ترى الناس إجلالا له وكأنهم
غرانيق ماء تحت باز مصرصر
ثم أتبعت ذلك بأن قلت: كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم، وفي طاعتك لم يلحقهم سخطك ولم تحلل بهم نقمتك، ولم أكن في ذلك مبتدعا ولا خلا أحد من نظرائي من مدحهم، وكانوا قوما قد أظلني فضلهم وأغناني رفدهم فأثنيت بما أولوا، فقال يا غلام الطم وجهه، فلطمت والله حتى سدرت وأظلم ما كان بيني وبين أهل المجلس، ثم قال اسحبوه على وجهه.
ثم قال: والله لأحرمنك ولا تركت أحدا يعطيك شيئا في هذا العام، فسحبت حتى خرجت وانصرفت وأنا أسوأ الناس حالا في نفسي ومالي وما جرى علي، ولا والله ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعبدهم، فإذا شاب قد وقف علي ثم قال: اعذر علي والله يا كبيرنا بما جرى عليك، ودفع إلي صرة وقال: تبلغ بما في هذه، فظننتها دراهم فإذا هي ثلاثمائة دينار، فقلت له: من أنت جعلني الله فداك، قال: أنا أخوك أبو نواس فاستعن بهذه الدنانير واعذرني، فقبلتها وقلت: وصلك الله يا أخي وأحسن جزاءك.
كرم يحيى بن خالد البرمكي
استدعى هارون الرشيد رجلا من أعوانه يقال له صالح قبل الوقت الذي تغير فيه على البرامكة، فلما حضر بين يديه قال له: يا صالح سر إلى منصور وقل له: إن لنا عندك ألف ألف درهم، والرأي قد اقتضى أنك تحمل لنا هذا المبلغ في هذه الساعة، وقد أمرتك يا صالح أنه إن لم يحصل لك ذلك المبلغ من هذه الساعة إلى قبل المغرب أن تزيل رأسه عن جسمه وتأتيني به، فقال: سمعا وطاعة، وسار إلى منصور وأخبره ما ذكر أمير المؤمنين، فقال منصور: قد هلكت، فوالله إن جميع متعلقاتي وما تملكه يدي إذا بيعت بأغلى قيمة لا يزيد ثمنها على مائة ألف فمن أين أقدر يا صالح على التسعمائة ألف درهم الباقية؟ فقال له صالح: دبر لك حيلة تتخلص بها عاجلا وإلا هلكت، فإني لا أقدر أتمهل عليك لحظة بعد المدة التي عينها لي الخليفة، ولا أقدر أن أخل بشيء مما أمرني به أمير المؤمنين، فأسرع بحيلة تتخلص بها قبل أن تنصرم الأوقات، فقال منصور: أسألك من فضلك أن تحملني إلى بيتي لأودع أولادي وأهلي وأوصي أقاربي، قال صالح: فمضيت إلى بيته فجعل يودع أهله وارتفع الضجيج في منزله وعلا البكاء والصياح والاستغاثة بالله تعالى، فقال صالح: قد خطر ببالي أن الله يجعل لك الفرج على يد البرامكة فاذهب بنا إلى دار يحيى بن خالد.
فلما ذهب إلى يحيى بن خالد أخبره بحاله، فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه واستدعى خازن داره وقال له: كم في خزينتنا من المال، فقال له مقدار خمسة آلاف درهم، فأمر بإحضارها، ثم أرسل رسولا إلى ولده الفضل برسالة مضمونها: إنه قد عرض علي للبيع ضياع جليلة لا تخرب أبدا فأرسل لنا شيئا من الدراهم، فأرسل إليه ألف ألف درهم، ثم أرسل إنسانا آخر إلى ولده جعفر برسالة مضمونها: إنه قد حصل لنا شغل مهم ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فأنفذ له جعفر في الحال ألف ألف درهم، ولم يزل يحيى يرسل أناسا إلى البرامكة حتى جمع منهم لمنصور مالا كثيرا، وصالح ومنصور لا يعلمان بهذا الأمر، فقال منصور ليحيى: يا مولاي قد تمسكت بذيلك وما أعرف هذا المال إلا منك كما هو عادة كرمك فتمم لي بقية ديني واجعلني عتيقك، فأطرق يحيى وبكى وقال: يا غلام، إن أمير المؤمنين قد كان وهب لجاريتنا دنانير جوهرة عظيمة القيمة، فاذهب إليها وقل لها ترسل لنا هذه الجوهرة، فمضى الغلام وأتى بها إليه، فقال: يا صالح أنا ابتعت هذه الجوهرة لأمير المؤمنين من التجار بمائتي ألف دينار، ووهبها أمير المؤمنين لجاريتنا دنانير العوادة، وإذا رآها معك عرفها وأكرمك وحقن دمك من أجلنا إكراما لنا وقد تم الآن مالك يا منصور، قال صالح: فحملت المال والجوهرة إلى المنصور معي، فبينما نحن في الطريق إذ سمعته يتمثل بهذا البيت:
وما حبا سعت قدمي إليهم
ولكن خفت من ضرب النبال
فعجبت من سوء طبعه وردائته وفساده، وخبث أصله وميلاده، ورددت عليه وقلت له: ما على وجه الأرض خير من البرامكة ولا أخبث ولا أشر منك، فإنهم اشتروك من الموت وأنقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم ولم تحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار، بل قابلت إحسانهم بهذا المقال.
Page inconnue