبرق المتقاود
وإن أراد الماء الذي شربت به
سليمى وقد مل السرى كل واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه
وإن كان ممزوجا بسم الأساود
الرضا بكونه مع الحبيب في الدنيا
قال الشاعر:
قال أبو نواس: أرضى الناس قيس بن ذريح في قوله:
أليس الليل يجمعني وليلى
ألا يكتفي بذلك من تدان
ترى وضح النهار كما أراه
ويعلوها الظلام كما علاني
من حبيبه مناه
قال الشاعر:
ولما نزلنا مترلا طله الندى
أنيقا وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى فتمنينا فكنت الأمانيا
تمني مجاورته
قال الشاعر:
تمنيت في عرض الأماني وربما
تمنى الفتى أمنية ثم نالها
ألا ليت سعدي جاورتني حياتها
فتعلم ما حالي وأعلم حالها
من أحب أن يجتمع بحبيبه وإن كان في شقاء
قال ديك الجن:
ألا ليتنا كنا جميعين في الهوى
تضم علينا جنة أو جهنم
الرضا من حبيبه بالأماني
قال كثير:
وإني لأرضى من نوالك بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
وقال كشاجم:
ضنت بموعدها فقلت لها
يا هذه فعدي بأن تعدي
انتظار وعد الكاذب
قال جحظة:
يا كاذبا في وعده بلسانه
من لي بمص لسانك الكذاب
ما زلت منتظرا لوعدك مفردا
بالبيت مرتقبا لقرع الباب
قطع الأوقات بالأماني
قال ابن المعتز:
يا مانع العين طيب رقدتها
ومانح الجسم كثرة العلل
علمني حبك المقام على
الضيم وقطع الأيام بالأمل
من يسمح بخياله ويضن بوصاله
قال البحتري:
أهلا بزائرنا الملم لو أنه
عرف الذي يعتاد من إلمامه
جذلان يسمح في الكرى بعناقه
ويضن في غير الكرى بسلامه
وقال أحمد بن أبي طاهر:
فبت بها ضيفا مقيما برحله
وباتت بنا طيفا يثيب وما يدري
فزارت وما زارت وجادت ولم تجد
وواصل عنها الطيف وهي على هجر
وقال ابن المعتز:
شفاني الخيال بلا حمده
وأبدلني الوصل من صده
وكم نومة لي قوادة
أتت بالحبيب على بعده
وقال كشاجم:
ضنت بموعدها فقلت لها
يا هذه فعدي بأن تعدي
من منع خياله بتسليط السهاد على محبه
قال الشاعر:
فكان يزورنا منه خيال
فلما أن جفا منع الخيالا
قال ابن يحيى المنجم:
بأبي أنت لم جفاني خيال
لك قد كنت أستريح إليه
أرشدني إلى خيالك كيما
أتقاضاه موعدا لي عليه
قال أبو فراس الحمداني:
كيف السبيل إلى طيف يزاوره
والنوم في جملة الأحباب هاجره
بغض طيف ذي هجران
قال المتنبي:
إني لأبغض طيف من أحببته
إذ كان يهجرنا زمان وصاله
قال المهلبي:
إنما الطيف الملم
فرح يتلوه هم
قلما يحمد أمر
ليس فيه ما يذم
قالت عابدة المهلبية:
خطبت خياله فإذا خيال
مطول مثل صاحبه بخيل
فإن توقعي طيفا جوادا
وصاحبه بخيل مستحيل
من زار الخيال بالفكر
قال أبو تمام:
نم فما زارك الخيال ولكن
ك بالفكر زرت طيف الخيال
قال المتنبي:
لا الحلم جاء به ولا بمثاله
لولا ادكار وداعه وزياله
إن المعيد لنا المنام خياله
كانت إعادته خيال خياله
بتنا يناولنا المدام بكفه
من ليس يخطر أن نراه بباله
فدنوتم ودنوكم من عنده
وسمحتم وسماحكم من ماله
من أسهر خيال حبيبه
قال علي بن يحيى:
زارني طيف الخيال فما
زاد أن أغرى بي الأرقا
قال الفرزدق:
شبت لعينك سلمى عند مقفاها
فبت منزعجا من بعد مرآها
وقلت أهلا وسهلا ما هداك لنا
إن كنت تمثالها أو كنت إياها
من تمنى المنام لأجل لقاء الخيال
قال قيس بن ذريح:
وإني لأهوى النوم من غير نفسه
لعل لقاء في المنام يكون
تخبرني الأحلام أني أراكم
فيا ليت أحلام المنام يقين
المخافة من تهدد الطيف
قال الشاعر:
رجا راحة في النوم حتى إذا غفا
أتى طيف من يهوى يهدد بالهجر
فقام ينادي والدموع بوادر
أيا طيف من أهوى قتلت ولا تدري
من ذكر تسليه عن محبوبه بما لا يسلى به
قال كثير:
ولما أبى إلا جماحا فؤاده
ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي
تسلى بها تغري بليلى ولا تسلي
قال البحتري:
وقالوا تجنبها تفق فاجتنبتها
زمانا فما أسلى فؤادي التجنب
وقالوا تقرب يخلق الحب أو تجد
علالة قلب فاختلاني التقرب
امتناع النفس من الرجوع إلى من أبغضه
قال العباس:
رد الجبال الرواسي عن أماكنها
أخف من رد نفسي حين تنصرف
قال الشاعر:
إن قلبي أعز من أن تراه
في محل الهوى لقلبك عبدا
الراغب في محبوبته
كتب أبو نواس لما خرج من بغداد:
ألا قل لأخلائي
ومن همت بهم وجدا
شربنا ماء بغداد
فأنساناكم جدا
خذوا منا فإنا قد
وجدنا منكم بدا
ولا ترعوا لنا عهدا
فما نرعى لكم عهدا
قال كثير:
فإن سأل الواشون فيم هجرتهم
فقل نفس حر سليت فتسلت
التسلي عمن رغب في غيرك
قال الخبزارزي:
اذهب وهبتك للذين اخترتهم
هبة الكريم فإنه لا يرجع
وقال أبو الشيص:
إذا لم تكن طرق الهوى لي ذليلة
تنكبتها وانحزت للجانب السهل
وما لي أرضى منه بالجور في الهوى
ولي مثله ألف وليس له مثلي
استدعاء القلب إلى التسلي
قال بشار:
وقد رابني قلب يكلفني الصبا
وما كل حين يتبع القلب صاحبه
قال شاعر:
إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى
على الرجل المسكين كاد يموت
قال جميل:
أتوني وقالوا يا جميل تبدلت
بثينة أبدالا فقلت لعلها
وعل حبالا كنت أحكمت عقدها
أتيح لها واش رقيق فحلها
قال شاعر:
طلبنا دواء الحب يوما فلم نجد
من الحب إلا من يريد مداويا
قال عبد الله بن طاهر:
وكل محب جفا من يحب
جفته السلامة والعافية
قال الخبزارزي:
ظبي تفلت من حبلي فأوقعني
في حبله أن في عينيه لي شركا
استفتاء فقيه في الهوى
قال أبو العالية:
سل الفتي المكي هل في تزاور
وضمة مشتاق الفؤاد جناح
فقال معاذ الله يذهب التقى
تلاصق أحشاء بهن جراح
ومما قيل في كثرة العتاب
لولا كراهية العتاب وأنني
أخشى القطيعة إن ذكرت عتابا
لذكرت من عثراتكم وذنوبكم
ما لو يمر على الفطيم لشابا
القسم الخامس
في بعض منظومات لجامع الكتاب
قال في صباه:
رعى الله أيام الصبا ما ألذها
وألطف ذكراها على مسمع الصب
تقضت وأغصان الحياة جنية
فما كان لي منها سوى ثمر الحب
ثمار لعمري لم يذقها آخر الهوى
على البعد إلا هام شوقا إلى القرب
هو الحب لا لفظ يقال وإنما
عواطف يهديها العفاف على القلب
وينقل معناها إلى صحف الهوى
لحاظ تعودن الكتابة بالهدب
فمن لم يذق طعم الغرام وما عسى
يلاقيه أهل العشق من ألم الكرب
وراجع ما قد خط في صفحاته
إذن لبكى العشاق بالمدمع الصب
وقال:
زرتها والفؤاد بالحب طافح
فأفاضت مني الدموع الفواضح
ظبية بين لحظها وفؤادي
كم محب غدا لعمري يكافح
وهو كالغصن بين بيض الصفائح
حيثما ينثني يصادف جارح
ليس بدع فلحظها ذو نبال
وفؤادي مدرع بالجوارح
وقال يصف ليالي العمر:
أما وليالي البدر في الخمس والعشر
تميس بها الغادات خصرا على خصر
وعفة بثن إذ تناجى جميلها
برائق لفظ دونه رق الخمر
وليل سرى العشاق في ظلماته
وقد ثملوا من عذب مبسمها الدري
وصولة نابليون في حومة الوغى
وحكمة لقمان وأيدي ذي البر
ومثوى كرام أينعت في ظلالهم
ثمار الندى إن الليل في مصر
لأزهى من الزهر المنيرة أنما
بما فوق تلك القبعات من الزهر
أزاهر تحكي وهي بين غصونها
خدود ظباء لحن في الحلل الخضر
أجلت بهن الطرف ليلا فخلتني
وأستغفر الرحمن في ليلة القدر
ليال حوت من كل غاد لغادة
هي الشمس لولا هالة من دجى الشعر
إذا ما أرتنا السحر من لحظاتها
سقتنا حميا الحب من ذلك السحر
وإن هي مالت فالقلوب لحسنها
تميل وإن لامت فما لك من عذر
ومن كل حسناء انثنت لحبيبها
فكانت وإياه كحرفين في سطر
وكانت وكانت ما لنا ولعذلها
فما هي إلا لعبة في يد الفقر
تناجي فتاها لا لميل وأنما
لمال به تنجو من العسر
وتنظم من آي الغرام بقدر ما
ستنثر كفاه من البيض والصفر
وتبسم حتى لا ترى غير باسم
وتبكي ولكن دمعها في الحشا يجري
لقد لامك الفتيان جهرا وحبذا
هو اللوم لولا ميلهم لك في السر
فهم أفسدوا بالمال قلبك إذ غدوا
وقد عوضوا منك الفؤاد ولم تدر
ولم يكتفوا حتى أنثوا وطلابهم
لعمر الهوى ما ليس يجمل بالحر
فكنت لهم طوع البنان ومن يذق
من الدهر كأس الفقر يخش ردى الدهر
على أنهم لو أنصفوا أجزلوا لك
م العطاء ولا دين عليك سوى الشكر
وسروا بأن زانوا بيض أكفهم
بياض التقى لا سودوا جبهة الطهر
وكنت وكانوا في ائتلاف يزينه
عفاف كثغر زانه ما على الثغر
ورحت إذا ما لحت يوما لعاشق
صفا وده ناداك يا ربة الخدر
ولو أن لقيا القبر دون لقا ثرى
حماك أنثني شوقا إلى ذلك القبر
فحسبك بل حسب المحبين أنهم
إذا عشقوا ماتوا أسى في الهوى العذري
وقال مرتجلا في وداع صديق:
وداعكم والله أودع مهجتي
ضراما حكت نار المجوس فأضنت
وماذا عسى يجدي الوداع ونصفه
بكاء وشكوى وازدياد تعلة
فبلغ سلامي جيرة قد عرفتها
عليلا وكانت في الهوى أصل علتي
وقال في حادثة واقعية تحت عنوان «غدر الحبيب»:
غدرت فغادرت الفؤاد عليلا
هيفاء أبدت لحظها المسلولا
ورمت شباك لحاظها وإذا بها
صدت فتى دنف الفؤاد نحيلا
يحكي معاطفها برقة قلبه
وبلطفه يحكي النسيم عليلا
ما ضل بين دجى غدائر شعرها
حتى رأى بسنا العيون دليلا
فأتى حماها زائرا متسترا
بذويه يخشى في الغرام عذولا
حتى إذا حان الرحيل وصافحت
تلك الفتاة محبها المجهول
شعرت بضم أنامل ما ضمنت
غير الغرام وحسبها تعليلا
فدرت بما في قلبه وهوت بيس
رها عليه وقد حكت إكليلا
قالت حبيبي قد أثرت بمهجتي
نارا وهاك يدي تميل ذبولا
فأخمد لظاها من فؤادي قال لو
أخمدتها بدمي لكان قليلا
وغدا يبث لها الغرام بعيد ما
ضاق المقام به وخاف القيلا
برواية وردت لها منه وقد
كانت بها جمل الغرام ذبولا
وأتى حبيبته وقد عبس الدجى
إذ خال في بدر السماء أفولا
وكأن ذاك البدر ولى مذ بدت
شمس الحبيبة خاشعا مخذولا
وغدا وقد نثر الدموع كواكبا
تذرى بدمع السحب فاض سيولا
حتى إذا اجتمعا وساءلها الذي
تهواه كان جوابها التقبيلا
ولكم وددت بأن أراني سائلا
يوما وألتقي ذلك المسئولا
أو أن تكون طبيبتي في علة
أغدو بها طول الحياة عليلا
أو أن أبارزها فتلقيني بنبل
لحاظها فوق عزائمهم على ما قيلا
وغدوا إلى أهل الفتى فوشوا به
لكنهم لم يصدقوا التفصيلا
قالوا رأيناه وإياها على
درجات سلمها يهاب دخولا
حتى إذا بلغت مسامع أهله
تلك الوشاية أكثروا التأويلا
وتبدلت تلك المودة بينهم
بالحقد أن المرء كان عجولا
ورأى المحب أهيله في عذله
لجوا وما عذروا فرام رحيلا
هذا وجاذب قلبه يقتاده
حينا فيدفعه الآباء ذليلا
ودرت حبيبته فهاج كلومها
هجر رأته للشقاء سبيلا
لكنها كتبت كتابا للحبيب
وأودعته من الغرام فصولا
فرأى بذياك الكتاب حبيبها
مارق ألفاظها وراق أصولا
وغدا إليها في الغداة وقلبه
أمسى بقيد غرامها مغلولا
وإذا بها تبكي فقال حبيبتي
رفقا بطرفك لا يزال كليلا
قالت وكيف يطيب لي بعد النوى
عيش ولم ألق سواك خليلا
فأجابها والقلب من لحظاتها
مدمى كفاك مني الفؤاد عويلا
قالت وأنى لي وآي مدامعي
في صحف خدي نزلت تنزيلا
وقضى الغرام عليهما فتعاهدا
مستشهدين معاهدا وطلولا
وتبادلا خصلات شعر علها
يوما تكون من القلوب بديلا
ولكنه لم يمض أسبوع على
سفر المحب وكان ذاك طويلا
حتى أتته من الحبيب رسالة
فيها نسيم الحب فاح قبولا
فتلا بها ما لو تلي يوما على
غصن ذوى لهذا الغصين بليلا
أو لو تلي ما بين أرباب الهوى
لغدت مدامعهم تحاكي النيلا
وأضاع خصلة شعرها يوما فرا
ح على حماها ذاهلا متبولا
قالت تضيع إذن فؤادي مثلها
فعلام تطمع أن تكون حليلا
فأجاب كلا ما ذكرتك مرة
ولثمتها إلا شفيت غليلا
فرمت إليه بخصلة أخرى وقا
لت ما عهدت أخا الغرام بخيلا
وتفارقا حينا وإذ هو جالس
يوما بغرفته وكان أصيلا
وإذا بواس قال تزهيدا له
للغير قد مالت فصاح ذهولا
بئس المحبة لا يكون حليفها
صدقا به يغدو المحب جميلا
وبدا بقطع رسائل كانت دواء
إلا لداء العاذلين مزيلا
أما حبيبته فلما آنست
ذا الصد رام فؤادها التحويلا
وصبت إلى صب سواه وهكذا
حب النواعس لا يدوم طويلا
ودرى المحب بأمرها هذا وما
كاد الوشاة له فعاف مقيلا
وغدا إليها يرتجي عفوا عن
الماضي بألفاظ تطيب شمولا
في مجلس كانت رسائله الهوى
العذري وكان اللحظ فيه رسولا
لكنه لم يجن من غصن الهوى
ثمرا سوى الإعراض حتى عيلا
وثنى معاطفه ولكن مثلما
يني الذبول الغصن ذاب نحولا
يشكو الحبيب وليس يشكو غدره
حذرا عليه بأن يعده خذولا
فأتى إليه جماعة من أهله
لما رأوه بحبها مشغولا
قالوا اثن عنها القلب إنك واجد
ألا لنفسك أن فقدت مثيلا
فأجابهم والحب ينظم نثر مد
معه بيتا قاله ترتيلا
من كان لا يهينه إلا مريم
أنى يطيب له لقاء أديلا
وقال يصف ظلمة البدر:
راح طيف الحبيب يسعى إلي
شبه محياه سابحا في الفضاء
فرآه بين الكواكب فردا
مثله بين عالم الأحياء
فانثنى نحوه وغادر أهل
الود صرعى جوى على الغبراء
لو درى البدر بالذي حل فيه
لتوارى عن أعين الرقباء
ما كفى الغيد أنهن بدور
الأرض حتى حللن بدر السماء
واقترح عليه بعضهم نظم بنبال اللحظ فقال على البديهة:
رسمت فؤادي خشية أن يذيبه
جمال محياكم فأغدو بلا قلب
ولا تعجبوا من طعنة يخرق الحشا
بلا طاعن جان فذي طعنة الحب
وما رسمت هذا الفؤاد أناملي
ولكن نبال اللحظ قد رسمت لبي
وقال في مثل ذلك:
طعنتم فؤادي قبل طعني فؤادكم
ولم أدر ماذا جل مرادكم
فإن كان هذا لا طعن يفي بعادكم
فيا حبذا طعن بدا من لحاظكم
فأدمى فؤادا كاد يقضي أسى بكم
وفي قصيدة عنوانها: «صريع الكأس»
هيفاء ما أن عادها طيف الهوى
حتى غدت طيفا أرق من الهوا
عبثت بها أيدي النحول فشابهت
بحولها قلبي وباللطف الدمى
لم يجن ذاك سوى زيارة جيرة
زارت بها الأشجان من لحظي فتى
شجن تضمنه الغرام فلم يعد
عن كشفه بد وفي الكتم الضنى
وكأن ذياك الفتى لما رأى
منها الشجون عراه منها ما عرا
فأتى مطيعا للغرام وإنه
قاض له الأقدار تعنو والقضا
وأباحها الوجد الحديث وما درى
أن الفتاة تحبه فيما مضى
فدنت وقد صبغ الحياء جمالها
وردا وقالت ما عساني أن أرى
أمليك قلبي إنه ... فقال مقاطعا
لا بل أسير جمالك الباهي السنا
فالحب لا يحلو لأرباب الهوى
حتى يرافقه التذلل والعنا
ومضى وإذا شاء الغرام تعاهدا
حفظا لأسرار الصبابة والولا
وغدت تضمها الزيارة حيث لا
واش يلومها على نشر الهوى
وأتت حبيبته الغداة فراقها
ما آنست في وجه ذياك الفتى
نظرت بخديه إحمرارا وهي من
نار الهوى صفراء لا تدري الكرى
فتبسمت فرحا وخالت نفسها
طيفا لديه فهاج طرفيها البكا
قالت تسائله بدمع لم تكن
تخفى خفاياه على أهل النهى
فرنا إليها قائلا كفي البكا
بالله وأبدي لي حقيقة ما اختفى
قالت حبيبي منذ رأيتك بادئا
تزهو ديك أزهار الصبا
ورأيتني وأنا حبيبتك التي
شجوى أكاد أذوب حر الجوى
أصبحت بين الابتهاج لغصنك
الزاهي وبين الانزعاج من الضنى
فدنا فتاها قائلا لا تجزعي
ما دام هذا الداء ينفيه الدوا
داء كبحت جماحه بترشفي
ريق المدامة دائما قبل الغدا
هذا وراح حبيبها ثم أثنى
تغشى أنامل كفه كاس الطلا
ودنا إليها باسما فتبسمت
عن در مبسمها المورد بالحيا
ثم انثنت نحو المدام كذي ضنى
أشفى فصار يهيم في طلب الشفا
وترشفت منها القليل فراقها
ما شاقها من عذب ذياك اللمى
ورأت بأن الراح تعقب راحة
للقلب فارتاحت على دفع الأذى
وصبت إلى لثم الكئوس وقد كسا
ريق المدامة خدها لون الدما
هذا وقلب حبيبها من فرحة
أضحى يرفرف راقصا بين الحشا
حتى إذا أزف الرحيل وأظلمت
شمس اللقا صرعى بأسياف النوى
راحت تودعه فأودع قلبها
ما أودعت قلبيه من نار الهوى
وثنت معاطفها إلى حيث الحمى
ترنو ولكن مثلما ترنو المهى
وسرى النسيم مصافحا صفحات خد
يها وقد نديت بأنفاس الندى
فعرا سناها الاصفرار وصدغها
داء الدوار وقلبها الدامي الضنى
وغدت على مهد السقام عليلة
ما بين داء الوجد أو داء الطلا
وإذ انقضى داء المدامة وانتضى
سيف البعاد بكفه داعي الشقا
جاء الحبيب مودعا لا يرتجي
بعد النوى عنها سوى قرب اللقا
مدت يد الصبابة والنوى
قالت وقال بكت وما يجدي البكا
حتى إذا طال الفراق وشاقها
حلو التلاق وراع أحشاءها الأسى
وافى كتاب حبيبها فجرت لتأخذه
ولكن ليس تدري ما جرى
وتلت ولكن ما يروع فؤادها
لا ما يساعده على دفع البلا
علمت بأن حبيبها أضحى على
مهد الضنا تنتابه أيدي الفنا
فدنت إليه بمقلة من غمدها
صرعى وقلب خافق خفق اللوا
هذا ولم تدر بأن حبيبها
يقضي صريع الكأس في ذاك المسا
كأس حدته إلى كئوس حيث لم
يردع هواه وكم فتى أردى الهوى
فرأت مليك فؤادها يحكي الهوا
رسما ولا يبدي حراكا كالهوا
فدنت من الأسى وقد غلب الأسى
ترجو شفاه حيث لا يرجى الشفا
وإذا بها سمعت نداء حبيبها
فاتنه وهي تظنه رجع الصدى
وحنت عليه كطائر يحنو على
غصن ذوى كيما تشاطره الردى
فبكى فقالت وهي تمسح طرفه
ببنانها ما الداء يا روح المنى
فأجابها ندما يجود بنفسه
ويلاه هذا الداء من ذاك الدوا
وقال في زفاف صديق يدعى «يعقوب» على فتاة تدعى «مريم»:
أفؤادي على لساني أملى
ما يكن الفؤاد نحوك أم لا
بل رويدا فإنما مريم العذراء
خطت بأحرف لك قولا
حيث قالت يعقوب إنك من عيني
مكان السواد منها وأحلى
فهنيئا لكم ومن لم يهنئكم
لعمري فليس والله خلا
وقال في قصيدة عنوانها «ليلة في المسرح»:
إلى قاعة التمثيل جاذبني قلبي
دجى وقناع الليل أستر للصب
فسرت كأني راكب في سفينة
من الشوق يجريها بخار لظى القلب
فآنس طرفي مذ دخلت أوانسا
تحجبن إلا عن عيون ذوي اللب
نظرن إلى الفتيان فتيان عصرنا
وقد أسكرتهم في الهوى خمر الحب
فنابوا عن الجوق الممثل أنما
رواياتهم ما سطرت قط في كتب
على أنها قد سطرت في صحيفة
من الجهل يغشاها مداد من العتب
وأوحى بها للقلب لحظ أخي النهى
ولم يمحها إلا بمدمعه الصب
مدامع يجريها الأسى وخضابها
هو الورد لكن من له بندى السحب
وقد صوبوا المنظار كالعسكر الذي
يحاول تصويب البنادق في الحرب
وأرسل كل سهم لحظيه رائدا
رياض خدود الآنسات من الحجب
أوانس إلا أنهن نوافر
إذا ما التقى يوما اللقا الهدب بالهدب
نواعس حتى يصبح الطرف للكرى
قرى ويناغي الطير في الغصن الرطب
فكانوا وما من سامع للمثل
ولا ناظر ما كان في مرسح اللعب
إذا ما شدا شاد فراق نشيده
سمعت صدى مص الشفاه من العجب
وإن راقهم من التفنن قاطعوا
بتصفيقهم ذاك التفنن والضرب
وإن هو أومأ بالبنان لغادة
وكانت وإياه تمثل ما يصبي
رنوا وانثنوا لا لارتياح وإنما
لراح تحاكي ريق مبسمها العذب
وأعجب منه ضحكهم ساعة البكا
ويقبح ضحك المرء في مشهد الندب
ولو رمت تعداد البواقي لما بقى
مداد بأطراف اليراع فما ذنبي
على أنني استوقفت آخر قطرة
كتبت بها ذا البيت مستغفرا ربي
ورأى غادة تقرأ في كتاب فقال مرتجلا:
يا ليتني كنت سطرا
تحت اللحاظ فأقرا
أو كنت ضيفا لديها
من الجمال فأقرى
وقال في حادثة «شهيدة الحب»:
لله موقف غادة
عبثت بمهجتها الشجون
لعب الهوى بفؤادها
غصنا تتيه بمهجتها الشجون
فتقصفت أوراقها
حتى علا منها الأنين
ما تلك أوراق جنتها
قط أيدي الغارسين
حتى تعود فتجلى
للعين زهراء الجبين
تلك الجوارح إنما
رقت لتكسير الجفون
فجنى عليها الوجد ما
لم تجنه نبل العيون
من نظرة قد غادرت
في قلبها السهم المكين
سهم بدا عن قوس حاجب
أهيف يرمي الفتون
فغدت تقول بلوعة
أماه هلا تعلمين
قد جاءني وحي الخفا
إني سأقضى بعد حين
فحنت عليها أمها
تبكي بكاء الخائفين
بيد تضم فؤادها
كالطير ضمته الغصون
وغدت تقول بلهفة
لله ما هذي الظنون
ما أنت إلا وردة
حجبت فأنى تقطفين
تحيين ما بكت السحائب
أو جرت ماء العيون
فبكت بنيتها بدمع
هاجه الداء الدفين
وثنت غصين قوامها
تشكو ولكن لا معين
وتقول من وله إلهي
ارحم قلوب العاشقين
واغفر لهم ذلاتهم
فلأنت خير الغافرين
حتى إذا بسم الصباح
وفتحت منه الجفون
نظرت فخالج طرفها
شبح رأته منذ حين
فدنت بجاذب شوقها
حتى إذا التقت العيون
ورأت حبيب فؤادها
يدنو وتحجبه الغصون
قالت وقد نشر الحياء
لواءه فوق الجبين
أهلا بمن ملك الفؤاد
هواه دون العالمين
فأجابها ذاك الفتى
فرحا بلقياها حزين
يا من حوت ورد الرياض
بخدها الباهي المصون
من لي بأني وأنت والهوى
نمسي على عهد متين
فتعاهدا حتى إذا
وافى حماها بعد حين
نظر الفتى في وجهها
دمعا فهاجته الشجون
وارتاب في حب الفتاة
له وراعته الظنون
ورنا إليها قائلا
بالله ماذا تشتكين
قالت وقد بسط الممات
جناحه فوق الجبين
أشكو شرابا صبه
الرحمن في كأس المنون
وأتت به الأقدار تسعى
نحو ذا القلب الحزين
فبكى الفتى جزعا وصاح
بلهفة أنى يكون
أبيقظة يا أذن أم
في الحلم ما قد تسمعين
فأجابه من عالم النجوى
لسان العاشقين
هيهات قد حكم القضاء
وذاك أقوى الحاكمين
يجني غصين قد حلا
منه الجني دون الغصون
فأصبر على بلواك إن
الله يجزي الصابرين
فجثا الفتى جزعا وصاح
حبيبتي هل تسمعين
لا لا فذاك يروع قلبك
ذكره لو تعلمين
ما زالت حبيبته وقالت
تلك يا قلبي ظنون
فادنو حبيبي للوداع
قبيل أن يدنو المنون
ويروع قلبينا بنأي
لا لقاء له يكون
فبكى وقال حبيبتي
بالله ماذا تكتمين
وأراد تخفيف الجوى
منها وإبداء الحنين
وإذا بها سقطت تجلل
ورد خديها الغصون
فدنا ينازعها الفنا
ندما ولكن لات حين
ويقول يا عذراء رفقا
بي وبالقلب الحزين
حتى إذا هدأ الظلام
وعم في الأرض السكون
سمع الفتى من نحوها
صوتا يخامره الأنين
وهتاف وحي قائل
وا رحمتا للعاشقين
وقال في فتاة تدعى «مريم»:
من لي مريم حتى
أكون عيسى لديها
كيما تقبل خدي
يوما وأحنو عليها
وقال فيها:
أمريم لو تدري بأن أخا الهوى
على البعد أضحى كالخيال نحيلا
لكنت منحت القلب منه تعطفا
ونحت عليه بكرة وأصيلا
وقال عن لسان صديق اقترح عليه نظم بيتين:
أتيت إليك الآن لا لزيارة
ولكن لأروي القلب بالمبسم العذب
وألقي إليكم ذي البشارة أنني
نقلت إلى مصر بها مرتع القلب
وقال يرثي ملكة الإنجليز:
عزيز علينا أن أقول صفحة
من الجيل تغشاها سطور المنية
وأن جنان الغيب يملي ودونه
بنان القضا يسري برقم الرزيئة
هو الموت حتى لو دنت ساعة النوى
هوى فوهت من هوله كل همة
أڤيكتوريا إن كان قومك رعوا
من الداء خوفا من وقوع الأذية
فكيف بهم والموت فوقك باسط
جناح الردى ينبي بعظم المصيبة
أڤيكتوريا كم من محب وقد غدا
يعلل نفسا بالتي وبالتي
وكم من صفي بات بعدك دامي الفؤ
اد عديم الرشد وهن العزيمة
أڤيكتوريا ما إن نأيت وفي الورى
سوى رمق باق وقلب مفتت
ملكت وثغر القوم بالبشر باسم
لما آنسوه من صفاء المودة
على أنهم لم يبسموا لملمة
ألمت ولا للخصم يوم الكريهة
عليك سلام الله ما حيث الصبا
فأحيت زهورا فوق تربك حنت
وقال يصف الكهرباء والحب:
كيف لا يصبغ الخدود الحياء
في زمان سادت به الكهرباء
آلة توهن القوى كلما
احتكت وتلقى الآساد وهي ظباء
كلما هاج قلبها حركات
جذبتنا فكان ما لا نشاء
كفتاة رأت فتاها فتاهت
إذ رآها فراعه الإغماء
ضمها والفؤاد يضرم منها
قبسا في الفؤاد منه صلاء
واختلاف الأجسام ينشأ عنه
جاذب لا تحله الكيمياء
فأطاع الهوى فراح صريعا
حيث قادت فؤاده الأهواء
زارت الكهرباء قلب محب
زاره الوجد والولا والإخاء
لم تر موصلا إليه فتسري
عنه بل كان من مناها البقاء
ليس للقلب موصل فهو كالطير
يرف والجسم منه هواء
ليت ذي الكهرباء تطرق قلبي
حين يبدو من الحبيب الجفاء
علها تجذب الحبيب فيروي
كبدي عذب ثغره والطلاء
وعجيب أن تلاشى قواها
وهي والله آلة صماء
ولحاظ الحبيب لما رآني
كان فيها من الهوى كهرباء
واقترح عليه مغن بيتين ينشدهما في غادة:
أطلت من الشباك محلولة الشعر
مهاة حكت في حسنها طلعة البدر
ومذ سمعت صوتي تثنت كأنها
غصين أمالته النسائم في الفجر
واقترح عليه بعضهم تكملة معنى هذا البيت:
هي البدر إلا أنها ذات برقع
تتوق لمرآها النفوس وتعشق
فأردف قائلا:
وما الليل يرخي الظلام سدوله
ولا الصبح ما تحكي سناه البوارق
ولكن ليل العاشقين احتجابها
وصبحهم في وجهها حين يشرق
وقال في الحنين إلى الوطن:
يا بني الأوطان ما أحلى اللقا
وألذ العز من بعد الشقا
فمتى نحظى بغزلان النقا
ونريح القلب من هذا العنا
حكم الدهر علينا بالفراق
حين لا نقوى على مر الطلاق
آه وا شوقي إلى حلو التلاق
حيث أحظى من حبيبي بالمنى
آه وا شوقي إلى ذاك الحمى
حيث أضحى القلب صبا مغرما
يا إله العرش كن لي راحما
واشف قلبي من تباريح الضنى
تلك أوطان لها قلبي صبا
إذ قضى فيها أويقات الصبا
فاحملي بالله يا ريح الصبا
عني الشوق إلى ذاك الحمى
كنت قبل بعد لا أدري العذاب
لا ولا أعرف معنى الاحتجاب
غير أن القلب بعد البعد ذاب
فارحموا قلبي وداووا البدنا
قرب الله أويقات الهنا
وأراح القلب من بعد العنا
وإذا لم تدننا دار الفنا
فلقد تجمعنا دار البقا
وبعث إليه صديق يطلب حاجة فأجابه بهذين البيتين:
قد طلبت القليل مني وما كان
فؤادي من الوداد مقلا
لك ما شئت يا خليلي فإني
في حياتي لسائلي لم أقل لا
وقال يصف عيد الجلوس الخديوي:
لا غرو أن لاحت كواكب سعده
في مصر محدقة بمرهف قده
والعيد أقبل باسما بجلوسه
كالسيف يبدو ضاحكا من غمده
عيد به رقصت أولي الهوى
ثملى كأن شرابها من وده
وافى فلم يبق فؤاد ساكن
حتى حسبت قلوبنا من وفده
لا بدع أن تزهو رياض الأزبكية
وهو رائدها بروضة خده
أو تتجلى بيض الأزاهر وهي تحكي
الزهور لكن في أعالي مجده
وقلوب آل ولائه قد أشرقت
بلظى الوداد على صفائح جنده
عباس لو عجز الورى عن مدحه
نطقت شمائله برائق حمده
فليهنأ بالعيد الذي هتفت به
أبناء مصر والعراق ونجده
فليحي عباس على العرش الذي
نهوى لو ان قلوبنا من مهده
وقال يرثي المرحوم الشيخ نجيب الحداد:
أدمع جرى مدمع الصب أم مزن
على فقد من في فقده داهم الحزن
ذوى غصنه رطبا وقلبي حائم
عليه فذاق القلب ما ذاقه الغصن
خليلي ما للطرف يعنو لدمعه
حزينا وما أن كان قبل النوى يعنو
تراءى لنظمي ما كن خاطري
فأضحى مليك الشعر والخادم الوزن
كأن صدى من صيد قلبي يفقده
ولو صد عني فهو نظمه عون
يقولون لي صبرا فما الدمع في الأسى
بمجد فقلت الصبر أن تصبر العين
نعم فكلانا يا نجيب على الوفا
مقيم إذا داعي الصفا صابه الوهن
أليس عجيب بعد حبيبك أنني
أراك ضجيع الترب ليلا ولا ظن
عليك سلام الله ما سال مدمعي
وما هاج من ذكراك في كبدي حزن
وقال في قصيدة عنوانها «العلم والمال»:
لبسوا البرد وانثنوا رافلينا
باختيال يستجذبون العيونا
وتحلوا وليتهم ما تحلوا
أنهم عن حلى العلا غافلونا
حلية النفس شيمة لم يشمها
غير لطف يعنو له الساحرونا
ليس باللبس والحلى خلد التاريخ
ذكر الفطاحل الغابرينا
إنما بالعلوم نالوا فخارا
لم ينله الملوك والمكثرونا
أين كسرى من ابن خلدون هذا
عاش قرونا وذاك عاش قرونا
مات كسرى بموته وابن خلدون
لعمري بالذكر يحيى دفينا
كم غني قضي ولم يقض سؤلا
وذكي هدى فكان معينا
إنما الجود أن تجود بما عندك
لا أن يعودك السائلونا
يفرغ المال إن يد أنفقته
وتزيد العلوم حينا فحينا
فاجن ما لا يفنى وإن فني المرء
ودع ما تفني يد المنفقينا
فقليل مما يدوم لخير
من كثير يفنيه مر السنينا
فإن كان طرفي قد غذاني بحسنه
ولم أغتذ من لحمه النضر الغضينا
وقال في حكاية «الغراب والثعلب»:
رأى الغراب جبنة في دار
لبعض قوم من ذوي اليسار
فسل منها قطعة وطارا
كأنه قد ملك الإمارة
وحينما حط على إحدى الشجر
رآه ثعلب فأحدق النظر
فلمح الجبنة فاحتال على
اختطافها منه بهاتيك الفلا
قال له يا محسن الغناء
ومخجل الطيور والظباء
لي سنة أطلب أن أراكا
لأسمع الرائق من غناكا
فهل تجود بالغنا يا سيدي
فتروي القلب بطيب المورد
فامتثل الغراب قول الثعلب
وصار يشدو بالغناء المطرب
فأوقع الجبنة من منقاره
غنيمة باردة لجاره
ففرح الثعلب وانتشلها
بفمه وبعد أن أكلها
ناداه يا غراب ما ظلمتكا
بمثل ما عاملت قد عاملتكا
سلبت إنسانا عليك اعتدى
وما فعلت الآن تلقاه غدا
والمال لا يخرج من كف الفتى
إلا من الباب الذي أتى
وقال في مقتل ملك السرب:
طرق الحب قلبه فاستماله
ليته لم يكن أطاع غزاله
ملك تمرح الظبا في حماه
وهو في أسرها فأين العداله
يا بني السرب تلكم سنة الله
فهلا تلوتم أقواله
ومن اضطر غير باغ ولا عاد
فلا إثم يفتري أو ضلاله
لو نظرتم بعينه أو لمستم
بيديه بنان تلك الغزاله
لعرفتم قدر الهوى وعلمتم
أي شيء عن الهدى قد أماله
قد جنيتم عليهما قبل أن يقطع
كل من خله أماله
كان أولى عزل المليك عن العرش
فعرش الهوى غدا أحلى له
من ممات تشارك اللحظ فيه
واليماني فقطعا أوصاله
وهو لم يرو من دراغا غليلا
وهي باللحظ كم روت من مقاله
يا له موقفا به انتفضت أعظم
صرعى الهوى أمام الجلاله
صائحات من عالم الغيب ترجو
للفقيدين عفوه ونواله
وقال يصف زيارة الحبيب:
ركبت القطار إلى من أحب
وما غير قلبي له سائق
فسار ولكن بنيرانه
كأني به في الولا صادق
يراعي النظير فيجري سراعا
ولحظي دليل له سابق
ينير له ظلمات البعاد
بنور اللقاء ولا بارق
فيسترق الأرض في سيره
وما هو لولا الهوى سارق
فلما بلغت ديار الحبيب
طرقت فقيل من الطارق
فقلت محب دعاه الهوى
لينظر ما أبدع الخالق
فراشقته بسهام اللحاظ
بقلبي فليفتدي الراشق
فخدك ورد وثغرك ورد
يحوم على مثله الوامق
أسير السهاد طليق الرقاد
فقالت فديتك يا عاشق
وها هي مهجتي عربون الوفا
لهينا بها قلبك الرائق
فعدت ولكن رغم الفؤاد
يجاذبني حسنها الفائق
بباخرة في بحار دموعي
ومجدافها قلبي الخافق
أردد ذكرى ليال تسامر
فيها المشوق والشائق
وقال في محاورة عاشقين:
لعمر الهوى لولا العيون الذوابل
وهدب لحاظ في فؤادي ذوابل
لما صرعت أخت المها مهجتي ولا
سلاح سوى العينين حين تقاتل
رأتني لديها ناحل الجسم فانثنت
إلي وقالت ما لجسمك ناحل
فقلت وهل يحيا غصين بلا ندى
فقالت ففي كفيك ما أنت سائل
فقلت ولكن قد ذوى من لظى الهوى
فقالت وهل يذوى ودمعك وابل
فقلت لعل الشمس عنه تحجبت
فقالت ففي خدي شمس تماثل
فقلت أتبدو الشمس والبدر طالع
لعمرك قد قلت لدي الوسائل
فقالت عجيب ما ذكرت وإنني
وإياك دوما نورنا متكامل
وملت بها نحو الرياض فآنست
أزاهر ورد غصنها يتمايل
فقالت أرى غصنا يميل ولا هوا
أبين هوانا والهواء تبادل
فقلت ولا بدع فإن شموله
سرت فحكتها منك تلك الشمائل
وإن احمرار الورد بين غصونه
كخديك لما داهمتنا العواذل
فلولا الحيا ما راق ورد لناظر
ولا حببت للوردين الخمائل
ولولا الهوى ما ماس غصن بلا هوا
ولا أحدقت بالقلب تلك السلاسل
فأنت منحت الورد نور ملاحة
ونار التياع فهو زاه وذابل
وعلمتني وصف الجمال ولم أكن
جهلت ولكن كان لي عنه شاغل
إلى أن تراءى لي هواك وأنه
وعينيك ذا سحر وهذي قنابل
فأشغلني إلا عن الغزل الذي
يمثل لي الغزلان وهي تغازل
وإن غبت ناجي البدر عني فإنني
إذا لم أسله عنك فالطرف سائل
وقال في مطلع رواية:
لله موقف عشاق الجمال إذا
أوتوا العفاف فماتوا من ظبي الحدق
إذا قضوا في الهوى صرعى فشافعهم
لدى المهين ما عانوا من الأرق
وقال في سياق رواية:
رعى الله ربعا لاح في وكناته
طيور تناجي الصب وهو عليل
قضيت به دهرا أميل إلى العلا
بقلب إلى حب الصفاء يميل
وسرت على وجه البسيطة طالبا
علاء ومجدا والفخار جميل
أراعي الليل وهي بواسم
فعيرو سناها من لظاي أفول
وأسعى على الرمضاء طوع مطالب
غدت تحتها الرمضاء وهي تميل
نلت منالا قد فقدت بنيله
أبا فضله بين الأنام جزيل
لقد كان لي عونا إذا الصحب أدبرت
وإن مد لي باع السخاء يطول
قضى دون توديع فأودع مهجتي
لهيبا مدى الأيام ليس يزول
على مثله فلتمزج العين دمعها
دماء ويعرو الجفن منها ذبول
وقال على لسان عاشقة:
هوى بقلبي هواكم فانثنت كبدي
وأن صدري من الأشواق والكمد
وأبرقت من صدام كل جارحة
فأبرئت من سقام قد برى جسدي
وهمهم الرعد أثر البرق فارتعدت
فرائصي حذرا مني على كبدي
دع العذاب لمن قد ذاب من حسد
واخلع أخا الغيد ثوب النأي والحرد
وارحم حليف سقاهم ساقه قدر
إلى الهوى فهوى عمدا ولم يعد
رام الغرام ولم يعلم عواقبه
فهام تيها وما في النفس من جلد
عن الملاحة قد زاح اللثام فما
لاحت لعينيه حتى صاح وا كبدي
تلك السهام سهام اللحظ لو نشبت
في قلب أسد لما أبقت على أسد
فكيف فيمن غدا من نار لوعته
تراه وهو قريب مثل مبتعد
وهكذا الحب لا تحيى معالمه
حتى يميت فلا يبقى على أحد
وقال على لسان عاشق يخاطب طيرا:
مهلا فقلبي لا يقوى على الكمد
طير الأراك كفى ما هجت من كبدي
يحن قلبي إلى نجواك ما سمعت
أذني صداك فقف مهلا ولا تزد
أراك تبكي على إلف فيوحشني
ذكر الحبيب بليل زائد السهد
تبكي كأنا في الهوى شرع
ويهجم الدمع فوق الخد من حسد
هو الغرام بقلبي لا يزال وهل
ينأى الهوى عن فؤاد الشيق الكمد
وقال:
إلى كم أداوي القلب من ألم البلوى
وأشكو الدهر لا يرق لذي شكوى
ومن كان ذا قلب يطير مع الهوا
فإني له أن يتقي مضض البلوى
خليلي هذي مهجتي لو علمتما
غدت كبدي من نار لوعتها تشوى
فرفقا بها بالله غدا بها
عساها وقلبي يجنحان إلى النجوى
فأسمع ما لا يسمع الغير أو أرى
بنجواهما بعض ارتياح إلى السلوى
ويذهب عني ما كتمت من الجوى
خليلي إني بعدهم أرتجي صفوا
وقال في وصف الجمال:
ما رقيق الفؤاد رب الشمائل
غير صب نحو المحاسن مائل
ما ترى الحسن سلما يرتقيه
من رفيع ومن وضيع الشمائل
سلم يبلغ الأديب إلى أرفع
قدر وينثني بالجاهل
أودع الذوق في الحسان فظلت
تبتغيه النساك من غير طائل
وتبدت عنه المحاسن تحكي
في سماء الآداب بدرا كامل
صاح هلا خلا فؤادك من رشق
سهام من اللحاظ القواتل
خل عنك الوقار واجنح إلى
خلع عذار مع الهواء متمايل
فلعمري ما ذاق قلب محب
مثل ذاك القلى بتلك المجاهل
يوم كنا من الشباب سكارى
يوم كان المشيب عنا غافل
وقال:
أهوى الظبا ويحول دون مرامي
شرف صبوت إليه منذ فطامي
ويشوقني ذكر الحبيب فلا أرى
لي مؤنسا غير الفؤاد الدامي
قلب إذا هاج الغرام كلومة
عكس اللظى عنها كليم غرامي
فيلوح لي أن الحبيب مجالسي
وهما وليس سوى الخيال أمامي
يبدو الخيال كأنه بي شافع
عند الحبيب فتشفى آلامي
غلب الصفا جفاءه فغدا وقد
رسمت محاسنه بطرفي الهامي
آيات دمع ما تلوت سطورها
إلا انجلى وجدي وخف سقامي
فأبيت لا أشكو لقاء جميلة
ويبيت يشجيني نحول عظامي
وقال:
تراءت وراء الستر مكشوفة الستر
فشقت بلحظها الحجاب عن السر
وسارت فصار العاشقون لحسنها
أسارى وأضحى الحر يرحب بالأسر
وما خطرت إلا لكسر خواطر
ونشر خزامى حبها في الهوى العذري
ودارت أحاديث عن التي
بها قد صبت شوقا إليها ولم تدر
فما سمعت إلا صداها وما رأت
سواها فهامت في المهامة والقفر
ونادت وما من مستجيب لسؤلها
سوى طلل حطت عليه يد الدهر
فجادت بدمع هاجه الشوق والأسى
ولم تدر أن الحب يذهب بالعمر
فحنت لشكواها الحمام وساءلت
بتغريدها تلك القلوب عن الأمر
فقالت ألا تدرن أن مساكنا
أقمنا بها من قبل صارت إلى القبر
أناس نبل اللحاظ فراغهم
ظباها ولم يخشوا من البيض والسمر
ألا فاندبي يا طير قوما تولهوا
فماتوا وقلبا ذاب عن علة الهجر
وقال:
أطائر البين ما للقلب والمهج
بعد الأحبة تشكو لوعة الوهج
وما لطرفي بعد البعد منزعج
يذري الدموع ولكن غير منزعج
يلوح في هالة حمراء ما سطعت
لولا لظى عن دماء القلب والمهج
وينثني ناثرا دمعي فأحسبه
قلادة رصعتها فتنة الدعج
كفى برقة قلبي شافعا وبما
أراق طرفي وما ألقاه من حرج
يا زهرة صادها مر النسيم ضحى
فغادرت بعدها الأغصان في عوج
مني علينا بنشر شذاك عسى
يحيى الفؤاد فيرضى منك بالأرج
وسائلي السحب عن دمعي وعن كبدي
سلي غصين الربى بالله إن تعجي
يجيب عني بأني والهوا شرع
من الهوى غير راج منحة الفرج
وإن يدم أبدا هذا الفراق لنا
فما على الروح بعد الصد من حرج
وقال:
خذي فؤادي فداء العاشق الباكي
على زمان تقضى بين نعماك
وأيقنني أنني ما جدت مفتديا
بالقلب إلا لأن القلب يهواك
نأيت تيها فتاه العقل وا أسفي
واشتد مني الهوى شوقا لرؤياك
لم يكف أن بعادا عنك تيمني
حتى جذبت فؤادي بين أحشاك
رفقا بحال فتى فاضت مدامعه
فما أهاج لظاها قلبا سفاك
سألت عن علتي أسى الغرام ضحى
فقال إن شفائي من لمياك
نعم، فما كان أحلى ما أشار به
لو لم يكن مجتنيه ثغر فناك
فكم بلحظيك ذات الحسن قد قتلت
في الحب نفس وكم راقت حمياك
كفى بربك كفي عن قتيل جوى
يكفيه ما فعلت بالقلب عيناك
إن شئت صفحا فقلبي قد صفا طربا
أو رمت قتلي فعبد من رعاياك
وقال:
سلي لاعج الأشواق عن هائج الوجد
وعن مدمعي إلهامي سلي طلعة الورد
يجيب فؤادي عنهما أن ما همي
من الطرف بعد البعد بعض الذي عندي
نأيت وقلبي لا يزال من الهوى
كليما فلم يقو عن ألم البعد
كأن فؤادي فوق نار من الهوى
يزيد لظاها كلما زيد من وجدي
كفاك سليمى ما تريقين من دمي
دوما ومن دمعي السخين على خدي
أيجمل في شرع الصبابة أنه
يجازي أسير الود بالنأي والصد
ملحق بالكتاب
القسم الأول
في الشجاعة
قال أبو مسلم لأحد قواده: إذا عرض لك أمر نارعك فيه منازعان أحدهما يبعث على الإقدام والآخر على الإحجام فأقدم؛ فإنه إدراك للثأر وأنفى للعار.
الحث على استعمال الخدعة والحيلة والتحرز في الحرب
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الحرب خدعة».
وقال أحدهم : «كن بحيلتك أوثق منك بشدتك، وبحذرك أفرح منك بنجدتك، فإن الحرب حرب للمتهور غنيمة للمنحدر».
وقيل: «المكر أبلغ من النجدة».
وقيل: «حازم في الحرب خير من ألف فارس؛ لأن الفارس يقتل عشرة وعشرين والحازم قد يقتل جيشا بحزمه وتدبيره».
حث من دعي إلى المبارزة على الإجابة
قال أمير المؤمنين لأحد أبنائه: «لا تدعون أحدا إلى البراز ولا يدعونك أحد إلا أجبته، فالداعي باغ والباغي مصروع».
المنازل وقت المنازلة
قال المهلل:
لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا
وأخو الحرب من يطيق النزولا
وقال:
جعلت يدي وشاحا له
وبعض الفوارس لا يعتنق
الحث على الثبات والنهي عن الإحجام والتفكر في العواقب
السلامة في الإقدام والحمام في الإحجام، قال الكلبي:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت
حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا
وقال أبو بكر لخالد بن الوليد لما أخرجه لقتال أهل الردة: «احرص على الموت توهب لك الحياة».
وقيل: «من تفكر في العواقب لم يشجع».
الحث على التفكر قبل التقدم
قيل: «من قاتل بغير نجدة وخاصم بغير حجة وصارع بغير قوة فقد أعظم الخطر وأكبر الغرور».
المتبجح بثباته
قيل لعباد بن الحصين: إن جالت الخيل فأين نطلبك، قال: حيث تركتموني، وقيل لبعض بني المهلب: بم نلتم ما نلتم؟ قال: بصبر ساعة، وقال هدبة:
قوم إذا نزلوا الوغى لم يسألوا
حذر المنية عن طريق الهارب
المبادرة إلى الحرب غير مبال بها
وصف أعرابي قوما فقال: ما سألوا قط كم القوم، وإنما يسألون أين هم. وسأل رجل يزيد بن المهلب فقال: صف لي نفسك، فقال: ما بارزت أحدا إلا ظننت أن روحه في يدي.
ولما بلغ قتيبة حد الصين قيل له: قد أوغلت في بلاد الترك، والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر، فقال: بثقتي بنصر الله توغلت، وإذا انقضت المدة لم تنفع العدة، فقال الرجل: حيث شئت فهذا عزم الله لا يفله إلا الله.
وقيل لعبد الملك: من أشجع العرب في شعره؟ فقال: عباس بن مرداس حيث يقول:
أشد على الكتيبة لا أبالي
أحتفي كان فيها أم سواه
وقيس بن الحطيم حيث يقول:
وإني في الحرب العوان موكل
بإقدام نفس لا أريد بقاءها
والمزيني حيث يقول:
دعوت بني قحافة فاستجابوا
فقلت ردوا فقد طاب الورود
وأم الهيثم التميمية:
تمشي إلى أسل الرماح وقد ترى
سبب المنية مشية المختال
وقال البحتري:
تسرع حتى قال من شهد الوغى
لقاء أعاد أم لقاء حبائب
المتوصل إلى الشدة بالرخاء
قيل: نيل المعالي هول العوالي، ودرك الأحوال في ركوب الأهوال، بالصبر على لبس الحديد تتنعم في الثوب الجديد، وفي الصبر على النوائب إدراك الرغائب.
وقال يزيد بن المهلب يوما لجلسائه: أراكم تعنفونني في الإقدام، فقالوا: أي والله، إنك لترمي نفسك، فقال: إليكم عني، فوالله لم آت الموت من حبه، ولكنني آتيه من بغضه ثم تمثل:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة قبل أن أتقدما
الخوف منه
قيل: كانت قريش إذا رأت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في كتيبة توارت خوفا منه.
ونظر إليه رجل وقد شق العسكر فقال: قد علمت أن ملك الموت في الجانب الذي فيه علي.
تأثير الجيش
بعث أمير في طلب قوم رجلا، فما لبث أن جاء برجل أطول ما يكون، فقال: كيف تمكنت منه؟ فقال: وقع في قلبي أن آخذه، ووقع في قلبه أنه مأخوذ، فنصرني عليه خوفه وجراءتي.
وقيل لأمير المؤمنين: بم غلبت الأقران؟ قال: بتمكن هيبتي في قلوبهم.
الموفي على جماعة والغالب لهم
قيل للإسكندر: إن في عسكر دار ألف مقاتل فقال: إن القصاب الحاذق وإن كان واحدا لا يهوله كثرة الغنم.
وقال أبو تمام:
قلوا ولكنهم طابوا فأنجزهم
جيش من الصبر لا يحصى له عدد
المشبه بالأسد
ووصف أعرابي آخر فقال: هو أشد صولة من أسد، وأبلغ منعة من الحصن الحصين.
ووصف آخر صاحبه فقال: هو أشد إقداما من أسد، وتوثبا من فهد.
المتحمل للشدائد الصابر لها
وصف رجل آخر فقال: كان ركوبا للأهوال غير ألوف للظلال.
فرسان العرب
قال أبو عبيدة: فرسان العرب المجمع عليهم دريد بن الصمة وعنترة العبسي وعمرو بن معدي كرب، وقد عد من أكابرهم عامر بن الطفيل وعتيبة وعنبسة بن الحارث وزيد الفوارس والحارث بن ظالم وعباس بن مرداس وعروة بن الورد، ومن فتاك الجاهلية الحارث بن ظالم والبراض بن قيس وتأبط شرا وحنظلة بن فاتك الأسدي، ومن رجالاتهم أوفى بن مطر المازني وسليك بن السلكة والمنتشر بن وهب الباهلي، وكل واحد منهم كان أشد عدوا من الظبي، وربما جاع أحدهم فيعدو إلى الظبي فيأخذ بقرنه، ولا يحملون زادا، وكان أحدهم يأخذ بيض النعام في الربيع فيجعل فيه ماء ويدفنه في الفلاة حيث يغزو حتى يكون له في الصيف إذا سلك ذلك الطريق ومنهم الشنفرى.
من لا يخضع في شدة
قيل لأعرابي اشتد به المرض: لو تبت، قال: لست أعطي على الذل، إن عافاني تبت وإلا أموت.
وسأل عمرو بن عبد العزيز ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير فقال: ما رأيت نفسا أثبت من نفسه، مر حجر من المنجنيق وهو قائم يصلي بين جنبه وصدره فما خشع له بصره ولا قطع قراءته ولا ركع دون الركوع.
وعن أمه أنها دخلت عليه في بيته وهو قائم يصلي فسقطت حية فتطوقت بابنه هاشم فتصايح أهل البيت بها حتى قتلوها وعبد الله قائم يصلي فما التفت ولا عجل، فلما فرغ قال: ما بالكم؟
المؤثر الموت في العز على الحياة في الذل
لما وقعت الهزيمة على مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية أهاب بالناس ليرجعوا فلم يلووا، فانتضى سيفه وقاتل مستقتل فقيل له: لا تهلك نفسك ولك الأمان، فتمثل بأبيات قالها الحسين يوم قتل وهي:
أذل الحياة وذل الممات
وكلا أراه طعاما وبيلا
فإن كان لا بد إحداهما
فسيري إلى الموت سيرا جميلا
وقال المتنبي:
فاطلب العز في لظى وذر الذل
ولو كان في جنان الخلود
النهي عن مخافة القتل والحث على تصور الموت
قيل لعلي: أتقاتل أهل الشام بالغداة وتظهر في العشي في ثوب ورداء؟ فقال: أبالموت أخاف؟ والله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت علي.
قال أبو فراس:
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن خطب العلياء لم يغله المهر
قوم تسلط عليهم القتل فلم يفنهم
قال الحجاج لامرأة من الخوارج: والله لأحصدنكم حصدا، فقالت: أنت تحصد والله يزرع، فانظر أين قدرة المخلوق مع قدرة الخالق، ولم يظهر من عدد القتلى ما ظهر في آل أبي طالب وآل المهلب وفيهم من الكثرة ما ترى.
من لم يبال بأن يقتل
قال عبد الله بن مسعود: عثرت بأبي جهل في الجرحى وقد قطعت يده ورجله، فقلت: يا عدو الله، فقال: سيفك كهام، فهاك سيفي فخز رأسي من عرشي؛ فإنه أهون عند من يراه.
وأسرت أم علقمة الخارجية وأتي بها إلى الحجاج فقيل لها: وافقيه في المذهب، فقد يظهر الشرك بالمكر، فقالت: قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، فقال لها: قد خبطت الناس بسيفك يا عدوة الله خبط العشواء، فقالت: لقد خفت الله خوفا صيرك في عيني أصغر من ذباب، وكانت منكسة فقال: ارفعي رأسك وانظري إلي، فقالت: أكره أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فقال: أهل الشام، ما تقولون في دم هذه؟ قالوا: حلال، فقالت: لقد كان جلساء أخيك فرعون أرحم من جلسائك، حيث استشارهم في أمر موسى، فقالوا: أرجئه وأخاه فقتلها.
وكان حكيم بن حنبل قد قطعت رجله يوم الجمل فأخذها وزحف بها على قاطعها فقتله، وقال:
يا نفس لا تراعي
إن قطعت كراعي
إن معي ذراعي
وقال أعرابي لابنه وقد قدم للقتل: يا بني أصفف رجليك وأصرر أذنيك ودع ذكر الله تعالى في هذا الموضع فإنه فشل.
الجواد بنفسه في الحرب المستعد للموت
قالت الخنساء:
تهين النفوس وهون النفوس
يوم الكريهة أوفى لها
وقال آخر:
رخيص عنده المهج الغوالي
كأن الموت في فكيه شهد
قال أبو تمام:
يستعذبون مناياهم كأنهم
لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
قال عبد الله بن أبي عيينة:
وأني من قوم كأن نفوسهم
بها أنف إن تسكن اللحم والدما
تصبر النفس في الحرب
قال الفرزدق وقد لقيه أسد :
لما سمعت له هماهم أجهشت
نفسي إلي تقول أين فراري
فربطت نفرتها وقلت لها اصبري
وشدت في ضنك المقام إزاري
وقال أبو تمام:
وحن للموت حتى ظن مبصره
بأنه حن مشتاقا إلى وطن
لو لم يمت تحت أسياف العدا كرما
لمات إذا لم يمت من شدة الحزن
المستأنف من موته حتف أنفه
قال عبد الملك الحارثي وأجاد:
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد السيف نفوسنا
وليست على غير السيوف تسيل
ويستحسنون الموت والموت راحة
وأتعب ميت من يموت بداء
مخاوض الحرب مقتول لا محالة
قال تأبط شرا:
ومن يغر بالأعداء لا بد في جند خالد
سيلقي بهم من مصرع الموت مصرعا
وقال آخر:
ومن يكثر التطواف في جند خالد
لدى الروم مصبوبا عليه دروعها
فلا بد يوما أن تحدث عرسه
إذا حدثت يوما حديثا يروعها
قصد العدا مجاهرة
أشار على الإسكندر أصحابه أن يبغت الفرس فقال: ليس من الإنصاف أن أجعل غلبتي سرقة.
قال السري:
ويجعل بشره نذر الأعادي
فيبعثها يمينا أو شمالا
ولم ينذرهم مقة ولكن
ترفع أن ينالهم اغتيالا
الضاحك في الحرب والعابس فيها
توصف الحرب تارة ببشاشة الوجه وطلاقته نحو قول النميري:
يفتر عند لقاء الحرب مبتسما
إذا تغير وجه الفارس البطل
وتوصف تارة بالعبوس، قال أبو تمام:
قد قلصت شفتاه من حفيظته
فخيل من شدة التعبيس مبتسما
المقاتل عن حريمه
ليم الإسكندر في مباشرته الحرب بنفسه فقال: ليس من الإنصاف أن يقتل قومي عني وأترك المقاتلة عنهم وعن أهلي ونفسي.
قال عنترة:
ومرقصة رددت الخيل عنها
وقد همت بإلقاء الزمام
قصد الغارات
كان العرب إذا قصدوا غارة ركبوا الإبل وجنبوا الخيل، فإذا انتهوا إلى المعركة ركبوا الخيل.
المستكف من السلب
قال أعشى همدان:
وأرى مغانم لو أشاء حويتها
فيصدني عنها حيا وتعفف
وقتل أمير المؤمنين رجلا، فأراد قنبر أن يأخذ سلبه فقال: يا غلام، لا تعر فرائسي.
وقال أبو تمام:
إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
وصف الشبان والكهول في الحرب
قال رجل لرجل: لأغزونك بمرد على جرد، فقال: لألقينك بكهول على فحول.
تفضيل الشبان في الحرب
قال طاهر بن الحسين:
هيب إذا لم يكن حرب بمكتهل
مجرب قوله يكفي من العمل
وأغش اللقاء إذ كان اللقاء به
سفك الدما بحديث السن مقتبل
فإذا ذا السن يلقي حتفه أبدا
ممثلا بين عينيه من الوجل
وذو الشباب له شأو يماطله
فلا يزال بعيد الهم والوجل
الخيول السريعة في الحرب
صقور على أثباج جرد قوابس
وأسد إذا ما كان يوم نزولها
تعويد الفرس على حبسه في المعركة
قال النابغة:
ونحن أناس لا نعود خيلنا
إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وقال أبو تمام:
إذا خرجت من الغمرات قلنا
خرجت حبائسا إن لم تعودي
كثرة الجيش
قيل: كجنح الليل أردف بالغيوم.
وقال المتنبي:
بجيش لهام يشغل الأرض جمعه
عن الطير حتى ما يجدن منازلا
القسم الثاني
في التهديد
من هدده السلطان فاستعان بالله
لقي الحجاج محمد بن الحنفية فقال له: نفسك فلأريقن دمك، فقال محمد: إن لله في كل يوم كذا كذا ألف نظرة يقضي في كل كذا كذا ألف، فعسى أن يشغلك بأمره.
تهديد سلطان شديد الوطأة
خطب الحجاج فقال: أيها الناس، من أعياه داؤه ومن استعجل أجله فعلي أن أعجله، إن الحزم والجد ألبساني سوء ظني وجعلا سيفي سوطي فنجاده في عنقي وقائمه في يدي.
وأحضر عبد الملك بن صالح للرشيد من حبسه، فلما مثل بين يديه أنشد الرشيد:
أريد حياته ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد
والله لكأني أنظر إلى شبوبها وقد همع، وإلى عارضها وقد لمع، وكأني بالوعيد وقد أورى نارا فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم! مهلا بني هاشم، فبي سهل الوعر وصفا الكدر، وألقت إليكم الأمور آنفا أزمتها فحذار من حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل، فقال عبد الملك: اتق الله فيما ولاك وراقبه فيما استرعاك، ولا تجعل الكفر موضع الشكر والعقاب موضع الثواب، ولا تقطع رحمك بعد صلتها، وقد جمعت القلوب على محبتك وأذللت همم الرجال لطاعتك، وكنت كما قال الشاعر:
ومقام ضيق فرجته
بلسان وبيان وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله
زل عن مثل مقامي وزحل
حث من تعرض لك أن يجربك
قال ابن أبي عيينة:
سيعلم إسماعيل أن دعوتي
له ريق أفعى لا يصاب دواؤها
من أوعد وقدم الإنذار
كتب إبراهيم بن العباس الصولي إلى أهل حمص: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يرى من حق الله تعالى استعمال ثلاث تقدم بعضهن على بعض، الأولى تقديم تنبيه وتوقيف، ثم ما يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا ينفع لحسم الداء غيرها.
أناة فإن لم تغن أعقب بعدها
وعيدا فإن لم يجد أغنت عزائمه
قال الشاعر:
ذروني ذروني ما كففت فإنني
متى ما تهيجوني تميد بكم أرضي
وأنهض في سرد الحديد عليكم
كتائب سودا طالما انتظرت نهضي
من يناوبه من لا يبالي به
أبرق رجل لآخر وأرعد فلما زاد أنشد:
قد هبت الريح طول الدهر واختلفت
على الجبال فما نالت رواسيه
تهدد من لا يبالي بتهديده
قال مقاتل بن مسمع لعباد بن الحصين: لولا شيء لأخذت رأسك، فقال: أجل ذلك الشيء سيفي، وقال:
تواعدني لتقتلني نمير
متى قتلت نمير من هجاها
قلة غناء الوعيد
قيل: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد.
وقال الشاعر:
مهلا وعيدي مهلا لا أبالكم
إن الوعيد سلاح العاجز الحمق
وقيل: من علامات العاقل ترك التهدد قيل إمكان الفرص، وعند إمكانها الوثوب مع الثقة بالظفر.
القسم الثالث
في فضل الأسلحة
قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».
وقيل: السيف حرز إذا جرد وهيبة إذا أغمد.
وقيل: الشرف مع السيف.
وقال جعفر بن محمد: السيف مفتاح الجنة والنار.
ووصفه بعضهم فقال: رئيس لهوه قطف الرءوس، ضحوك عبوس، وهزله خطف النفوس.
قال المتنبي:
والمشرفية لا زالت مشرفة
دواء كل كريم أو هي الوجع
تفضيل السيف على القلم
قال المتنبي:
حتى رجعت وأسيافي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
وقال أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
وفي ضده:
قيل للكاتب: إلام تدل بهذه القصبة؟ فقال: هو قصب، ولكنه يقطع العصب، إن القلم يقطع قضاء السيف ويفسخ حكم الحيف ويؤمن مسالك الخوف.
من في سيفه ورمحه الموت
قال ابن الحاجب:
لو قيل للموت انتسب لم ينتسب
يوم الوغى إلا إلى صمصامه
وقال شاعر آخر:
سيوفهم يوم الوغى
يلعبن بالأرواح
وقال ابن المعتز:
لنا صارم فيه المنايا كوامن
فما ينتضى إلا لسفك دماء
السيوف الماضية
قيل: كيف وجدت سيفه؟ فقال: هو على الأرواح كالأجل المتاح.
وقال إسحاق بن خلف:
ألقى بجانب أخضر
أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا
ء عليه أنفاس الرياح
وقال البحتري:
يغشى الوغى والترس ليس بجنة
من حده والدرع ليس بمعقل
مصغ إلى حكم الردى فإذا أمضى
لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
السيوف المصقولة
قال أبو الحيري:
وإذا ما سللته بهر الشمس
شعاعا فلم تكد تستبين
وكأن الفرند والرونق البا
دي على صفحتيه ماء معين
قال ابن المعتز:
في كفه عضب إذا هزه
حسبته من خوفه يرتعد
السيوف المتفللة من الضرب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وقال دعبل:
إذا الناس حلوا باللجين سيوفهم
رددت سيوفي بالدماء حواليا
وبضده هجاء عمارة بن عقيل:
ولا عيب فيه غير أن جياده
مسلمة ليست بهن كلوم
السيوف المتضرجة بدم المحارب
قال ابن الرفاء:
يكسوه من دمه ثوبا ويلبسه
ثيابه فهو كاسيه وساليه
الكتابة بالطعن والضرب
قال أحد الكتاب: جبينه طرس بالصفاح منمق وبالرماح محبر.
وقال آخر: خط ينمقه الحسام على جبينه.
تناول الرءوس بالرماح
قال البحتري:
قوم إذا شهدوا الكريهة صيروا
ضم الرماح جماجم الفرسان
أخذه من مسلم:
يكسو السيوف رءوس الناسكين به
ويجعل الهام تيجان القنا الذبل
وقال جرير:
كأن رءوس القوم فوق رماحنا
غداة الوغى تيجان كسرى وقيصر
طعن الأحداق والفؤاد
قال أبو تمام: سنان بحبات القلوب ممتع.
وأجاد المتنبي بقوله:
كأن الهام في الهيجا عيون
وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت من الأسنة من هموم
فما يخطرن إلا في الفؤاد
وقال الشريف أبو الحسين علي بن الحسين الحسني:
فأصبح أغماد السيوف عيونهم
وأكبادهم حلي الرماح الذوابل
ضرب وطعن تبين منهما الرأس
قال الجزلي:
نثرت على الخليج الهام حتى
كأن حصى الخليج طلي وهام
وقال الموسوي:
خطبنا بالظبا مهج الأعادي
فزقت والرءوس لها نثار
وقال الحارثي:
إذا ما عصينا بأسيافنا
جعلنا الجماجم أغمادها
الحاذق بالطعن والضرب
قال الموسوي:
وأسمر يهتز في راحتي
كما هزت القلم الإصبع
سقي الرماح والصفاح دم الأعداء
قال دعبل:
فأصبحت تستحيي القنا أن تردها
وقد وردت حوض المنايا صواديا
وقال السري:
إذا الحسام غدا سكران منتشيا
من الدماء سقوه أنفسا فصحا
الجاعل قواضيه بدل المعاتبة
قال عمرو بن إبراهيم:
ليس بيني وبين قيس عتاب
غير طعن الكلى وضرب أرقاب
وقال آخر:
دنوت له بأبيض مشرفي
كما يدنو المصافح للسلام
وصل السيوف
يروى أن فتى من الأزد دفع إلى المهلب بن أبي صفرة سيفا له وقال: كيف ترى سيفي يا عم؟ فقال المهلب: سيفك جيد إلا أنه قصير، فقال: أصله بخطوة، فقال: يا ابن عمي المشي إلى الصين على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة، ولم يقل المهلب هذا جبنا، وإنما أراد توجيه الصورة.
قال الشاعر:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا
قدما ونلحقها إذا لم تلحق
وقال آخر:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
وصف شجاع ذي رماح
سئل أعرابي عن قوم فقال: أسود الغاب تحمل غابها.
قال البحتري:
إذا بدوا في حرجات القنا
ترى أسود الأرض في غابها
من جعل معاقلة الأسلحة والخيول
قال أبو الغمر:
إذا لاذ منه بالحصون عدوه
فليس له إلا السيوف حصون
وقال آخر: إن الخيول معاقل الأشراف.
وقال غيره: وليس لنا إلا الأسنة معقل.
من لاذ بالقواضب واستعان بها
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت
قواضب في إيماننا تقطر الدما
قال الموسوي:
ألف الحسام فلو دعاه لغارة
عجلان لباه بغير نجاد
وقال طاهر بن الحسين:
سيفي رفيقي ومسعدي فرسي
والكأس أنسي وقنينتي خدي
من استطاب تناول الأسلحة
قال البحتري:
ملوك الرماح خواطرا
إذا زعزعوها والدروع مخاصرا
قال سلم بن قحفان:
فطيب الصدأ المسود أطيب عندنا
من المسك ذافته أكف ذوائف
النابي سيفه عن الضريبة
قال ورقاء بن زهير وقد ضرب فنبا سيفه:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد
فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فشلت يميني يوم أضرب خالدا
ويحصنه من الحديد المظاهر
وكان الفرزدق قد دفع له سيف بحضرة سليمان بن عبد الملك ليقتل به روميا، فضربه فلم يعمل فيه، فقال جرير:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع
ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
فهل ضربة الرومي جاعلة لكم
أبا ككليب أو أخا مثل دارم
فأجابه:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها
وتقطع أحيانا مناط القلائد
عذر من يكثر لبس الدرع في الحرب
روى الجراح بن عبد الله وقد لبس درعين في بعض الحروب فأكثر ناظره النظر إليه فقال له: والله يا هذا ما أقي بدني وإنما أقي صبري، فأخبر بذلك سعيد بن عمرو وكان من فرسان الشام فقال: صدق؛ لأن لامة الإنسان حظيرة نفسه.
عوتب يزيد بن يزيد في إحكامه الدرع فقال: إن الله تعالى مع قضائه الأمور المحتمة أمر بالحذر وذكر ما في صنعه اللبوس.
قلة غناء الدرع عند حضور الأجل
سئل ابن الحسين: في أي الجنن تحت أن تلقى عدوك؟ قال: في أجل مستأخر.
وقيل لأحدهم: أي الجنن أوقى؟ قال: العافية.
وقيل لآخر: لو استرحت؟ فقال: كفى بالأجل حارسا.
وصف الدروع
قال المتنبي:
يخط فيها العوالي ليس ينفذها
كان كل سنان فوقها قلم
ويستحسن لابن المعتز:
كأنها ماء عليه جرى
حتى إذا ما غاب فيه جمد
المستغني بجلادته عن التدرع والتقنع
قال أبو تمام:
إذا رأوا للمنايا عارضا لبسوا
من اليقين دروعا ما لها زرد
وقال مسلمة:
علي درع تلين المرهفات له
من الشجاعة لا من نسج داود
إن الذي صور الأشياء صورني
نارا من البأس في بحر من الجود
المجيد من الرماة
قال إسماعيل بن علي:
إذا تمطى قائما ثم انثنى
ومدها أحسن مد وانثنى
أرسل منها نافذا مسننا
سيان منه ما نأى وما دنا
يسوق أسباب النحوس والفنا
الرديء الرمي
نظر فليسوف إلى رام سهامه تذهب يمينا وشمالا، فقعد في موضع الهدف وقال: لم أر موضعا أسلم من هذا.
ورمى المتوكل عصفورا فأخطأه فقال له ابن حمدون: أحسنت.
فقال: تهزأ بي؟ فقال: أحسنت على العصفور.
وصف جماعة الأسلحة
سأل عمر بن الخطاب عمر بن معدي كرب فقال: ما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك، قال: فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب.
قال: فالدرع؟ قال: مشغلة للفارس متعبة للراجل، وإنها لحصن حصين.
قال: فالترس؟ قال: مجن، وعليه تدور الدوائر.
قال: فالسيف؟ قال: عنده ثكلتك أمك، قال عمر: بل أنت.
المحاربة بالحجر
أوصى أحد الأعراب ابنه وقد أرسله إلى محارة بعض أقرانه فقال: يا بني، كن بذا لأصحابك على ما فاتك، وإياك والسيف فإنه ظلة الموت، وألق الرمح، فإنه رسول المنية، ولا تقرب السهام؛ فإنها لا تؤامر مرسلها، قال: فبم أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر:
جلاميد إملاء الأكف كأنها
رءوس رجال حلفت في المواسم
أصوات الأسلحة
قال الحارث بن حلزة:
وحسبت سيوفنا برءوسهم
وقع السحاب على الطراف المشرج
وقال هلال:
تصيح الردينيات فينا وفيهم
صياح بنات الماء أصبحن جوعا
وقال آخر: تنق عواليهم نقيق الضفادع.
إيجاب المحاربة على المتسلح وتبكيته لتقصيره فيها:
قال ابن مرداس:
فعلام إن لم أشف نفسا حرة
يا صاحبي أجيد حمل سلاحي
قال المتنبي:
إذا كنت ترضى أن أعيش بذلة
فلا تستعدن الحسام اليمانيا
ولا تستطيلن الرماح لغارة
ولا تستجيدن العتاق المذاكيا
الاستظلال بالأسلحة
قال أعرابي من بني أسد:
وفتيان ثنيت لهم ردائي
على أسيافنا وعلى القسي
وقال:
وما اتخذوا إلا الرماح سرادقا
وما استتروا إلا بضوء الهازم
ذل العذل في الحرب
قال الشاعر:
فمن يك معزال اليدين فإنه
إذا كشرت عن نابها الحرب حامل
من صاحبته الطيور والسباع
أول من وصف ذلك النابغة الذبياني فقال:
إذا ما غزوا بالجيش حاق فوقهم
عصائب طير تهتدي بعصائب
وقال أبو تمام:
وقد ظلت عقبان أعلامه ضحى
بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها
من الجيش إلا أنها لم تقاتل
وقال بشار:
إذا ما غزا بشرت طيره
بفتح وبشرنا بالنعم
المتزين بالجراحات
قال يعقوب بن يوسف:
وخيل تعجز الإرسال عنها
مزينة بأنواع الجراح
قال سلم الخاسر:
ولا خير في الغازي إذا آب سالما
إلى الحمى ولم يتحدد
المتضرج بالدم
قال البحتري:
سلبوا وأشرفت الدماء عليهم
محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقال آخر:
تضرج منهم كل خد معفر
وعفر منهم كل خد مضرج
القسم الرابع
في طلب الثأر والدية والرخصة في الاقتصاص
قال الله تعالى:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم .
1
والجروح قصاص فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل.
قال الجاحظ: كانت الدية والصدقة مما عند الرجل إن تمرا فتمر، وإن شاء فشاء، وكانوا يعيرون من ديته التمر، قال الشاعر:
ألا أبلغ بني وهب رسولا
بأن التمر حلو في الشتاء
فعير في هذا بشيئين: بأخذ الدية وبأن ديتهم التمر.
التعيير بترك الثأر والحث على أخذه
روي أن أعرابيين أصابهما قحط، فانحدروا إلى العراق جائعين، فوطئت رجل أحدهما فرس لفارس فأدمتها، وكان يسمى «حيدان» فتعلقا به وأخذا الدية، وكانا جائعين، فقصدا السوق وابتاعا طعاما، فأكلا فقال الآخر:
فلا حيرة ما دام في الناس سوقهم
وما بقيت في رجل حيدان إصبع
تحريم الملاهي على المحارب وطالب الثأر
روي أن أحد عمال عبد الملك بعث إليه بجارية اشتراها بعشرة آلاف دينار، فلما استحضرها وأنس بها دخل إليه رسول الحجاج بن عبد الرحمن بن الأشعث فأجاب عن كتابه وجعل يقلب كفيه وقال لها: ما دونك منية المتمني، فقالت: وما يمنعك؟ قال: بيت الأخطل:
قوم إذا حاربوا سدوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت بأخطار
فمكث ثلاث سنين وخمسة أشهر لا يقرب امرأة حتى أتاه خبر قتل ابن الأشعث فكانت أول امرأة تمتع بها.
وقال معاوية: ما ذقت أيام صفين لحما ولا حلواء، بل اقتصرت على الخبز حتى فرغت.
قال قيس بن الحطيم: حرام علينا الخمر إن لم نقاتل.
من حلت له الطيبات لإدراكه الثأر
قال الشاعر:
اليوم حل لي الشراب وما
كان الشراب يحل لي قبل
من نزع ثوب العار وانطلق لسانه
قال أخو إساف بن عباد اليشكري:
ألم يأتها أني صحوت وأنني
شفاني من دائي المخامر شاف
فأصبحت ظبيا مطلقا من أديمه
صحيح الأديم بعد داء إساف
وكنت مغطى في قناعي خفية
كشفت قناعي واعتطفت عطافي
وقال قاتل غالب:
وقد كنت محرور اللسان ومفحما
فأصبحت أدري اليوم كيف أقول
من لا يفوته الثأر
قال البحتري:
تذم الفتاة الرود شيمة بعلها
إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها
حمية شغب جاهلي وعزة
كليبية أعيا الرجال خضوعها
من قتل بعض ذويه اقتصاصا
قال قيس بن زهير:
شفيت النفس من حمل بن بدر
وسيفي من حذيفة قد شفاني
فإن أك قد بردت بهم غليلي
فلم أقطع بهم إلا بناني
قال أعرابي:
أقول للنفس تعزاء وتسلية
إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه
هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
القسم الخامس
في التحذير من الحرب وطلب الصلح
التحذير من تهييج الحرب والحث على الصلح
خطب سويد بن متحرق خطبة طويلة لصلح أمة فقال له رجل: أنت مذ اليوم ترعى في غير مرعاك، أفلا أدلك على المقال؟ فقال: نعم، فقال: أما بعد، فإن الصلح بقاء الآجال وحفظ الأموال والسلام، فلما سمع القوم ذلك تعانقوا وتوهبوا الديات.
وقيل: الحرب صعبة والصلح أمن ومسرة.
وقال عبد الله بن الحسين: إياك والمعادة؛ فإنك لن تعدم مكر حكيم أو مفاجأة لئيم.
وقال زيد بن حارثة: لا تستثيروا السباع من مرابضها فتندموا، وداروا الناس في جميع الأحوال تسلموا.
وقيل: الفتنة نائمة فمن أيقظها فهو طعامها.
وقال كثير:
رميت بأطراف الزجاج فلم يفق
عن الجهل حتى حكمته نصالها
التحذير من صغير يفضي إلى كبير
من أقوالهم: رب خطوة يسيرة عادت همة كبيرة.
وكتب نصر بن سيار إلى مروان بن محمد في أمر أبي مسلم صاحب الدولة أبيات أبي مهيم:
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالزندين تروى
وإن الحرب أولها كلام
أقول من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام
فإن يك قومنا أمنوا رقودا
فقل هبوا فقد آن القيام
ورأى أبو مسلم بن بحر في منشأ دولة الديلم هذه الأبيات مكتوبة على ظهر كتاب فكتب تحتها:
أرى نارا تشب بكل واد
لها في كل منزلة شعاع
وقد رقدت بنو العباس عنها
فأضحت وهي آمنة تراع
كما رقدت أمية ثم هبت
لتدفع حين ليس بها دفاع
وقال آخر: أول الغيث قطر ثم ينسكب.
من الحبة تنبت الشجرة العميمة ومن الجمرة تكون النار عظيمة.
قال صالح:
قد يحقر المرء ما يهوى فيركبه
حتى يكون إلى توريطه سببا
وصف الحرب بشدة
قال عمر بن الخطاب لعمر بن معدي كرب: أخبرني عن الحرب، فقال: هي مرة المذاق إذا شمرت عن الساق، من صبر فيها عرف، ومن ضعف عنها تلف.
وقيل: موطنان تذهب فيهما العقول: المباشرة والمسابقة.
ووصف رجل الحرب فقال: أولها شكوى وآخرها بلوى وأوسطها نجوى.
قال أبو تمام:
ومشهدين بين حكم الذل منقطع
حباله بحبال الموت تتصل
ضنك إذا خرست أبطاله نطقت
فيه الصوارم والخطية الذبل
إصابة الحرب جانيها وغير جانيها
العرب تقول: الحرب غشوم لأنها قد تنال غير جانيها.
وقال الشاعر:
لم أكن من جناتها علم الله
وإني لحرها اليوم صال
وقال ابن الرومي:
رأيت جناة الحرب غير كفاتها
إذا اختلف فيها الرماح الشواجر
التفادي من محاربة الأنذال
قصد الإسكندر موضعا، فحاربته النساء، فكف عنهن، فقيل له في ذلك فقال: «هذا جيش إذا غلبناه فما لنا به فخر وإن غلبنا فتلك فضيحة الدهر».
وقال الشاعر:
قبيل لئام إن ظفرنا عليهم
وإن يغلبونا يوجدوا شرا غالب
وقال عمرو بن الأهيم:
ليس بيني وبين قيس عتاب
غير طعن الكلي وضرب الرقاب
وقال الزبرقان:
فلن أصالحهم ما دمت ذا فرس
وأشد قبضا على الأسياف إبهامي
تبكيت من عرض عليه صلح فلم يقبله
قال ابن قيس:
ومولى دعاه الغي والغي كاسمه
وللجبن أسباب تصد عن الحزم
أتاني يشب الحرب بيني وبينه
فقلت له لا بل هلم إلى السلم
ولما أبى أرسلت فضلة ثوبه
إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
فكان صريع الجهل أول مرة
فيا لك من مختار جهل على علم
القسم السادس
في الهزيمة والخوف وأن الفرار لا يقي من الموت
قال الله تعالى:
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت .
وقال أمير المؤمنين يوم الجمل: إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهرب، وإن لم تقتلوا تموتوا، وإن أشرف الموت القتل.
تفضيل القتل على الهرب
قال سقراط لرجل هرب من الحرب: فضيحة، فقال الرجل: شر من الفضيحة الموت.
وقال سقراط: الحياة إذا كانت صالحة، وإذا كانت رديئة فالموت أفضل منها.
ولما قتل الإسكندر ملك الهند قال لحكمائه: لم منعتم الملك من الطاعة؟ قالوا: ليموت كريما ولا يعيش تحت الذل.
الممتنع من الفرار
قالت امرأة من عبد القيس:
أبوا أن يفروا والقضا في نحورهم
ولم يرتقوا من خشية الموت سلما
ولو أنهم فروا لكانوا أعزة
ولكن رأوا صبرا على الموت أحزما
تعيير من آثار الحرب فهرب
قال الحصيفي:
جنيتم علينا الحرب ثم ضجعتم
إلى السلم لما أصبح الأمر مبهما
المعير بانهزامه
قال الحجاج في كلامه: وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها لا يلوي الشيخ على بنيه ولا يسأل المرء عن أخيه.
وقال المنصور لأحد الخوارج: عرفني من أشد أصحابي إقداما فقال: لا أعرفهم بوجوهم؛ فإني لم أر إلا أقفائهم.
وقال قيس بن عطية: منحناهم الهزيمة ونفضنا عليهم العزيمة.
وقال الموسوي:
إذا ما لقيت الجيش أفنيت جله
ردى ورددت الفاصلين نواعيا
وقال شاعر:
إذا حاربوا لم ينظروا عن شمالهم
ولم يمسكوا فوق القلوب الخوافق
ترك أتباع المنهزم
أوصى الإسكندر صاحب جيش له فقال: حبب إلى أعدائك الهرب، قال: كيف أصنع؟ قال: إذا ثبتوا جد في قتالهم أو انهزموا لا تتبعهم.
وقيل لأمير المؤمنين: أنت رجل مجرب وتركب بغلة، فلو اتخذت الخيل، فقال: أنا لا أفر ممن كر ولا أكر ممن فر.
المتأسف على نجا ولم يؤسر
قال عوف بن عطية:
ولولا علالة أفراسنا
لزادكم القوم خزيا وعارا
وقال أبو تمام:
لولا الظلام وعلة علقوا بها
باتت رقابهم بغير قلال
فليشكروا جنح الظلام ودرودا
فهم لدرود والظلام موال
الفار في وقت الفرار والثابت في وقت الثبات
قال النحاسي: أنا شجاع إذا ما أمكنتني فرصة، وإن لم تكن لي فرصة فجبان.
وقيل: الهرب في وقته خير من الصبر في غير وقته.
وقيل: من هرب من معركة فعرف مصيره إلى مستقره فهو شجاع.
تفضيل الإحجام كونه أوفق على الأقدام
قال المهلب: الإقدام على الهلكة تضييع، كما أن الإحجام عن الفرصة عجز.
وقال المتوكل لأبي العيناء: إني لأخاف من لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين الكريم ذو خوف وإحجام، واللئيم ذو وقاحة وإقدام.
وقال مالك الأنصاري:
أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا
وأنجو إذا غم الجبان من الكرب
اعتذار هارب زعم أن هربه نبوة أو قدر
قال الشاعر:
أيذهب يوم واحد إن أسأته
بصالح أيامي وحسن بلائيا
ولم تر مني نبوة قبل هذه
فراري وتركي صاحبي ورائيا
وقال عبد الله بن غلفاء:
وليس الفرار اليوم عار على الفتى
إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
المتفادي من حضور الحرب
قيل لأحدهم لم لا تغزو؟ فقال: إني أكره الموت على فراشي، فكيف أسعى إليه برجلي؟
ورأى المعتصم في بعض منتزهاته أسدا، فنظر إلى رجل أعجبه زيه وقوامه وسلاحه، فقال له: أفيك خير؟ فعلم الرجل مراده، فقال: لا، فقال: لا؟! قبح الله سواك وضحك.
واجتاز كسرى في بعض حروبه برجل قد استظل بشجرة وألقى سلاحه وربط دابته فقال له: يا نذل، نحن في الحرب، وأنت بهذه الحالة؟ فقال: أيها الملك، إنما بلغت هذا السن بالتوقي.
وصف المحتج لانهزامه بخوفه من القتل
قيل لرجل إنك انهزمت فقال: غضب الأمير علي وأنا حي خير من أن يرضى وأنا ميت.
وقال الشاعر:
يقول لي الأمير بغير نصح
تقدم حين جد بنا المراس
وما لي إن أطعتك من حياة
وما لي بعد هذا الرأس راس
وقال آخر:
باتت تشجعني هند وما علمت
أن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته
ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم
إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أبغي فعالهم
لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
الهارب عن قومه
قيل: الشجاع يقاتل من لا يعرفه، والجبان يفر من عرسه، والجواد يعطي من لا يسأله، والبخيل يمنع من نفسه.
قال الشاعر:
يفر جبان القوم عن أم نفسه
ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
من نجا وقد استولى عليه الخوف
قال الشاعر:
فإن ينج منها الباهلي فإنه
قطيع نياط القلب دامي المقاتل
قالت عابدة المهلبية:
فإن ثبتوا فعمرهم قصير
وإن هربوا فويلهم طويل
تسلية المنهزم
لما انهزم أمية بن عبد الله لم يدر الناس كيف يهنئونه أو يعزونه، فدخل عبد الله بن الأهتم فقال: الحمد لله الذي نظر لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تقدمت للشهادة بجهدك ولكن علم الله حاجة الإسلام إليك فأبقاك له.
وقال شاعر:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة
لقلت عدو أو طليعة معشر
وقال آخر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
من زاد به الخوف
قال دعبل:
كأنما نفسه من طول حيرتها
منها على نفسه يوم الوغى رصد
المغلوب
كتب مروان إلى أحد الخوارج:
إني وإياك كالحجر للزجاجة، فالحجر إن وقع عليها رضها وإن وقعت عليه قضها.
استضعف ابن شبرمة رجلا فقال: أنت حجة خصمك وسلاح عدوك وفريسة قرنك.
شيوع المخافة
قال حسان:
تشيب الناهد العذراء منها
ويسقط من مخافتها الجنين
المصادر
أدب الكتاب لابن قتيبة.
الكامل في اللغة والأدب للمبرد.
البيان والتبيين للجاحظ.
كتاب النوادر لأبي علي القالى.
الأغاني لأبي فرج الأصفهاني .
العقد الفريد لابن عبد ربه.
المعلقات.
المفضليات.
الأصمعيات.
جمهرة أشعار العرب للقرشي.
حماسة أبي تمام.
حماسة البحتري.
Page inconnue