مقدمة لجامع الكتاب
القسم الأول: في نوادر الخلفاء
هارون الرشيد والجارية وأبو نواس
الأصمعي وهارون الرشيد والجارية
ماردة وهارون الرشيد
هارون الرشيد والبنت العربية
إبراهيم الموصلي والرشيد والجارية
الرشيد والجارية
جارية أمير المؤمنين والشاب
المأمون وجاريته (1)
المأمون وجاريته (2)
المأمون ويحيى بن أكثم
المأمون والجارية
المأمون وجاريته والرسول
المأمون وأبو عيسى وقرة العين
المأمون والجارية نسيم
محمد بن هارون وجلساؤه الثلاثة
نصيب وعبد العزيز بن مروان
العاشق وعبد الملك بن مروان
المتوكل وعلي بن الجهم ومظلومة
جارية المهدي والتفاحة
المعتز بالله
المكتفي بالله
المستظهر بالله
المعتضد بن عباد وجاريته العبادية
المعتمد بن عباد والرميكية
حماد الراوية والخليفة يزيد
محمد بن عبد الله بن طاهر والجارية والمتوكل
عمر بن عبد العزيز وامرأته
عبد الله بن الأمين
هارون بن المعتصم
أبو يحيى القاضي وأحد الخلفاء
يزيد بن عبد الملك وجاريته حبابة
علية ابنة المهدي العباسية
المهدي والرجل
جارية يزيد بن عبد الملك والشاب
إبراهيم بن المهدي وجارية بنت عصمة
القسم الثاني: في نوادر بني عذرة
جميل بن معمر العذري وحبيبته بثينة
وعد بثينة لجميل
تأخير بثينة عن وعدها لجميل
لقاء جميل وبثينة
جميل وبثينة وكثير عزة
ندر أهل بثينة دم جميل
لقاء جميل وكثير عزة
احتجاب بثينة عن جميل
زيارة جميل بثينة متنكرا
وشاية الخادم بجميل وبثينة
هرب جميل عن أهله
وداع جميل لبثينة قبل سفره
عزة بثينة وجميل
عفاف جميل وبثينة
موت جميل ونعيه إلى بثينة
ما حدثته بثينة عن جميل
قيس بن ذريح العذري ولبنى بنت الحباب
جعد بن مهجع العذري وأسماء
أبو مالك بن النضر العذري وابنة عمه
ذرعة بن خالد العذري
مالك بن عقيل العذري ومعشوقته سعدى
عروة بن حزام وعفراء العذرية
مصرع عاشق من بني عذرة
كناس بني عذرة
القسم الثالث: في نوادر بني عامر
سبب عشق قيس لليلى العامرية
تجربة ليلى لقيس بن الملوح
مجنون ليلى وليلى والأمير
قيس بن الملوح وأمه وليلى
افتضاح أمر قيس وليلى
ذهاب قيس إلى الكعبة وزواج ليلى بغيره
هيام قيس ومكاتبته لليلى
لقاء زوج ليلى بقيس بن الملوح
كثير عزة ومجنون ليلى
مصرع قيس بن الملوح
راشد بن صفوان وهيفاء العامرية
العاشق المفارق
مالك العامري ومحبوبته
مصرع عاشق على قبر عشيقته
القسم الرابع: في نوادر الشعراء
صريع الغواني
صريع الغواني والرجل
صريع الغواني والكناس
صريع الغواني يرثي زوجة له
الحسن بن هانئ والجارية
أبو نواس والجارية جنان
أبو نواس وامرأة من الثقفيين
ما كتبته جنان لأبي نواس
عتاب أبي نواس وجنان
غضب أبي نواس ورضاؤه عليها
وصف أبي نواس لمحبوبته جنان
اعتلال أبي نواس لعلة جنان
فضل الشاعرة وزائرها
محمد بن العباس وفضل الشاعرة
فضل وأحد جلساء الخليفة
المتوكل وفضل الشاعرة وبنان
فضل الشاعرة وصديق ابن أبي طاهر
سعيد بن حميد وفضل الشاعرة
المتوكل وفضل الشاعرة
سعيد بن حميد وفضل الشاعرة
تخلف فضل عن سعيد بعد حبها له
العباس بن الأحنف
أبو العباس بن الأحنف
عنترة وعبلة
مفارقة عنترة لابنة عمه
أبو فراس الشاعر
علي بن زريق البغدادي وابنة عمه
علي بن الجهم وجارية له
علي بن الجهم وجارية المازني
حب كثير لعزة
كثير عزة والعجوز
كثير وعزة وغلامه
أبو العتاهية ومحبوبته عتبة
أبو دهبل الشاعر وعائلته
إبراهيم الموصلي وذات الخال
حمدة بنت زياد الشاعرة
أبو الشيص الشاعر
أسماء ومجيد
القسم الخامس: متفرقات من نوادر العشاق
نصيب وزينب
ابنة والي مصر وأحد عمال أبيها
غورك المجنون وإسحاق بن إبراهيم
عزة الميلاء والناسك عند أبي جعفر
شهاب الدين وفاطمة ابنة الخشاب
ابن دائب وجارية أخته
أبو ريحانة وحاملة القربة
عريب واليزيدي
عريب ومحمد بن حامد
سر عاشقة
بشار بن برد ومحبوبته عبدة
ما سمعه ابن عثام
غورك المجنون
أبو الأسدي والشاب
أبو الغصن الأعرابي وذات الوجه الصقيل
ابن أبي داود والجارية
الحارث بن زهير ولبنى
ذو الرمة وعصمة بن عبد الملك
أبو عثيرة الخياط وأبو محمد الدمشقي
أبو الفضل والجارية
مسلم بن جندب وجارية
أبو المهلهل الخزامي ومي
بكر بن النطاح والفتاة
ابن الجوزي وزوجته
أنس الوجود ومحبوبته ورد
دعبل الخزاعي والجارية
بدور بنت الجوهري وجبير الشيباني
الوزير والجارية
القسم السادس: في مصارع العشاق
المبرد وأصحابه والمجنون
الأصمعي وأحد العشاق
موت الفتاة بموت حبيبها
عمرو بن كعب وعقيلة ابنة أبي النجاد
عامر بن غالب وجميلة بنت إميل
عويمر العقيلي وابنة عمه
العاشق وعشيقته هلال
ابن عبد الرحمن بن عوف وابنة عمه
ابن العاص وجارية أحبها
اجتماع محبين بعد الموت
سهلان القاضي وأحد العشاق
شجاع والفتاة العفيفة
مصرع عاشق سمع آية الكتاب
محمد بن داود وإبراهيم بن نفطويه
جارية عبد الله بن جعفر وأحد الفتيان
امرأة مات حبيبها
الشريف البياضي والجارية
عبيد النعالي وأحد العشاق
المرقش وأسماء
مسعدة بن وائلة ورملة بنت أثيلة
الفتى العاشق
الأعرابي ومحبوبته
عبد الله بن المعمر وعتبة وريا بنت الغطريف
مصرع ثلاثة عشاق في يوم واحد
غسان بن جهضم وزوجته أم عقبة
شهيدة الوفاء
شهيدة الحب
مقدمة لجامع الكتاب
القسم الأول: في نوادر الخلفاء
هارون الرشيد والجارية وأبو نواس
الأصمعي وهارون الرشيد والجارية
ماردة وهارون الرشيد
هارون الرشيد والبنت العربية
إبراهيم الموصلي والرشيد والجارية
الرشيد والجارية
جارية أمير المؤمنين والشاب
المأمون وجاريته (1)
المأمون وجاريته (2)
المأمون ويحيى بن أكثم
المأمون والجارية
المأمون وجاريته والرسول
المأمون وأبو عيسى وقرة العين
المأمون والجارية نسيم
محمد بن هارون وجلساؤه الثلاثة
نصيب وعبد العزيز بن مروان
العاشق وعبد الملك بن مروان
المتوكل وعلي بن الجهم ومظلومة
جارية المهدي والتفاحة
المعتز بالله
المكتفي بالله
المستظهر بالله
المعتضد بن عباد وجاريته العبادية
المعتمد بن عباد والرميكية
حماد الراوية والخليفة يزيد
محمد بن عبد الله بن طاهر والجارية والمتوكل
عمر بن عبد العزيز وامرأته
عبد الله بن الأمين
هارون بن المعتصم
أبو يحيى القاضي وأحد الخلفاء
يزيد بن عبد الملك وجاريته حبابة
علية ابنة المهدي العباسية
المهدي والرجل
جارية يزيد بن عبد الملك والشاب
إبراهيم بن المهدي وجارية بنت عصمة
القسم الثاني: في نوادر بني عذرة
جميل بن معمر العذري وحبيبته بثينة
وعد بثينة لجميل
تأخير بثينة عن وعدها لجميل
لقاء جميل وبثينة
جميل وبثينة وكثير عزة
ندر أهل بثينة دم جميل
لقاء جميل وكثير عزة
احتجاب بثينة عن جميل
زيارة جميل بثينة متنكرا
وشاية الخادم بجميل وبثينة
هرب جميل عن أهله
وداع جميل لبثينة قبل سفره
عزة بثينة وجميل
عفاف جميل وبثينة
موت جميل ونعيه إلى بثينة
ما حدثته بثينة عن جميل
قيس بن ذريح العذري ولبنى بنت الحباب
جعد بن مهجع العذري وأسماء
أبو مالك بن النضر العذري وابنة عمه
ذرعة بن خالد العذري
مالك بن عقيل العذري ومعشوقته سعدى
عروة بن حزام وعفراء العذرية
مصرع عاشق من بني عذرة
كناس بني عذرة
القسم الثالث: في نوادر بني عامر
سبب عشق قيس لليلى العامرية
تجربة ليلى لقيس بن الملوح
مجنون ليلى وليلى والأمير
قيس بن الملوح وأمه وليلى
افتضاح أمر قيس وليلى
ذهاب قيس إلى الكعبة وزواج ليلى بغيره
هيام قيس ومكاتبته لليلى
لقاء زوج ليلى بقيس بن الملوح
كثير عزة ومجنون ليلى
مصرع قيس بن الملوح
راشد بن صفوان وهيفاء العامرية
العاشق المفارق
مالك العامري ومحبوبته
مصرع عاشق على قبر عشيقته
القسم الرابع: في نوادر الشعراء
صريع الغواني
صريع الغواني والرجل
صريع الغواني والكناس
صريع الغواني يرثي زوجة له
الحسن بن هانئ والجارية
أبو نواس والجارية جنان
أبو نواس وامرأة من الثقفيين
ما كتبته جنان لأبي نواس
عتاب أبي نواس وجنان
غضب أبي نواس ورضاؤه عليها
وصف أبي نواس لمحبوبته جنان
اعتلال أبي نواس لعلة جنان
فضل الشاعرة وزائرها
محمد بن العباس وفضل الشاعرة
فضل وأحد جلساء الخليفة
المتوكل وفضل الشاعرة وبنان
فضل الشاعرة وصديق ابن أبي طاهر
سعيد بن حميد وفضل الشاعرة
المتوكل وفضل الشاعرة
سعيد بن حميد وفضل الشاعرة
تخلف فضل عن سعيد بعد حبها له
العباس بن الأحنف
أبو العباس بن الأحنف
عنترة وعبلة
مفارقة عنترة لابنة عمه
أبو فراس الشاعر
علي بن زريق البغدادي وابنة عمه
علي بن الجهم وجارية له
علي بن الجهم وجارية المازني
حب كثير لعزة
كثير عزة والعجوز
كثير وعزة وغلامه
أبو العتاهية ومحبوبته عتبة
أبو دهبل الشاعر وعائلته
إبراهيم الموصلي وذات الخال
حمدة بنت زياد الشاعرة
أبو الشيص الشاعر
أسماء ومجيد
القسم الخامس: متفرقات من نوادر العشاق
نصيب وزينب
ابنة والي مصر وأحد عمال أبيها
غورك المجنون وإسحاق بن إبراهيم
عزة الميلاء والناسك عند أبي جعفر
شهاب الدين وفاطمة ابنة الخشاب
ابن دائب وجارية أخته
أبو ريحانة وحاملة القربة
عريب واليزيدي
عريب ومحمد بن حامد
سر عاشقة
بشار بن برد ومحبوبته عبدة
ما سمعه ابن عثام
غورك المجنون
أبو الأسدي والشاب
أبو الغصن الأعرابي وذات الوجه الصقيل
ابن أبي داود والجارية
الحارث بن زهير ولبنى
ذو الرمة وعصمة بن عبد الملك
أبو عثيرة الخياط وأبو محمد الدمشقي
أبو الفضل والجارية
مسلم بن جندب وجارية
أبو المهلهل الخزامي ومي
بكر بن النطاح والفتاة
ابن الجوزي وزوجته
أنس الوجود ومحبوبته ورد
دعبل الخزاعي والجارية
بدور بنت الجوهري وجبير الشيباني
الوزير والجارية
القسم السادس: في مصارع العشاق
المبرد وأصحابه والمجنون
الأصمعي وأحد العشاق
موت الفتاة بموت حبيبها
عمرو بن كعب وعقيلة ابنة أبي النجاد
عامر بن غالب وجميلة بنت إميل
عويمر العقيلي وابنة عمه
العاشق وعشيقته هلال
ابن عبد الرحمن بن عوف وابنة عمه
ابن العاص وجارية أحبها
اجتماع محبين بعد الموت
سهلان القاضي وأحد العشاق
شجاع والفتاة العفيفة
مصرع عاشق سمع آية الكتاب
محمد بن داود وإبراهيم بن نفطويه
جارية عبد الله بن جعفر وأحد الفتيان
امرأة مات حبيبها
الشريف البياضي والجارية
عبيد النعالي وأحد العشاق
المرقش وأسماء
مسعدة بن وائلة ورملة بنت أثيلة
الفتى العاشق
الأعرابي ومحبوبته
عبد الله بن المعمر وعتبة وريا بنت الغطريف
مصرع ثلاثة عشاق في يوم واحد
غسان بن جهضم وزوجته أم عقبة
شهيدة الوفاء
شهيدة الحب
نوادر العشاق
نوادر العشاق
تأليف
إبراهيم زيدان
مقدمة لجامع الكتاب
ما العاشق إلا غصن مورق أزهر في خلاله الحب فأثمر حلو العفاف، فهو لا يرتاح إلا إلى طير يشكو نوى إلفه، ولا يروق له في واسع الفلاة إلا تنسم ريح الصبا الحاملة شذا الحبيب ، فلله ما أحلى الحب إذا توشى ببرد الصفا، وما أبهى سناه إذا استمد من لظى القلب الطاهر نورا ساطعا بهيا؛ فهو لعمري السلم المؤدية إلى العلياء التي لا يرتقيها إلا قوم أنزلت على قلوبهم آيات العفاف، بل الروح السارية في النسيم سرى الصفاء في الهوى العذري أو الإقدام في قلب الفارس الشجاع، وحسبه وصفا أنه يطرق القلوب فيدمث الأخلاق، ويغشى الفؤاد فيوحي إليه شمائل تغني عن الشمول، ولله در ابن الفارض حيث يقول:
وبالحدق استغنيت عن قدحي ومن
شمائلها لا من شمولي نشوتي
وإليك ما جاء في العشق وذويه ملخصا من أقوال العرب:
قال العيني: سألت أعرابيا عن العشق فقال: هو أظهر من أن يخفى، وأخفى من أن يرى، كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى.
وقيل: لو لم يكن للعشق إلا أنه يشجع الجبان، ويصفي الأذهان، ويبعث حزم العاجز لكفاه شرفا.
قيل لرجل: ابنك قد عشق، فقال: عذب قلبه، وأبكى طرفه، وأطال سقمه.
وقيل: ذنوب العشاق ذنوب اضطرار لا اختيار، وما كان كذلك لم يستحق عقوبة.
وقال عبد الله بن جندب: خرجت فرأيت فتاة حسناء كأن وجهها الفضة فتمثلت بقول قيس بن ذريح:
خذوا بدمي إن مت كل خريدة
مريضة جفن العين والطرف فاتر
فقالت الفتاة: يابن جندب، إن قتيلنا لا يودى، وأسيرنا لا يفدى.
وقال الشاعر:
تشكى المحبون الصبابة ليتني
تحملت ما ألقاه من بينهم وحدي
فكانت لنفسي لذة الحب كلها
فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
وقال شاعر بني أسد:
إذا أمرتك النفس أن تتبع الهوى
فقل سامع للأمر منك مطيع
أراد أحدهم السفر وكان له ابنة عم يحبها فقال:
ولما تبدت للرحيل جمالنا
وجد بنا سير وفاضت مدامع
أشارت بأطراف البنان وسلمت
وأومت بعينيها متى أنت راجع
فقلت لها والقلب فيه حرارة
فديتك ما علمي بما الله صانع
سأل سعيد الهمذاني أعرابيا حضر مجلسه: ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. فقال: عذري ورب الكعبة، ثم سأله سبب ذلك فقال: لأن في نسائنا صباحة وفي فتياننا عفة.
قال بعض حكماء الهند: ما علق العشق بأحد عندنا إلا وعزينا أهله فيه.
قيل: إن بهرام جور ملك الفرس لم يرزق سوى ولد فأخذ في ترشيحه للملك وهو ساقط الهمة إلى أن اتفق المعلمون من الحكماء وغيرهم على أن لا نافع له غير العشق، فسلط عليه الجواري يعبثن به إلى أن علق بواحدة منهن، فأمرها الملك بالتجني عليه وأنها لا تطلب إلا رفيع الهمة ذا رغبة في العلم والملك، فكان بسبب ذلك من أجل ملوك الفرس وأعلمها.
قال بعضهم: العشق مجهول لا يعرف، ومعروف لا يجهل، هزله جد وجده هزل.
سأل المأمون ابن أكثم: ما العشق؟ فقال: سوانح للمرء تؤثرها النفس ويهيم بها القلب، وسأل ثمامة فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب مالك وملك قاهر، مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة، ملك الأبدان وأرواحه، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها وقياد ملكها وقوى تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله، وغمض في القلوب مسلكه، فقال له المأمون: أحسنت يا ثمامة، وأمر له بجائزة.
قيل لسعيد بن سالم: إن ابنك شرع في الرقيق من الشعر، فقال: لا بأس في ذلك فقد شرف وطرف ودق ورق. ووجد على صخرة مكتوبا: العشق ملك غشوم، مسلط ظلوم، دانت له القلوب وانقادت له الألباب وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ عامله، والتفكر جاسوسه، والشغف حاجبه، والهيام نائبه، بحر مستقره غامض، ويم تياره فائض، دقيق المسلك، عسير المخرج.
نظر رجل إلى معشوقته فغشي عليه، فقال حكيم: إنه من انفراج قلبه اضطرب جسمه. فقيل له: ما بالنا لا نكون كذلك عند النظر إلى أهلنا! فقال: محبة الأهل قلبية وهذه روحانية، فهي أدق وألطف وأعظم سريانا وفعلا. وقال الشاعر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقيل لبعض العلماء: إن ابنك قد عشق، فقال: الحمد لله، الآن رقت حواشيه، ولطفت معانيه، وملحت إشارته، وظرفت حركاته، وحسنت عباراته، وجلت شمائله، فواظب على المليح واجتنب القبيح .
وكانت العرب تفتخر بمن يطرق الحب قلبه حتى إن جواري بعض الخلفاء وغيرهم من العظماء كن يكتبن على العصائب وغيرها من البرد أبيات شعر تضمنت من الغزل أشهاه، ومن كئوس الأوصاف أرقه وأهناه، وإليك ذكر ما كتب على عصائب بعض الحسان:
قال أبو الحسن: دخلت على هارون الرشيد وعلى رأسه جوار كالتماثيل، فرأيت عصابة منظمة بالدر والياقوت مكتوب عليها بصفائح الذهب:
ظلمتني في الحب يا ظالم
والله فيما بيننا حاكم
ورأيت على عصابة أخرى:
ما لي رميت فلم تصبك سهامي
ورميتني فأصبتني يا رامي
وكتب على عصابة:
ألا بالله قولوا يا رجال
أشمس في العصابة أم هلال
وعلى غيرها:
أتهوون الحياة بلا جنون
فكفوا عن ملاحظة العيون
وكتبت ورد جارية الماهاني على عصابة لها وكانت تجيد الغناء مع فصاحتها وبراعتها:
تمت وتم الحسن في وجهها
فكل شيء ما سواها محال
للناس في الشهر هلال ولي
في وجهها في كل يوم هلال
قال علي بن الجهم: خرجت علينا عالج جارية خالصة تميس تيها وإعجابا وعلى طرتها مكتوب:
يا هلالا من القصور تجلى
صام طرفي لمقلتيك وصلى
لست أدري أطال ليلي أم لا
كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلي
ولرعي النجوم كنت مخلا
وخرجت إلينا منال وعليها درع خام مكتوب على جانبه الأيمن:
كتب الطرف في فؤادي كتابا
هو بالشوق والهوى مختوم
وعلى الأيسر مكتوب:
كان طرفي على فؤادي بلاء
إن طرفي على فؤادي مشوم
وكان على عصابة (ظبى) جارية سعيد الفارسي مكتوب بالذهب:
العين قارئة لما كتبت
في وجنتي أنامل الشجن
قال الحسن بن وهب: كتبت شعب على عصابة جاريتها:
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه
إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذرا عليك وإنني بك واثق
أن لا ينال سواي منك نصيبا
وكتب شفيع خادم المتوكل على عاتق قبائه الأيمن:
بدر على غصن نضير
شرق الترائب بالعبير
وعلى عاتقه الأيسر:
خطت صفيحة وجهه
في صفحة القمر المنير
وكتبت وصيف جارية الطائي على عصابتها:
فما زال يشكو الحب حتى حسبته
تنفس في أحشائه وتكلما
فأبكي لديه رحمة لبكائه
إذا ما بكى دمعا بكيت له دما
وكان على عصابة (مزاج) وهي من مواجن أهل بغداد:
قالوا عليك دروع الصبر قلت لهم
هيهات إن سبيل الصبر قد ضاقا
ما يرجع الطرف عنها حين يبصرها
حتى يعود إليه الطرف مشتاقا
وكتبت جارية الناطفي على عصابتها:
الهند والسمر في عيني إذا نظرت
فاغرب بعينيك يا مغرور عن عيني
فإن لي سيف لحظ لست أغمده
من صنعة الله لا من صنعة القين
وكتبت (حدائق) في كفها بالحناء:
ليس حسن الخضاب زين كفي
حسن كفي زين لكل خضاب
وخرجت (علينا) جارية حمدان وقد تقلدت سيفا محلى وعلى رأسها قلنسوة مكتوب عليها:
تأمل حسن جارية
يحار بوصفها البصر
مذكرة مؤنثة
فهي أنثى وهي ذكر
وعلى حمائل سيفها مكتوب بالذهب:
لم يكفه سيف بعينيه
يقتل من ساء بحديه
حتى تردى مرهفا صارما
فكيف أبقى بين سيفه
فلو تراه لابسا درعه
يخطر فيها بين صفيه
علمت أن السيف من طرفه
أقتل من سيف بكفيه
وكتبت واحدة على منطقة جاريتها منصف الكوفية:
جسدي من غمزة العين
ما إذا مست ينحل
وفؤادي رق حتى
كاد من صدري ينسل
بعض ما بي يصدع القلب
فما ظنك بالكل
قال أحمد بن عبد الله: رأيت على مروحة مكتوبا:
الحمد لله وحده
وللخيفة بعده
وللمحب إذا ما
حبيبه بات عنده
ورأيت في مجلس سريرا مكتوبا عليه بالذهب:
أشهى وأعذب من راح ومن ورد
إلفان قد وضعا خدا على خد
وضم إحداهما أحشاء صاحبه
حتى كأنهما للقرب في عقد
هذا يبوح بما يلقاه من حزن
وذاك يظهر ما يخفي من الوجد
ورأيت على عصابة:
وإن يحجبوها بالنهار فما لهم
بأن يحجبوا بالليل عني خيالها
قال الأصمعي: رأيت على باب الرشيد وصائف على عصابة واحدة منهن مكتوب:
نحن خود نواعم
من أراض مقدسه
أحسن الله رزقنا
ليس فينا منحسه
فاتق الله يا فتى
لا تدعني موسوسه
يقسم كتاب نوادر العشاق إلى ستة أقسام:
القسم الأول:
في نوادر الخلفاء.
القسم الثاني:
في نوادر بني عذرة.
القسم الثالث:
في نوادر بني عامر.
القسم الرابع:
في نوادر الشعراء.
القسم الخامس:
متفرقات من نوادر العشاق.
القسم السادس:
في مصارع العشاق.
القسم الأول
في نوادر الخلفاء
هارون الرشيد والجارية وأبو نواس
أرق الرشيد ليلة فقام يمشي في المقاصير فرأى جارية لطيفة الشكل بديعة المنظر فأيقظها، فقالت وقد علمت به: يا أمين الله ما هذا الخبر؟ فقال:
هو ضيف طارق في حيكم
يرتجي المأوى إلى وقت السحر
فقالت بسرور سيدي أخدمه
إن رضي بي وبسمعي والبصر
فلما أصبح أحضر أبا نواس وقال له: أجز «يا أمين الله ما هذا الخبر» فأنشد:
طال ليلي حين وافاني السهر
فتفكرت فأحسنت الفكر
قمت أمشي في مكاني ساعة
ثم أخرى في مقاصير الحجر
وإذا وجه جميل حسن
زانه الرحمن من بين البشر
فلمست الرجل منها موقظا
فرنت نحوي ومدت لي البصر
وأشارت وهي لي قائلة
يا أمين الله ما هذا الخبر
قلت ضيف طارق في حيكم
يرتجي المأوى إلى وقت السحر
فأجابت بسرور سيدي
أخدم الضيف بسمعي والبصر
فقال له: أكنت معنا، قال: لا، ولكن ألجأني الشعر إلى ذلك.
الأصمعي وهارون الرشيد والجارية
قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه جارية حسناء عليها لمة جعدة وذؤابة مسترسلة وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: «هذا ما عمل في طراز الله»، فقال: يا أصمعي صفها، فأنشأت أقول:
كنانية الأطراف سعدية الحشا
هلالية العينين طائية الفم
لها حكم لقمان وصورة يوسف
ونغمة داود وعفة مريم
فقال: أحسنت والله يا أصمعي، فهل عرفت اسمها؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، فقال: اسمها دنيا. فأطرقت ساعة ثم قلت:
إن دنيا هي التي
تملك القلب قاهره
ظلموها شطر اسمها
فهي دنيا وآخره
فسر هارون الرشيد من هذا الوصف سرورا عظيما.
ماردة وهارون الرشيد
عتبت ماردة على هارون الرشيد فكانت تظهر له الكراهة وتضمر له المحبة، فقال فيها:
تبدي صدودا وتخفي تحته صلة
فالنفس راضية والطرف غضبان
يا من وضعت له خدي فذلله
وليس فوقي سوى الرحمن سلطان
هارون الرشيد والبنت العربية
روي أن أمير المؤمنين هارون الرشيد مر في بعض الأيام وبصحبته جعفر البرمكي، وإذا هو بعدة بنات يستقين الماء، فعرج عليهن يريد الشرب وإذا إحداهن التفتت إليهن وأنشدت تقول:
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي وقت المنام
كي أستريح وتنطفي
نار تؤجج في العظام
دنف تقلبه الأكف
على بساط من سقام
أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من دوام
فأعجب أمير المؤمنين ملاحتها وفصاحتها وقال لها: يا بنت الكرام، أهذا من مقولك أم من منقولك؟ قالت: من مقولي، قال: إذا كان كلامك صحيحا فأمسكي المعنى وغيري القافية، فأنشدت تقول:
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي وقت الوسن
كي أستريح وتنطفي
نار تؤجج في البدن
دنف تقلبه الأكف
على بساط من شجن
أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من ثمن
فقال لها: والآخر مسروق، قالت: بل كلامي، فقال: إن كان كلامك أيضا فأمسكي المعنى وغيري القافية، فجعلت تقول:
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي وقت الرقاد
كي أستريح وتنطفي
نار تؤجج في الفؤاد
دنف تقلبه الأكف
على بساط من سهاد
أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من سداد
فقال لها: والآخر مسروق، قالت: بل كلامي، فقال لها: إن كان كذلك فأمسكي المعنى وغيري القافية، فقالت:
قولي لطيفك ينثني
عن مضجعي وقت الهجوع
كي أستريح وتنطفي
نار تؤجج في الضلوع
دنف تقلبه الأكف
على بساط من دموع
أما أنا فكما علمت
فهل لوصلك من رجوع
فقال لها أمير المؤمنين: من أي هذا الحي؟ قالت: من أوسطه بيتا وأعلاه عمودا، فعلم أمير المؤمنين أنها بنت كبير الحي. ثم قالت له: وأنت من أي رعاة الخيل؟ فقال: من أعلاها شجرة وأينعها ثمرة. فقبلت الأرض وقالت: أيدك الله يا أمير المؤمنين، ودعت له ثم انصرفت مع بنات العرب. فقال الخليفة لجعفر: لا بد من زواجها، فتوجه جعفر إلى أبيها وقال له: إن أمير المؤمنين يريد ابنتك، فقال: حبا وكرامة تهدى جارية إلى حضرة مولانا أمير المؤمنين، ثم جهزها وحملها إليه فكانت من أعز نسائه.
إبراهيم الموصلي والرشيد والجارية
قال إبراهيم الموصلي: قال لي الرشيد: بكر لنصطبح، فقلت: أنا والصبح فرسا رهان نستبق إلى حضرتك، فبكرت فإذا أنا به خال وبين يديه جارية كأنها غصن بان، حلوة المنطق، جميلة الصوت، وهي تنشد شعر أبي نواس:
توهمه طرفي فأصبح خده
وفيه مكان الوهم من نظري أثر
ومر بفكري خاطر فجرحته
ولم أر جسما قط يجرحه الفكر
وصافحه كفي فآلم كفه
فمن غمز كفي في أنامله عقر
فذهبت والله بعقلي حتى كدت أفتضح، فقلت: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه التي قال فيها الشاعر:
بها قلبي الغداة وقلبها لي
فنحن كذاك في جسدين روح
ثم قال لها غني فغنت:
تقول غداة البين إحدى نسائهم
لي الكبد الحرى فسر ولك الصبر
وقد خنقتها عبرة فدموعها
على خدها بيض وفي نحرها صفر
وشرب وسقاها، وقال: غن يا إبراهيم، فغنيت عن غير عمد ولا تحفظ أقول:
تشرب قلبي حبها ومشى به
تمشي حميا الكأس في جسم شارب
ودب هواها في عظامي فشقها
كما دب في الملسوع سم العقارب
ففطن لتعريضي وكانت جهلة مني، فأمرني بالانصراف ولم يدع بي شهرا ولا حضرت مجلسه، فلما كان بعد شهر دس إلي خادما معه رقعة مكتوب عليها هذه الأبيات:
قد تخوفت أن أموت من الوجد
ولم يدر من هويت بما بي
يا كتابي اقرأ السلام على من
لا أسمي وقل له يا كتابي
كف صب إليكم كتبتني
فارحموا غربتي وردوا جوابي
إن كفا إليكم كتبتني
كف صب فؤاده في عذاب
فأتاني الخادم بالرقعة، فقلت: ما هذه؟ قال: رقعة فلانة الجارية التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين، فأحسست بالقصة وعجبت من ذاك الأمر.
الرشيد والجارية
دخلت جارية على الرشيد للبيع فتأملها وقال لصاحبها: خذ بيدها وانطلق، ولولا كلف بوجهها وخنس بأنفها لاشتريتها، فأخذها وحينما بلغت الستر، قالت: يا أمير المؤمنين، ردني لأنشدك بيتين خطرا لي، فردها فأنشدت:
ما سلم الظبي على حسنه
كلا ولا البدر الذي يوصف
الظبي فيه خنس بين
والبدر فيه كلف يعرف
فسر الرشيد من فصاحتها واشتراها وقربها إليه.
جارية أمير المؤمنين والشاب
كان لأمير المؤمنين جارية حسناء تدعى قوت القلوب، فسافر يوما وتركها في قصره وحيدة فريدة، فوقع نظرها على شاب جميل الهيئة فأحبته كثيرا وأباحت بما عندها، فصد عنها خوفا من الخليفة فزاد حبها بامتناعه، فنظرت إليه نظرة الهائم وأنشدت تقول:
قلب المتيم كاد أن يتفتتا
فإلى متى هذا الصدود إلى متى
يا معرضا عني بغير جناية
فعوائد الغزلان أن تتلفتا
صد وهجر زائد وصبابة
ما كل هذا الأمر يحمله الفتى
فبكى وبكت من لوعة الحب والغرام وأنشدت تقول:
بديع الحسن كم هذا التجني
ومن أغراك بالإعراض عني
حويت من الرشاقة كل معنى
وحزت من الملاحة كل فن
وأجريت الغرام لكل قلب
ووكلت السهاد بكل جفن
وأعرف قبلك الأغصان تجنى
فيا غصن الأراك أراك تجني
وعهدي بالظبا صيدا فما لي
أراك تصيد أرباب المجن
وأعجب ما أحدث عنك أني
فتنت وأنت لم تعلم بأني
فلا تسمح بوصلك لي فإني
أغار عليك منك فكيف مني
ولست بقائل ما دمت حيا
بديع الحسن كم هذا التجني
المأمون وجاريته (1)
قال أبو حماد الموكبي: وصفت للمأمون جارية بكل ما توصف امرأة من الكمال والجمال، فبعث في شرائها، فأتي بها وقت خروجه إلى بلاد الروم، فلما هم ليلبس درعه خطرت بباله فأمر فخرجت إليه، فلما نظر إليها أعجب بها وأعجبت به، فقالت: ما هذا؟ قال: أريد الخروج إلى بلاد الروم، قالت: قتلتني والله يا سيدي، ثم انحدرت الدموع على وجنتيها كنظام اللؤلؤ وأنشأت تقول:
سأدعو دعوة المضطر ربا
يثيب على الدعاء ويستجيب
لعل الله أن يكفيك حربا
ويجمعنا كما تهوى القلوب
فضمها المأمون إلى صدره وأنشأ متمثلا يقول:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
وإذ هي تذري الدمع منها الأنامل
صبيحة قالت في العتاب قتلتني
وقتلي بما قالت هناك تحاول
ثم قال لخادمه: يا مسرور، احتفظ بها وأكرم محلها وأصلح لها كل ما تحتاج إليه من المقاصير والخدم والجواري إلى حين رجوعي، ثم خرج، فلم يزل الخادم يتعهدها ويصلح ما أمر به، فاعتلت علة شديدة أشفق عليها منها، ثم ورد نعي المأمون، فلما بلغها ذلك تنفست الصعداء وأنشدت وهي تجود بنفسها:
إن الزمان سقانا من مرارته
بعد الحلاوة أنفاسا وأروانا
أبدى لنا تارة منه فأضحكنا
ثم انثنى تارة أخرى فأبكانا
إنا إلى الله فيما لا يزال لنا
من القضاء ومن تلوين دنيانا
دنيا نراها ترينا من تصرفها
ما لا يدوم مصافاة وأحزانا
ونحن فيها كأنا لا نزايلها
للعيش أحياؤنا يبكون موتانا
المأمون وجاريته (2)
غضب المأمون يوما على جاريته عريب المغنية، وكان كلفا بها، فأعرض عنها وأعرضت عنه، ثم أسلمه الغرام وأقلقه الشوق حتى أرسل إليها يطلب مراجعتها، فلما اجتمعا لم تلتفت إليه، وكلمها فلم ترد عليه، فأنشأ يقول:
تكلم ليس يوجعك الكلام
ولا يذري محاسنك السلام
أنا المأمون والملك الهمام
ولكني بحبك مستهام
يحق عليك ألا تقتليني
فيبقى الناس ليس لهم إمام
المأمون ويحيى بن أكثم
أصبح المأمون وعنده عبد الله بن طاهر ويحيى بن أكثم، فغمز المأمون الساقي على إسكار يحيى، فسقاه حتى سكر، وبين يديهم هالة من الورد دفنوه فيها ونشروا عليه زهورها، فلما رآه المأمون ضحك كثيرا وأنشد بيتين أمر إحدى جواريه أن تغنيهما عند رأس يحيى، فغنت:
ناديته وهو ميت لا حراك
مكفن في ثياب من رياحين
وقلت قم قال رجلي لا تطاوعني
فقلت خذ قال كفى لا يؤاتيني
وجعلت تردد الصوت، فأفاق يحيى وهو تحت الورد، فأنشأ يقول مجيبا:
يا سيدي وأمير الناس كلهم
قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني
كما تراني سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضا وقد وهى بدني
ولا أجيب المنادي حين يدعوني
فاختر لنفسك قاض إنني رجل
الراح تقتلني والعود يحييني
المأمون والجارية
وعد المأمون جارية أن يأتي لزيارتها وأخلفها الوعد فكتبت إليه:
أرقت عيني ونامت
عين من هنت عليه
إن نفسي فاعذرنها
أصبحت في راحتيه
رحم الله رحيما
دل عيني عليه
فلما رأى رقعتها ضحك ولم يلبث أن زارها.
المأمون وجاريته والرسول
عتب المأمون على جارية من جواريه وكان كلفا بها فأعرض عنها وأعرضت عنه، ثم أسلمه الهوى وأقلقه الشوق حتى أرسل يطلب مراجعتها، فأبطأ عليه الرسول، فلما رجع أنشأ يقول:
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة
وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
وناجيت من أهوى وكنت مبعدا
فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
ونزهت طرفا في محاسن وجهها
ومتعت باستظراف نغمتها أذنا
أرى أثرا منها بعينيك لم يكن
لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا
فيا ليتني كنت الرسول وكنتني
وكنت الذي يقصي وكنت أنا المدني
المأمون وأبو عيسى وقرة العين
بينما كان المأمون عازما على الركوب ومبارحة القصر اعترضه علي بن هشام قائلا: يا أمير المؤمنين، عندي جارية اشتريتها بعشرة آلاف دينار وقد أخذت بمجامع قلبي وأريد أن أعرضها على أمير المؤمنين، فإن أعجبته ورضيها فهي له وإلا فيسمع منها شيئا من الغناء، فقال الخليفة: علي بها، فخرجت جارية كأنها قضيب بان، لها عينان فتانتان وحاجبان كأنهما قوسان، وعلى رأسها تاج من الذهب تحته عصابة مكتوب عليها:
جنية ولها جن تعلمها
رمى القلوب بقوس ما له وتر
فلما رآها المأمون تعجب من حسنها وجمالها، وكان إلى جانبه فتي يدعى أبو موسى فلما شاهد تلك الجارية وما هي عليه من الحسن والجمال وقع حبها في قلبه وبدت عليه علائم الاصفرار، فقال له المأمون: ما لك يا أبا عيسى قد تغير حالك؟ فقال: يا أمير المؤمنين بسبب علة تعتريني في بعض الأوقات، فقال له الخليفة: أتعرف هذه الجارية قبل الآن؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وهل يخفى القمر، ثم قال لها المأمون: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي قرة العين يا أمير المؤمنين، قال لها: غني لنا يا قرة العين، فأنشدت تقول:
إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب
جهارا فكن في الغيب أحفظ للود
والغ أحاديث الوشاة فقلما
يحاول واش غير هجران ذي ود
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يمل وأن البعد يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي ود
فلما فرغت من شعرها قال أبو عيسى: يا أمير المؤمنين، إذا افتضحنا استرحنا، أتأذن لي في جوابها؟ فقال له الخليفة: نعم، قل لها ما شئت، فكفكف دمع العين وأنشد هذين البيتين:
سكت ولم أقل: إني محب
وأخفيت المحبة في ضميري
فإن ظهر الهوى في العين مني
فدانية من القمر المنير
فأخذت العود قرة العين وأطربت بالنغمات وأنشدت تقول:
لو كان ما تدعيه حقا
لما تعلقت بالأماني
ولا تصبرت عن فتاة
بديعة الحسن والمعاني
لكن دعواك ليس منها
شيء سوى القول باللسان
فلما فرغت من شعرها جعل أبو عيسى يبكي وينتحب ويتوجع ويضطرب، ثم رفع رأسه وأنشد يقول:
تحت ثيابي جسد ناحل
وفي فؤادي شغل شاغل
ولي فؤاد داؤه دائم
ومقلة مدمعها هاطل
وكلما سالمني عاقل
قام لحيني في الهوى عاذل
يارب لا أقوى على كل ذا
موت وإلا فرج عاجل
فلما فرغ أبو عيسى من شعره وثب علي بن هشام فقبله وقال له: يا سيدي قد استجاب الله دعاك وسمع نجواك وأجابك إلى أخذها إن لم يكن لأمير المؤمنين غرض فيها. فقال المأمون: ولو كان لنا غرض فيها لآثرنا أبا عيسى على أنفسنا وساعدناه على قصده، ثم إنه دفعها إليه فعاش معها على ما يرام.
المأمون والجارية نسيم
كان المأمون مشغوفا بحب جارية تدعى نسيم، وكانت ذات عقل وأدب وفضل وكمال لا يفارقها ولا يهوى سواها، ففي ذات يوم نظر إلى جارية حسناء لطيفة اللون رشيقة القد فمال إليها لأنها كانت أحسن منها، وأعرض عن جاريته نسيم، فاغتمت لذلك ولم تجد حيلة لاستعطافه، وكانت لها جارية رومية ذات عقل وأدب ولطف قد كتمت أمرها عن المأمون، فاتفق أن المأمون اعتل جسمه قليلا ثم شفي فجعل الناس يدخلون عليه بأصناف التحف والهدايا، فأهدت إليه نسيم الجارية المذكورة هدية ومعها جام بللور وغطته بمنديل فاخر مكتوب عليه بالذهب هذه الأبيات:
اشرب بهذا الجام يا سيدي
مستمتعا بهذه الجارية
واجعل لمن أهداكها زورة
تحظى بها في الليلة الثانية
فأعجب المأمون ما رأى من الجام والجارية وبعث لها بكتاب يسترضيها فيه ثم عاد معها إلى سابق الود.
محمد بن هارون وجلساؤه الثلاثة
تنفس محمد بن هارون الأمين يوما في مجلسه أيام الحصار فالتفت إلى جليس له يدعى محمد بن سلام، وقال له: ويحك يا محمد أتراني؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول الشاعر:
ذكر الهوى فتنفس المشتاق
وبدا عليه الذل والإطراق
يا من يصبرني فأصبر بعده
والصبر ليس يطيقه العشاق
فقال: لا والله ما أصبتها، ثم التفت إلى جليس آخر، فقال: ويحك ألا تراني؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول الأحنف:
تذكرت بالريحان منك شمائلا
وبالراح عذبا من مقبلك العذب
فقال: لا والله ما أصبتها، ثم التفت إلى كوثر الخادم، فقال: ويحك ألا تراني؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ذكرت قول ابن نفيلة الغساني:
إن كان دهر بني ساسان فرقهم
فإنما الدهر أطوار دهارير
وربما أصبحوا يوما بمنزلة
تهاب صولتها الأسد المهاصير
فقال: أصبتها والله، ورفع منزلته.
نصيب وعبد العزيز بن مروان
دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له: هل عشقت يا نصيب؟ قال: نعم - جعلني الله فداءك - ومن العشق أفلتتني إليك البادية، قال: ومن عشقت؟ قال: جارية لبني مدلج فأحدق بها الواشون فكنت لا أقدر على كلامها إلا بعين أو إشارة فأجلس على الطريق حتى تمر بي فأراها، ففي ذلك أقول:
جلست لها كيما تمر لعلني
أخالسها التسليم إن لم تسلم
فلما رأتني والوشاة تحدرت
مدامعها خوفا ولم تتكلم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري
حياة جميع العاشقين بدرهم
العاشق وعبد الملك بن مروان
قال أبو ريحانة: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع يومين جلوسا عاما، فبينما هو جالس في مستشرف له وقد قدمت إليه أوراقا فيها مطالب بعض المحابيس رأى في ورقة منها مكتوبا: «إن رأى أمير المؤمنين أن يدع جاريته فلانة تغني ثلاثة أصوات ثم ينفذ في ما شاء من حكمه»، فاستشاط من ذلك غضبا وقال لي: علي بصاحب هذه الرقعة، فأحضرته بين يديه وهو غلام جميل الطلعة حسن المحيا، فقال له عبد الملك: أهذه رقعتك يا غلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وما الذي غرك مني؟ والله لأصنعن بك ما يرتدع به نظراؤك من ذوي الخسارة، ثم قال: علي بالجارية. فجيء بها من الخباء بوجه مشرق كالبدر وفي يدها عود لطيف الأوتار، فطرح لها الكرسي فجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام، فقال لها: غني يا جارية بشعر قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام ودنا
ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى
بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبة لظهور
فغنت، فخرج الغلام يمزق ثيابه من شدة الوله، فقال له عبد الملك: مرها تغنيك الصوت الثاني، فقال: غني بشعر جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذا لسعيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي
من الحب قالت: ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به
مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا
ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها
ويحيا إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية، فوقع الغلام مغشيا عليه ساعة ثم أفاق، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث، فقال: يا جارية، غني بشعر قيس بن الملوح المجنون:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة
غزال غضيض المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه من مستشرف، فلم يبلغ الأرض حتى تقطع، فقال عبد الملك: دعيه لقد عجل على نفسه، ولقد كنت حسبته على غير ما أرى، ثم أمر فأخرجت الجارية من قصره، وسأل عن الغلام، فقيل: غريب لا يعرف إلا أنه منذ ثلاثة أيام كان ينادي في الأسواق ويده على رأسه:
غدا يكثر الباكون منا ومنكم
وتزداد داري من دياركم بعدا
المتوكل وعلي بن الجهم ومظلومة
قال علي بن الجهم: دخلت يوما على المتوكل، فقال: يا علي، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: دخلت إلي الساعة جارية وقد كتبت على خدها بالمسك اسمي، فوالله ما رأيت سوادا في بياض أحسن منه في ذلك الخد، فقل فيه شعرا، فقلت: أمظلومة هنا؟ قال: نعم، وكانت مظلومة خلف الستارة فدعت بدواة وبادرتني بأبيات فقالت:
وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا
بنفسي خط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدها
لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من لملوك تملك مالكا
مطيعا له فيما أسر وأظهرا
ويا من مناها في السرائر جعفر
سقى الله من صوب الغمامة جعفرا
فأفحمت ولم أنطق وتغلبت على خواطري فما قدرت على حرف أقوله.
جارية المهدي والتفاحة
أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي مطيبة وكتبت فيها:
هدية مني إلى المهدي
تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبت
كأنها من جنة الخلد
فأجابها المهدي:
تفاحة من عند تفاحة
جاءت فماذا صنعت بالفؤاد
والله ما أدري أأبصرتها
يقظان أم أبصرتها في الرقاد
المعتز بالله
كان المعتز بالله رجلا فاضلا وعاشقا عفيفا، فقال يصف داء الحب في شعر، يقول:
لقد عرفت علاج الطب من وجعي
وما عرفت علاج الحب والجزع
جزعت للصبر والحمى صبرت لها
إني لأعجب من صبري ومن جزعي
وما أمل حبيبي ليتني أبدا
مع الحبيب ويا ليت الحبيب معي
وقال أيضا:
الله يعلم يا حبيبي أنني
منذ غبت عنك موله مكروب
يدنو السرور إذا دنا بك منزل
ويغيب صفو العيش حيث تغيب
المكتفي بالله
قال المكتفي بالله يصف سطوة الحب وعزه وولاءه:
من لي بأن يعرف ما ألقى
فيعرف الصبوة والعشقا
ما زال لي عبد وحبي له
صيرني عبدا له رقا
يعتق من رقي ولكنني
من حبه لا أملك العتقا
المستظهر بالله
قال المستظهر بالله يصف وداع الحبيب حبيبه:
أذاب حر الهوى في القلب ما جمدا
يوما مددت على رسم الوداع يدا
فكيف أسلك نهج الصبر حيث أرى
طرائق الهجر في مهوى الهوى قددا
المعتضد بن عباد وجاريته العبادية
كان للمعتضد جارية أديبة ظريفة، كاتبة، فصيحة العبارة، لطيفة الإشارة، عارفة بأساليب الغناء، وكان قد أهداها إليه مجاهد العامري، فمال إليها ميلا شديدا وشغف بها شغفا زائدا حتى إنها ألهته عن بعض أموره، وكانت من توقد قريحتها وحضور بديهتها ترتجل الشعر والأمثال، فبينما كانت يوما نائمة في بيتها وكان المعتضد سهران دخل عليها وهي نائمة فقال:
تنام ومدنفها يسهر
وتصبر عنه ولا يصبر
فانتبهت من نومها وأجابته بديهة:
لئن دام هذا وهذا له
سيهلك وجدا ولا يشعر
المعتمد بن عباد والرميكية
ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار وزيره وقد زردت الريح النهر، فقال ابن عباد لوزيره: أجز «صنع الريح من الماء زرد»، فأطال الوزير الفكرة، فقالت امرأة من الموجودات على ضفة النهر: «أي درع لقتال لو جمد». فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار ونظر إليها فإذا هي غاية في الحسن والجمال، فأعجبته، فسألها: أذات بعل أنت؟ قالت: لا، قال: وما اسمك؟ قالت: الرميكية، فتزوجها وولدت له أولادا.
حماد الراوية والخليفة يزيد
قال حماد الراوية: كنت محبا للوليد بن عبد الملك، فلما ولي أخوه يزيد الخلافة هربت إلى الكوفة، فبينما أنا في المسجد الأعظم إذ أتاني رسول محمد بن يوسف الثقفي، وقال: أجب الأمير، فدخلت عليه، فقال: ورد كتاب أمير المؤمنين علي يحملك إليه، وبالباب نجيبان فركب أحدهما ودفع إلي كيسا فيه ألف دينار، وقال: هذه نفقة لمنزلك، فدخلت دمشق في اليوم الثامن واستأذن لي الرسول فدخلت عليه فإذا هو جالس في دار مبلطة بالرخام الأحمر وفيها سرادق وسط قبة حمراء، وعلى رأسه جاريتان بثياب حمراء بيد إحداهما إبريق وبيد الأخرى نبيذ، فلما قابلته قال لي: ادن يا حماد، أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: في بيت شعر ذهب عني أوله، قلت: من أي بحر أو قافية؟ قال: لا أدري إلا أنه بيت فيه (إبريق)، فقلت في نفسي: الآن وقت إجهاد الفكرة، ففكرت ساعة ثم قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، لعله قول التبع اليماني:
بكر العاذلون في وضح الصبح
يقولون لي: أما تستفيق
ويلومون فيك يا بن عبيد الله
والقلب عنكم مرهوق
لست أدري إذا كثر العذل فيها
أعدو يلومني أو صديق
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت
قينة في يمينها إبريق
فصاح يزيد وقال: هو والله الشعر بعينه وشرب، وقال: يا جارية اسقيه، فسقتني كأسا أذهب ثلث عقلي، فقال: سل حاجتك قبل أن يذهب الثلث الآخر، فقلت: إحدى هاتين الجاريتين، فقال: هما لك بمالهما وما عليهما ومائة ألف تحسن بها سيرك، ثم ناولتني الجارية كأسا فشربتها وانصرفت على أحسن حال.
محمد بن عبد الله بن طاهر والجارية والمتوكل
بينما كان محمد بن عبد الله بن طاهر في الحج رأى في الطواف جارية في نهاية الحسن فوقع حبها في قلبه، فعمل على أخذها له وعاد إلى حيث كان، فلما قدم مدينة دار السلام شغف بها شغفا شديدا وأخفى أمرها وما يجده خوفا من أمير المؤمنين المتوكل، وكان من شدة وجده بها يحتبس عندها أياما لا يظهر للناس في خلالها، ففطن إليه سويد بن أبي العالية صاحب البريد، وكان بينه وبين محمد منافرة لم يجد لها كيدا إلا أن كتب إلى المتوكل وهو نازل على أربعة فراسخ من بغداد كتابا نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن محمد بن عبد الله بن طاهر اشترى جارية حسناء لا يفارقها أبدا وقد اشتغل بها عن النظر في أمور الناس وعن التوقيع في دعاوى المظلومين، ولا يأمن أمير المؤمنين من خراب يصيب بغداد مع كثرة ما فيها من الغوغاء فتكون العائدة سببا لتعب سره».
ثم ختم الكتاب وسلمه إلى بعض المماليك فأوصله إليه، فلما قرأ المتوكل ذاك الكتاب نظر إلى نرجس الخادم وقال له: امض الساعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وادخل إلى منزله بغتة من غير إذن وانظر إلى ما يصنع، ثم خذ منه جاريته فلانة وائت بها من غير تأخير، فحضر نرجس من ساعته ودخل على محمد بن طاهر دون أن يطلب الإذن، فلم يشعر محمد إلا وهو واقف أمامه، فتغير وجهه وامتقع لونه وفاضت عيناه وارتعدت فرائصه لعلمه أن نرجسا ما دخل عليه من غير إذن إلا وقد أضمر له السوء، فقال له: يا نرجس ما الذي أتي بك؟ قال: أمير المؤمنين أمرني أن آخذ جاريتك هذه، قال: يا نرجس هذا اليوم قد حضر شره وغاب خيره وقد ترى ما نحن فيه وأنا لا أخالف ما أمر به أمير المؤمنين، ثم أمر للخادم بكرسي فجلس عليه بعد أن امتنع ساعة، وقال: إن مثلي لا يجلس مع مثلك، ثم إن محمدا نظر إلى الجارية وبكى بكاء شديدا، وقال لها: غني لأتزود منك، فأخذت العود وغنت بصوت حزين:
لله من لمعذبين رماهما
بشماتة العذال والحساد
أما الرحيل فحين جد تحملت
مهج النفوس به من الأكباد
من لم يبت والبين يصدع شمله
لم يدر كيف تفتت الأكباد
ثم إنهما أعلنا بالبكاء والنحيب والشهيق فرحمهما الخادم ورق لهما حين عاين ما حل بهما، فقال: أيها الأمير إن رأيت أن أمضي وأدعكما على ما أنتما عليه وأتعلل عنكما لأمير المؤمنين فعلت، فقال: يا نرجس، من خلقه مثل أبي سويد كيف يمكنه التعلل ولكن ارفق بنا. فقالت الجارية: والله يا سيدي لا ملكني غيرك أبدا، ولئن دفعتني إليه لأقتلن نفسي، فقال لها محمد: لو كان غير أمير المؤمنين لكان في ذلك أوسع حيلة، ولقد وددت أن يأخذ أمير المؤمنين جميع ما أملك ويعزلني عن عملي ويبيعك لي ولكن هذا قضاء الله وقدره، ثم التفت إلى نرجس، وقال: لقد شاهدت مني ومن هذه الجارية ما شهد قلبك علينا بالمحبة والمودة والألفة، وليس يخفى عليك أن عمل المعروف يقي مصارع السوء ومثلك من يصنع المعروف مع مثلي، فخذها وامض بها إلى أمير المؤمنين وقل ما شئت مما يليق بمروءتك، ثم التفت إليها وقبلها وبكى وبكت وبكى نرجس ثم أخذها وخرج وهي تبكي وتخمش وجهها، ثم سار حتى دخل بها على أمير المؤمنين، فلما رآه قال: ما وراءك؟ قال: ورائي يا أمير المؤمنين كل بلية، ثم إنه جلس بين يديه وقص عليه حالهما ولم يخف شيئا، فقال المتوكل: كل هذا الوجد يجده محمد من هذه الجارية! فقال: يا أمير المؤمنين والذي خفي أكثر مما ظهر وما أظنه يعيش بعدها، فرق له قلب المتوكل، وقال: يا نرجس، ارجع بها إليه الساعة من وقتك هذا وأدركه قبل أن تزهق روحه وقد أمرت له بمائة ألف درهم ولها مع ذلك مثله وجعلت أمر أبي سويد إليه يصنع به ما يشاء، ثم كتب له توقيعا بذلك دفعه إلى نرجس، فرجع الخادم بالجارية والتوقيع ولم يتمهل حتى دخل عليه فوجده عريانا يتقلب على الثرى من شدة الكرب والوجد وقد أحدقت به الجواري يروحنه بالمراوح، فقال: أبشر يا محمد، إن أمير المؤمنين قد رد جاريتك عليك من غير أن يوقع نظره عليها، وقد حكمك في أبي سويد، ثم ناوله التوقيع بذلك ودخلت الجارية عليه، فوثب إليها وعانقها وقبلها ساعة ثم خرج فجلس على باب داره وبعث إلى أبي سويد، فلما حضر دفع إليه التوقيع، فلما قرأه قال: أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وإن تهدم مني ركنا أنت شيدته وتصنع معي جميلا فمثلي من هفا ومثلك من عفا، ثم قام وقبل الأرض بين يديه، فقال له محمد: لا أبدل نعمة الله كفرا ثم أمر له بخمسين ألف درهم، فقالت الجارية: وأنا أيضا أهب له مثل هذه الهبة مما وهبه لي أمير المؤمنين، ثم ذهب أبو سويد وبقيا بعد ذلك في أطيب عيش وأحسن حال.
عمر بن عبد العزيز وامرأته
كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر لما اشتغل عنها بالعبادة:
ألا يأيها الملك الذي قد
سبى عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلا
وجرت علي من بين العباد
وأعطيت الرعية كل فضل
وما أعطيتني غير السهاد
فلما قرأ الأبيات صرف وجهه إليها.
عبد الله بن الأمين
كان عبد الله بن الأمين جميلا فاضلا، فرأى يوما فتاة لطيفة فأنشد فيها:
جاز على وجنته مدمعه
وزال عمن قد رجا مطمعه
في حب ظبي لك من وجهه
إذا تجلى قمر يطلعه
قد أعطي الحسن مليكا فيما
أصبح عنه أحد يمنعه
في خده من صدغه عقرب
تلسع من شاء ولا تلسعه
هارون بن المعتصم
قال هارون بن المعتصم في فتاة حسناء كان قد رآها ووقع في حبها وهواها:
وشادن يفضح بدر الدجى
والبدر في ليلته يزهر
يجحد أني مستهام به
فهو لقولي أبدا ينكر
وقد كساني سقمي حلة
تظهر من وجدي الذي أفكر
يكفيك مني شاهد أنني
إليك من دون الورى أنظر
أبو يحيى القاضي وأحد الخلفاء
كان أبو يحيى القاضي في زمان أحد الخلفاء، وكان لا يشرب الخمر بل ينهى دائما عن شربه حتى إنه نهى الملك نفسه، فاغتاظ الملك لهذا الأمر وأضمر ذلك في نفسه، وكان عنده جارية حسناء تدعى «نصيبين»، لطيفة القد، فتانة الملامح، فدعا بها يوما وقال: يا نصيبين، اذهبي غدا إلى البستان واصعدي إلى المقصورة العالية فإنني من الآن أهيئ هناك من المأكول وغيره ما يصلح للمقام، فادخلي المخدع الذي يقاربها واختبئي فيه حين قدومي مع أبي يحيى القاضي، وبعد الفراغ من الطعام أذهب أنا إلى البستان وأدع لك أبا يحيى وحيدا في القصر، فاخرجي أنت وأصلحي العود وقدمي بين يديه المدام وزيدي في الغناء له حتى يذهب عن هداه، فقالت: سمعا وطاعة أيها الملك، وفي الغد دخلت البستان وفعلت ما أمرها به، ولم يمض إلا القليل حتى جاء الملك مع أبي يحيى القاضي فجلسا يتسامران إلى أن حضر الطعام فأكلا، ثم قام الملك، وقال: يا أبا يحيى ابق هنا إلى أن أعود إليك، ثم نزل إلى البستان وأشار إلى نصيبين فخرجت للحال وسلمت على أبي يحيى فرد عليها السلام فأخذت العود وأصلحت أوتاره وغنت:
نظري إلى وجه الحبيب نعيم
وفراق من أهوى علي عظيم
وأنا الذي ما كنت أرحم عاشقا
حتى عشقت وها أنا المرحوم
يا غارس الريحان حول خيامنا
لا تغرس الريحان لست تقيم
ما كل من ذاق الهوى عرف الهوى
أو كل من شرب المدام نديم
ما لي لسان أن أقول ظلمتني
والله يعلم أنني مظلوم
فطرب أبو يحيى من غنائها ولاحت عليه علائم الانبساط، فلما آنست منه ذلك رمت العود من يدها وأخذت الجام وسكبت المدام وقدمت له كأسا منها، فامتنع أبو يحيى عن أخذها، فصارت تلاعبه تارة وتمازحه أخرى إلى أن شرب منها، وما زالت تهيجه بمغناها حتى ترنح من الطرب فصار يطلب منها كأسا بعد أخرى حتى أخذ منه السكر ومالت به هزة الطرب فاستلقى على ضمة من زهر الرياحين وهو غائب عن وجوده، وإذا بالملك أقبل فرآه على ذي الحال فناداه قائلا:
ما لي أنادي أبا يحيى فينبيني
سكران مطروح ما بين الرياحين
فأجابه على الفور:
ما أنت ربي على ذنبي تحاسبني
ولا نبيا لطرق الحق يهدينا
ما قال ربك ويل للألى سكروا
بل قال ربك ويل للمصلينا
أنعم علي بما أوعدتني كرما
واجعل نصيبي من الدنيا نصيبينا
فعجب الملك من ذكائه ودفع إليه تلك الجارية.
يزيد بن عبد الملك وجاريته حبابة
كان ليزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي جارية مدنية صبيحة الوجه، مليحة النادرة، لطيفة المحاضرة، خفيفة الروح، غردة الصوت، شجية الغناء، عالمة بصنعة العود، وكان يزيد مغرما بها، شديد الهيام بحبها، فخلع العذار وتقطع إليها الليل والنهار، وكانت لديه الأميرة المطلقة تعزل من تشاء وتولي من تشاء، فاشتهر أمره وشاع ذكرها وذكره إلى أن نزل معها ذات يوم بإحدى قرى الشام ونظر إلى غلامه قائلا: ويحك لا تمكن أحدا من الوقوف ببابي ولا تدع إنسانا يخرق حجابي، ثم خلا بحبابة وما برح معها في لهو وطرب إلى أن تواسط النهار، فدعا بطبق رمان تناثرت على سطحه الحبوب تناثر اللؤلؤ على الأعناق وقدمه إليها، فشرقت حبابة بحبة منه ذهبت بروحها إلى عالم العدم، فصاح يزيد صيحة الألم وطارت نفسه بأثرها شعاعا وطفق يعض أنامله جزعا والتياعا، وما زال يقبلها وينوح عليها إلى أن أدركها الفساد، فأودعها الثرى حتم أنفه وهو يدمي بثناياه باطن كفه ويردد الأنين والحسرات حتى شرب كأس المنون فدفنوه حذاءها ولسان حاله يقول:
أموت على أثر الحبيبة ظاعنا
ليجتمع الروحان في عالم الخلد
ومما قاله فيها إثر فراق:
أبلغ حبابة أسقى ربعها المطر
ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر
إن سار صحبي لم أملك تذكرهم
أو عرسوا فهموم النفس والسهر
ومما قالت له قبل موتها:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما يلذ ويشتهى
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
علية ابنة المهدي العباسية
كانت ظريفة الوجه، عفيفة النفس، ذات صيانة وأدب بارع، وكانت تهوى غلاما يدعى طلا، فنهاها عنه أخوها الرشيد فلم تنته، فحلف أنها لا تذكره ثم تسمع عليها يوما فوجدها وهي تقرأ القرآن في آخر سورة البقرة حتى بلغت قوله تعالي:
فإن لم يصبها وابل فطل (البقرة: 265)، فما نهى عنه أمير المؤمنين، فدخل الرشيد وقبل رأسها وقال لها: قد وهبتك طلا ولا منعتك بعدها عما تريدين.
ولما خرج الرشيد إلى الري أخذها معه، فلما وصلت إلى المرج وبعدت عن الحبيب أنشدت تقول:
كتمت اسم الحبيب عن العباد
ورددت الصبابة في فؤادي
فوا شوقي إلى أيام خلى
لعلي باسم من أهوى أنادي
فلما بلغت الحمى وآنست قرب الحبيب خف عنها بعض الوجد الذي كان عندها، ففي ذات يوم بينما كانت في بيتها وأخوها إلى جانبها جاءتها عريب وجاءها يعقوب وكان أحذق الناس بالمزمار فلح عليها بالغناء، فغنت شعرا لها:
تحبب فإن الحب داعية الحب
وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تبصر فإن حدثت أن أخا الهوى
نجا سالما فانج النجاة من الحرب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأطيب أيام الفتى يومه الذي
يروع بالهجران فيه وبالعتب
ثم أنشدت:
لم ينسينك سرور لا ولا حزن
وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن
ولا خلا منك لا قلبي ولا جسدي
كلي بكلك مشغول ومرتهن
وحيدة الحسن ما لي عنك من كلف
نفسي بحبك إلا الهم والحزن
نور تولد من شمس ومن قمر
حتى تكامل فيه الروح والبدن
فطرب الجميع من رقتها ورخامة صوتها وعذوبة ألفاظها.
المهدي والرجل
دخل أحدهم إلى مقصورة إحدى جواري المهدي، فلما كان خارجا اعترضه الحاجب وشكاه إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وسأله عن دخوله وكيف كان وما شأنه؟ فقال: إن هذه الجارية كانت لوالدتي وكان بيني وبينها ألفة، فلما بيعت لأمير المؤمنين صرت إلى الباب متعرضا لها، فآذنته في الدخول، فدخلت على أحد أمرين: إما أن أراها فأشتفي من ألم البعاد أو أقتل فأستريح من هذه الحياة، فأمر المهدي بإحضار سياط ونصبه بينهما، ثم ضربه عشرين سوطا ورفع عنه الضرب، وقال: ما أصنع بتعذيبك ولست بتاركك حيا ولا تاركها، يا غلام، سيف ونطع، فلما أتي بذلك وأجلس الغلام في النطع، قال: يا أمير المؤمنين قبل أن يحل بي الهلاك وهو دون حقي اسمع مني ما أقول، قال: هات، فأنشأ يقول:
ولقد ذكرت والسياط تنوشني
عند الإمام وساعدي مغلول
ولقد ذكرتك والذي أنا عبده
والسيف بين ذوائبي مسلول
فأطرق المهدي وتغرغرت عيناه بالدموع، ثم قال: يا غلام خل السيف جانبا وحل قيوده وأخرجه مع من يحبها من هذا المكان.
جارية يزيد بن عبد الملك والشاب
كانت عند يزيد بن عبد الملك جارية حسناء، نحيلة القد، كاملة العقل والأدب، فعظم حبه لها وأخذت بمجامع قلبه، فقال لها يوما: ويحك! أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه أو أسدي إليه معروفا؟ قالت: يا أمير المؤمنين، ليس لي قرابة، ولكن بالمدينة ثلاثة أشخاص كانوا أصدقاء لمولاي أحب أن ينالهم مثل ما نالني من الخير، فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع لكل واحد منهم عشرة آلاف درهم، فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه، فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم ، فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها، وأما الثالث فسأله عن حاجته، فقال: يا أمير المؤمنين، ما لي حاجة، قال: ويحك! أولست أقدر على حوائجك؟ قال: بلى، يا أمير المؤمنين، ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها، فقال: ويحك! فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقدر عليها إلا قضيتها، قال: فلي الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر جاريتك التي أكرمتنا بسببها أن تغني ثلاثة أصوات بما أقترح عليها من الشعر، فتغير وجه يزيد ونادى بالجارية فحضرت، فقال: سل حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين مرها تغني بهذا الشعر:
لا أستطيع سلوا عن مودتها
أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا
أدعو إلى هجرها قلبي فيسعدني
حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
فأمرها فغنت، ثم قال للفتى: سل حاجتك، فقال: مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
تخيرت من نعمان عود أراكة
لهند ولكن من يبلغه هندا
ألا عرجا بي بارك الله فيكما
وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا
فأمرها فغنته، ثم قال للفتى: سل حاجتك، فقال: تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر:
مني الوصال ومنكم الهجر
حتى يفرق بيننا الدهر
والله لا أسلوكم أبدا
ما لاح بدر أو بدا قمر
فأمرها فغنت، فلم تتم الأبيات حتى خر الفتى مغشيا عليه، فقال يزيد للجارية: قومي انظري ما حاله، فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت، فقال يزيد: ابكيه، فقالت: لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي، فقال لها: ابكيه، فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك، فبكت الجارية وبكى أمير المؤمنين، ثم أمر بالفتى فدفن، وأما الجارية فلم ثلبث أن ماتت على أثره.
إبراهيم بن المهدي وجارية بنت عصمة
اختفى إبراهيم بن المهدي زمن المأمون عند بنت عصمة بنت أبي جعفر حين هربه من المأمون لشدة طلبه له، وكانت تكرمه غاية الإكرام، وتلاطفه بأشهى الطرائق، وتتفقده في أوقاته، ووكلت به جارية يقال لها: ملك، وكانت قد أدبتها وأنفقت عليها الأموال، وكانت جميلة الصوت، راوية الأشعار، بارعة الجمال، حسنة القد، عاقلة، فكانت تتولى خدمة إبراهيم وتقوم على رأسه تتفقد أموره، فأحبها كثيرا وكتم ذلك عن ربة البيت، فلما اشتد وجده وغلب حبها على فؤاده أخذ عودا وغنى فيها شعرا له وهي واقفة أمام عينيه:
يا غزالا لي إليه
شافع من مقلتيه
والذي أجللت خ
ديه فقبلت يديه
بابي وجهك ما أك
ثر حسادي عليه
أنا ضيف وجزاء الض
يف إحسان إليه
فسمعت الجارية الشعر وفطنت لمعناه لرقة قلبها وظرف شمائلها، وكانت مولاتها تسألها عن حالها وحاله في كل يوم، فأخبرتها ذلك اليوم بما في قلبه منها وما سمعت من شعره غناء، فقالت لها مولاتها: اذهبي فقد وهبتك له، فعادت إليه، فلما رآها أعاد الصوت فأكبت عليه الجارية وقبلت رأسه، فقال لها: كفى، فقالت: قد وهبتني مولاتي لك، فسر كثيرا لنيل بغيته.
القسم الثاني
في نوادر بني عذرة
جميل بن معمر العذري وحبيبته بثينة
خرجت بثينة يوما وكانت النساء إذ ذاك يتزين ويجتمعن ويدنو بعضهن لبعض ويبدون للرجال في كل عيد، فجاء جميل فوقف على بثينة وأختها أم الحسين في نساء من بني الأحب فرأى منهن منظرا لطيفا فقعد معهن ثم انصرف وكان معه فتيان من بني الأحب، فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه، فراح وهو يقول:
عجل الفراق وليته لم يعجل
وجرت بوادر دمعك المتهلل
طربا وشاقك ما لقيت ولم تخف
بين الحبيب غداة برقة مجول
وعرفت أنك حين رحت ولم يكن
بعد اليقين وليس ذاك بمشكل
لن تستطيع إلى بثينة رجعة
بعد التفرق دون عام مقبل
ثم قال فيها بيتين من قصيدة يصفها بها:
هي البدر حسنا والنساء كواكب
وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضلت بثن على الناس مثل ما
على ألف شهر فضلت ليلة القدر
فلما سمعت بثينة بهذه الأبيات حلفت بالله أن لا يأتيها على خلوة إلا خرجت إليه وأنها لن تتوارى منه، فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث معها ومع أخوتها، فنمى إلى رجالها ذلك وكانوا قوما غيارى فرصدوه وعزموا على قتله، فجاء على ناقته الصهباء إلى بثينة وأم الحسين فأخذا يحدثانه، فنظر إليهما وأنشد:
لقد ظن هذا القلب أن ليس لاقيا
سليمى ولا أم الحسين لحين
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لقوني
فبينما هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فأطلق عنان الناقة فخرجت من بينهم كالسهم ونجا من ظبا سيوفهم.
وعد بثينة لجميل
وعدت بثينة جميلا يوما أن يلتقيا في بعض المواقع، فعلم بذلك قومها فحرسوها ومنعوها من الخروج خارجا، فأتى جميل لوعدها وقعد ينتظر فلم ير لها وجها، فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له: إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر، وغيرها أولى بك كما أن غيرك قد صار أولى بها، فأنشد:
فلرب عارضة علينا بوصلها
بالجد تخلطه بقول الهاذل
فأجبتها في القول بعد تستر
حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في صدري بقدر قلامة
فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
ويقلن إنك قد رضيت بباطل
منها فهل لك في اجتناب الباطل
ولباطل ممن أحب حديثه
أشهى إلي من البغيض الباذل
ليزلن عنك هواي ثم يصلنني
وإذا هويت فما هواي بزائل
أبثين إنك قد ملكت فأسجحي
وخذي بحظك من كريم واصل
تأخير بثينة عن وعدها لجميل
وعدت بثيتة جميلا بخلوة يجتمعان بها وتأخرت عن إيفاء الوعد؛ فحزن جميل وأنشد يقول:
يا صاح عن بعض الملامة أقصر
إن المنى للقاء أم المسور
وكأن طارقها على علل الكرى
والنجم وهنا قد دنا لتغور
يستاف ريح مدامة معجونة
بذكي مسك أو سحيق العنبر
إني لأحفظ غيبكم ويسرني
إذ تذكرين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا
أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة
إن كان يوم لقائكم لم يقدر
أو أستطيع تجلدا عن ذكركم
فيفيق بعض صبابتي وتفكري
لو قد تجن كما أجن من الهوى
لعذرت أو لظلمت إن لم تعذري
والله ما للقلب من علم بها
غير الظنون وغير قول المخبر
لا تحسبي أني هجرتك طائعا
حدث لعمرك رائع أن تهجري
فلتبكيني الباكيات وإن أبح
يوما بسرك معلنا لم أعذر
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
إني إليك بما وعدت لناظر
نظر الفقير إلى الغني المكثر
يعد الديون وليس ينجز موعدا
هذا الغريم لنا وليس بمعسر
ما أنت والوعد الذي تعدينني
إلا كبرق سحابة لم يمطر
قلبي نصحت له فرد نصيحتي
فمتى هجرتيه فمنه تكثري
لقاء جميل وبثينة
قال جميل يوما لأحد أترابه: هل لك في مساعدتي على لقاء بثينة؟ فمضى معه حتى كمن له في الوادي وأرسل معه خاتمه إلى راعي بثينة ودفعه إليه، فمضي به إليها ثم عاد بموعد منها إليه، فلما جن الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا، ثم ودعها وركب ناقته وهي باكية، فقالت بثينة: ادن مني يا جميل، فدنا منها وقال:
إن المنازل هيجت أطرابي
واستعجمت آياتها بجوابي
فترى تلوح بذي اللجين كأنها
أنضاء رسم أو سطور كتاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت
مني الدموع لفرقة الأحباب
وذكرت عصرا يا بثينة شاقني
وذكرت أيامي وشرخ شبابي
جميل وبثينة وكثير عزة
قال كثير: لقيني جميل مرة فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي الحبيبة؛ أعني بثينة، فقال: وإلى أين تمضي؟ قلت: إلى الحبيبة؛ أعني عزة، فقال: لا بد أن ترجع عودك على بدئك فستجد لي موعدا من بثينة، فقلت: عهدي بها الساعة وأنا أستحيي أن أعود، فقال: لا بد من ذلك، فقلت: فمتى عهدك بها؟ قال: في أول العيد، وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الردم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها، فلما أبصرتني أنكرتني وضربت بيدها في الماء، فالتحفت به تسترا، وعرفتني الجارية فأخبرتها فتركت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس وسألتها الموعد، فقالت: أهلي سائرون وما وجدت أحدا غيرك يا كثير حتى أرسله إليها، فقال له كثير: فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من الشعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها، قال: ذلك الصواب، فأرسله إليها، فذهب وقال: انتظرني حتى أعود، ثم سار حتى أناخ بهم، فقال له أبوها: ما ردك يا كثير، فأنشدته وبثينة تسمع من وراء الخدر:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي
إليك رسولا والموكل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا
وأن تأمريني بالذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني
بأسفل وادي الردم والثوب يغسل
فضربت بثينة صدرها وقالت: اخسأ اخسأ، فقال أبوها: مهيم يا بثينة، قالت: مثله يأتينا إذا نام الناس من وراء هذه الرابية، ثم التفتت إلى الجارية وقالت: ابغي من الدومات حطبا واذبحي لكثير شاة وسويها له، فقال كثير: أنا أعجل من ذلك، وخرج وراح إلى جميل فأخبره، فقال له جميل: الموعد الدومات بعد أن تنام الناس، وكانت بثينة قد قالت لأختها أم الحسين وليلى ونجيا بنات خالتها أني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جميلا معه، وكانت قد آنست إليهن واطمأنت بهن وكاشفتهن بأسرارها فخرجن معها، وكان جميل وكثير خرجا حتى أتيا الدومات، وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح، فكان كثير يقول: ما رأيت عمري مجلسا قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ولم أدر أيهما كان أفهم.
ندر أهل بثينة دم جميل
لما ندر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد بالليل كثيب الرمل ويتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول:
أيا ريح الشمال أما تريني
أهيم وإنني بادي النحول
هبي لي نسمة من ريح بثن
ومني بالهبوب إلى جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي
قليلك أو أقل من القليل
فإذا ظهر الصبح انصرف، فكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها: ويحكن! إني لأسمع أنين جميل من بعض الغيران، فيقلن لها: اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له.
لقاء جميل وكثير عزة
اجتمع كثير بجميل يوما فقال له: يا جميل أرى بثينة لم تسمع قولك:
يقيك جميل كل سوء أما له
لديك حديث أو إليك رسول
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي
محاسن شعر ذكرهن يطول
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي
هبوب الصبا يا بثن كيف أقول
فما غاب عن عيني خيالك لحظة
ولا زال عنها والخيال يزول
فقال جميل: أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك:
يقول العدا يا عز قد حال دونكم
شجاع على ظهر الطريق مصمم
فقلت لها والله لو كان دونكم
جهنم ما راعت فؤادي جهنم
وكيف يروع القلب يا عز رائع
ووجهك في الظلماء للسفر معلم
وما ظلمتك النفس يا عز في الهوى
فلا تنقمي حبي فما فيه منقم
فبكيا ليلتهما إلى بزغ الصباح ثم انصرفا.
احتجاب بثينة عن جميل
خرج جميل لزيارة بثينة ذات يوم فنزل قريبا من الماء يترصد أمة لبثينة أو راعية يتخذها واسطة لتبليغ رسالته، وإذا بأمة معها قربة واردة على الغدير لتملأها، وكانت عارفة به، ولما تبينها وتبينته سلمت عليه وجلست معه وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويخبرها بما يعانيه من ألم الفراق ويحملها رسائله إلى بثينة، ثم أعطاها خاتمه وسألها أن تدفعه لها وأخذ عليها موعدا ترجع له فيه، ومكث ينتظر رجوعها، فذهبت الجارية إلى أهلها وقد أبطأت عليهم، فلقيها أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها، فالتوت عليهم ولم تخبرهم بشيء عما حصل لها مع جميل وتعللت عليهم، فضربوها ضربا مبرحا ومن ألم الضرب أعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه، وصادف أنه مر بها في تلك الحالة اثنان من بني عذرة فسمعا القصة جميعا وعرفا الموضع الذي فيه جميل، فأحبا أن يدرآ عنه هذا الخطر، فقالا للقوم: إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه، وكان أهل بثينة أعز بني عذرة، فدعوا الأمة وأعطوها الخاتم وأمروها أن توصله إلى بثينة وحذروها من أن تخبرها بأنهم علموا القصة، ففعلت، ولم تعلم بثينة بما جرى، ومضى الفتيان فأنذرا جميلا وقالا: تقيم عندنا في بيوتنا حتى يهدأ الطلب ثم نبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف آمنا سليما، فقال: أما الآن فابعثا إليها من ينذرها، فأتياه براعية لهما وقالا له: قل حاجتك. فقال: ادخلي وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره مني جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة، فمضت فأعلمتها ما قال لها، فعرفت قصته وبحثت عنها ففهمتها تماما فلم تخرج لزيارته تلك الليلة، ورصدوها فلم تبرح من مكانها، ومضوا يقتفون أثره فوجدوا ناقته فعرفوا أنه قد فاتها، أما جميل فإنه زاد شوقا وحزنا وفاضت عبراته فأنشد:
أبى القلب إلا حب بثنة لم يرد
سواها وحب القلب بثنة لا يجدي
إذا ما دنت زدت اشتياقا وإن نأت
جزعت لنأي الدار منها وللبعد
سلي الركب هل عجنا لمغناك مرة
صدور المطايا وهي موقرة تخدي
وهل فاضت العين الشروق بمائها
لأجلك حتى اخضل من دمعها بردي
وإني لأستجري لك الطير جاهدا
لتجري بيمين من لقائك أو سعد
وإني لأستبكي إذا الركب غردوا
بذكراك أن يحيا بك الركب إذ تحدي
فهل تجزيني أم عمرو بودها
فإن الذي أخفي بها فوق ما أبدي
وكل محب لم يزد فوق جهده
وقد زدتها في الحب مني على الجهد
ولما ضاقت بأهل بثينة الحيل ائتمنوا عليها عجوزا منه يثقون بها يقال لها: أم منظور، فجاءها جميل وقال لها: أريني بثينة، فقالت: لا والله لا أفعل وقد ائتموني عليها، فقال: أما والله لأضرنك، فقالت: المضرة والله في أن أريكها، فخرج من عندها وهو يقول:
ما أنس لا أنس منها نظرة سلفت
بالحجر يوم جلتها أم منظور
ولا انسلابتها خرسا جبائرها
إلي من ساقط الأوراق مستور
فما كان إلا القليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان فتعلقوا بأم منظور، فحلفت لهم بكل يمين، فلم يقبلوا منها وعاقبوها على ذلك.
زيارة جميل بثينة متنكرا
جاء جميل إلى بثينة ليلة وقد تزيا بزي راع لبعض الحي فوجد عندها ضيوفا، فانتبذ ناحية وجلس فيها، فسألته: من أنت؟ فقال: مسكين، فعشت ضيفانها وعشته وحده، ثم جلست هي وجارية لها تجاه النار تصطليان، واضطجع القوم منتحين، فقال جميل:
هل البائس المحزون دان فمصطل
من النار أو معطى لحافا فلابس
فقالت لجاريتها: صوت جميل والله، اذهبي فانظري، فذهبت ثم رجعت وقالت: هو والله جميل، فشهقت شهقة سمعها القوم، فأقبلوا يجرون، وقالوا: ما لك؟ فطرحت بردا لها في النار عمدا وقالت: احترق بردي، فرجع القوم وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به، فأبقته عندها ثلاثة أيام ثم ودعها وخرج.
وشاية الخادم بجميل وبثينة
رصد جميل بثينة في نجع لبني عذرة حتى إذا صادف منها فرصة وهي مارة مع أترابها في ليلة ظلماء ذات رعود وأمطار فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها، ففزعت وقالت: والله ما حذفني في مثل هذا الوقت إلا الجن، فقالت لها بثينة وقد فطنت: انصرفي إلى منزلك، حتى تذهب إلى النوم، فانصرفت وبقي مع بثينة أم الحسين وأم منظور، فقامت إلى جميل فأخذته إلى الخباء معها وتحدثا طويلا وما زالا على ذي الحال إلى أن أسفر الصباح، فجاء غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث بها إليها زوجها، فلما رآها مع جميل منفردة مضى لوجهه حتى يخبر سيده، فرأته ليلى والصبوح في يده وكانت قد عرفت خبر بثينة وجميل فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وبعثت بجارية لها وقالت: حذري بثينة وجميلا، فجاءت الجارية فنبهتهما، فلما تبينت بثينة الصبح قد أضاء والناس متنكرين ارتاعت وقالت: يا جميل نفسك نفسك، فقد جاءني غلام زوجي بصبوحي من اللبن فرآنا سوية، فقال لها وهو غير مكترث: علام الخوف؟ وأنشد:
لعمرك ما خوفتني من مخافة
بثين ولا حذرتني موضع الحذر
فأقسم لا يلفى لي اليوم غرة
وفي الكف مني صارم قاطع ذكر
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد، وقالت: إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك، ففعل ما أمرته به وأتت بأم الحسين إلى جانبها، ثم ذهبت خادمة ليلى فأخبرتها الخبر، فتركت العبد يمضي إلى سيده، فمضى والصبوح معه وقال: رأيت جميلا مع بثينة في خباء واحد، فمضى إلى أخيها وأبيها فأخبره الخبر وأخذهما وأتى بهما إلى خباء بثينة، فلما دخلوا إلى الخباء لم يجدوا مع بثينة إلا أم الحسين فخجل زوجها وسب عبده، فقالت ليلى لأخيها وأبيها: قبحكما الله أفي كل يوم تفضحان فتاتكما وتسمعان ما يقال فيها، أما جميل فإنه أقام عند بثينة حتى جن الليل ثم ودعها وانصرف، وخافت بثيتة مما جرى فتحامت منه مدة، فزادت به لواعج الهوى وأنشد يقول:
لها في سواد القلب بالحب منعة
هي الموت أو كادت على الموت تشرف
وما ذكرتك النفس يا بثن مرة
من الدهر إلا كادت النفس تتلف
وإلا اعترتني زفرة واستكانة
وجاد لها مستعجل الدمع يذرف
وما استطرفت نفسي حديثا لخلة
أسر به إلا حديثك أطرف
ولست بناس أهلها حين أقبلوا
وجالوا علينا بالسيوف وطوفوا
وقالوا جميل بات في الحي عندها
وقد جردوا أسيافهم ثم وقفوا
هرب جميل عن أهله
ولما اشتهر جميل بحب بثينة اعترضه عبيد الله بن قطنة أحد بني الأحب وهو من أهلها الأقربين فهجاه، فأجابه جميل وتطاولا، فكف عنه ابن قطنة، ثم اعترضه عمير بن رحل من بني الأحب، فقاومه أيضا مثل الأول، فشكا أمره إلى عامر بن ربعي الحاكم على بني عذرة وقال: يهجونا ويغشى بيوتنا ويشبب بنسائنا، فأباحهم دمه وطلب فهرب، ولما علمت بثينة أن جميلا هجا أهلها غضبت كثيرا وأبدت له كدرها، فأنشد جميل يقول:
وما صائب من نائل قذفت به
يد وممر العقدتين وثيق
بأوشك قتلا منك يوم رميتني
نوافذ لم تظهر لهن خروق
تفرق أهلانا بثين فمنهم
فريق أقاموا واستمر فريق
وبعد ذلك بمدة تصالحا وأخذ منها موعد اللقاء، فعلم به قومها وقد شاهدوه عندها فتوعدوه وكرهوا قتله خوفا من أن ينشب بينهم وبين قومه حرب بدمه، وكان أقوامه أشد باسا من قوم بثينة فأعادوا شكواه إلى السلطان، فطلبه طلبا شديدا، فهرب إلى اليمن وبقي فيها مدة، فتذكر يوما حبيبته بثينة فأنشد يقول:
ألم خيال من بثينة طارق
على النأي مشتاق إلي وشائق
كأن فتيت المسك خالط نشرها
تغل به أردانها والمرافق
تقوم إذا قامت به عن فراشها
ويغدو به من حضنها من تعانق
ولم يزل في اليمن إلى أن عزل ذلك الوالي وانتقل أهل بثينة إلى ناحية الشام فرجع إليهم، فشكا أكابر الحي إلى أبيه وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله، فناشدوه الله وسألوه كف ابنه عن فتاتهم وعن تشببه بها وما يفضحهم به بين الناس، فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع ثم انصرفوا، فدعا به وقال له: يا بني حتى متى أنت راتع في ظلالك؟ ألا تأنف من أن تتعلق في ذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل تغرك بأقوالها وخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلا وغرورا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على جري عادتها. إن هذا لذل وخيم، ولا أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك، فأنشدك الله إلا كففت وتأملت في أمرك، فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له، وفي النساء عوض، فقال له جميل: الرأي ما رأيت، والقول كما قلت، ولكن هل رأيت قبلي أحدا قدر أن يدفع هواه عن قلبه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع ما قضي عليه، والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت، ولا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي، ولكن أنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به ولو مت كمدا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه، وقام وهو يبكي فبكى أبوه ومن حضر جزعا لما رأوا منه من حب بثينة، ثم أنشد:
ألا من لقلب لا يمل فيذهل
أفق فالتعزي عن بثينة أجمل
سلا كل ذي ود علمت مكانه
وأنت بها حتى الممات موكل
فما هكذا أحببت من كان قبلها
ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل
فيا قلب دع ذكرى بثينة إنها
وإن كنت تهواها تضن وتبخل
وقد أيأست من نيلها وتجهمت
ولليأس إن لم يقدر النيل أمثل
وإلا فسلها نائلا قبل بينها
وأبخل بها مسئولة حين تسأل
وكيف ترجي وصلها بعد بعدها
وقد جد حبل الوصل ممن تؤمل
وإن التي أحببت قد حيل دونها
فكن حازما والحازم المتحول
ففي اليأس ما يسلي وفي الناس خلة
وفي الأرض عمن لا يواتيك معزل
بدا كلف مني بها فتثاقلت
وما لا يرى من غائب الوجد أفضل
هبيني بريئا نلته بظلامة
عفاها لكم أو مذنبا يتنصل
وداع جميل لبثينة قبل سفره
لما ضاقت بجميل الحيل وأراد الخروج إلى الشام هجم ليلا على بثينة وقد وجد غفلة في الحي، فقالت له: أهلكتني والله وأهلكت نفسك، ويحك! أما تخاف؟! فقال لها: هذا وجهي إلى الشام وإنما جئتك مودعا، فحادثها طويلا ثم ودعها، وقال: يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا، وبكى بكاء طويلا وبكت ثم قال وهو يبكي:
ألا لا أبالي جفوة الناس إن بدا
لنا منك رأي يا بثين جميل
وإني وتكراري الزيارة نحوكم
بثين بذي هجر بثين يطول
وإن صباباتي بكم لكثيرة
بثين ونسيانكم لقليل
وخرج إلى الشام وطال غيابه فيها، ثم قدم من الشام وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تشكو شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه ووعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدثها وبث إليها أشواقه وأخبرها خبره بعدها، وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل وانتصل سيفه وشد عليهما، فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة الله أن ينصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي أن يلحقوا بك، فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا بي ما أحبوا، فلم تزل تنشده حتى انصرف وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما، فلقي ابن عمه روقا ومسعدة فشكا إليهما ما به وأنشد:
زورا بثينة فالحبيب مزور
إن الزيارة للمحب يسير
إن الترحل إن تلبس أمرنا
وأعتاقنا قدر أحم بكور
إني عشية رحت وهي حزينة
تشكو إلي صبابة لصبور
وتقول بت عندي فديتك ليلة
أشكو إليك فإن ذاك يسير
غراء مبسام كأن حديثها
در تحدر نظمه منثور
لا حسنها حسن ولا كدلالها
دل ولا كوقارها توقير
إن اللسان بذكرها لموكل
والقلب صاد والخواطر صور
ولئن جزيت الود مني مثله
إني بذلك يا بثين جدير
فقال له روق: إنك لعاجز ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وذلك الاستبداد بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها، وإنك منها بين فجور أرفعك عنه وذل لاأحبه لك وكمد يؤديك إلى التلف ومخاطرة بنفسك لقومها، إن تعرضت لهم بعد إعذارهم إليك، وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم وصبرت نفسك عليها طائعة أو كارهة ألفت ذلك وسلوت. فبكى جميل وقال: يا أخي لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابا، ولكني لا أملك لي اختيارا وما أنا إلا أسير لا يملك لنفسه نفعا، وقد جئتك لأمر أسألك أن لا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم وأن تحمل على نفسك في مساعدتي، قال: فإن كنت لا بد مهلكا نفسك فاعمل على زيارتها ليلا فإنها تخرج مع بنات عم لها إلى ملعب لهن فأجيء معك حينئذ سرا، ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب تأوي عنده نهارا فأسأله مساعدتك على هذا فتقيم عنده نهارا وتجتمع معها ليلا إلى أن تقضي إربك، فشكره، ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانه وسأله مساعدته فيه، فقال له: لقد جئتني بإحدى العظائم، ويحك إن في هذا معاداتي الحي جميعا إن فطن به، فقال: أتحرز في أمره من أن يظهر، فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره بالقصد، فأتيا الرجل ليلا فأقاما عنده وأرسل إلى بثينة بوليدة له بخاتم جميل، فدفعته إليها، فلما رأته عرفت الأمر فتبعتها وجاءته، فتحدثا ليلتهما وأقام بموضعه ثلاثة أيام، ثم ودعها وقال لها: عن غير قلى والله ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك، ولكني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه، وقد أقمت عنده ثلاثة أيام، ثم انصرف وقد تذكر عذل روق له فأنشد:
لقد لامني فيها أب ذو قرابة
حبيب إليه في ملامته رشدي
وقال أفق حتى متى أنت هائم
ببثنة فيها قد تعيد وقد تبدي
فقلت له فيها قضى الله ما ترى
علي وهل فيما قضى الله من بد
فإن يك رشدا حبها أو غواية
فقد جئته ما كان مني عن عمد
قد لج ميثاق من الله بيننا
وليس لمن لم يوف لله من عهد
فلا وأبيها الخير ما خنت عهدها
ولا لي علم بالذي فعلت بعدي
وما زادها الواشون إلا كرامة
علي وما زالت مودتها عندي
أفي الناس أمثالي أحب فحالهم
كحالي أم أحببت من بينهم وحدي
وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما
لقيت بها أم لم يجد أحد وجدي
عزة بثينة وجميل
وقع بين بثينة وجميل هجر في غيرة كان غار عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها، فكان جميل يتحدث إلى غيرها فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل، وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه، فدخل جميل يوما وقد غلب عليه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة، فلما رأته جاءت إلى البيت ولم تبرز له، فجزع لذلك وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه وقد بلغ الأمر من جميل كل مبلغ، فأنشأ يقول:
لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة
وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما
لقيتك يوما أن أبثك ما بيا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني
أظل إذا لم أسق ريقك صاديا
فرقت له بثينة وقالت لجارية لها كانت معها: ما أحسن الصدق بأهله، ثم اصطلحا، فقالت له: أنشدني قولك:
تظل وراء الستر ترنو بلحظها
إذا مر من أترابها من يروقها
فأنشدها إياه، فبكت وقالت: كلا يا جميل، ومن تراه يروقني غيرك.
عفاف جميل وبثينة
وشت جارية بجميل وبثينة إلى أبيها، وأنه الليلة عندها، فأتى وأخوها مشتملين معتمدين سيفهما لقتله، فسمعاه يقول لها بعد شكوى شغفه بها: هل لك في طفء ما بي بما يفعل المتحابان، فقالت: قد كنت عندي بعيدا من هذا، ولو عدت إليه لن ترى وجهي أبدا، فضحك وقال: والله ما قلته إلا اختيارا ولو أجبت إليه لضربتك بسيفي هذا إن استطعت وإلا هجرتك، أما سمعت قولي:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
فلما سمعا ما دار من الكلام بينهما قالا: فلندعهما والله سوية لأن من كانت هذه حالته لا يجوز منع الزيارة عنه أو الاجتماع بها وانصرفا.
موت جميل ونعيه إلى بثينة
دعا جميل يوما وهو في مصر رجلا فقال له: هل لك في أخذ كل ما أخلفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك؟ قال: سمعا وطاعة، قال: إذا أنا مت فخذ حلتي هذه وأبقها جانبا وخذ ما بقي لك وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة وهم رهط بثينة، فإذا صرت إليهم فاركب ناقتي والبس حلتي واشققها، ثم اعتل قمة عالية وأنشد هذه الأبيات دون خشية لائم وأنشد:
صدع النعي وما كنى بجميل
وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى
نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل
وابكي خليلك دون كل خليل
وبعد ذلك قضى نحبه فواراه بالتراب وأتى رهط بثينة وفعل ما أمره به جميل، فما أتم الأبيات حتى برزت إليه امرأة يتبعها نسوة قد فاقت عليهن طولا وبرزت أمامهن كالبدر في دجنة وهي تختال في بردها فقالت: يا هذا، والله لئن كنت صادقا لقد قتلتني، ولئن كنت كاذبا لقد فضحتني، قال: والله ما أنا إلا صادق وأخرج حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت، فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول:
وإن سلوي عن جميل لساعة
من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر
إذا مت بأساء الحياة ولينها
وما زالت تكرر هذين البيتين حتى ماتت بعد ثلاثة أيام من سماعها بموت جميل.
ما حدثته بثينة عن جميل
حدثت بثينة - وكانت صدوقة اللسان، جميلة الوجه، حسنة البيان، عفيفة - قالت: والله ما أرادني جميل - رحمة الله عليه - بريبة قط، ولا حدثت أنا نفسي بذلك منه، وإن الحي انتخبوا موضعا، وإني لفي هودج لي أسير إذا أنا بهاتف ينشد أبياتا، فلم أتمالك أن رميت بنفسي وأهل الحي ينظرون، فبقيت أطلب المنشد فلم أقف عليه، فناديت: أيها الهاتف بشعر جميل ما وراءك منه، وإني أحسبه قد قضى نحبه ومضى لسبيله، فلم يجبني مجيب، فناديت ثلاثا وفي كل ذلك لا يرد علي أحد شيئا، فقالت صويحباتي: أصابك يا بثينة طائف من الشيطان، فقلت: كلا، لقد سمعت قائلا يقول، قلن: نحن معك ولم نسمع، فرجعت فركبت مطيتي وأنا حيرى والهة العقل كاسفة البال، ثم سرنا، فلما كان في الليل إذا ذلك الهاتف يهتف بذلك الشعر بعينه، فرميت بنفسي وسعيت إلى الصوت، فلما قربت منه انقطع، فقلت: أيها الهاتف، ارحم حيرتي وسكن عبرتي بخبر هذه الأبيات فإن لها شأنا، فلم يرد علي شيئا، فرجعت إلى رحلي فركبت وسرت وأنا ذاهبة العقل، وفي كل ذلك لا يخبرني صويحباتي أنهن سمعن شيئا، فلما كانت الليلة القابلة نزلنا وأخذ الحي مضاجعهم ونامت كل عين فإذا الهاتف يهتف بي ويقول: يا بثينة، أقبلي إلي أنبئك عما تريدين، فأقبلت نحو الصوت فإنه شيخ كان من رجال الحي، فسألته عن اسمه وبيته فقال: دعي هذا وخذي فيما هو أهم عليك، فقلت له: وإن هذا لمما يهمني، قال: اقنعي بما قلت لك، فقلت له: أنت منشد الأبيات؟ قال: نعم، قلت: فما خبر جميل؟ قال: فارقته وقد قضى نحبه وصار إلى حفرته - رحمة الله تعالى عليه - فصرخت صرخة آذيت منها الحي وسقطت على وجهي فأغمي علي، فكأن صوتي لم يسمعه أحد وبقيت سائر ليلتي، ثم أفقت عند طلوع الفجر وأهلي يطلبونني فلا يقفون على موضعي، ورفعت صوتي بالعويل والبكاء ورجعت إلى مكاني، فقال لي أهلي: ما خبرك؟ وما شأنك؟ فقصصت عليهم القصة، فقالوا: رحم الله جميلا، واجتمع نساء الحي وأنشدتهن الأبيات، فأسعدنني بالبكاء، فلم نزل كذلك مدة أيام ثلاث، لم أكتحل بعدها بإثمد ولا فرقت رأسي بمخيط ولا مشط ولا دهنته إلا من صداع خفت على بصري منه، ولا لبست خمارا مصبوغا ولا إزارا، ولا أزال كذلك أبكيه إلى الممات.
قيس بن ذريح العذري ولبنى بنت الحباب
كان قيس بن ذريح العذري ذاهبا لبعض حاجاته فمر ببني كعب وقد احتدم الحر فاستقى الماء من خيمة منهم، فبزت إليه فتاة مديدة القامة، بهية الطلعة، عذبة الكلام، سهلة المنطق، فناولته إداوة ماء، فلما شرب قالت: ألا تبرد الحر عندنا، وقد تمكنت من فؤاده؟ فقال: نعم، فمهدت له فدخل فجاء أبوها فوجده فرحب به غاية الترحاب ونحر له جزورا، فأقام عندهم ضياء اليوم ثم انصرف وهو أشغف الناس بها، فجعل يكتم ذلك إلى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه، ومر بها ثانيا فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها، فوجد عندها أضعاف ذلك، فانصرف، وقد علم كل واحد ما عند الآخر، فمضى إلى أبيه فشكا إليه ذلك، فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك، فغم منه وجاء إلى أمه، فكان منها ما كان من أبيه، فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بن أبي طالب وأخبره بالقصة، فرثي له والتزم أن يكفيه هذا الشأن، فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب ثم قال: إنه من اللائق أن يكون ذلك من أبيه شأن العرب في هذه الأحوال، فشكره ومضى إلى أبي قيس حافيا على حر الرمل، فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين إلى أبي لبنى فزوج قيسا بها، ولما تزوج بها أقام معها على أحسن مراتب الحب والإقبال ولكن لم تلد له ولدا، فساء ذلك أباه فعرض عليه أن يتخذ غير زوجته وأن ذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله ونسله، فامتنع وقال: لا أسوءها قط، وقام يدافع عنها عدة سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يدخل البيت إلا ولبنى طالق منه، فكان إذا اشتد الحر يستظل بردائه ويصلى بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل فأهلك، ثم خشي قيس أبيه فأذعن لما أشار به، فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وسأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى، فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدا، فسقط مغشيا عليه، فلما أفاق أنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا
حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة
فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكفيك إلا أن ما حان حائن
فلما حملت إلى المدينة يئس قيس واشتد شوقه وزاد غرامه وأفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال، فلام الناس أباه على سوء فعله، فجزع وندم وجعل يتلطف به، فلما آيس منه استشار قومه في دائه، فاتفقت آراؤهم على أن يذهب فيتصفح أحياء العرب عله يرى من تسليه عن حب لبنى، ففعل حتى نزل بحي من فزارة فرأى جارية قد حسرت عن وجهها اللثام وهي كالبدر حسنا، فسألها عن اسمها، فقالت: لبنى، فسقط مغشيا عليه، فارتاعت وقالت: إن لم تكن قيسا فمجنون، ونضحت على وجهه الماء، فلما أفاق استنسبته، فإذا هو قيس لبنى، وكان أمرهما اشتهر في العرب، وجاء أخوها فأخبرته فركب حتى استرده وأقسم عليه أن يقيم عنده شهرا، فأجاب دعوته.
ثم بلغ قيسا أن لبنى عاتبة عليه وعلى ما صدر منه، فندم قيس وسار وقد اشتد به الغرام حتى وصل محل قومها، فقالت له النساء: ما شأنك وقد رحلت مع زوجها؟ فلم يلتفت حتى أتى محل خبائها فتمرغ به وأنشد:
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا
إلى الله فقد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه
نحيل وعهد الوالدين قديم
ولما عادت رآها فبهت صامتا ثم عاد، فأرسلت إليه مع امرأة لها تستخبر عنه فأنشد:
إذا طلعت شمس النهار فسلمي
فآية تسليمي عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت
وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها
ولو أبلغتها جارة قولي اسلمي
بكت جزعا وارفض منها دموعها
ثم زاد وجده فمرض وزاد في جسمه الألم، فعاده الطبيب وعرف ما به من الوجد وما يلقاه من حب لبنى فقال له: منذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت؟ فأنشد:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا
ومن بعد ما كنا صغيرين في المهد
فزاد كما زدنا وأصبح ناميا
وليس إذا متنا بمنفصم العقد
ولكنه باق على كل حادث
وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
وما كاد يهجر الوساد حتى علم بموت لبنى فهاجت منه عوامل الأسى وقصد قبرها فبكى حتى أغمي عليه ثم عاد إلى بيته مريضا فأنشد:
عيد قيس من حب لبنى ولبنى
داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يوما
قالت العين لا أرى ما أريد
ليت لبنى تعودني ثم أقضي
إنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس لقد تضمن منها
داء خبل فالقلب منه عميد
ثم قضى بعد ذلك بثلاثة أيام.
جعد بن مهجع العذري وأسماء
كان لجعد بن مهجع العذري أخوال حول ماله إليهم خشية التلف، فأقام عندهم ثم خرج يوما على فرس وقد صحب شرابا، فاشتد الحر وظهرت له دوحة فقصدها ونزل تحتها، فما لبث أن لاح له شخص عليه درع أصفر وعمامة سوداء يطرد أتانا شاردا حتى قتله، ثم قصد الدوحة ونزل بها، فحادثه فوجد في ألفاظه عذوبة لا تقدر وخلب عقله، فدعاه إلى الشراب فشرب، وقام ليصلح من شأن فرسه فتزحزح الدرع عن ثدي كحق العاج، فقال: امرأة أنت؟ فقالت: نعم، ولكن شديدة العفاف، حسنة الأخلاق والمفاكهة، فعلقها من تلك الساعة، وسألها الزيارة، فذكرت أن لها إخوة شرسة وأبا كذلك ثم مضت، فلما طالت مدة الفراق زاد حزنه وسقامه ولازم الوساد سنة كاملة، ثم شكا إلى أحد أصحابه فأشار عليه أن يخطبها من أبيها ومضى معه حتى نزلا بالشيخ، فأحسن ملقاهما ورحب بهما، فقال له: قد أتيتك خاطبا، قال: فوق الكفاءة، وزوجه بها، فلما كان الغد صادفه صديقه وسأله عن حاله معها، فقال: أبدت لي كثيرا مما أخفته عني قديما وسألتها عن ذلك فأنشدت:
كتمت الهوى أني رأيتك جازعا
فقلت فتى بعد الصديق يريد
فإن تطرحني أو تقول فتية
يضر بها برح الهوى فتعود
فوريت عما بي وفي الكبد والحشا
من الوجد برح فاعلمن شديد
فبارك لهما وانصرف.
أبو مالك بن النضر العذري وابنة عمه
قال شبابة بن الوليد: إن فتى من بني عذرة يقال له: أبو مالك بن النضر كان عاشقا لابنة عمه عشقا شديدا، فلم يزل على ذلك مدة، ثم إنه فقد بضع عشر سنين ولم يعلم خبره، فضلت إبل لي فخرجت في طلبها، فبينا أنا أسير في الرمال إذا بهاتف يهتف بصوت ضعيف وهو يقول:
يا بن الوليد ألا تحمون جاركم
وتحفظون له حق القرابات
عهدي إذا جار قوم نابه حدث
وقوه من كل أضرار الملمات
هذا أبو مالك المسمى ببلقعة
مع الضباع وآساد بغابات
طريح شوق بنار الحب محترق
تعتاده زفرات إثر لوعات
أما النهار فيضنيه تذكره
والليل مرتقب للصبح هل يأتي
يهذي بجارية من عذرة اختلست
فؤاده فهو منها في بليات
فقلت: دلني عليه - رحمك الله - فقال: نعم، اقصد الصوت، فلما قصدت غير بعيد سمعت أنينا من خباء فأصغيت إليه فإذا قائل يقول:
يا رسيس الهوى أذبت فؤادي
وملأت الحشا عذابا أليما
فدنوت منه فقلت: أبو مالك؟ فقال: نعم، قلت: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: حب سعاد ابنة أبي الهيذم العذري، فشكوت يوما إلى ابن عم لنا من الحي ما أجد من حبها فاحتملني إلى هذا الوادي منذ بضع عشر سنين ويأتيني كل يوم بخبرها ويقوتني - حفظه الله - من عنده، فقلت له: إني أصير إلى أهلها فأخبرهم بما رأيت، قال: أنت وذاك، فانصرفت إلى أهل الجارية فخبرتهم بحال الفتى وما رأيت منه وحدثتهم حديثه، فرقوا له وعزموا على تزويجه بحضرتي، فعدت إليه لأفرج عنه، فلما أخبرته الخبر حدد النظر إلي ثم تأوه تأوها شديدا بلغ من قلبي وأنشأ يقول:
الآن إذ حشرجت نفسي وخامرها
فراق دنيا وناداها مناديها
ثم زفر زفرة فمات، فدفنته في موضعه ثم انصرفت فأعلمتهم الخبر، فأقامت الجارية ثلاثة أيام دون أكل ولا شرب ثم ماتت على الأثر.
ذرعة بن خالد العذري
كان ذرعة بن خالد العذري غلاما حسن الوجه، عذب المنطق، سخي الكف، حسن الشمائل، فخرج يوما للصيد، فلما ورد المشرعة وجد النساء يغترفن الماء ودونهن جارية قد انفردت تمشط شعرها على جانب الغدير وقد أسبلته على وجهها المنير من خلاله كما ينير البدر في غاسق الدجى، فلما أبصرها سقط مغشيا عليه، فقامت فرشت عليه الماء، فلما أفاق وأبصرها قال: وهل مقتول يداويه قاتله، قالت: كفيت ما تشكو، وحادثته فثابت نفسه إليه وقد داخلها ما داخله من الحب ثم عاد وهو يقول: خرجنا لنصيد فاصطدنا، ثم أنشد:
خرجت أصيد الوحش صادفت قانصا
من الريم صادتني سريعا حبائله
فلما رماني بالنبال مسارعا
رقاني وهل ميت يداويه قاتله
ألا في سبيل الحب صب قد انقضى
سريعا ولم يبلغ مرادا يحاوله
ثم إنه لزم الوساد أياما فسألت أمه عن ذلك فأطلعها الخبر فإذا هي ظريفة بنت صفوان بن وائلة فمضت إليها وأعلمتها القصة وتضرعت إليها أن تزور بيتهم علها تشفي ما بابنها، فقالت: إن الوشاة كثيرون، ولكن خذي الشعر إليه فإن أمسكه فإنه يشفى، فلما ذهبت إليه جعل يتنشفه فعادت إليه نفسه شيئا فشيئا فصار يأتي قريبا من بيتها فيتسارقا النظر إلى أن فطن أهلها فآلوا على قتله فسار إلى اليمن، وكان كلما اشتد شوقه قبل الشعر وجعله على وجهه فيستريح لذلك، ففي ذات يوم بعث ولدا نحو بيتها فسمعها تنشد وتقول:
رعى الله من هام الفؤاد بحبه
ومن كدت من شوقي إليه أطير
لئن كثرت بالقلب أتراح لوعة
فإن الوشاة الحاضرين كثير
فإن لم أزر بالجسم رهبة عاذل
فللقلب آت نحوكم فيزور
فعاد الصبي وأنشد له الأبيات فأغمي عليه ساعة ثم أفاق وأنشد:
أظن هوى الخود العزيزة قاتلي
فيا ليت شعري ما بنو العم صنع
أراهم وللرحمن در صنيعهم
تراكي دمي هدرا وخاب المضيع
ثم أتاه الخبر بزفاف ظريفة إلى رجل يقال له: ثعلب، فلما بلغه ذلك اضطرب ساعة ثم أغمي عليه فحركوه فإذا به ميت.
مالك بن عقيل العذري ومعشوقته سعدى
كان مالك بن عقيل العذري يحب سعدى حبا شديدا، وكانت ذات فصاحة وجمال وأدب ولطف وكمال، وكان في الحي رجل يحبها وهي لا تحبه فغار منهما فوشى به إلى أهلها، فحجبوها عنه فتراسلا بالمحبة، وبلغه فأرسل زوجته عن لسانها إلى مالك بشتم وقطيعة، ولم يعرف أنها زوجة ذلك الرجل، ولم تدر الزوجة تفصيل الأمر، وكان عند مالك أنفة فخرج إلى مكة ناقضا للعهد، فلما بلغ زوجة ذلك الرجل وجه الحيلة وما أخفاه زوجها أخبرت سعدى بما تم، فخرجت على وجهها إلى مكة حتى اجتمعت به وكان مالك مع كعب بن مسعدة الغفاري يمشيان في القمر فسمعها كعب تقول إلى نسوة بجانبها: إى والله هو ثم قربن من كعب فقالت إحداهن: قل لصاحبك:
ليست لياليك في حج بعائدة
كما عهدت ولا أيام ذي سلم
فقال كعب لمالك: قد سمعت فأجب، قال: قد انقطعت فأجب أنت، فقال ولم يحضره غيره:
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وانصرفا، فما استقر بهما المقام إلا وجارية تقول: أجب المرأة التي كلمتك، فلما جاء كعب إليها قالت: أنت المجيب؟ قال: نعم، قالت: فما أقصر جوابك، قال: لم يحضرني غيره، فقالت: لم يخلق الله أحب إلي من الذي معك، فقال: علي أن أحضره إليك، فقالت: هيهات فضمنه الليلة القابلة فرآه في منزله فأخبره بالقصة كالمكاشف وقال: لقد ضمنت لها حضورك الليلة القابلة، فلما كان الوقت مضيا فإذا بالمجلس قد طيب وفرش فجلس مالك وجلست سعدى أمامه فتعاتبا، فأنشدته أبيات عبد الله بن الدمينة:
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتني
لها عرضا أرمى وأنت سليم
فلو أن قولا يكلم الجسم قد بدا
بجسمي من قول الوشاة كلوم
فأجابها:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن
وفي بعض هذا للمحب عزاء
جزيتك ضعف الود ثم حرمتني
فحبك في قلبي إلي إذاء
فالتفتت إلى كعب وقالت: ألا تسمع؟ فغمزه فكف ثم أنشدت:
تجاهلت وصلي حين لاحت عمايتي
فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصر
ولي من قوى الحبل الذي قطعته
نصيب ولي رأي وعقل موفر
ولكنني آذنت بالصوم بغتة
ولست على مثل الذي جئت أقدر
فأجابها:
لقد كنت أنهى النفس عنك لعلها
إذا وعدت بالنأي عنك تطيب
ثم قبلها وأنشد:
دمي عليك من الجفون سكوب
والقلب منك مروع مكروب
لا شيء في الدنيا ألذ من الهوى
إن لم يخن عهد الحبيب حبيب
فأجابته:
خلوتم بأنواع السرور هناكم
وأفردتموني للصبابة والحزن
وعذبتموني بالصدود وإنني
لراض بما ترضونه لي من الغبن
ثم افترقا، فقالت لكعب: ما قلت لك أنك لا تفي بضمانتك، ولكن إذا كان السحر فأتني، فجاء كعب فإذا بالصياح فسأل الجارية عن الخبر، فقالت: حين خرجتما جعلت سعدى في عنقها ما خنقت به نفسها فلحقناها فخلصناها، فجلست ساعة تحادثنا وتفتكره فتقول: إنه لقاسي القلب، ثم شهقت فماتت، فلما بلغ الشاب خبر موتها ندم ثم لزم قبرها فجاءته في النوم فقالت: هلا كان هذا من قبل، فمات من وقته.
عروة بن حزام وعفراء العذرية
كان لعروة بن حزام ابنة عم من أعظم مشاهير عصرها حسنا وجمالا وأدبا وظرفا وفصاحة تدعى عفراء، فربيا معا وله من العمر أربع سنين، فكان يألفها وتألفه ويلعبان معا غالب الأحيان، فلما بلغا الحلم سأل عمه تزويجها فوعده ذلك وأخرجه إلى الشام فجاء ابن أخ له يدعى أثالة بن سعيد بن مالك فرأى عفراء خارجة من خدرها حاسرة عن وجهها ومعصميها وعليها إزار خز فوقعت من قلبه بمكانة عظيمة فخطبها من عمه فزوجه بها وعادوا إلى الشام، فلما بلغ عروة ذلك بهت لا يحر جوابا وزادت به لواعج النوى فأنشد:
وإني لتعروني لذكراك رعدة
لها بين جلدي والعظام دبيب
فما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
فقلت لعراف اليمامة داوني
فإنك إن أبرأتني لطبيب
فما بي من حمى ولا مس جنة
ولكن عمي الحميري كذوب
عشية لا عفراء منك بعيدة
فتسلو ولا عفراء منك قريب
وبي من جوى الأحزان والبعد لوعة
تكاد لها نفس الشفيق تذوب
وما عجب موت المحبين في الهوى
ولكن بقاء العاشقين عجيب
وما بلغ الحي حتى أخذه الهذيان والقلق وأقام أياما لا يتناول طعاما حتى شفت عظامه ولم يخبر بسره أحدا، ولما أشفى ويئس من الشفاء وعلم الضجر من أهله قال لهم: احتملوني إلى البلقاء فإني أرجو الشفاء، فلما حل بها وجعل يسارق عفراء النظر في مرورها عاودته الصحة فأقام كذلك إلى أن لقيه شخص من عذرة فسلم عليه، فلما أمسى دخل العذري على زوج عفراء وقال له: متى أتى هذا الوغد فقد فضحكم بكثرة تشبيبه، فقال: من تعني؟ قال: عروة، قال: أنت أحق بما وصفت، والله ما علمت بقدومه، وكان زوج عفراء متصفا بالسيادة ومحاسن الأخلاق في قومه، فلما أصبح جعل يتصفح الأمكنة حتى لقي عروة فعاتبه وأقسم أن لا ينزل إلا عنده، فوعده ذلك، فذهب مطمئنا، أما عروة فإنه عزم ألا يبيت الليل وقد علموا به، فخرج فعاوده المرض فتوفي بوادي القرى دون منازل قومه، فلما بلغ عفراء موته قالت لزوجها: قد تعلم ما بينك وبيني، وبين الرجل من النسابة وما عندي من الوجد وإن ذلك على الحسن الجميل فهل تأذن لي أن أخرج إلى قبره فأندبه فقد بلغني أنه قضى؟ قال: ذلك إليك، فخرجت حتى أتت قبره فتمرغت عليه وبكت طويلا ثم أنشدت:
ألا أيها الركب المجدون ويحكم
بحق لقيتم عروة بن حزام
فإن كان حقا ما تقولون فاعلموا
بأن قد نعيتم بدر كل ظلام
فلا لقي الفتيان بعدك راحة
ولا رجعوا عن غيبة بسلام
ولا وضعت أنثى تماما بمثله
ولا فرحت من بعده بغلام
ولما فرغت من الشعر ألقت نفسها على القبر وأنشدت تقول بطرف قد عراه الأفول:
عداني أن أزورك يا خليلي
معاشر كلهم واش حسود
أشاعوا ما علمت من الدواهي
وعابونا وما فيهم رشيد
فأما إذ ثويت اليوم لحدا
فدور الناس كلهم اللحود
فلا طابت لي الدنيا مذاقا
فبعدك لا يطيب لي المديد
وما فرغت من شعرها حتى غابت عن الوجود فحركت فإذا هي ميتة فدفنت إلى جانب حبيبها.
مصرع عاشق من بني عذرة
قال أحدهم: اجتزت في بعض أسفاري حي بني عذرة فنزلت في بعض بيوته فرأيت جارية قد ألبست من الجمال حلة الكمال فأعجبني حسنها وكمالها، فخرجت في بعض الأيام أدور في الحي وإذا أنا بشاب حسن الوجه عليه أثر الوجد أضعف من الهلال وأنحل من الخلال وهو يوقد نارا تحت قدر ويردد أبياتا ودموعه تجري على خديه فسمعته يقول:
فلا عنك لي صبر ولا فيك حيلة
ولا منك لي بد ولا عنك مهرب
ولي ألف باب قد عرفت طريقها
ولكن بلا قلب إلى أين أذهب
فلو كان لي قلبان عشت بواحد
وأفردت قلبا في هواك يعذب
فسألت عن الشاب وشأنه فقيل لي: يهوى الجارية التي أنت نازل بيت أبيها وهي محتجبة عنه منذ أعوام، فرجعت إلى البيت وذكرت لها ما رأيت، فقالت: صلاح حاله في أن لا يراني، فحسبت أن امتناعها فتنة فيها فما زلت أقسم حتى أظهرت القبول مكرهة، فلما قبلت ذلك مني قلت: أنجزي الآن وعدك فدتك روحي، فقالت: تقدمني فإني سائرة في إثرك، فأسرعت عند الغلام وقلت: أبشر بحضور من تريد فإنها مقبلة نحوك الآن، فبينا أنا أتكلم معه إذ خرجت من خبائها مقبلة تجر أذيالها وقد أثارت الريح غبار أقدامها حتى ستر الغبار شخصها، فقلت للشاب: ها هي قد أقبلت، فلما نظر إلى الغبار صعق وخر على نار أمامه فما أقعدته إلا وقد أخذت النار من صدره ووجهه، فرجعت الجارية وهي تقول: من لا يطيق غبار نعالنا كيف يطيق مطالعة جمالنا.
كناس بني عذرة
قال الأصمعي: بينا أنا سائر في أحياء بني عذرة إذ سمعت صوتا يقول:
جنبوني ديار هند وسعدى
ليس مثلي يحل دار الهوان
فالتفت يمنة وشمالا فإذا الصوت خارج من حش، فأقبلت حتى وقفت عليه فإذا بكناس يكنس الأرض، فقلت: سبحان الله أنت تكنس في أحياء عذرة وتقول: «ليس مثلي يحل دار الهوان» فأنى ذلك وأي هوان أكثر مما أنت فيه؟! فرفع رأسه إلي وقال:
لا تلمني فإنني نشوان
أنا في الملك ما سقتني الدنان
القسم الثالث
في نوادر بني عامر
سبب عشق قيس لليلى العامرية
مر قيس يوما على ناقة لابسا حلة ملوكية ومعه زمرة من قومه فصادف ليلى مع نسوة من قومها يتحدثن فأعجبهن فاستنزلنه للمنادمة، فنزل وعقر لهن ناقته وأقام معهن بياض اليوم، وكانت ليلى مع من حضر، فحين وقع نظره عليها لم يصرف عنها طرفا وشاغلته فلم يشتغل، فلما نحر الناقة جاءت لتمسك معه اللحم فجعل يجز بالمدية في كفه وهو شاخص فيها حتى أعرق كفه فجذبتها من يده ولم يدر، ثم قال لها: أتأكلين الشواء؟ قالت: نعم، فطرح من اللحم شيئا على الغضى وأقبل يحادثها، فقالت له: انظر إلى اللحم هل استوى أم لا، فمد يده إلى الحجر وجعل يقلب بها اللحم فاحترقت ولم يشعر، فلما علمت ما داخله صرفته عن ذلك ثم شدت يده بهدب قناعها، فذهب وقد تحكم عشقها من قلبه، فاستدعته بعد ذلك وقد داخلها الحب فقالت له: هل لك في محادثة من لا يصرفه عنك صارف؟ قال: ومن لي بذلك؟ فقالت له: اجلس، فجلس وجعلا يتحادثان حتى مضى الوقت، ولم يزالا على ذلك حتى حجبها أبوها عنه وزوجها من غيره.
تجربة ليلى لقيس بن الملوح
صادف قيس بن الملوح يوما ليلى بنت مهدي وقد صبا إليها قلبه فأخذ يحدثها وتحدثه حتى أمسى فانصرف، فبات في ليلة طالت عليه وجهد أن يغمض فلم يقدر، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
وداوم زيارتها وترك إتيان كل من كان يأتيه غيرها إلى أن تملك الحب قلبيهما، فأرادت يوما أن تجربه فأخذت تصد عنه وتعرض بوجهها عن نظره، فلما رأى ذلك منها اشتد عليه وجزع حتى عرف ذلك فيه، فخافت عليه وقالت:
كلانا مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
فسرى عنه الحزن وعلم ما في قلبها، أما هي فقالت له: إنما أردت امتحانك والذي لك عندي أكثر مما لي عندك، وإني أعاهدك من الآن على حفظ العهد والقيام بالوفاء، ولست مائلة بعد يومي هذا إلى أحد سواك حتى أذوق الموت، فانصرف في المساء وهو أسر الناس بما سمع منها، فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة
من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إليه وصيتي
ولا وارث إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلها
وحلت مكانا لم يكن حل من قبل
مجنون ليلى وليلى والأمير
سمع أحد أمراء العرب بليلى ومجنونها فأمر بإحضارهما إليه، فلما وقفت ليلى بين يديه رآها فتاة هزيلة سمراء فلم يعبأ بها قط واحتقرها، فتفرس المجنون بالأمير وقال: أيها الأمير لو نظرت إلى ليلى من طاقات أعين المجنون المبتلى لانجلى لك بمحبتها سر مشاهدتها، فسر الأمير وأعجب من ذلك الجواب.
قيس بن الملوح وأمه وليلى
قال يونس النحوي: لما خلط قيس بن الملوح وزال عقله وامتنع من الأكل والشرب صارت أمه إلى ليلى فقالت لها: إن ابني جن من أجلك وذهب حبك بعقله، وقد امتنع من الطعام والشراب، فإن رأيت أن تصيري معي إليه فلعله إذ رآك يسكن بعض ما يجد، فقالت لها: أما نهارا فما يمكنني ذلك ولا آمن على نفسي ولكن سأصير إليه في الليل، فلما كان الليل صارت إليه وهو مطرق يهذي، فقالت: يا قيس، إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي وأصابك ما أصابك، فرفع رأسه ونظر إليها وتنفس الصعداء وأنشأ يقول:
قالت لقد جننت على رأسي فقلت لها
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
افتضاح أمر قيس وليلى
ذهب قيس يوما إلى بيت أبي ليلى ليقترض سمنا يقري به ضيوف أبيه، فقال أبو ليلى: يا ليلى أخرجي ذلك السمن واقضي حاجة هذا الفتى، فخرجت إليه وسلمت عليه وجعلت تسكب السمن في إنائه وهي تشكو ما لها عنده من الشوق، فلما سمع كلامها طاب قلبه فالتهى معها بالحديث إلى أن فاض الإناء وصار السمن يقطر على الأرض، وما زالا يتحادثان حتى غاصت أرجلهما بالسمن، فاستبطأها أبوها وناداها فلم تنتبه إليه فخرج ليكشف الخبر وقد أنكر أمرها فوجدها على تلك الحالة، فغضب غضبا شديدا ومنعها الزيارة وحجبها عنه خوف الفضيحة، فصار يغتنم غفلة الرقيب فيجتمع بها ويطفي ما بقلبه من الالتياع، فلما بلغه ذلك شكاه إلى الخليفة ابن مروان، فأمر عامله بقتله إذا هو زارها، فلما بلغ قيسا ذلك تنهد وأنشد:
لئن حجبت ليلى وآلى أميرها
علي يمينا جاهدا لا أزورها
على غير شيء غير أني أحبها
وأن فؤادي عند ليلى سميرها
ولما زاد شوقه ذهب ليسترق النظر من ليلى فرأى الحي خاليا فسأل عنها فقيل له: إنها سارت وقومها إلى جبل توباد، فقصد ذلك المكان وما زال يبحث عنها حتى لقيها فشكا لها وشكت له وأخذا يتناجيان ثم بكى قيس وأنشد:
أيا ليلى زند البين يقدح في صدري
ونار الأسى ترمي فؤادي بالحجر
فلا تحسبي يا ليلى أني نسيتكم
فإن مدى الأيام ذكرك في فكري
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا
وما هطلت عين على واضح النهر
فرقت له ليلى وضمته إلى صدرها، وبعد قليل ودعها وسار عائدا إلى أهله.
ذهاب قيس إلى الكعبة وزواج ليلى بغيره
لما هاجت من قيس علل الحب والغرام أشفق عليه جميع الأهل ورثوا لحاله وعرضوا على أبيه أن يأخذه إلى الكعبة عله يبرأ من علته، فأجابهم إلى ذلك وسار ومعه ابنه قيس، فلما بلغوا الكعبة قال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة، ففعل، فقال: قل اللهم يا من احتجبت عن العيون أرحني من حب ليلى وأزل عني هذا الجنون، فقال: أيها الإله الحي إني تائب إليك عن جميع الخطايا إلا من حب ليلى فإنني لا أتوب، ثم أنشد:
يقولون تب عن حب ليلى وذكرها
وتلك لعمري توبة لا أتوبها
يقر بعيني قربها ويزيدني
بها عجبا من كان عندي يعيبها
فيا نفس صبرا لست والله فاعلمي
بأول نفس غاب عنها حبيبها
فحزن عليه أبوه وجميع الأهل والأصدقاء، ثم إنه هام في عرض الفلاة، فلحق به أبوه وأراد القوم أن يأتوا به مكبلا، فقال لهم: مهلا مهلا فقلبي عليل لا يقدر على العذاب، فتركوه وبكى أبوه شفقة عليه وقال له: يا ولدي إلى متى وأنت في هذا الشقاء العظيم؟ أما كفاك الجولان في الفقار حتى عدمت النشاط وصرت إلى الانحطاط؟! فدع عنك هذه الأوهام وعد إلى العقل والرشاد، وما زال أبوه يشاغله بالأحاديث اللطيفة والعبارات الظريفة إلى أن راق ولان ورجع معه إلى الأوطان، وكانت ليلى قد تزوجت برجل يدعى سعيد بن حنيف، فلما بلغ قيسا ذلك الخبر اضطرب وأنشد:
وقد خبروني أن ليلى تزوجت
ولا بد لي من أن ألاقي حليلها
فإن كان مثلي لا ألمها على الهوى
وإن كان دوني بئس ما قد قضى لها
هيام قيس ومكاتبته لليلى
ثم زادت آلامه وهجر الأهل وهام في البراري والقفار وهو يترنم بهذه الأبيات:
أنيري مكان البدر إن أفل البدر
وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر
ففيك من الشمس المنيرة ضوءها
وليس لها منك التبسم والثغر
بلى لك نور الشمس والبدر كله
وما حملت عيناك شمس ولا بدر
لك النظرة اللألاء والبرق طالع
وليس لها منك الترائب والنحر
ومن أين للشمس المنيرة بالضحى
بمكحولة العينين في طرفها فتر
فرآه عن بعد رجل يدعى نوفل بن مساحق فسأل عنه فقيل: إنه قيس بن الملوح، وإنه ما وصل إلى ما وصل إلا من حبه ليلى، فقال: وأنى لي وصولا إليه؟ قالوا: اذكر له ليلى فيدنو منك ويأتي آنسا فرحا، فتقدم إليه نوفل وسلم عليه وقال له: بحياة ليلى التي هي عندك أعز الناس أن تنشدني من نفائس أشعارك ما تشنف به مسمعي، فأنشده قيس قصيدته التي مطلعها:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لم يعد على الناس عاديا
فلما سمع نوفل شعره اهتز طربا وقال: لله درك على هذه الألفاظ الرشيقة والمعاني البديعة الرقيقة، ولكن خل عنك هذا الحزن واتكل على الله فهو قادر على نجاتك، فقال قيس: كيف أطيق الصبر وقد اشتعل قلبي بنار الهوى أيما اشتعال؟ فدعني بالله أهيم في وجدي ولا أهتدي إلى هداي، فتركه نوفل وسار وبقي قيس هائما ينشد الأشعار.
وكانت ليلى منذ تزوجت لا تنشف لها دمعة ولا تبرد لها لوعة لشدة وجدها وخوفها على قيس حبيبها، فكتبت إليه يوما تشكو حالها وختمت الرقعة بهذه الأبيات:
سلام عليكم لا سلام ملامة
ولكن سلام للمحب عطور
لقد عيل صبري بعدكم وتكاثرت
همومي ولكن المحب صبور
فصبرا على ريب الزمان وجوره
لعل صروف الدائرات تدور
فلما بلغت قيسا تلك الرقعة كتب إليها يقول: من قيس بن الملوح الهائم الوامق إلى سيدة الملاح وكوكب الصباح ليلى العامرية، ورد إلي كتابك أيتها الحبيبة فقرأته طربا بعابق شذاك وأنا لم أزل في هذه القفار أهيم مع الوحوش والغزلان وحيدا ذليلا أقاسي الضر والأحزان حتى صرت نحيلا كالخيال من شوقي، وكادت تقضي على تباريح الهوى والسلام.
فلما بلغ ليلى حال قيس وما يلقاه على النوى حزنت عليه وبكت من شدة الالتياع.
لقاء زوج ليلى بقيس بن الملوح
لما زاد وجد ليلى بقيس بن الملوح وهاجت لذلك آلامها صارت تبدي لزوجها صدا وإعراضا، فعجب زوجها لذلك وسأل فعلم كنه الأمر وأن قيسا يهواها وتهواه وهو هائم لأجلها في واسع الفلاة ينشد فيها الأشعار ويأنس بالظباء الساريات في القفار، فاشتاق إلى رؤية قيس ومنادمته ومال إلى معرفته، فخرج يوما للصيد فلقيه وهو في روضة خضراء ينظر في بعض الغزلان، فتقدم زوج ليلى وسلم عليه وأنشد يقول:
ومن عجب جنونك في فتاة
مزوجة سواك ولن تراها
أيا مجنون كم تهوى بليلى
كأن الله لم يخلق سواها
فعلم قيس أنه بعلها فخر مغشيا عليه ثم أفاق فأنشد:
بعيشك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أم قبلت فاها
وهل دارت يداك بمنكبيها
وهل مالت عليك ذؤابتاها
فرق زوج ليلى لحالة قيس وحذره من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم عاد إلى الحمى.
كثير عزة ومجنون ليلى
قال المفضل بن الحسن: دخل كثير عزة على عبد الملك بن مروان فجعل ينشد شعره في عزة وعيناه تذرفان، فقال له عبد الملك: قاتلك الله يا كثير هل رأيت أحدا أعشق منك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت مرة أسير في البادية على ناقة لي، فبينا أنا أسير إذ نظر إلي شخص فأكدته فإذا رجل قد نصب شركا للظباء وقعد بعيدا منه، فسلمت عليه فرد السلام، فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ قال: نصبت شركا للظباء فأنا أرصدها، فقلت: إن قمت له لديك فصدت هل تطعمني؟ قال: إي والله، فنزلت فعلقت ناقتي وجلست أحدثه، فإذا هو أحسن خلق الله حديثا وأرقه وأغزله، فما لبثنا أن وقعت ظبية في الشرك، فوثب ووثبت معه فخلصها من الحبال ثم نظر في وجهها مليا فأطلقها وأنشأ يقول:
أيا شبه ليلى لن تراعي فإنني
لك اليوم من بين الوحوش صديق
ويا شبه ليلى لن تزالي بروضة
عليك سحاب دائم وبروق
فما أنا إذ شبهتها ثم لم تؤب
سليما عليها في الحياة شفيق
فديتك من أسر دهاك لحبها
فأنت لليلى ما حييت طليق
ثم أصلح شركه، وغدونا إلى موضعنا، فقلت: والله لا أبرح حتى أعرف أمر هذا الرجل، فأقمنا باقي يومنا فلم يقع شيء، فلما أمسينا قام إلى غار قريب من الموضع الذي كنا فيه وقمت معه فبتنا به، فلما أصبح الصباح غدا فنصب شركه، فلم يلبث أن وقعت ظبية شبيهة بأختها بالأمس فوثب إليها ووثبت معه فاستخرجها من الشرك ونظر في وجهها مليا ثم أطلقها فمرت، وأنشأ يقول:
اذهبي في كلاءة الرحمن
أنت مني في ذمة وأمان
ترهبيني والجيد منك كليلي
والحشا والنعام والعينان
لا تخافي بأن تفاجي بسوء
ما تغنى الحمام في الأغصان
ثم عدنا إلى موضعنا فلم يقع يومنا شيء، فلما أمسينا صرنا إلى الغار فبتنا فيه، فلما أصبحنا عدل إلى شركه وغدوت معه فنصبه وقعدنا نتحدث، وقد شغلني يا أمير المؤمنين حسن حديثه عما أنا فيه من الجوع، فبينا نتحدث إذ وقعت في الشرك ظبية فوثب إليها ووثبت معه، فاستخرجها من الشرك ثم نظر في وجهها وأراد أن يطلقها فقبضت على يده وقلت: ماذا تريد أن تعمل؟ أقمت ثلاثة أيام كلما صدت شيئا أطلقته، فنظر في وجهي وعيناه تذرفان وأنشأ يقول:
أتلحي محبا هائم القلب أن رأى
شبيها لمن يهواه في الحبل موثقا
فلما دنا منه تذكر شجوه
وذكره من قد نأى فتشوقا
فرحمته يا أمير المؤمنين وبكيت لبكائه، ونسبته فإذا هو قيس بن معاذ المجنون، فذلك والله أعشق مني يا أمير المؤمنين.
مصرع قيس بن الملوح
سمع قيس العامري ليلا هاتفا يقول:
أمنعية بالموت ليلى ولم تمت
كأنك عما قد أظلك غافل
فزاد منه لاعج الوجد وغاب عن الأبصار مدة من الزمان، فبينما كان أبو ليلى وبعض الأقرباء يبحثون عن مكانه وجدوه صريعا بين القبور وإلى رأسه ورقة كتب فيها:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضى
شقيت ولا هنئت من عيشك الخفضا
شقيت كما أشقيتني وتركتني
أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا
كأن فؤادي في مخاليب طائر
إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن وسيع الأرض حلقة خاتم
علي فما تزداد طولا ولا عرضا
فجزع أبوها غاية الجزع وقال: والله لو أعلم أن أمره يفضي إلى هذه الحال لاحتملت العار وزوجنه بابنتي ليلى.
ثم رأوا مكتوبا على حجر ملقى إلى هذين البيتين:
توسد أحجار اليمامة والقفر
ومات جريح القلب مندمل الصدر
فيا ليت هذا الحب يعشق مرة
فيعلم ما يلقى المحب من الهجر
راشد بن صفوان وهيفاء العامرية
كان راشد بن صفوان يغدو على بني عامر لألفة بينه وبين رجل، فلمح جارية منهم يقال لها: هيفاء بنت عبد الله بن عامر وكانت من أجمل نساء العرب، فغادره من حبها ما كاد أن يأتي على نفسه، ثم إن الجارية تزوجت بشخص من جهينة، فلما حملها إلى حيه وطال على الغلام الشوق وانقطاع الأخبار ذهب عقله فكان يسيح عاريا، فصادف صيادا قد اصطاد غزالا فوقف ينظر إليه ثم بكى وأنشد:
وذكرني من لا أبوح بذكره
محاجر ظبي في حبالة قانص
فقلت ودمع العين يجري بحرقة
ولحظي إلى عينيه لحظة شاخص
ألا أيهذا القانص الظبي حله
وإن كنت تأباه فعشر قلائص
خف الله لا تحبسه إن شبيهه
حبيبي فقد أرعدت فيه فرائصي
فقال له الصياد: دونك فحله، فتقدم إليه وقبله وأطلقه وأتبعه النظر حتى غاب، ثم قال للصياد: ائتني غدا، فأتى فأعطاه عشرا من الإبل فأبى قبولها، فأقسم عليه أن يأخذها، فقبلها وانصرف.
العاشق المفارق
حدث بعض العرب قال: مررنا بماء وعليه صبية يتغاطسون وقريب منهم شاب عليه أثر الجمال إلا أنه نحيل من السقام، فسلمت عليه، فقال: ممن الراكب؟ قلت: من الحمى، فقال: كم أقمت به؟ قلت: قليلا، فتنفس الصعداء وأنشد:
سقى بلدا أمسى سليمى محله
من المزن ما يروى به ويشيم
وإن لم أكن من ساكنيه فإنه
يحل به شخص علي كريم
مالك العامري ومحبوبته
قال أحدهم: انصرفت من الحج فمررت بماوية وكان لي فيها صديق من بني عامر، فصرت إليه مسلما فأنزلني، فبينا أنا عنده ونحن قاعدان بفنائه إذا النساء مستبشرات وهن يقلن: تكلم تكلم، فقلن: ما هذا؟ فقالوا: فتى منا كان يعشق ابنة عم له فزوجت وحملت إلى ناحية الحجاز، فإنه لعلى فراشه منذ حول ما تكلم ولا أكل إلا أن يؤتى بما يأكله ويشربه، فقلت: أحب أن أراه، فقام وقمت معه فمشينا غير بعيد وإذا بفتى مضطجع بفناء بيت من تلك البيوت ولم يبق منه إلا خيال، فأكب الشيخ عليه يسأله وأمه واقفة، فقالت: يا مالك، هذا عمك أبو فلان يعودك، ففتح عينيه وأنشأ يقول:
ليبكني اليوم أهل الود والشفق
لم يبق من مهجتي إلا شفا رمق
اليوم آخر عهدي بالحياة فقد
أطلقت من ربقة الأحزان والقلق
ثم تنفس الصعداء فإذا هو ميت، فقام الشيخ، وقمت فانصرفت إلى خبائه فإذا جارية جميلة تبكي وتتفجع، فقال الشيخ: ما يبكيك؟ فأنشأت تقول:
ألست أبكي لصب شف مهجته
طول السقام وأضنى جسمه الكمد
يا ليت من خلف القلب المهيم به
عندي فأشكو إليه بعض ما أجد
أنشر تربك أسرى لي النسيم به
أم أنت حيث يناط السحر والكبد
ثم انثنت على كبدها وشهقت فإذا هي ميتة.
مصرع عاشق على قبر عشيقته
قال جبر بن حبيب: أقبلت من مكة أريد اليمامة، فنزلت بحي بني عامر فأكرموا مثواي، فإذا فتى حسن الهيئة قد جاءني فسلم علي، وقال: أين يريد الراكب؟ قلت: اليمامة، قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من مكة، فجلس إلي فحادثني أحسن الحديث، ثم قال لي: أتأذن في صحبتك إلى اليمامة، فقلت: أحب خير مصحوب، فقام فما لبث أن جاء بناقة بيضاء وعليها أداة حسنة، فأناخها قريبا من مبيتي وتوسد ذراعها، فلما هممت بالرحيل أيقظته، فكأنه لم يكن نائما، فقام وأصلح رحله وركب وركبت، فقصر علي يومي بصحبته، وسهلت علي وعوث السفر، فلما رأينا بياض قصور اليمامة أنشد قائلا:
وأعرضت اليمامة واشمخرت
كأسياف بأيدي مصلتينا
وهو في ذلك كله لا ينشدني إلا أبياتا معجبة في الهوى، فلما قربنا من اليمامة مال عن الطريق إلى أبيات قريبة منا، فقلت له: لعلك تحاول حاجة في هذه الأبيات؟ قال: أجل، قلت: انطلق راشدا، فقال: هل أنت موف حق الصحبة؟ قلت: أفعل، قال: مل معي، فملت معه، فلما رآه أهل الصرم ابتدروه، وإذا فتيان لهم شارة فأناخوا بنا وعقلوا ناقتينا وأظهروا السرور وأكثروا البر، ورأيتهم أشد شيء له تعظيما، ثم قال: قوموا إن شئتم، فقام وقمت لقيامه، حتى إذا صرنا إلى قبر حديث البناء ألقى نفسه عليه وأنشأ يقول:
لئن منعوني في حياتي زيارة
أحامي بها نفسا تملكها الحب
فلن يمنعوني أن أجاور لحدها
فيجمع جسمينا التجاور والترب
ثم أن أنة الأسى ووقع ميتا إلى الأرض، فأقمت مع الفتيان حتى احتفرنا له ودفناه، فسألت عنه فقالوا: ابن سيد هذا الحي، وهذه ابنة عمه وهي إحدى نساء قومه وكان بها مغرما فماتت منذ ثلاث سنين، فأقبل إليها وقد رأيت ما آل إليه أمره، فعدت والله وقد انفطرت مرارتي من الحزن عليه.
القسم الرابع
في نوادر الشعراء
صريع الغواني
دخل مسلم بن الوليد الملقب بصريع الغواني يوما على الفضل فأقام عنده وشرب معه، وكانت على رأس الفضل وصيفة تسقيه كأنها لؤلؤة، فلمح الفضل مسلما ينظر إليها. فقال: قد أعجبتك والله يا أبا الوليد، فقل أبياتا لأهبها لك، فأنشد:
إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني
كأسا ألذ بها من فيك تشفيني
عيناك راحي وريحاني حديثك لي
ولون خديك لون الورد يكفيني
إذا نهاني عن شرب الطلا حرج
فخمر عينيك يغنيني ويجزيني
لولا علامات شيب لو أتت وعظت
لقد صحوت ولكن سوف تأتيني
أرضي الشباب فإن أهلك ففي قدر
وإن بقيت فإن الشيب يسليني
فقال الفضل: خذها بورك لك فيها.
صريع الغواني والرجل
سأل رجل مسلما، لم تدعى صريع الغواني؟ فأنشأ يقول:
إن ورد الخدود والأعين النجل
وما في الخدود من أقحوان
واسوداد الصدغين في واضح الخد
وما في الصدور من رمان
تركتني لدى الغواني صريعا
فلهذا أدعى صريع الغواني
صريع الغواني والكناس
وقف صريع الغواني بباب محمد بن منصور فاستسقى، فأمر وصيفا له فأخرج إليه خمرا في كأس مذهبة، فلما نظر إليها في راحته قال:
ذهب في ذهب راح
بها غصن لجين
وأتت قرة عيني
من يدى قرة عين
قمرا يحمل شمسا
مرحبا بالقمرين
لا جرى بيني ولا بينه
ما طائر بين
وبقينا ما بقينا
أبدا متفقين
في غبوق وصبوح
لم نبع نقدا بدين
صريع الغواني يرثي زوجة له
كانت لمسلم بن الوليد زوجة يحبها فماتت، فجزع عليها جزعا شديدا وتنسك مدة وعزم على ملازمة ذلك، فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره، ففعل، فأكلوا وقدموا الشراب فامتنع منه مسلم وأبى وأنشأ يقول:
بكاء وكأس كيف يتفقان
سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني وإفراط البكاء فإنني
أرى اليوم فيه غير ما ترياني
غدت والثرى أولى بها من وليها
إلى منزل قاص لعينك داني
فلا حزن حتى تنزف العين ماءها
وتعترف الأحشاء للخفقان
وكيف يدفع اليأس والوجد بعدها
وسهماهما في القلب يختلجان
الحسن بن هانئ والجارية
قال الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة - وذلك إبان الربيع - نزلنا بإزاء ماء لبني تميم، ذا روض أريض، ونبت غريض، تخضع لبهجته أطايب الشذا، فقرت بنضرتها العيون، وارتاحت إلى حسنها القلوب، وانفرجت لبهائها الصدور، فلم نلبث أن أقبلت السماء فانشق غمامها وتدانى من الأرض ركامها، وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة، فسرحت طرفي راتعا منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر، فلما انتهينا إلى أوائلها إذا نحن بخباء على بابه جارية مشرقة ترنو بطرف مريض الجفون وسنان النظر، فقلت لزميلي: استنطقها، قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: اطلب منها شربة ماء، فطلب، فقالت: حبا وكرامة، ومضت تتمايل كغصن البان بقامة كقضيب الخيزران، فراعني ما رأيت منها، ثم أتت بالماء، فشربت منه وصببت باقيه على يدي، ثم قلت: وصاحبي أيضا عطشان، فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك الله في ملبس
فلا بارك الله في البرقع
يريك عيون الدمى غرة
ويكشف عن منظر أشنع
فسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خمارا أسود وهي تقول:
ألا حي ربعي معشر قد أراهما
أقاما فما أن يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة
ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما
فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر بنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها صم الصلاب لانبجست مع وجه يظلم من نوره ضياء العقول، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير، فهمت بها أي هيام، وخررت ساجدا، فأطلت من غير تسبيح فقالت: ارفع رأسك أيها الشاب ولا تذم بعدها برقعا، فلربما انكشف عما يصرف الكرى، ويحل القوى، ويطيل الوجد والجوى، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب، حيران لا أهتدي لطريق إلى أن آن وقت الرحيل، فانصرفت من عندها وأنا أقول:
يا حسرتا مما يجن فؤادي
أزف الرحيل بعبرتي وبعادي
أبو نواس والجارية جنان
كان أبو النواس يحب جنان حبا قاتلا عظيما، وكانت هي فتاة حسناء، أديبة، عاقلة، ظريفة، تعرف الأخبار، وتروي الأشعار، فرآها أبو النواس عند مولاها الوهاب، فاستحلاها ووقع حبها في قلبه إلى أن صار يردد ذكرها في كل مكان، فقيل له يوما: إن جنان عازمة على الحج، فقال: إني على إثرها أحج، فلما علم أنها خارجة سبقها وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه إلا خروجها، فصار يسترق منها النظرات ويبغي الفرص فلا يجد لها سبيلا، فلما عادت عاد معها وأنشد يقول هذه الأبيات:
ألم تر أنني أفنيت عمري
بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سببا إليها
يقربني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان
فيجمعني وإياها المسير
ثم كتب إليها يقول:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أملك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
كل نبي وملك
وكل من أهل لك
سبح أو لبى فلك
يا مخطئا ما أغفلك
عجل وبادر أجلك
واختم بخير عملك
لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك
والعز لا شريك لك
فلما بلغها الكتاب لم تجبه عليه، وحدث أنها جاءت يوما إلى عرس في جواره، فلما عزمت على الانصراف رآها أبو النواس فأنشد بديها:
شهدت جلوة العروس جنان
فاستمالت بحسنها النظاره
حسبوها العروس حين رأوها
فإليها دون العروس الإشاره
وغضبت يوما جنان من كلام كلمها به، فأرسل يعتذر إليها، فقالت للرسول: قل له: «لا برح الهجران ربعك، ولا بلغت أملك ممن أحبتك»، فرجع الرسول، فسأله عن جوابها، فلم يخبره، فقال:
فديتك فيما عتبك من كلام
نطقت به على وجه جميل
وقولك للرسول عليك غيري
فليس إلى التواصل من سبيل
فقد جاء الرسول له انكسار
وحال ما عليه من قبول
ولو ردت جنان مرد خير
تبين ذاك في وجه الرسول
فلم تزل جنان من أبي النواس في معرض الصد والحنق إلى أن أنشد لها أبياتا حسان نفت عنها الكدر والشك وهي:
جنان إن جدت يا مناي بما
آمل لم تقطر السماء دما
وإن تمادى ولا تماديت في
منعك أصبح في قفرة رمما
علقت من لو أتى على أنفس
الماضين والغابرين ما ندما
لو نظرت عينه إلى حجر
وشد فيه فتوره سقما
أبو نواس وامرأة من الثقفيين
مرت بأبي النواس امرأة من الثقفيين، فسألها عن جنان، فأخبرته خبرها وقالت: قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم بي: «ويحك قد آذاني هذا الفتى وضيق صدري، وسد في وجهي السبل بحدة نظره وتهتكه، فقد لهج قلبي بذكره حتى رحمته لما به»، ثم التفتت فأمسكت عن الكلام، ففرح أبو النواس بذلك، فلما قامت المرأة أنشأ يقول:
يا ذا الذي عن جنان ظل يخبرنا
بالله قل وأعد يا طيب الخبر
قال اشتكتك وقالت ما ابتليت به
أراه من حيثما أقبلت في أثري
ويعمل الطرف نحوي إن مررت به
حتى ليخجلني من حدة النظر
وإن وقفت له كيما يكلمني
في الموضع الخلو لم ينطق من الحصر
ما زال يفعل بي هذا ويدمنه
حتى لقد صار من همي ومن وطري
ما كتبته جنان لأبي نواس
أرسلت جنان لأبي النواس تقول: «قد شهرتني فاقطع زيارتك عني أياما لينقطع بعض القالة»، ففعل وكتب إليها:
إنا اهتجرنا للناس إذ فطنوا
وبيننا حين نلتقي حسن
ندافع الأمر وهو مقتبل
فشب حتى عليه قد مرنوا
فليس يقذي عينا معاينة
له وما إن تمجه أذن
ويح ثقيف ماذا يضرهم
لو كان لي في ديارهم سكن
أريب ما بيننا الحديث فإن
زدنا فزيدوا فما لذا ثمن
ولما طال الفراق وضاقت دون لقياها الحيل كتب إليها من بغداد:
كفى حزنا أن لا أرى وجه حيلة
أزور بها الأحباب في حكمان
وأقسم لولا أن تنال معاشر
جنانا بما لا أشتهي لجنان
لأصبحت فيها داني الدار لاصقا
ولكن ما أخشى فديت عداني
فواحزنا حزنا يؤدي إلى الردى
فأصبح مأثورا بكل لسان
أراني انقضت أيام وصلي بينكم
وآذن فيكم بالوداع زماني
عتاب أبي نواس وجنان
بلغ أبا نواس أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها، فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر، فأنشد يقول:
وإباء بي من إذا ذكرت له
وطول وجدي به تنقصني
لو سألوه عن وجه حجته
في سبه لي لقال يعشقني
نعم إلى الحشر والتنادي نعم
أعشقه أو ألقى في كفني
أصبح جهرا لا أستسر به
عنفني فيه من يعنفني
يا معشر الناس فاسمعوه وعوا
إن جنانا صديقة الحسن
فبلغها ذلك فهجرته وأطالت هجره، فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالحته، فكتب إليها:
إذا التقى في النوم طيفانا
عاد لنا الوصل كما كانا
يا قرة العين فما بالنا
نشقى ويلتذ خيالانا
لو شئت إذا أحسنت لي في الكرى
أتممت إحسانك يقظانا
يا عاشقين اصطلحا في الكرى
وأصبحا غضبى وغضبانا
كذلك الأحلام غدارة
وربما تصدق أحيانا
غضب أبي نواس ورضاؤه عليها
رأى أبو النواس جنانا في ثقيف، فقابلته بما كره، فغضب وهجرها مدة، فأرسلت إليه رسولا تصالحه، فرده ولم يصالحها، فرآها في النوم تطلب صلحه، فقال:
دست له طيفها كيما تصالحه
في النوم حين تأبى الصلح يقظانا
فلم يجد عند طيفي طيفها فرجا
ولا رثى لتشكيه ولا لانا
حسبت أن خيالي لا يكون لما
أكون من أجله غضبان غضبانا
جنان لا تسأليني الصلح سرعة ذا
فلم يكن هينا منك الذي كانا
وبعد ذلك ورد إليه كتاب منها وفي سطوره بعض المحو، فكتب إليها يقول:
أكثري المحو في كتابك وامحيه
إذا ما محوته باللسان
وامرري بالمحاء بين ثناياك
العذاب المفلجات الحسان
إنني كلما مررت بسطر
فيه محو لطعته بلساني
تلك تقبيلة لكم من بعيد
أهديت لي وما برحت مكاني
وصف أبي نواس لمحبوبته جنان
رأى أبو النواس جنانا في مأتم سيدها تندبه باكية وهي مخضبة، فقال بديها:
يا قمرا أبرزه مأتم
يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذري الدر من نرجس
ويلطم الورد بعناب
لا تبك ميتا حل في حفرة
وابك قتيلا لك بالباب
أبرزه المأتم لي كارها
برغم دايات وحجاب
لا زال موتا دأب أحبابه
ولا تزل رؤيته دابي
اعتلال أبي نواس لعلة جنان
دخل على أبي نواس بعض أصحابه يعودونه وهو مريض فوجدوا به خفة، فلما رآهم فرح وسر لقدومهم، ثم قال: من أين جئتم؟ قالوا: من عند جنان، فقال: أوكانت عليلة؟ قالوا: نعم، وقد عوفيت الآن، فقال: والله أنكرت علتي هذه ولم أعرف لها سببا غير أني توهمت أن ذلك لعلة نالت بعض من أحب، ولقد وجدت في يومي هذا راحة ففرحت طمعا أن يكون الله عافاها منه قبلي، ثم دعا بدواة وكتب إلى جنان:
إني حممت ولم أشعر بحماك
حتى تحدث عوادي بشكواك
فقلت ما كانت الحمى لتطرقني
من غير ما سبب إلا بحماك
وخصلة قمت فيها غير متهم
عافاني الله منها حين عافاك
حتى إذا ما انقضت نفسي ونفسك في
هذا وذاك وفي هذي وفي ذاك
فضل الشاعرة وزائرها
قال يحيى بن الخصيب: كنت عند فضل الشاعرة إذ استأذن عليها إنسان، فأذنت له وقالت: ما حاجتك؟ قال: تجيزين مصراع بيت من الشعر، قالت: ما هو؟ قال:
من لمحب أحب في صغره
فقالت:
قصار أحدوثة على كبره
من نظر شفه وأرقه
فكان مبدأ هواه من نظره
لولا الأماني لمات من كمد
مر الليالي تزيد في ذكره
ما إن له مسعد فيسعده
بالليل في طوله وفي قصره
محمد بن العباس وفضل الشاعرة
كتب محمد بن العباس اليزيدي يوما إلى فضل الشاعرة هذه الأبيات:
أصبحت فردا هائم العقل
إلى غزال حسن الشكل
أضنى فؤادي طول عهدي به
وبعده عني وعن وصلي
منية نفسي في هوى فضل
أن يجمع الله بها شملي
أهواك يا فضل هوى خالصا
فما بقلبي عنك من شغل
فأجابته تقول:
الصبر ينقص والسقام يزيد
والدار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه
لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى
من أن يطاع لديك في حسود
فضل وأحد جلساء الخليفة
كانت فضل تهوى أحد جلساء الخليفة سرا، فكتب لها خليلها يوما رقعة سلمها إياها، فأخذتها، فلما فضتها وجدت فيها:
ألا ليت شعري فيك هل تذكرينني
فذكراك في الدنيا إلي حبيب
وهل لي نصيب من فؤادك ثانيا
كما لك عندي في الفؤاد نصيب
ولست بموصول فأحيا بزورة
ولا النفس عند اليأس عنك تطيب
فكتبت إليه:
نعم وإلهي إنني بك صبة
فهل أنت يا من لا عدمت مثيب
لمن أنت منه في الفؤاد مصور
وفي العين نصب العين حين تغيب
فثق بوداد أنت مظهر مثله
على أن بي سقما وأنت طبيب
المتوكل وفضل الشاعرة وبنان
اتكأ المتوكل يوما على يد فضل الشاعرة وبنان وجعل يمشي في داره، وقال لهما: أجيزا لي قول الشاعر:
تعلمت أسباب الرضا خوف عتبها
وعلمها حبي لها كيف تغضب
فقالت فضل:
تصد وأدنو بالمودة جاهدا
وتبعد عني بالوصال وأقرب
فقال بنان:
وعندي لها العتبى على كل حالة
فما منه لي بد ولا عنه مذهب
فضل الشاعرة وصديق ابن أبي طاهر
ألقى أحد أصحاب أحمد بن أبي طاهر على فضل الشاعرة يوما هذا البيت:
ومستفتح باب البلاء بنظرة
تزود منها قلبه حسرة الدهر
فقالت بديهة:
فوالله لا يدري أتدري بما جنت
على قلبه أو أهلكته وما تدري
سعيد بن حميد وفضل الشاعرة
كان بين فضل وسعيد بن حميد الشاعر مراسلات ومواصلات أدبية، فحضر مجلسها يوما ومعه بنان، فأقبلت على بنان وتركته، فذهب مغضبا، فظهر لها في وجهه ذلك فكتبت إليه:
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى
لأقصرت عن أشياء بالهزل والجد
ولكنني أبدي لهذا مودتي
وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد
مخافة أن يغري بنا قول كاشح
عدو فيسعى بالوصال إلى الصد
فكتب إليها سعيد:
تنامين عن ليلي وأسهره وحدي
وأنهى جفوني أن تبثك ما عندي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته
بنا فانظري ماذا على قاتل العمد
المتوكل وفضل الشاعرة
قال المتوكل: كان بيني وبين فضل موعد للقاء ، فشربت قبل مجيئها وسكرت فنمت، فجاءت فضل فحركتني فلم أنتبه، فلما يئست من إيقاظي كتبت رقعة ووضعتها على مخدتي وانصرفت، فلما انتبهت وجدتها فإذا مكتوب فيها:
قد بدا شبهك يا مو
لاي يحدو بالظلام
قم بنا نقض لبانا
ت التزام والتثام
قبل أن تفضحنا عو
دة أرواح النيام
سعيد بن حميد وفضل الشاعرة
دخلت فضل يوما على سعيد بن حميد فوثب إليها وسلم عليها وسألها أن تقيم عنده، فقالت: قد جاءني وحياتك رسول من القصر، فليس يمكنني الجلوس، وكرهت أن أقوم ببابك ولا أراك، فقال سعيد بديهة:
قربت ولا نرجو اللقاء ولا نرى
لنا حيلة يدنيك منا احتيالها
فأصبحت كالشمس المنيرة ضوءها
قريب ولكن أين منا منالها
وظاعنة ضنت بها غربة النوى
علينا ولكن قد يلم خيالها
تقر بها الآمال ثم تعوقها
مماطلة الدنيا بها واعتلالها
ولكنها أمنية فلعلها
يجود بها صرف النوى وانتقالها
وتغاضب سعيد بن حميد وفضل أياما فكتب إليها:
تعالي نجدد عهد الرضا
ونصفح في الحب عما مضى
ونجري على سنة العاشقين
ونضمن عني وعنك الرضا
ويبذل هذا لهذا هواه
ويصبر في حبه للقضا
ونخضع ذلا خضوع العبيد
لمولى عزيز إذا أعرضا
فإني مذ لج هذا العتاب
كأني أبطنت جمر الغضا
فسارت إليه وصالحته.
تخلف فضل عن سعيد بعد حبها له
بينما كان سعيد يوما في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه غلام برقعة من فضل، فقرأها فإذا هي تصف شوقها وتشكو ما تلقاه على البعد، فكتب إليها هذه الأبيات:
يا واصف الشوق عندي من شواهده
قلب يهيم وعين دمعها يكف
والنفس شاهدة بالود عارفة
وأنفس الناس بالأهواء تأتلف
فكن على ثقة مني وبينة
أني على ثقة من كل ما تصف
فلما وصل إليها الجواب طاب قلبها وسارت إليه وأقامت عنده عامة النهار وكرت راجعة، ولما تعشقت بنان بن عمر المغني وعدلت عن سعيد أسف عليها وأظهر تجلدا ثم قال فيها:
قالوا تعزى وقد بانوا فقلت لهم
بان العزاء على آثار من بانا
وكيف يملك سلوانا لحبهم
من لم يطق للهوى سترا وكتمانا
كانت عزائم صبري أستعين بها
وصارت علي بحمد الله أعوانا
لا خير في الحب لا تبدو شواكله
ولا ترى منه في العينين عنوانا
فلما بلغها الأبيات وما يقاسي لأجلها ندمت على ما كان وعادت فقالت له: ها أنا أموت وتستريح مني، فأنشأ يقول:
لا مت قبلي بل أحيا وأنت معا
ولا أعيش إلى يوم تموتينا
لكن نعيش بما نهوى ونأمله
ويرغم الله فينا أنف واشينا
حتى إذا قدر الرحمن ميتتنا
وحان من أمرنا ما ليس يعدونا
متنا جميعا كغصني بانة ذبلا
من بعد ما نضرا واستوثقا حينا
واجتمع بها ذات يوم في مجلس حافل، وبينا هم جالسون إذ دخل عليهم بنان المذكور، فأقبلت عليه فضل بحديثها، فغضب سعيد غضبا شديدا، وتبين بنان القصة فانصرف، وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة ثم أمسك، فقالت منشدة:
يا من أطلت تفرسي
في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل
يزهو بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأت
بلى أقول أنا المسي
أحلفتني أن لا أسارق
نظرة في مجلسي
فنظرت نظرة مخطئ
أتبعتها بتفرس
ونسيت أني قد حلفت
فما عقوبة من نسي
فقام سعيد وقبل رأسها وقال: لا عقوبة عليه، بل نحتمل هفوته ونتجافى عن إساءته.
العباس بن الأحنف
كان بعض الفتيان مجتمعين في حلقة لهو وطرب، فمر بهم رجل لطيف، حلو الوجه، سري الهيئة، عليه سيماء المجد والنعم، فقال: إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم، فأحببت أن أكون واحدا منكم، فلا تحتشموني، فقالوا له: أهلا وسهلا على الرحب والسعة، فجلس وإياهم يحدثهم بألطف الأحاديث وأعذب الكلام ففتنوا به، ثم قالوا له: ما اسمك الكريم؟ قال: العباس بن الأحنف، قالوا: إن رأيت أن تحدثنا بسبب تشريفك إيانا، قال: السب في ذلك أني أحب جارية في جواركم، فكنت أترقب مرورها لأنعم نظري بوجهها الحسن، فما زلت على ما أنا به من الشغف والكلف والشوق إلى نور وجهها إلى هذا اليوم، فجلست حينا أنتظرها فلم تمر فزاد مني لاعج الوجد وصرت كالحائر الولهان، فلما يئست من قدومها والنظر إلى رائق وجهها ورأيتكم على ما أنتم الآن من الأنس والطرب وددت مجالستكم والمؤانسة برقة كلامكم لأخفف عني ما ترون من العشق والصبابة، فقالوا له: ساعدك الله على ما تريد فإنا في قلق عليك، ثم ذهب عنهم ولم يعد إلا بعد عشرين يوما، فتلقوه جميعا بكل فرح وسألوه عن طول غيابه، فقال: دعاني أمير المؤمنين لأمر يهمه، فذهبت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس، إنما اخترناك شاعرا ظريفا ونديما لطيفا لقرب مأخذك وحسن تأنيك، فما لك لا تفتكر بنا ولا تأتي إلينا، فإنه حدث بين أمير المؤمنين وإحدى وصائفه التي يحبها عتب وملام وخلاف وكلام، فهي بصفة معشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك، وأرى أن تعمل بعض أبيات تكون أهلا لاستمالة قلبه تسهل عليه استعباد الصبابة، ففكرت فلم يخطر لي شيء، فلما لج في لومي كتبت له أربعة أبيات أعقبتها بيتين آخرين، فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب
وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصد مغاضبا
وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم
إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما
دب السلو له وعز المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفة
تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به
راجع من يهوى على رغم
ثم توجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد فدفعه إلى الرشيد فقال: والله ما رأيت شعرا أشبه بما نحن فيه من هذا، فكأني قصدت به، فقال له يحيى: وأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به، هذا يقوله العباس بن الأحنف، ولما بلغ أمير المؤمنين قوله: (راجع من يهوى على رغم) استغرب ضحكا حتى سمعت ضحكته الجارية، ثم دخل إليها بوجه بشوش على غير ما كانت تنتظر وبيده تلك الورقة، فلما رأته عجبت لذلك وسألت عن سبب رضائه، فقال: هو هذه الأبيات، فاقرئيها بالله، فلما قرأتها سرت كثيرا وقالت: من نظمها؟ قال: العباس بن الأحنف، قالت: لله دره، فكم أعطيته عليها؟ قال: ذهلت عن عطائه لكثرة فرحي واندهاشي، ثم أمرت لي بخلعة سنية، وعادت معه إلى سابق الحب ورائق العيش والوداد.
أبو العباس بن الأحنف
قال الأصمعي: بينا أنا ذات يوم قاعد في مجلس بالبصرة فإذا بغلام أحسن الناس وجها ونورا واقف على رأسي، فقال: إن مولاي يريد أن يوصي إليك، فقمت معه، فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء، فإذا أنا بالعباس بن الأحنف ملقى وهو يجود بنفسه ويقول:
يا بعيد الدار عن وطنه
مفردا يبكي على شجنه
كلما جد النحيب به
زادت الأسقام في بدنه
ثم أغمي عليه، فانتبه بصوت طائر على شجرة وهو يقول:
ولقد زاد الفؤاد شجى
هاتف يبكي على فننه
شاقني ما شاقه فبكى
كلنا يبكي على سكنه
ثم أغمي عليه فظننتها مثل الأولى فإذا هو ميت.
عنترة وعبلة
أحب عنترة بن شداد عبلة ابنة عمه وزاد هيامه بها، ففي أحد الأعياد بينما كان سائرا بين الخيام وقع نظره عليها وهي تخطر في هالة حسناء من ربات المعاطف وغادات الدلال فزاد منه الهيام وأنشد:
رمت الفؤاد مليحة عذراء
بسهام لحظ ما لهن دواء
مرت أوان العيد بين نواهد
مثل الشموس لحاظهن ظباء
فاعتادني سقمي الذي في باطني
أخفيته فأذاعه الإخفاء
خطرت فقلت قضيب بان حركت
أعطافه بعد الجنوب صباء
ودنت فقلت غزالة مذعورة
قد راعها وسط الفلاة بلاء
وبدت فقلت البدر ليلة تمه
قد قلدته نجومها الجوزاء
بسمت فلاح ضياء لؤلؤ ثغرها
فيه لداء العاشقين شفاء
سجدت تعظم ربها فتمايلت
لجلالها أربابنا العظماء
يا عبل مثل هواك أو أضعافه
عندي إذا دفع الإياس رجاء
إن كان يسعدني الزمان وإن أبى
فلهمتي في صرفه أدواء
فلما سمعت عبلة هذا الكلام وقع في قلبها مثل ما في قلبه من لاعج الحب والهيام فكتمت ما في نفسها منه، فبينما كان عنترة أحد الأيام يقدم اللبن إلى الإماء والمخدرات لاحت له عبلة فأشغلت فؤاده وكاد يعدم عقله ورشاده فقدم لها اللبن قبل سمية زوجة أبيه شداد، فغضبت سمية لتلك الجسارة وثارت منها عوامل الغيرة، فأخبرت أبيه بما جرى، فأمر بأن يشد وثاقه ويحبس في بعض الخيام، فحبس، فهجم يوما قوم على حيهم حين غاب شداد عنه فقتلوا العبيد وأخذوا يسبون النساء والأطفال، فلما علم عنترة بما جرى ورأى حبيبته عبلة حيرى بين الخيام عرضة للسبي والتهتك دفعته الشهامة إلى خلاصها وخلاص من معها، فتمطى بالوثاق فقطعه وهجم على القوم فمزقهم طرائق وخلص من أيديهم جميع النساء، فلما أتى شداد ورأى عنترة محلول الوثاق زاد منه الغيظ والغضب ونزل عليه بضرب السياط، فوقفت سمية تظلله وتدفع عنه الضرب الموجع وقد انحدرت من طرفها العبرات، فعجب شداد لذلك الانقلاب وقال لها: يا سمية، قد كنت أنت سبب شده في الوثاق وإثارة غضبي عليه، فما لك الآن تحامينه بنفسك وتصبين إليه شفقة وحنانا؟ فأعلمته سمية بما جرى وما أبداه عنترة من الشجاعة والمروءة، فرق له وعفا عنه، فلما رأى عنترة ما أبدته سمية نحوه من الشفقة وما سكبته لأجله من العبرات أنشد يقول:
أمن سمية دمع العين منحدر
أم من لهيب جوى في القلب مستعر
قامت تظللني والسوط يأخذني
والدمع من جفنها الفتان منهمر
كأنها حين ما أرخت ذوائبها
بدر بدا وظلام الليل معتكر
المال مالكم والعبد عبدكم
والروح تفديكم والسمع والبصر
مفارقة عنترة لابنة عمه
كان عنترة من شدة حبه لعبلة وشغفه بها ينشد فيها الأشعار ويردد ذكرها دوما، فلما بلغ عمه ذلك الخبر غضب منه وحقد عليه فأبعده عن الأحياء التي فيها عبلة، فسار كئيبا كسير الفؤاد إلى جهة بني فزارة فنزل ورجل من قومه يدعى حذيفة على مرج أفيح، وكان الوقت ربيعا والأرض قد رفلت ببديع زهرها ونشرت حللها الملونات على الصحاري والربوات وفاح بها الزهر من سائر الجهات، فلما رأى حذيفة تقصير عنترة في أكله وشربه قال له مشفقا: يا عنترة إلى متى يكون هذا الغم والكمد؟ ألا تعلم أن هذا يهدم ما تبنيه من مجدك وعلاك وأن عمك خاسر في هذه الفعال التي سوف يندم عليها؟ فقال عنترة : والله يا حذيفة لا آسف إلا على الجميل الضائع وعدم اعتباري في أعينهم، ثم جالت الدموع في عينيه وتحسر مما جرى له، فقام وأوسع في الفلاة ليسلي نفسه من ذاك البلاء وإذا بسرب حمام تساقطن على أغصان الشجر وتجاوبن بالنوح كما تتجاوب النساء الثاكلات، فأجرين من جفناته العبرات، وتصاعدت من أنفاسه الزفرات، فأنشد:
يا طائر البان قد هيجت أشجاني
وزدتني طربا يا طائر البان
إن كنت تندب إلفا قد فجعت به
فقد شجاك الذي بالنأي أشجاني
زدني من النوح وأسعدني على حزني
حتى ترى عجبا من فيض أجفاني
وانظر إلى نار وجدي لا تكن عجلا
واحذر على الروح من أنفاس نيراني
وطر لعلك في أرض الحجاز ترى
ركبا على عالج أو دون نعمان
يسري بجارية تنهل أدمعها
شوقا إلى وطن ناء وجيران
ناشدتك الله يا سرب الحمام إذا
رأيت يوما حمول القوم فانعاني
وقل طريحا تركناه وقد فنيت
دموعه فهو يبكي بالدم القاني
ويسأل الريح من أي الجهات أتت
عنكم سؤال سليب العقل حيران
أقسمت لو كان فوق الشمس منزلها
أو فوق أعلى السها أو ظهر كيوان
لا بد أشفي غليل القلب من رجل
بغدره عن بلوغ القصد أقصاني
أبو فراس الشاعر
أسر أبا فراس الشاعر جماعة من الروم في بعض وقائعها وكان يحب فتاة رآها قبل الأسر، فبينما هو في أسره طرأ مسمعه شدو حمامة بقربه تنوح على شجرة عالية فهاج منه ساكن الغرام، وأنشد يقول:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارة هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى
ولا خطرت منك الهموم ببالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة
ويسكت محزون ويندب سالي
لقد كان أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غالي
علي بن زريق البغدادي وابنة عمه
كانت له ابنة عم كلف بها أشد الكلف، ثم ارتحل عنها من بغداد لفاقة علته، فقصد أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس ومدحه بقصيدة بليغة فأعطاه عطاء قليلا، فقال ابن زريق: إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء، ثم تذكر فراق ابنة عمه وما بينهما من بعد المسافة وتحمل المشقة مع ضيق ذات يده فاعتل غما ومات، وأراد عبد الرحمن بذلك أن يختبره، فلما كان بعد أيام سأل عنه، فتفقدوه في الخان الذي كان فيه فوجدوه ميتا وعند رأسه رقعة مكتوب فيها:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه
جاوزت في نصحه حدا أضر به
من حيث قدرت أن النصح ينفعه
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا
من عنفه فهو مضني القلب موجعه
قد كان مضطلعا بالخطب يحمله
فضلعت بخطوب البين أضلعه
يكفيه من روعة التفنيد أن له
من الجوى كل يوم ما يروعه
ما آب من سفر إلا وأزعجه
عزم إلى سفر بالرغم يزمعه
تأبى المطالب إلا أن تكلفه
للرزق سعيا ولكن ليس يجمعه
ومنها:
أستودع الله في بغداد لي قمر
بالكرخ من فلك الإزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
على الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعنا يوما وتجمعه
وإن تغل أحدا منا منيته
لا بد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدا هذا الفراق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه
علي بن الجهم وجارية له
كتبت جارية علي بن الجهم له رقعة فأجاب فيها:
ما رقعة جاءتك مختومة
كأنها خد على خد
تبدو سوادا في بياض كما
ذر فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة
عن جهة الهزل إلى الجد
يا كاتبا أسلمني عتبه
إليه حسبي منك ما عندي
فلم تمض مدة حتى كتبت له:
قلب يمل على لسان ناطق
ويد تخط رسالة من عاشق
مزج المداد بعبرة شهدت له
من كل جارحة بقلب صادق
فيمينه تحت الوساد وخده
ويساره فوق الفؤاد الخافق
علي بن الجهم وجارية المازني
قال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني وعنده جارية كأنها شقة قمر وبيدها تفاحة مقصومة، فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله:
خبريني من الرسول إليك
واجعليه من لا ينم عليك
قلت: ما أعرفه، قالت: هو هذه، ورمت لي بالتفاحة، فوالله ما وجدت لها جوابا من نظير كلامها.
حب كثير لعزة
كان سبب دخول الهوى في قلبه أن كثيرا مر بغنم له ترد الماء على نسوة من صخرة بوادي الخبت، فأرسلت له عزة بدريهمات تشتري بها كبشا لهن منه، فنظرها نظرة متأمل فداخله منها ما كان، فرد الدراهم وأعطاها الكبش وقال: إن رجعت أخذت حقي. فلما عاد سألته ذلك، فقال: لا أقتضي إلا من عزة، فقلن له: ليس فيها كفاءة فاختر إحدانا، فأبى وأنشد:
نظرت إليها نظرة وهي عاتق
على حين أن شبت وبان نهودها
نظرت إليها نظرة ما يسرني
بها حمر أنعام البلاد وسودها
فجعلن يبرزنها له كارهة حتى داخلها ما داخله من الحب.
كثير عزة والعجوز
خرج لزيارة عزة يوما ومعه أدوات ماء، فجفت من الحر ورفعت له نار وإذا بعجوز تناديه: من الرجل؟ فقال: صاحب عزة، فقالت له: أنت القائل:
إذا ما أتينا خلة كي تزيلنا
أبين وقلنا الحاجبية أول
سنوليك عرفا إن أردت وصالنا
ونحن لتلك الحاجبية أوصل
هلا قلت كما قال جميل:
يا رب عارضة علينا وصلها
بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تأمل
حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي قلامة
فضل لغيرك ما أتتك رسائلي
والله لا سقيتك شيئا. فتركها وانصرف، ولما اشتدت حالته أنشد:
يزهدني في حب عزة معشر
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب
وما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسمع الآذان إلا من القلب
كثير وعزة وغلامه
كان لكثير غلام يتجر على العرب فأعطى النساء إلى أجل، فلما اقتضى ماله منهن ماطلته عزة، فقال لها يوما وقد حضرت في نساء: أما آن أن تفي بما عندك؟ فقالت: حبا وكرامة لم يبق إلا الوفاء، فقال: صدق مولاي حيث يقول:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها
فقلن له: أتدري من هي غريمتك؟ فقال: لا أدري، قلن: هي والله عزة، قال: أشهدكن علي أنها في حل مما عندها، ومضى فأخبر مولاه بالحكاية، فقال: وأنت حر وما عندك لك، وأنشد:
سيهلك في الدنيا شفيق عليكم
إذا غاله من حادث الدهر غائله
يود بأن يمسي سقيما لعلها
إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويهتز للمعروف في طلب العلا
لتحمد يوما عند عز شمائله
ومما قال فيها:
لا تغدرن بوصل عزة بعد ما
أخذت عليك مواثقا وعهودا
إن المحب إذا أحب حبيبه
صدق الصفاء وأنجز الموعودا
الله يعلم لو أردت زيارة
في حب عزة ما وجدت مزيدا
رهبان مدين والذين عهدتهم
يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها
خروا لعزة خاشعين سجودا
أبو العتاهية ومحبوبته عتبة
كان لربطة بنت السفاح جارية حسناء، رقيقة ظريفة، أديبة، بارعة في الجمال والكمال، وكان يعشقها أبو العتاهية، فوجهت سيدتها يوما إلى عبد الله بن مالك الخزاعي في شراء رقيق للعتق وأمرت عتبة أن تحضر ذلك، فبينما كانت جالسة إذ جاء أبو العتاهية في زي متنسك فقال: جعلني الله فداك، شيخ ضعيف كبير لا يقوى على الخدمة، فإن رأيت - أعزك الله - شرائي وعتقي فعلت أجرا عظيما، فأقبلت على عبد الله فقالت له: إني لأرى هيئة جميلة وضعفا ظاهرا ولسانا فصيحا ورجلا أديبا فاشتره وأعتقه، فقال: نعم، فقال أبو العتاهية: أتأذنين لي - أصلحك الله - في تقبيل يدك، فأذنت له، فقبل يدها وانصرف، فضحك عبد الله بن مالك وقال: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قال: هذا أبو العتاهية وإنما احتال عليك حتى يقبل يدك، وظل أبو العتاهية مغرما بها إلى أن مات وجدا ولم يشف منها غليلا، ومما قاله فيها:
بالله يا حلوة العينين زوريني
قبل الممات وإلا فاستزيريني
هذان أمران فاختاري أحبهما
إليك أو لا فداعي الموت يدعوني
إن شئت موتا فأنت الدهر مالكة
روحي وإن شئت أن أحيا فأحييني
إني لأعجب من حب يقربني
ممن يباعدني عنه ويقصيني
يا أهل ودي إني قد لطفت بكم
في الحب جهدي ولكن لا تبالوني
الحمد لله قد كنا نظنكم
من أرحم الناس طرا بالمساكين
أما الكثير فلا أرجوه منك ولو
أطعمتني في قليل منك يكفيني
أبو دهبل الشاعر وعائلته
كانت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان الأموي فتاة ناعسة الطرف جميلة القد تحسن الغناء وتبدع في ضروبه، فاستأذنت يوما من أبيها في الذهاب إلى الحج، فسمح لها، فتجهزت وسارت مع رفيقاتها على ظهور المطايا، فلما وصلت إلى مكة بذي طوى، مر بها وهب الجمحي المعروف بأبي دهبل، وكان شاعرا جميلا، فجعل يسارقها النظر وجمرات الوجد تتأجج بفؤاده قاذفة بالشرر، وكان الوقت هجيرا والجواري رافعات عنها الأستار ففطنت له فذعرت وشتمته كثيرا، ثم أمرت بالسجوف فحجبت بظلامها شمس النهار، فقال:
إني دعاني الحين فاقتادني
حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنه إذ سبني مدبرا
مستترا عني بجلباب
سبحان من وقفها حسرة
صبت على القلب بأوصاب
يذود عنها إن تطلبتها
أب لها ليس بوهاب
أحلها قصرا منيع الذرى
يحمى بأبواب وحجاب
فشاعت أبياته في مكة واشتهرت وغني بها حتى سمعتها عاتكة إنشادا وغناء فطربت لها وسرت وبعثت إليه تهديه فتراسلا وتحابا، ولما عادت من مكة خرج في ركبها إلى الشام فكانت تتعاهده باللطف والإحسان حتى إذا وردت دمشق ورد معها، فانقطعت عن لقائه فمرض حتى عز شفاء دائه، فقال:
طال ليلي وبت كالمجنون
ومللت الثواء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى
ظن أهلي مرجحات الظنون
فبكت خشية التفرق جمل
كبكاء القرين إثر القرين
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص
نيرت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
تمشي في مرمر مسنون
ليت شعري أمن هوى طال ليلي
أم براني الباري قصير الجفون
ففشا هذا الشعر حتى بلغ معاوية أباها، فصبر حتى إذا كان يوم الجمعة دخل عليه الناس يسلمون وينصرفون وكان فيهم وهب، فلما أزمع الرجوع ناداه معاوية حتى إذا خلا لهما الجو قال: ما كنت أحسب أن في قريش أشعر منك حيث تقول:
ليت شعري أمن هوى طار نومي
أم براني الباري قصير الجفون
غير أنك قلت:
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون
والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت وأي شيء زدت في قدرها، ولقد أسأت بقولك: «ثم خاصرتها ... إلخ»، فقال: والله لم أقل هذا وإنما قيل عن لساني، فقال معاوية: أما مني فليهدأ روعك لأني عليم بعفاف ابنتي وأنه مغتفر لفتيان الشعراء التشبب بمن أرادوا، ولكني أكره لك جوار أخيها يزيد فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك، فحذر وهب ورحل إلى مكة، فبينما معاوية في مجلسه يوما إذا بخصي يقول له: لقد ورد يا أمير المؤمنين إلى عاتكة اليوم كتاب أبكتها تلاوته بما أصارها حتى الساعة حزينة، فقال: علي به بألطف حيلة، فلما أوتيه قرأ فيه:
أعاتك هلا إذ بخلت فلا ترى
لذي صبوة زلفى لديك ولا حقا
رددت فؤادا قد تولى به الهوى
وسكنت عينا لا تمل ولا ترقى
ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى
ولم أر يوما منك جودا ولا صدقا
أتنسين أيامي بربعك مدنفا
صريعا بأرض الشام ذا سقم ملقى
وليس صديق يرتضي لوصية
وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى
وأكبر همي أن أرى لك مرسلا
فطول نهاري جالسا أرقب الطرقا
فواكبدي إذ ليس لي منك مجلس
فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى
رأيتك تزدادين للصب غلظة
ويزداد قلبي كل يوم بكم عشقا
فبعث إلى يزيد: فلما جاء وجده مطرقا كئيبا، فاستجلاه الأمر، فقال: هو نبأ يقلق فيمرض، إن هذا الوغد القرشي كاتب أختك بهذه الأبيات فلم تزل باكية حتى الساعة، قال يزيد: الخطب دون ما تتوهم، عبد لنا يرصده ويقتله، فقال معاوية: يا يزيد، والله إن تقتل قرشيا هذا حاله صدق الناس مقاله، قال: يا أمير المؤمنين إنه نظم أبياتا غير هذه تناشدها المكيون فسارت حتى بلغتني فأوجعتني وحملتني على ما أشرت، فقال: وما هي؟ فأنشد:
ألا لا تقل مهلا فقد ذهب المهل
وما كان من يلحى محبا له عقل
حمى الملك الجبار عني لقاءها
فمن دونها تخشى المتالف والقتل
فلا خير في حب يخاف وباله
ولا في حبيب لا يكون له وصل
فواكبدي إني شهرت بحبها
ولم يك فيما بيننا ساعة بذل
ويا عجبا إني أكاتم حبها
وقد شاع حتى قطعت دونه السبل
فقال معاوية: والله قد فهمت المعنى لأني أراه يشكو الحرمان فالخطب فيه يسير، ثم حج عامئذ للسبب عينه، ولما انقضت المناسك دعا بأشراف قريش وشعرائهم وأجزل لهم الصلات، فلما أزمع وهب الانصراف قال: إيه يا وهب ما لي أرى يزيدا ساخطا عليك في أبيات تأتيه عنك وشعر تنطق به، فاعتذر أبو دهبل وأنكر ما أشيع عنه، فقال معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك، فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة، قال: قد زوجتك بها وأمهرتك بألفي دينار ووهبتك ألف دينار، فلما استوفاها قال: إن أرى أمير المؤمنين أن يعفو عما مضى، وأما ابنة عمي فهي طالق وحسبي ذكر عاتكة والتمتع منها بالنظر، فوفى بوعده وبقيت عاتكة مغرمة به إلى أن مات.
إبراهيم الموصلي وذات الخال
كان إبراهيم الموصلي يعشق جارية فتانة لابن الخطاب، وكانت تحتجب دوما في خبائها عند سيدها المذكور، فلما أنس إبراهيم منها ذلك أنشد يقول:
ما بال شمس أبي الخطاب قد حجبت
يا صاحبي لعل الساعة اقتربت
أو لا فما بال ريح كنت آنسها
عادت علي بضر بعد ما جنبت
إليك أشكو أبا الخطاب جارية
غريرة بفؤادي اليوم قد لعبت
وأنت قيمها فانظر لعاشقها
يا ليتها قربت مني وما بعدت
وقال فيها أيضا:
جزى الله خيرا من كلفت بحبه
وليس به إلا المموه من حبي
وقالوا قلوب العاشقين رقيقة
فما بال ذات الخال قاسية القلب
وقالوا لها هذا محبك معرضا
فقالت أرى إعراضه أيسر الخطب
فما هو إلا نظرة بتبسم
فحب انتهاك النفس في معرض الحب
ولعب إبراهيم الموصلي يوما بالشطرنج مع ابن زيدان صاحب البرامكة، فدخل عليهما إسحاق، فقال أبوه: ما استفدت اليوم؟ فقال: أعظم فائدة، رجل سألني: ما أفخم كلمة في الفم؟ فقلت: «لا إله إلا الله»، فقال أبوه إبراهيم: أخطأت، فهلا قلت دنيا ودينا، فغضب ابن زيدان وضرب إبراهيم الموصلي، وقال: ويحك أتكفر بحضرتي؟ فأمر إبراهيم غلمانه فضربوا ابن زيدان ضربا شديدا، فانصرف من ساعته إلى جعفر بن يحيى وحدثه الخبر، وعلم إبراهيم أنه قد أخطأ وجنى ذنبا، فركب إلى الفضل بن يحيى فاستجار به، فاستوهبه الفضل بن جعفر، فوهبه له، فانصرف وهو يقول:
إن لم يكن حب ذات الخال عناني
إذا فحولت في مسك ابن زيدان
فإن هذي يمين ما حلفت بها
إلا على الصدق في سري وإعلاني
حمدة بنت زياد الشاعرة
كانت فتاة جميلة شاعرة أديبة، كأن الأدب نقطة في حوضها، وزهرة من روضها، لها المنطق العذب، والكلام الحلو، والثغر الساطع الفتان، وكانت ذات مطارحة وأخلاق تحدث عن لطفها الزهر غب الأديم، ونم بمرآها على الحدائق ريح الصبا وساريات النسيم، ومما قالت في الغزل:
ولما أبى الواشون إلا افتراقنا
وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة
وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي
ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
وخرجت مرة للوادي مع حبيبة لها فرأت الأزهار في جوانبه تتلألأ كأنها النجوم تساقطت من كبد السماء، والماء في النهر يتماوج كأنه قطع من لجين ترمقه عيون ذكاء، فأعجبها ذلك المنظر البهيج، وأحبت أن تخوض بذلك النهر إتماما لترويح النفس في تلك الخلوة، فنضت عنها الثياب وعامت ثم أنشدت تقول:
أباح الدمع أسراري بوادي
له للحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل أرض
ومن روض يروق بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة أنس
سبت لبي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر
وذاك المر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها
رأيت البدر في أفق السواد
كأن الصبح مات له شقيق
فمن حزن تسربل بالحداد
أبو الشيص الشاعر
قال أبو الشيص شعرا لطيفا في حادثة غرام جرت له:
وقف الهوى بي حيث أنت
فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي عامدا
ما من يهون عليك ممن يكرم
أسماء ومجيد
كان لسيد بني بشر ابنة بديعة الجمال، لطيفة القد والاعتدال يقال لها: أسماء، فسمعت ذات يوم بذكر فتى شاعر حسن الوجه، رائق الجمال يقال له: مجيد، فتشوقت إلى لقياه لتسمع كلامه وتختبر شعره ونظامه، فخرجت يوما مع بنات عمها إلى غدير قريب منه، فبينما هي بالانتظار إذا بمجيد مقبلا إليها بوجه يفضح البدر ويزهو على النجوم الحسان، فلما رأينه البنات هممن إليه وسلمن عليه وقلن له: أهلا وسهلا، فنحن بانتظارك مع سيدتنا، وكانت أسماء تزهو عليهن حسنا وجمالا، وقد تمايلت بغصنها الذابل بين أترابها العذارى فلاحت كالبدر بين الكواكب، فلما رآها عرفها ومال قلبه إليها طوعا لسحر أجفانها وعينيها، فسلم عليها وأنشد:
سلام على من جاورونا فأشرقت
بهم أرضنا حتى انجلى ليلها عنا
وأهلا ببدر زار من غير موعد
ولم يتعب الصب المعنى ولا عنا
فأجابته تقول:
يا من تولع قلبه بجمالنا
اصبر لعلك في الهوى تحظى بنا
فلقد علمنا أن حبك صادق
وأصاب قلبك ما أصاب فؤادنا
وما زالا يبثان نار الوجد والغرام إلى آخر النهار ثم افترقا عن بعضهما بقلب كاد أن يفارق الجسد، ولما علم بذلك أعمامه وأقرباؤه نهوه عن حب تلك الفتاة فلم ينته، بل هام فيها أكثر من الأول وسار كالعادة نحو الغدير عله يرى وجه أسماء، فلما وصل لم ير أحدا فهاج منه لاعج الغرام وأنشد يقول:
رحل الصبر والغرام أقاما
في فؤاد ما ذاق قط مناما
كنت غرا بحادثات الليالي
ليتني ما عرفت له أعماما
يا جفوني جودي على فقد أسما
لا سقى الغيث بعدها الأياما
فكأن السنام صار سموما
في مطاوي قلوبنا أو جساما
هل ترى بات قلبها مثل قلبي
هائما يشتكي الضنا والسقاما
يا ظباء الصريم قد أصبح اليوم
حلال الغدير عندي حراما
وكذا نبته على جانبيه
بات مثلي متيما مستهاما
يشتكي للضنا فينهل دمعا
ويروي بهارها والخزاما
وما زال على تلك الحال يأتي فيناجي الخيال في ذاك الغدير المنفرد إلى ذات يوم بينما كان جالسا يفتكر في أسماء أتاه رسول من قبلها يعلمه عن مكانها وما هي فيه من العشق والصبابة وأنها قريبا تأتي للغدير لأجل الإقامة، فلما علم بذلك الخبر رقص قلبه من الفرح وسار توا إلى الغدير فرآها بانتظاره على مثل نار الغضا، فسلم عليها وأنشد:
أهلا وسهلا ببدر غاب عن نظري
وبدل النوم بالأفكار والسهر
غبتم فأظلمت الدنيا لغيبتكم
حتى توهمتها ليلا بلا قمر
فأجابته أسماء تقول:
يا نور عيني وحق البيت والحجر
ما غاب شخصك عن قلبي ولا نظري
ولا وردت غديرا إذ مررت به
إلا وجدت خيالا منك بالنهر
فلما سمع كلامها كاد يذوب من الهيام، ودام معها على حديث وشكوى مدة من الزمان ثم اعتذرت رغما عنها وسارت إلى أهلها، ولما رأى أبو الفتاة علائم الضعف لائحة في وجهها سألها عن السبب فأبت إفشاءه، فألح فأطلعته عليه، وكان يحبها حبا شديدا ولا يريد إلا راحتها، فأرسل إليه فقدم فزوجه بها ودفعها إليه.
القسم الخامس
متفرقات من نوادر العشاق
نصيب وزينب
قال الضحاك بن عثمان الخزامي: خرجت آخر الحج فنزلت بخيمة الإيواء على امرأة فأعجبني ما رأيت من حسنها، فتمثلت بقول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب
وقل إن تملينا فما ملك القلب
وقل في تجنيها لك الذنب إنما
عتابك من عاتبت فيما له ذنب
خليلي من كعب ألما هديتما
بزينب لا يفقدكما أبدا كعب
وقولا لها ما في البعاد لدى الهوى
بعاد وما فيه لصدع النوى شعب
فمن شاء رام الصرم أو قال ظالما
لصاحبه ذنب وليس له ذنب
فلما سمعت هذه الأبيات قالت: يا فتى، أتعرف قائل هذا الشعر؟ قلت: نعم، ذاك نصيب، قالت: نعم هو ذاك، أفتعرف زينب؟ قلت: لا، قالت: أنا والله زينب، قلت : فحياك الله. قالت: قد خرج نصيب إلى أمير المؤمنين منذ عام أول ووعدني بالمجيء هذا اليوم ولعلك لا تبرح حتى تراه، فما لبثت أن رأيت من بعيد قادما يخب به الحصان خبا، فقالت: أرى ذلك الفارس أني أحسبه إياه، ثم أقبل الراكب من جهة الخيمة فإذا هو نصيب، فنزل وسلم علي وجلس إلى ناحية وسلم عليها وساءلها وساءلته، فجعل ينشدها من حديث شعره ولطيف نظمه، فقلت في نفسي: عاشقان أطالا التنائي فلا بد لهما من خلوة يرتاحان إليها، فقمت إلى راحلتي أشد عليها، فقال لي: على رسلك أنا معك، فجلست حتى نهض ونهضت معه، فتسايرنا ساعة ثم التفت إلي فقال: قلت في نفسك محبان التقيا بعد طول تناء فلا بد لأحدهما من حاجة إلى صاحبه؟ قلت: نعم هو ذاك، قال: لا ورب الورى ما جلست منها مجلسا قط أقرب من مجلسي الذي رأيت، ولم يك بيننا غير الشرف والعفاف.
ابنة والي مصر وأحد عمال أبيها
قال الحسين بن زيد: ولي بديار مصر وال فوجد على بعض عماله فحبسه وقيده، فأشرفت عليه ابنة الوالي فهويته، فكتبت إليه وقد كان نظر إليها:
أيها الرامي بعيني
ه وفي الطرف الحتوف
إن ترد وصلا فقد أم
كنك الظبي الألوف
فأجابها الفتى:
إن تريني زاني العين
نين فالقلب عفيف
ليس إلا النظر الفا
تر والشعر الظريف
فكتبت إليه:
قد أردناك على عش
قك إنسانا عفيفا
فتأبيت فلا زل
ت لقيديك حليفا
فأجابها الفتى:
غير أني خفت ربا
كان بي برا لطيفا
فذاع الشعر وبلغ الخبر الوالي، فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه.
غورك المجنون وإسحاق بن إبراهيم
قال إسحاق بن إبراهيم: رأيت غورك يوما خارجا من الحمام والصبيان يؤذونه، فقلت: ما خبرك يا أبا محمد؟ قال: قد آذاني هؤلاء الصبيان، أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون، قلت: هل قلت في عشقك وجنونك شيئا؟ قال: نعم، وأنشد:
جنون وعشق ذا يروح وذا يغدو
فهذا له حد وهذا له حد
هما استوطنا جسمي وقلبي كلاهما
فلم يبق لي قلب صحيح ولا جلد
وقد سكنا تحت الحشا وتحالفا
على مهجتي ألا يفارقها الجهد
فأي طبيب يستطيع بحيلة
يعالج من داءين ما منهما بد
عزة الميلاء والناسك عند أبي جعفر
بلغ عبد الله بن جعفر خبر جارية بديعة الصوت مع نخاس في المدينة فبعث إليه وابتاعها منه، فجاءه يوما ناسك من المدينة كان يتردد إليه غالبا فسمع الجارية تغني: «بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا»، فما كاد يسمع صوتها حتى خر مغشيا عليه، فأمر ابن جعفر فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك عشقها؟ قال: وما خفي عليك أكثر، قال: أفتعرف لمن هذا الصوت؟ قال: لا، قال: هو لعزة الميلاء، أوتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أعرفها، فكيف يكون حالي إذا سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها، قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أوأعرف غيرها؟ فأمر بها فخرجت، وقال: خذها فهي لك والله، فقبل الرجل يديه، وقال: أنمت عيني، وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إلي عقلي أيها الأمير.
شهاب الدين وفاطمة ابنة الخشاب
كتب شهاب الدين بن فضل الله قاضي القضاة يوما إلى فاطمة ابنة الخشاب يقول:
هل ينفع المشتاق قرب الدار
والوصل ممتنع مع الزوار
يا نازلين بمهجتي وديارهم
من ناظري بمطمح الأنظار
هيجتم شجني فعدت إلى الصبا
من بعد ما وخط المشيب عذاري
فأجابته فاطمة بهذين البيتين:
إن كان غركم جمال إزار
فالقبح في تلك المحاسن وار
لا تحسبوا أني أماثل شعركم
أنى يقاس جداول ببحار
فلما بلغا شهاب الدين وجدهما ألفاظا درية بمعان عبقرية فاعتبرها وأجلها وصار يكاتبها مكاتبة العلماء.
ابن دائب وجارية أخته
عشق ابن دائب جارية كانت عند أخته، وكان سبب عشقه إياها أنه رآها في منامه فأصبح مستطارا عقله ساهيا قلبه، فلم يزل كذلك حينا لا يزداد إلا حبا ووجدا حتى أنكر ذلك أهله وأعلموا عمه عما كان له، فسأله عن حاله، فلم يقر له بشيء، وقال : علة أجدها في جسمي، فدعا له أطباء الروم، فعالجوه بضروب من العلاج، فلم يزده علاجهم له إلا شرا وامتنع عن الطعام والكلام، فلما رأوا ذلك منه أجمعوا على أن يوكلوا به امرأة فتسقيه الخمر حتى يبلغ منه دون السكر، فإن ذلك يدعوه إلى الكلام والكشف عما في نفسه، فقر رأيهم على ذلك، وأعلموا عمه ما اتفقوا عليه، فبعث إليه بقينة يقال لها: حمامة، ووكل به حاضنة كانت له، فلما أن شرب الفتى غنت الجارية أمامه، فأنشأ يقول:
دعوني لما بي وانهضوا لكلاءة
من الله أيقنت أن لست باقيا
وأن قد دنا موتي وحانت منيتي
وقد جلبت عيني علي الدواهيا
أموت بشوق في فؤادي مبرح
فيا ويح نفسي من به مثل ما بيا
فسارت القينة والحاضنة إلى عمه فأخبرتاه الخبر، فاشتدت له رحمته فتلطف في دس جارية من جواريه إليه، وكانت ذات أدب وعقل، فلم تزل تستخرج ما في قلبه، حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفير فيما بينه وبين الجارية، وكثرت ما بينهما الكتب، وعلمت أخته بذلك فانتشر الخبر فوهبتها له فبرأ من علته وأقام على أحسن حال.
أبو ريحانة وحاملة القربة
قال الأصمعي: مررت بالبصرة بدار الزبير بن العوام فإذا أنا بشيخ من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة ما عليه إلا شملة تستره، فسلمت عليه وجلست إليه أحدثه، فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا جارية حسناء تحمل قربة، فلما نظرها لم يتمالك أن قام إليها ثم قال: أيتها الفتاة غني لي صوتا، فقالت: إن موالي أعجلوني، قال: لا بد من ذلك، قالت: أما والقربة على رأسي فلا، قال: فأنا أحملها، فأخذ القربة وحملها على عنقه، واندفعت الجارية فغنت:
فؤادي أسير لا يفك ومهجتي
تقضى وأحزاني عليك تطول
ولي مهجة قرحى لطول اشتياقها
إليك وأجفاني عليك همول
كفى حزنا أني أموت صبابة
بدائي وأنصاري عليك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة
فأغنيت علاتي فكيف أقول
فطرب الرجل وصرخ صرخة وضرب بالقربة الأرض فشقها، فقامت الجارية تبكي وقالت: ما هذا جزائي منك يا أبا ريحانة، أسعفتك بحاجتك وعرضتني لما أكره من موالي، قال: لا تغتمي فإن المصيبة علي دخلت دونك، وأخذ بيدها فتبعته إلى سوق فنزع عنه الشملة مستترا بيديه وباعها واشترى بثمنها قربة دفعها إليها، فاجتاز به رجل من الطالبية، فلما نظر إليه وإلى حالته عرف قصته فقال: يا أبا ريحانة أحسبك من الذين قال الله - تعالى - فيهم:
فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (البقرة: 16)، فقال: لا يا صاحبي، ولكني من الذين قال الله - تعالى - فيهم:
فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (الزمر: 17، 18)، فضحك منه العلوي وأمر له بألف درهم وخلعة.
عريب واليزيدي
قال اليزيدي: خرجنا مع المأمون إلى بلاد الروم فرأيت عريب في هودج، فلما رأتني قالت: يا يزيدي، أنشدني شعرا، فقلت: نعم حتى أسمع فيه لحنا، فأنشدتها:
ماذا بقلبي من دوام الخفق
إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردن أو دمشق
لأن من أهوى بذاك الأفق
فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه، فقلت لها: هذا والله تنفس عاشق، فقالت: اسكت يا عاجز، أنا عاشق بل أنا معشوقة في كل ناد، والله لقد نظرت نظرة مريبة في ذا المجلس.
عريب ومحمد بن حامد
وقع بين عريب ومحمد بن حامد خصام وكان يجد بها وجدا مفرطا كادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة، وكان في قلبها منه كما لها عنده من الحب، فلقيته يوما فقالت له: كيف قلبك يا محمد؟ قال: أشقى والله مما كان وأشد لوعة، فقالت: استبدل بديلا، فقال لها: لو كانت البلوى بالخيال لفعلت، فقالت: لقد طال إذن تعبك، فقال: وما يكون أصبر مكرها، أما سمعت قول العباس بن الأحنف:
تعب يكون مع الرجاء بذي الهوى
خير له من راحة في الياس
لولا كرامتكم لما عاتبتكم
ولكنتم عندي كبعض الناس
فلما سمعت ذلك ذرفت عيناها واعتذرت وعاتبته واصطلحا وعادا إلى ما كانا عليه من صدق المودة وحسن المعاشرة.
وكتبت عريب يوما إلى ابن عامر تستزيره، فأرسل إليها يقول: إني أخاف على نفسي، فكتبت إليه:
إذا كنت تحذر ما تحذر
وتزعم أنك لا تجسر
فما لي أقيم على صبوتي
ويوم لقائك لا يقدر
فلما قرأ الرقعة سار إليها من وقته وأرسل إليها يعاتبها في شيء، فكتبت إليه تعتذر، فلم يقبل، فكتبت إليه هذين البيتين:
تبينت عذري وما تعذر
وأبليت جسمي وما تشعر
ألفت السرور وخليتني
ودمعي من العين لا يفتر
فلما اطلع على البيتين ذرفت عيناه وسعى إليها مستسمحا ومستجديا عفوها عما وقع منه.
سر عاشقة
قال أحدهم: دعاني فتى من أهل المدينة إلى غادة حسناء، فلما دخلنا عليها إذا هي أحسن الناس وجها، وإذا بها انخراط وجه وسهو وسكوت، فجعلنا نبسطها بالمزاح والكلام ويمنعها من ذلك ما تكتمه، فقلت في نفسي: والله إن بها لهياما وطائفا من الحب، فأقبلت عليها فقلت: بالله تصدقيني ما الذي بك؟ فقالت: برح الذكر، ودوام الفكر، وخلو النهار، وتشوق إلى من سار، والذي يرى ما وصفت لك، فإن كنت ذا أدب صرمت العتب عن ذي الكرب، واجتهدت في الطلب لدواء من قد أشرف على العطب، كما قال الشاعر:
سيوردني التذكار حوض المهالك
فلست لتذكار الحبيب بتارك
أبى الله إلا أن أموت صبابة
ولست لما يقضي الإله بمالك
كأن بقلبي حين شطت بي النوى
وخلفني فردا صدور النيازك
تقطعت الأخبار بيني وبينه
لبعد النوى واستد سبل المسالك
قال: فوالله لقد خفت على عقلي أن تسلبه بلفظها الحسن، فقلت: جعلني الله فداءك، وهو الذي صيرك إلى ما أرى يستحق هذا منك، فوالله إن الناس لكثير، فلو تسليت بغيره فلعل ما بك يسكن أو يخف، فقد قال أحدهم:
صبرت على اللذات لما تولت
وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وما النفس إلا حين يجعلها الفتى
فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
فأقبلت علي فقالت: والله لقد رمت ذلك، فكنت كما قال قيس بن الملوح:
ولما أبى إلا جماحا فؤاده
ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل
تسلى بأخرى غيرها فإذا التي
تسلى بها تغري بليلي ولا تسلي
فأسكتتني والله بتواتر حججها عن محاورتها، وما رأيت كمنطقها ولا كشكلها وأدبها وكمال خلقها.
بشار بن برد ومحبوبته عبدة
بينما كان بشار بن برد في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه إذ سمع كلام امرأة أشجاه نغمها وحسن ألفاظها، فدعا بغلامه فقال: إني قد علقت امرأة فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها، فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وأعلمها أني لها محب، وأنشدها هذه الأبيات وعرفها أني قلتها فيها:
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
ما كنت أول مشغوف بجارية
يلقى بلقيانها روحا وريحانا
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فأبلغها الغلام الأبيات فهشت لها وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها ولا تطمعه في نفسها، فقال فيها:
قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها
قلبي فأضحى به من حبها أثر
أنى ولم ترها تهذي فقلت لهم
إن الفؤاد يرى ما لم ير البصر
أصبحت كالحائم الحران مجتنبا
لم يقض وردا ولا يرجى له صدر
فصار بعض الأصدقاء يلومونه في حبها، فأنشد يقول:
يزهدني في حب عبدة معشر
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب
فما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبا
وألف بين العشق والعاشق الصب
ما سمعه ابن عثام
قال حبيب الواسطي: دخلت يوما على علي بن عثام فوجدته باكيا حزينا ذاهب النفس، فأنكرت ذلك وسألته عما دهاه، فقال: اعلم أني مررت بالخريبة فرأيت مجنونا مصفدا في الحديد يتمرغ في التراب ويقول:
ألا ليت أن الحب يعشق مرة
فيعرف ماذا كان بالناس يصنع
يقولون فز بالصبر إنك هالك
وللصبر مني إن أحاوله أجزع
غورك المجنون
قال أبو بكر محمد بن فرحان: لقيت غورك المجنون وفي عنقه حبل قصير والصبيان يقودونه، فقال لي: يا أبا بكر بم يعذب الله أهل جهنم؟ قلت: بأشد العذاب، قال: صف لي، قلت : ومن يصف عذاب رب العالمين؟ قال: أنا في أشد من عذابه، ثم رفع ثوبه فإذا هو ناحل الجسم دقيق العظام، فقال لي:
انظر إلى ما فعل الحب
لم يبق لي جسم ولا قلب
أنحل جسمي حب من لم يزل
من شأنها الهجران والعتب
ما كان أغناني عن حب من
من دونها الأستار والحجب
أبو الأسدي والشاب
قال أبو الأسدي: دخلت دير هرقل فوجدت شابا حسن الهيئة مكبلا بالحديد، فسألته عن أمره، فأنشد:
نظرت إليها فاستحلت بنظرتي
دمي ودمي غال فأرخصه الحب
وغاليت في حبي لها ورأيت دمي
رخيصا فمن هذين داخلها العجب
أبو الغصن الأعرابي وذات الوجه الصقيل
قال أبو الغصن الأعرابي: خرجت حاجا، فلما مررت بقباء سمعت قوما ينادون: الصقيل الصقيل، فنظرت فإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل، فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع عن وجهها وتبسمت، فوالله ما رأيت أحسن منها، ثم أنشأت تقول:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ابن أبي داود والجارية
قال سلم بن ربيع: اعترض ابن أبي داود جارية فأعجبته فقال:
ماذا تقولين في من شفه سقم
من طول حبك حتى صار حيرانا
فأجابته:
إذا رأينا محبا قد أضر به
جهد الصبابة أوليناه إحسانا
الحارث بن زهير ولبنى
خرج ذات يوم الحارث بن زهير مع خلان له إلى الصيد والقنص فأوسع بهم في عرض الفلاة حتى وصلوا إلى اليعمودية، فلاحت له غزالة في ذلك البر فجد في أثرها، فانتهى به المسير إلى غدير كبير على شاطئه جماعة من البنات الحسان وبينهن جارية بديعة الجمال كأنها هلال، جمعت بين لطافة القد وحسن الجيد والاعتدال، وكانت تدعى لبنى بنت المعتمد، فلما رآها الحارث غلب عليه العشق والجوى واستولى عليه سلطان الهوى، وكانت الغزالة قد دخلت بين البنات فانثنى نحوهن وسلم، ثم قال بصوت لطيف: دعي صيدي يا بنت الكرام حتى آخذه وأذهب، فقالت له: خلي عنك أيها الشاب فقد استجار بنا وأعطيناه عهدنا وزمامنا، وكانت لبنى تتكلم بقلب يخفق غراما وصوت يتقطع لوعة وهياما، ثم قالت له: ما اسمك الكريم؟ قال: الحارث بن زهير سيد بني عبس، فقالت: نعم الفتى، وبعد ساعة من الزمان ودعهن وسار وقد اشتعل فؤاده من فرط الحب بلهيب النار، ولما زاد به الشوق باح لسانه بالشعر فأنشد:
سلامي على الوادي ومن حل دونه
فقد حملوني فوق ما أنا حامله
مررت به أبغي من الصيد ظبية
فعدت وقد صادت فؤادي حبائله
وأبقيت قلبي عند سكان أرضه
وجسمي على نار الهوى ومراجله
فإن يك جسمي قد مضى نحو أهله
فإن فؤادي عندكم وبلابله
وما زال يقطع البيداء حتى وصل البيت مساء، فبات ليله أرقا بين السهاد وتباريح الغرام، ولما أصبح الصباح أخبر خادمته بما جرى وما أصبح فيه من قاتل الحب ووكل إليها تدبير الأمر، فقالت: سمعا وطاعة، وذهبت إلى أحيائها فسألت عنها فدلوها عليها، فلما رأتها هدأ بالها وحدثتها سرا بحديث الحارث وما هو فيه من الحب والغرام، فلما سمعت لبنى كلامها أعلمتها بوجدها وغرامها وقالت لها: إن رأيت أن تجمعيني به الليلة على شاطئ الغدير، فقالت: حبا وكرامة، وذهبت فأعلمت الحارث فكاد يطير من الفرح، ولما أمسى المساء سار من فوره إلى الغدير، فلما رآها زاد حبه وهاجت أشجانه فأنشد:
أصبحت يا لبنى أسير هواك
والقلب يخفق والمتيم باك
قد بت أسهى من هواك ساهرا
أرعى النجوم مراقب الأفلاك
أصبحت يا لبنى نحيلا مغرما
من فرط حبك فامنني بلقاك
لولاك يا لبنى لما أمسى الهوى
بي حاكما متصرفا لولاك
قد جئت أصطاد الظبا في أرضكم
فاصطاد قلبي الكحل من عيناك
فارعي عهودي واحفظي شرع
الهوى وتيقني أني قتيل هواك
مني السلام عليك يا شمس الضحى
فلقد رماني الحب بالإشراك
وابقي ودومي واسلمي وتعطفي
وارعي العهود فمهجتي ترعاك
فما زال بين شكوى ونجوى إلى أن أصبح الصباح فافترقا متعاهدين على الحب والولاء، وداما على هذه الحال من الاجتماع وبث الأشواق في ذاك المكان إلى ذات يوم ذهب الحارث فلم ير أحدا فذهل غاية الانذهال وارتاب في أمر لبنى، فسأل عن السبب فقيل له: إنهم ساروا إلى بلدة قريبة، فأرسل يسأل عنها ليعلم ما عندها وما يكنه فؤادها، فكتبت له: إن ذلك ما كان إلا رغما عنها وأنها قريبا تعود إليه، فلما بلغ الحارث ذاك الكتاب وقرأ ما به هدأ باله وصار ينتظر لقاء الحبيب، فلما اجتمعت به لبنى خفق فؤادها وتنهدت وباحت بما عندها فأنشدت:
لو علمنا مجيئكم لفرشنا
مهج القلب مع سواد العيون
وبسطنا خدودنا للقاكم
ليكون المسير فوق الجفون
وداما على هذا الحب إلى آخر حياتهما.
ذو الرمة وعصمة بن عبد الملك
قال عصمة بن عبد الملك: ركبت مع ذي الرمة وسرنا حتى أشرفنا على بيوت الحي وإذا ببيت مية ناحية فعزمت ذا الرمة فعرضن النساء إلى مية، وجئنا فدنونا وسلمنا ثم قعدنا نتحدث، فإذا هي جارية أملود، واردة الشعر، بيضاء يغمرها صفرة، وعليها ثوب أصفر وطاق أخضر، فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال: أنشدهن يا عصمة، فأنشدتهن:
نظرت إلى أظعان مي كأنها
ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأعربت العينان والصدر كاتم
بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكى وامق حال الفراق ولم يحل
حوائلها أسرارها ومعائبه
فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فليحل، فنظرت إلي مية متكرهة، ثم مضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح
على القلب وافته جميعا غرائبه
فقالت الظريفة: قتلته قاتلك الله، قالت مية: ما أصحبه وهنيئا له. فتنفس ذو الرمة تنفسا ظننت معه أن فؤاده قد انصدع، ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي
أقول لها إلا الذي أنا كاذبه
إذن فرماني الله من حيث لا أرى
ولا زال في أرضي عدو أحاربه
فالتفتت إليه، فقالت: خف عواقب الله، ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
إذا راجعتك القول مية أو بدا
لك الوجه منها أو نضا الثوب سالبه
فيا لك من خد أثيل ومنطق
رخيم ومن خلق تعلل جاذبه
فقالت الظريفة : أما هذه فقد راجعتك وقد بدا لك الوجه منها، فمن لك بأن ينصف الدرع سالبه؟ فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك الله ما أنكر ما تجيبين به، ثم تحدثن ساعة، فقالت الظريفة للنساء: إن لهذين شأنا. ثم سارت بنا، فلما وصلنا الأبيات دخلت بذي الرمة، فلبثت أنتظر فإذا به قادما ومعه قلائد لطيفة حلى بها نصل سيفه، فسألته عنها، فقال: هي منها والله.
أبو عثيرة الخياط وأبو محمد الدمشقي
قال أبو محمد الدمشقي: مررت ذات ليلة أيام فتنة المستعين والقمر يزهر بأحياء الشام، فإذا أنا بشيخ جليل موشح في إزار أحمر، فقلت له: ما اسمك الكريم؟ قال: أبو عثيرة الخياط، شهدت حروب ابن زبيدة كلها وحاربت الفتيان في غاية كل ميدان، واعترف لي كل فاتك، وأذعن لي كل شاطر، ونزلت تلك الدار عشرين سنة وأومأ إلى سجن بغداد. ثم تنفس الصعداء وأنشد:
لي فؤاد مستهام
وجفون لا تنام
ودموع آخر الدهر
على عيني سجام
وحبيب كلما خاطبته
قال سلام
فإذا ما قلت زرني
قال لي ذاك حرام
ثم بكى، فلما أفاق قلت: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي ولي حبيب بالبصرة علقته وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم غبت عنه ثلاثا وثلاثين سنة، فلما عيل صبري خرجت إلى البصرة فطفت شوارعها حتى رأيته، فما رأيت وجها أحسن منظرا ولا أزهى منه، ثم أنشأ يقول:
مردد في كمده
معذب في سهده
خلا به السقم فما
أسرعه في جسده
يرحمه لما بدا
من ضره ذو حسده
ثم ودعني ومضى.
أبو الفضل والجارية
قال أبو الفضل: بينما كنت بالطواف أمام الحجر إذ سمعت حنينا يخرج من بين الأستار وقائلا يقول:
عفا الله عمن يحفظ الود جهده
ولا كان عهد الله للناقض العهد
وضعت على الأستار خدي ليلة
ليجمعني مع من وضعت له خدي
فرفعت الأستار فإذا جارية منفردة كأنها الشمس تجلت عنها غمامة، فقلت: يا هذه، لو سألت الله الجنة مع هذا التصدع والبكاء ما حرمك إياها. فسترت وجهها وقالت: سبحان من خلق فسوى ولم يهتك الولاية والنجوى، أما والله إني فقيرة إلى رحمة ربي، وقد سألته أكبر الأمرين عندي رجاء فضله واتكالا على عفوه. ثم ولت عني فعجبت من فصيح منطقها.
مسلم بن جندب وجارية
قال مسلم بن جندب: خرجت مع صديق لي إلى العقيق فلقينا نسوة نازلات من العقيق لهن جمال وشارة وفيهن جارية خضابية العينين، فلما رآها صديقي قال لي: يا بن الكرام، دم أبيك والله في ثيابها، فلا تطلب أثرا بعد عين، وأنشد قول أبي مسلم بن جندب:
ألا يا عباد الله هذا أخوكم
قتيل فهل منكم له اليوم ثائر
خذوا بدمي إن مت كل مليحة
مريضة جفن العين والطرف ساحر
فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب؟ قلت: نعم. قالت: فاغتنم نفسك واحتسب أباك، فإن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يفدى.
أبو المهلهل الخزامي ومي
قال أبو مهلهل الخزامي: ارتحلت إلى الدهناء فسألت عن مي صاحبة ذي الرمة، فدفعت إلى خيمة فيها عجوز هيفاء فسلمت عليها وقلت: أين منزل مي؟ فقالت: ها أنا مي. فقلت: عجبا من ذي الرمة وكثرة قوله فيك. قالت: لا تعجب، فإني سأقوم بعذره. ثم نادت فخرجت من الخيمة جارية ناهدة عليها برقع. فقالت لها: أسفري، فلما أسفرت تحيرت لما رأيت من حسنها وجمالها. فقالت: علقني ذو الرمة وأنا في سن هذه، وكل جديد إلى البلاء، قلت: عذرته والله، وانصرفت.
بكر بن النطاح والفتاة
قال بكر بن النطاح في غادة حسناء ألفت الصد والهجران:
ما ضرها لو كتبت بالرضا
فجف جفن العين أو أغمضا
شفاعة مردودة عندها
في عاشق يندم لو قد قضى
يا نفس صبرا فاعلمي أنها
تمل منها مثل ما قد مضى
لم تمرض الأجفان من قاتلي
بلحظة إلا لأن أمرضا
ابن الجوزي وزوجته
كان لابن الجوزي زوجة تسمى نسيم الصبا، وكان يحبها حبا شديدا، فاتفق أن طلقها فحصل له قلق وهيام كاد يشرف به على التلف، فحضرت في بعض الأيام مجلسا كان فيه فسر بها واستبشر، فحدث أن جاءت امرأتان وجلستا أمامه فحالتا بينه وبينها فأنشد:
أيا جبلي نعمان بالله خليا
نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
أنس الوجود ومحبوبته ورد
حكي أنه كان لأحد الوزراء ابنة بديعة في الحسن والجمال، فائقة في البهجة والكمال، ذات عقل وافر وأدب كامل، وكانت تهوى المنادمة وسماع رقائق الأشعار لرقة فؤادها ولطف أخلاقها وظرفها، فبينما كانت يوما تنظر من شباك قصرها وقع نظرها على شاب نير الوجه، ضاحك السن، بهي الطلعة، حسن الشمائل، فوقع حبه في قلبها وعدمت صبرها في هواه، فرمته للحال بتفاحة كانت في يدها، فرفع رأسه فرآها في شباك القصر كأنها البدر، فلم يرن إليها طرفه إلا وهو بعشقها مشغول الخاطر.
فلما بعد عن القصر سألت جاريتها عن اسمه وكانت تعرفه، فقالت لها: إن اسمه أنس الوجود، وإنها تعرف مكانه. فكتبت له رقعة شرحت فيها حالها وما عراها من حبه وغرامه، فأخذت الجارية الرقعة وسارت بها إليه فأعطتها له، فلما قرأها كتب في أسفلها هذه الأبيات:
أعلل قلبي في الغرام وأكتم
ولكن حالي عن هواي يترجم
فلو فاض دمعي قلت جرح بمقلتي
لئلا يرى حالي العزول فيفهم
وكنت خليا لست أعرف ما الهوى
فأصبحت صبا والفؤاد متيم
رفعت إليكم قصتي أشتكي بها
غرامي ووجدي كي ترقوا وترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعلها
بما حل بي منكم إليكم تترجم
رعى الله وجها بالجمال مبرقعا
له البدر عبد والكواكب تخدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلها
ومن ميلها الأغصان عطفا تعلم
وأسألكم من غير حمل مشقة
زيارتنا إن الوصال معظم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونها
فلي الوصل مني والصدود جهم
فأخذت الجارية الكتاب وأعطته إلى سيدتها، فلما قرأت ذاك الكتاب هاج منها الوجد والغرام وكتبت له تقول:
يا من تعلق قلبه بجمالنا
اصبر لعلك في الهوى تحظى بنا
لما علمنا أن حبك صادق
وأصاب قلبك ما أصاب فؤادنا
زدناك فوق الوصل وصلا مثله
لكن منع الوصل من حجابنا
وإذا تجلى الليل من فرط الهوى
تتوقد النيران في أحشائنا
وجفت مضاجعنا الجنوب وربما
قد برح التبريح في أجسامنا
الفرض في شرع الهوى كتم الهوى
لا ترفعوا المسبول من أستارنا
فلما فرغت من شعرها طوت الكتاب وأعطته إلى الخادمة، فأخذته وخرجت من عندها، فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت: إلى الحمام، وقد انزعجت منه فوقعت منها الورقة دون انتباه، فبينما كان بعض الخدم يمشي من تلك الجهة وقع نظره على الورقة فأخذها وقدمها إلى الوزير، فلما قرأها وفهم فحواها هاج منه الغيظ والغضب وجاء إلى بنته ورد لائما منددا، ثم أمر بعض الخدم بإبعادها وأخذ مكان لها يكون بعيدا في البرية، فلما علمت بذلك زاد منها القلق وكتبت قبل ذهابها هذه الأبيات على باب حجرتها:
بالله يا دار إن مر الحبيب ضحى
مسلما بإشارات يحيينا
أهديه منا سلاما زاكيا عطرا
لأنه ليس يدري أين أمسينا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنا
لما مضوا بي سريعا مستخفينا
في جنح ليل وطير الأيك قد عكفت
على الغصون تباكينا وتنعينا
وقال عنها لسان الحال وأحربا
من التفرق ما بين المحبينا
لما رأيت كؤوس البعد قد ملئت
والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معتذرا
وعنكم الآن ليس الصبر يسلينا
فلما فرغت من شعرها ركبت وساروا بها يقطعون القفار حتى وصلوا إلى مكان منفرد أمام شاطئ نهر، فنصبوا لها خيمة هناك ووكلوا بها بعض الخدم، فلما أظلم الظلام تذكرت حالها وكيف فارقت أطلال الحبيب، فسكبت العبرات وأنشدت تقول:
جن الظلام وهاج الوجد بالسقم
والشوق حرك ما عندي من الألم
ولوعة البين في الأحشاء قد سكنت
والفكر صيرني في حالة العدم
والوجد أقلقني والشوق أحرقني
والدمع باح بسر أي مكتتم
وليس لي حالة في العشق أعرفها
من رق عودي ومن سقمي ومن ألمي
جحيم قلبي من النيران قد سعرت
ومن لظى حرها الأكباد في نقم
ما كنت أملك نفسي أن أودعهم
يوم الفراق فيا قهري ويا ندمي
يا من يبلغهم ما حل بي وكفى
أني صبرت على ما خط بالقلم
أقسمت لا حلت عنهم في الهوى أبدا
يمين شرع الهوى مبرورة القسم
يا ليل سلم على الأحباب مخبرهم
واشهد بعلمك أني فيك لم أنم
أما أنس الوجود فإنه بعد كتابة الأبيات وإرسالها إلى محبوبته ورد صبر إلى ثاني الأيام فقام وقصد أبياتها، فسأل عنها الخادمة فأعلمته بالخبر وأطلعته على ما كتبت من أبيات على الباب، فلما قرأ تلك الأبيات زاد منه الوجد والقلق وسار في عرض القفار لا يرتاح إلى سمير ولا يلذ له كلام، إلى أن رأى رجلا أهداه إلى مكانها، فبينما هو سائر إلى حبيبته وقع نظره على حمام الأيك فهاج منه لاعج الغرام وأنشد:
يا حمام الأيك أقريك السلام
يا أخا العشاق من أهل الغرام
إنني أهوى غزالا أهيفا
لحظه أقطع من حد الحسام
في الهوى أحرق قلبي والحشا
وعلا جسمي نحول وسقام
ولذيذ الزاد قد حرمته
مثل ما حرمت من طيب المنام
واصطباري وسلوي رحلا
والهوى بالوجد عندي قد أقام
كيف يهنا العيش لي من بعدهم
وهم روحي وقصدي والمرام
أما حبيبته ورد فإنها بينما كانت تخطر حول خيامها إذ رأت موكبا حافلا من بعد فدنت منه فإذا في وسطه أمير خطير، فلما وقع نظره عليها عجب من رائق جمالها وهاله ما رأى فيها من شدة الضعف والهزال، فسألها عن حالها وما ألم بها، فأعلمته القصة على التمام وما جرى لها أولا وآخرا، فرق لها قلبه وبعث فاسترضى أباها وأرسل من يأتي بأنس الوجود، فما مضى إلا القليل حتى صادفوه قريبا من خيام محبوبته، فلما جاءوا به إليها مالت إليه كغصن البان فضمها إلى صدره وأنشد:
ما أحيلاها ليلات الوفا
حيث أمسى لي حبيبي منصفا
نصب السعد لنا أعلامه
وشربنا منه كأسا قد صفا
واجتمعنا وتشاكينا الأسى
وليلات تقضت بالجفا
ونسينا ما مضى يا سادتي
وعفا الرحمن عما سلفا
وعاشا معا في ألذ عيش وأهنأ بال.
دعبل الخزاعي والجارية
قال دعبل الخزاعي: كنت جالسا بباب الكرخ إذ مرت بي جارية لم أر أحسن منها، ولا أعدل قدا، وهي تنثني في مشيتها وتسبي الناظرين بتثنيها، فلما وقع بصري عليها افتتنت بها وارتجف فؤادي وآنست من قلبي ارتحالا، فأنشدت معرضا بهذا البيت:
دموع عيني بها انقضاض
ونوم جفني به انقباض
فنظرت إلي واستدارت بوجهها وأجابتني بسرعة بهذا البيت:
وذا قليل لمن دعته
بلحظها الأعين المراض
فأدهشتني بسرعة جوابها وحسن منطقها فأنشدتها ثانيا هذا البيت:
فهل لمولاتي عطف قلب
على الذي دمعه مغاض
فأجابتني بسرعة من غير توقف بهذا البيت:
إن كنت تهوى الوداد منا
فالود ما بيننا قراض
فما دخل أذني قط أحلى من كلامها، ولا رأيت أبهج من وجهها، فعدلت بالشعر عن القافية امتحانا لها وعجبا بكلامها، فقلت لها هذا البيت:
أترى الزمان يسرنا بتلاق
ويضم مشتاقا إلى مشتاق
فتبسمت، فما رأيت أحسن من فمها ولا أحلى من ثغرها، وأجابتني بسرعة من غير توقف بهذا البيت:
ما للزمان وللتحكم بيننا
أنت الزمان فسرنا بتلاق
بدور بنت الجوهري وجبير الشيباني
قال علي بن منصور الخليعي: بينما كنت سائرا في البصرة إذا بباب كبير له حلقتان من النحاس فوقفت أتفرج على هذا المكان، فينما أنا واقف إذ سمعت صوت أنين ناشئ عن قلب حزين، فرفعت الستر قليلا قليلا وإذا أنا بجارية بيضاء كأنها البدر إذ بدر في ليلة أربعة عشر، بحاجبين مقرونين، وجفنين ناعسين، وشفتين رقيقتين وفم كأنه خاتم سليمان، وقد حازت أنواع الجمال بما يفتن النساء والرجال، فلما رأتني ناظرا إليها من خلال الستارة مالت إلى جارية لها، وقالت: انظري من الباب. فقامت الجارية وأتت إلي وقالت: ما سبب وقوفك هنا. قلت: عطش ألم بي فأمرت سيدتها فجاءت بكوز من الماء، فجعلت أشرب وأطيل في شربي وأنا أسارق النظر إليها حتى طال وقوفي. ثم رددت إليها الكوز ودمت صامتا لا أتكلم، فقالت سيدتها: وما سبب هذا الوقوف؟ قلت: إنني أتفكر بصحاب هذا الدار كيف تقلبت عليه الأيام، وقد كان ذا مال جزيل، فهل خلف أولادا؟ قالت: نعم. قلت: فإني أرى تغيرا في وجهك، فأخبريني بسببه فقالت: إن كنت من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا فأخبرني ما هو اسمك؟ فقلت لها: أنا علي بن منصور الخليعي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد. فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلمت علي وقالت: مرحبا بك يا ابن منصور الآن أخبرك بحالي، وأستأمنك على سري، أنا عاشقة مفارقة. فقلت لها: يا سيدتي أنت مليحة، وما تعشقين إلا كل مليح، فمن الذي تعشقينه؟ قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان، وقد وصفت لي شابا لم يكن بالبصرة أحسن منه. فقلت لها: يا سيدتي، هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم. إلا أنه عشقنا باللسان لا بالقلب والجنان. فقلت لها: يا سيدتي، وما سبب الفراق بينكما؟ قالت: سببه أني كنت يوما جالسة وجاريتي هذه تسرح شعري، فلما فرغت جدلت ذوائبي فأعجبها حسني وجمالي فطأطأت علي وقبلت خدي. وكان في ذلك الوقت داخلا علي غفلة، فرأى ذلك وعاد من وقته مغضبا عازما على دوام البين وأنشد هذين البيتين:
إذا كان لي فيمن أحب مشارك
تركت الذي أهوى وعشت وحيدا
فلا خير في المعشوق إن كان في الهوى
لغير الذي يرضى المحب مريدا
ومن حين ولى معرضا إلى الآن لم يأتنا منه كتاب يا ابن منصور، فقلت لها: فما تريدين؟ قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتابا. فقلت لها: افعلي ما بدا لك. فكتبت إليه هذه الأبيات:
حبيبي ما هذا التباعد والقلى
فأين التغاضي بيننا والتعطف
وما لك بالهجران عني معرضا
فما وجهك الوجه الذي كنت أعرف
نعم نقل الواشون عني باطلا
فملت لما قالوا فزادوا وأسرفوا
فإن تك قد صدقتهم في حديثهم
فحاشاك من هذا ورأيك أعرف
بعيشك قل لي ما الذي قد سمعته
فإنك تدري ما يقال وتنصف
فإن كان قولا صح أني قلته
فللقول تأويل وللقول أحرف
وهب أنه قول من الله منزل
فقد بدل التوراة قوم وحرفوا
وبالزور كم قد قيل في الناس قبلنا
فها عند يعقوب تلوم يوسف
وها أنا والواشي وأنت جميعنا
يكون لنا يوم عظيم وموقف
ثم ختمت الكتاب وناولتني إياه، فأخذته ومضيت إلى دار جبير الشيباني فوجدته في الصيد، فجلست أنتظره، فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد، فلما رأيته على فرسه ذهل عقلي من حسنه وجماله، فالتفت فرآني جالسا بباب داره، فنزل عن جواده وعانقني وسلم علي، ثم دخل بي إلى داره وسألني عن حاجتي، فأخرجت إليه الكتاب.
فلما قرأ ما فيه مزقه ورماه في الأرض وقال لي: يا بن منصور، مهما كان لك من الحوائج قضيناه إلا هذه الحاجة التي أتيت من أجلها، فذهبت حزينا إلى كاتبة السطور وأعلمتها بما جرى أولا وآخرا، فزاد منها الحزن والقلق ورفعت طرفها إلى السماء وقالت: يا إلهي، كما أبليتني بمحبة جبير بن عمير تبليه بمحبتي وتنقل إليه ما يلقاه فؤادي. ثم إني عدت إلى حبيبها جبير فوجدت داره قد تهدمت بأسرها ولم أجد على بابه غلاما، فظننته مات فحزنت عليه، وبينما أنا أبكي إذا بعبد أسود خرج إلي من الدار وسألني عن هذا البكاء، فقلت له السبب، فقال: إن الذي ذكرته حي بحمد الله ولكنه قد بلي بحب غادة حسناء تدعى بدور وهو من أجلها كطيف الخيال، فقلت: استأذن لي عليه. فدخل الدار مستأذنا ثم عاد إلي آذنا، فدخلت عليه فوجدته كالحجر الطريح، فناديت مرارا حتى انتبه فقال لي: مرحبا يا أبا منصور. فقلت له: يا سيدي ألك بي حاجة؟ قال: نعم، أريد أن أكتب لها ورقة وأرسلها معك إليها، ثم كتب هذه الأبيات:
سألتكم بالله يا سادتي مهلا
علي فإن الحب لم يبق لي عقلا
تمكن مني حبكم وهواكم
فألبسني سقما وأورثني ذلا
لقد كنت قبل اليوم أستصغر الهوى
وأحسبه يا سادتي هينا سهلا
فلما أراني الحب أمواج بحره
رجعت لحكم الله أعذر من يبلى
فإن شئتم أن ترحموني بوصلكم
وإن شئتم قتلي فلا تنسوا الفضلا
فأخذت الكتاب ومضيت به إلى دار السيدة بدور، فلما رأتني سلمت علي وأخذت الكتاب فاطلعت عليه ثم تغرغرت عيناها بالدموع وكتبت إليه هذه الأبيات:
إلى كم ذا الدلال وذا التجني
شفيت وحقك الحساد مني
لعلي قد أسأت ولست أدري
فقل لي ما الذي بلغت عني
مرادي لو وضعتك يا حبيبي
مكان النوم من عيني وجفني
شربت كؤوس حبك مترعات
فإن ترني سكرت فلا تلمني
فأخذت منها تلك الأبيات وقلت لها: يا سيدتي، إنها لرقعة تداوي العليل وتشفي الغليل. ثم أخذت الكتاب وخرجت، فنادتني بعد الخروج وقالت لي: يا بن منصور، قل له: إنها في هذه الليلة ضيفك. ففرحت أنا بذلك فرحا شديدا ومضيت بالكتاب إلى جبير بن عمير، فلما دخلت عليه وجدت عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقرأها وفهم معناها فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشيا عليه، فلما أفاق قال: يا بن منصور، هل كتبت هذه الرقعة بيدها ولمستها أناملها؟ قلت: يا سيدي، وهل يكتب الناس بغير الأنامل؟! فما كدت أتم الكلام إلا وقد سمعنا وقع أقدام في الدهليز، فقام على أقدامه كمن لم يكن به ألم قط واعتنقا معا مدة طويلة وعادا إلى سابق الوداد.
الوزير والجارية
رأى وزير من الوزراء جارية حسناء تخطر في خفيف الثياب فهاج منه لاعج الغرام وأنشد:
تبدت فهذا البدر من كلف بها
وحقك مثلي في دجى الليل حائر
وماست فشق الغصن غيظا ثيابه
ألست ترى أوراقه تتناثر
فسمعه أحد الأدباء فقال:
وفاحت فألقى العود في النار نفسه
كذا نقلت عنه الحديث المجامر
وقالت فغار الدر واصفر لونه
كذلك ما زالت تغار الضرائر
القسم السادس
في مصارع العشاق
المبرد وأصحابه والمجنون
قال المبرد: خرجت أنا وجماعة من أصحابي مع المأمون، فلما قربنا من نحو الرقة فإذا نحن بدير كبير، فأقبل إلي بعض أصحابي فقال: مل بنا إلى هذا الدير ننظر من فيه ونحمد الباري على ما رزقنا من السلامة. فلما دخلنا إلى الدير رأينا مجانين مغلولين وهم في نهاية القذارة، فإذا منهم شاب عليه بقية ثياب ناعمة، فلما بصر بنا قال: من أين أنتم يا فتيان حياكم الله؟ فقلنا: نحن من العراق. فقال: يا أهل العراق، أنشدوني بالله أو أنشدكم. فقال المبرد: والله إن الشعر من هذا لطريف ، فقلنا: أنشدنا، فأنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمد
لا أستطيع أبث ما أجد
روحان لي روح تضمنها
بلد وأخرى حازها بلد
وأرى المقيمة ليس ينفعها
صبر ولا يقوى بها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي
بمكانها تجد الذي أجد
قال المبرد: إن هذا لطريف والله، زدنا. فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيرهم
ورحلوها فسارت بالهوى الإبل
وأبرزت من خلال السجف ناظرها
ترنو إلي ودمع العين منهمل
وودعت ببنان عقدها عنم
ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حل بي وبها
من نازل البين حان الحين وارتحلوا
يا راحل العيس عجل كي نودعها
يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم
فليت شعري لطول العهد ما فعلوا
فقال رجل من البغضاء الذين معي: ماتوا. قال: إذن فأموت. فقال له: إن شئت. فتمطى واستند إلى السارية التي كان مشدودا فيها فما برحنا حتى دفناه.
الأصمعي وأحد العشاق
قال الأصمعي: بينما كنت سائرا في البادية مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سره
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته:
فكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبرا لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت أنفع
ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر ميتا وقد كتب قبل موته:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي إلى من كان للوصل يمنع
موت الفتاة بموت حبيبها
قال الأصمعي: بينما كنت نائما بقرب مقابر البصرة رأيت فتاة على قبر تندب وتقول:
بروحي فتى أوفى البرية كلها
وأقواهم في الحب صبرا على الحب
فقلت: أيتها الفتاة، بم كان أوفي البرية وبم كان أقواها؟ فقالت: يا هذا، إنه ابن عمي هويني فهويته، فكان إن باح عنفوه وإن كتم لاموه، فأنشد بيتين شعر وما زال يكررهما إلى أن مات، فوالله لأندبنه إلى أن أصير مثله في قبر إلى جانبه. فقلت لها: أيتها الفتاة، فما البيتان؟ فقالت:
يقولون لي إن بحت قد غرك الهوى
وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا
فما لامرئ يهوى ويكتم أمره
من الحب إلا أن يموت فيعذرا
ثم إنها شهقت شهقة فارقت روحها الدنيا، فأسفت عليها ودفنتها قرب حبيبها.
الحارث وعفراء بنت الأحمر
نشأ الحارث بن الفرند مع ابنة عمه عفراء بنت الأحمر الخزاعية ممتزجين بالألفة والوداد إلى أن بلغا سن الرشد، فتزوج بها وأقام معها مدة ينمو الهوى في قلبيهما، فعزمت يوما على زيادة أبيها فجهزها إليه، فأقامت مدة وكل من أبويهما يأبى أن يجيء بنفسه خشية أن تزري به العرب، فمرض الحارث وكتب إليها:
صبرت على كتمان حبك برهة
ولي منك في الأحشاء أصدق شاهد
هو الموت إن لم تأتني منك رفعة
تقوم بقلبي في مقام العوائد
فأجابته تقول:
كفيت الذي تخشى وصرت إلى المنى
ونلت الذي تهوى برغم الحواسد
ووالله لولا أن يقال تظننا
بي السوء ما جنبت فعل العوائد
فلما قرأ ما في الرقعة وتنشق عاطر شذاها غشي عليه فجاؤوه، فإذا هو ميت، فقالوا لها ما كان عليك لواجبته زورة. قالت: خشيت أن يقال صبت إليه، ولكني قاتلة نفسي ولاحقة به قريبا. فلم يشعروا بها إلا وهي ميتة إلى جانبه.
عبد الله بن عجلان وهند
خرج عبد الله بن عجلان إلى شعب من نجد ينشد ضالة فشارف ماء يقال له: نهر غسان. وكانت بنات العرب تقصده فتخلع ثيابها وتغتسل فيه. فلما علا ربوة تشرف على النهر المذكور رآهن على تلك الحالة فمكث يسترق النظر إليهن، فصعدن وبقيت هند وكانت طويلة الشعر. فأخذت تمشطه وتسبله على بدنها، وهو يتأمل شفوف بياض جسمها في خلال سواد الشعر، ونهض ليركب الناقة فلم يقدر وقعد ساعة. وكان قبل تلك النظرة تصف له العرب ثلاثة رواحل قائمة فيحلقها ويركب الرابعة، فعند ذلك داخله من الحب ما أعجزه وأوهن قواه، فأنشد:
لقد كنت ذا بأس شديد وهمة
إذا شئت لمسا للثريا لمستها
أتتني سهام من لحاظ فأرشقت
بقلبي ولو أستطيع ردا رددتها
ثم عاد وقد تمكن الهوى منه فأخبر صديقا له، فقال: اكتم ما بك واخطبها إلى أبيها فإنه يزوجك بها، وإن أشهرت عشقها حرمتها. ففعل وخطبها، فأجيب، فتزوج بها وأقاما على أحسن حال وأنعم بال لا يزداد فيها إلا غراما، فمضى عليهما ثمان سنين ولم تحمل، وكان أبوه ذا ثروة وليس له غيره، فأقسم عليه أن يتزوج غيرها ليولد له ولد يحفظ له النسب والمال، فعرض عليها ذلك فأبت أن تكون مع أخرى. فعاود أباه، فأمره بطلاقها فأبى، فألح عليه، فلم يجب وأصر على البقاء معها، فبلغ أباه يوما أنه في حالة السكر فعدها فرصة وأرسل إليه يدعوه، فمنعته هند وقالت: والله لا يدعوك لخير وما أظنه إلا عرف أنك سكران فأراد أن يعرض عليك الطلاق، فأبى عبد الله إلا الخروج، فجاذبته، فلم يذعن لها، ثم سار إلى أبيه وعنده أكابر العرب فجعلوا يعنفونه ويتناشدونه من كل مكان حتى استحيا فطلقها، فلما سمعت بذلك احتجبت عنه، فوجد بها وجدا قاتلا وأنشد يقول:
طلقت هندا طائعا
فندمت بعد فراقها
فالعين تذرف دمعها
كالدر من آماقها
متحلبا فوق الردى
فتجول في رقراقها
خود رداح طفلة
ما الفحش من أخلاقها
ولقد ألذ حديثها
فأسر عند عناقها
ولم يزل عبد الله دنفا سقيما يقول فيها الشعر ويبكيها إلى أن بلغه أنها تزوجت برجل من بني نمير، فزاد حزنه ومات أسفا عليها.
عمرو بن كعب وعقيلة ابنة أبي النجاد
كان عمرو بن كعب يهوى ابنة عم له تدعى عقيلة، وكانت من أجمل نساء العرب وأوسعهن علما وأدبا، فشغف بها وزاد غراما والتياعا فخطبها إلى عمه، فطلب منه مهرا يعجز عنه، فأشار عليه بعض أصحابه بالخروج إلى أبرويز بن كسرى لما كان بين جدودهما من الوصلة، فلما ذهب في الطريق مر بعراف فاستعلم منه الأمر، فأخبره أنه ساع فيما لا يدرك، فعاد فوجد عمه قد زوج العقيلة لرجل من فزارة، فهام على وجهه إلى اليمامة. أما عقيلة فإنها بعد عقد الزواج أخذت تبدي لزوجها صدا وحقدا فخرج سائرا إلى حيث لا يدري، وأقامت العقيلة ببيت أبيها لا تتناول إلا الأقل من الطعام بقدر ما يمسك الرمق ودأبها البكاء على عمرو. أما عمرو فإنه ما زال هائما تائها من وجده شاخصا طرفه إلى السماء أياما، فوقف ذات يوم وقد أظلم الدجى وخلا المكان من الرقيب فتذكر عقيلة وما جرى، فأنشد:
إذا جن ليلي فاضت العين أدمعا
على الخد كالغدران أو كالسحائب
أود طلوع الفجر والليل قائل
لقد شدت الأفلاك بعد الكواكب
فما أسفي إلا على ذوب مهجتي
ولم أدر يوما كيف حال الحبائب
فدخل عليه يوما صديق له فوجده غاصا بالضحك مستبشرا، فسأله، فقال:
لقد حدثتني النفس أن سوف نلتقي
ويبدل بعد بيننا بتدان
فقد آن للدهر الخؤون بأنه
لتأليف ما قد كان يلتمسان
ثم شهق شهقة فاضت نفسه. فبلغ حبيبته ذلك فحزنت عليه غاية الحزن وسئمت العيش بعده، فبينما كان الفرزدق خارجا ذات يوم في طلب غلام له إذ مر بقرب ماء لبنى، فأمطرت السماء فلجأ إلى بيت هناك، فلاحت له جارية كأنها القمر، فحيت ثم قالت: ممن الرجل؟ قال: تميمي. قالت: من أيها قبيلة؟ فقال: من نهشل بن غالب. قالت: أين تؤم؟ قال: اليمامة. فتنفست الصعداء ثم قالت:
تذكرت اليمامة إن ذكري
بها أهل المروءة والكرامة
فآنس بها بهاء ولطفا فقال: أذات خدر أم بعل؟ فقالت:
إذا رقد النيام فإن عمرا
تؤرقه الهموم إلى الصباح
فتقطع قلبه الذكرى وقلبي
فلا هو بالخلي ولا بصاح
سقى الله اليمامة دار قوم
بها عمرو يحن إلى الرواح
فقال لها: من هو؟ فأنشدت تقول:
إذا رقد النيام فإن عمرا
هو القمر المنير المستنير
وما لي في التبعل من براح
وإن رد التبعل لي أسير
ثم شهقت شهقة فماتت، فسأل عنها فإذا هي العقيلة حبيبة عمرو بن كعب.
عامر بن غالب وجميلة بنت إميل
قال الأصمعي: رأيت بالبادية رجلا قد دق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده، فتعجبت فدنوت منه أسأله عن حاله، فلم يرد جوابا، فسألت جماعة حوله عن حاله فقالوا: اذكر له شيئا من الشعر يكلمك. فقلت:
سبق القضاء بأنني لك عاشق
حتى الممات فأين منك مذاهبي
فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول:
أخلو بذكرك لا أريد محدثا
وكفى بذلك نعمة وسرورا
أبكي فيطربني البكاء وتارة
يأبى فيأتي من أحب أسيرا
فإذا أنا سمح بفرقة بيننا
أعقبت منه حسرة وزفيرا
قلت: أخبرني عن حالك. قال: إن كنت تريد علم ذلك فاحملني وألقني على باب تلك الخيمة. ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه جهده:
ألا ما للمليحة لا تجود
أبخل ذاك منها أم صدود
فلو كنت المريضة جئت اسعى
إليك ولا ينهنهني الوعيد
فإذا جارية مثل القمر خرجت فألقت نفسها عليه فاعتنقا مدة طويلة، فجئت أفرق بينهما خشية أن يراهما الناس، فإذا هما ميتان، فما برحت حتى صليت عليهما ودفنا، فسألت عنهما فقيل لي: هما عامر بن غالب وجميلة بنت إميل.
عويمر العقيلي وابنة عمه
قال خلاد بن يزيد: كان عويمر العقيلي مشغوفا بابنة عم له يقال لها: ريا. فزوجت برجل فحملها إلى بلاده، فاشتد وجده واعتل علة أخذه الهلاس بها، فدعوا له طبيبا لينظر إليه، فقال له: أخبرني بالذي تجد. فقال منشدا:
كذبت على نفسي فحدثت أنني
سلوت لكيما ينظروا حين أصدق
وما عن قلى مني وعلى عن ملالة
ولكنني أبقي عليك وأشفق
وما الهجر إلا جنة لي لبستها
لتدفع عني ما يخاف ويفرق
عطفت على أسراركم فكسوتها
قميصا من الكتمان لا يتخرق
ولي عبرتان ما تفيقان عبرة
تفيض وأخرى للصبابة تخفق
ويومان يوم فيه جسم معذب
عليل ويوم للتفرق مطرق
وأكثر حظي منك أني إذا سرت
لي الريح من تلقائكم أتنشق
ثم ذهب عقله. فقال الطبيب لأهله ومن حضره: ارفقوا به. ثم انصرف فما مكث إلا ليال يسيرة حتى قضي عليه.
العاشق وعشيقته هلال
قال ابن الأشدق: كنت أطوف بالبيت فرأيت شابا تحت الميزاب قد أدخل رأسه في كسائه وهو يئن كالمحموم ، فسلمت، فرد السلام ثم قال: من أين؟ قلت: من البصرة. قال: أترجع إليها؟ قلت: نعم. قال: فإذا دخلت النباج فاخرج إلى الحي ثم ناد: يا هلال يا هلال، تخرج إليك جارية فتنشدها هذا البيت:
لقد كنت أهوى أن تكون منيتي
بعينيك حتى تنظري ميت الحب
ومات مكانه. فلما دخلت النباج أتيت الحي فناديت: يا هلال، يا هلال، فخرجت إلي جارية لم أر أحسن منها وقالت: ما وراءك؟ قلت: شاب بمكة أنشدني هذا البيت. قالت: وما صنع؟ قلت: مات. فخرت مكانها ميتة.
ابن عبد الرحمن بن عوف وابنة عمه
قال هشام الكلبي: كان بالمدينة رجل من ولد عبد لرحمن بن عوف وكان شاعرا، وكانت عنده ابنة عم له كان لها عاشقا وبها مستهترا، فضاق ضيقة شديدة وأراد المسير إلى هشام إلى الرصافة، فمنعه من ذلك ما كان يجد بها وكره فراقها. فقالت له يوما وقد بلغ منها الضيق: يا بن عمي، ألا تأتي الخليفة لعل الله - تعالى - أن يقسم لك منه رزقا فتكشف به عن بعض ما نحن فيه، فلما سمع ذلك منها نشط للخروج فتجهز ومضى حتى إذا كان من الرصافة على أميال خطر ذكرها بقلبه وتمثلت له، فلبث ساعة مغمى عليه ثم أفاق فقال للجمال: قف بنا، فوقف، فأنشد يقول:
بينما نحن في بلاكث فالقا
ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذك
راك وهنا فما أطلقت مضيا
قلت لبيك إذ دعاني لك الشو
ق وللحادين ردا المطيا
فكررنا صدور عيس عتاق
مضمرات طوين بالسير طيا
ذاك مما لقينا من دلج السير
وقول الحداة بالليل هيا
ثم قال للجمال: ارجع بنا، فقال: سبحان الله! قد بلغت طيتك، هذه أبيات الرصافة، فقال: والله لا تخطو خطوة إلا راجعة، فرجع، حتى إذا كان من المدينة على قدر ميل لقيه بعض بني عمه فأخبره أن امرأته قد توفيت، فشهق شهقة وسقط عن ظهر الجمل ميتا.
ابن العاص وجارية أحبها
عشق رجل من ولد سعيد بن العاص جارية بديعة الصوت شهيرة بالغناء، فهام بها دهرا وهو لا يعلمها بذلك، ثم إنه ضجر فقال: والله لأبوحن لها. فأتاها عشية، فلما خرجت إليه قال لها: أخبريني بالله هل أنشدت:
أتجزون بالود المضاعف مثله
فإن الكريم من جزى الود بالود؟
قالت: نعم، وأنشدت أحسن منه فقالت:
للذي ودنا المودة بالضعف
وفضل البادي به لا يجازى
لو بدا ما بنا لكم ملأ الأرض
وأقطار شامها والحجازا
فاتصل خبر هذين البيتين بعمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة فابتاعها له وأهداها إليه، فمكثت عنده سنة ثم ماتت، فلم يلبث من حزنه عليها أن تبعها إلى دار البقاء.
اجتماع محبين بعد الموت
قال أبو الخطاب الأخفش: خرجت في سفر فنزلت على ماء لطيء، فبصرت بخيمة من بعيد، فقصدت نحوها فإذا فيها شاب على فراش كأنه الخيال، فأنشأ يقول:
ألا مال الحبيبة لا تعود
أبخل بالحبيبة أم صدود
مرضت فعادني عواد قومي
فما لك لم تري فيمن يعود
فلو كنت المريض ولا تكوني
لعدتكم ولو كثر الوعيد
ولا استبطأت غيرك فاعلميه
وحولي من ذوي رحمي عديد
ثم أغمي عليه فمات. فوقعت الصيحة في الحي فخرج من آخر الماء جارية كأنها فلقة قمر، فتخطت رقاب الناس حتى وقفت عليه فقبلته وأنشأت تقول:
عداني أن أعودك يا حبيبي
معاشر فيهم الواشي الحسود
أذاعوا ما علمت من الدواهي
وعابونا وما فيهم رشيد
فأما إذ حللت ببطن أرض
وقصر الناس كلهم اللحود
فلا بقيت لي الدنيا فواقا
ولا لهم ولا أثري عديد
ثم شهقت شهقة فخرت ميتة منها. فخرج من بعض الأخبية شيخ فوقف عليهما وقال: والله لئن فرقت بينكما حيين لأجمعن بينكما ميتين، ثم ضم كلا إلى الآخر ودفنهما في قبر واحد. فسألته فقال: هذه ابنتي وهذا ابن أخي.
سهلان القاضي وأحد العشاق
قال سهلان القاضي: بينا أنا مار في طرقات جبل شورى، وقد مرت بي قافلة عظيمة، إذ نحن بشاب على الطريق ذاهب العقل مدهوش عريان، وبين يديه ثياب ممزقة. فقال لي: أين رأيت القافلة؟ قلت: في موضع كذا . قال: آه من البين، آه من البين، آه من دواعي الحين ... فقلت: وما دهاك؟ فقال:
شيعتهم من حيث لم يعلموا
ورحت والقلب بهم مغرم
سألتهم تسليمة منهم
علي إذ بانوا فما سلموا
ساروا ولم يرثوا لمستهتر
ولم يبالوا قلب من تيموا
واستحسنوا ظلمي فمن أجلهم
أحب قلبي كل من يظلم
شجاع والفتاة العفيفة
أحب أحد الشبان فتاة جميلة شهيرة بالورع والتقوى، ومن شدة حبه بها علاه السقام وزادت منه الأوجاع والآلام، فتقاطرت عليه الأطباء دون أن يروا جدوى، ولما أعيت الحيلة استكشفوه الأهل عن أمره فأبى إلا الكتمان، ولما اشتد عليه حاله اختلى بامرأة من أنسبائه كبيرة السن من أهل الوفاء والمعروف فأطلعها جلية الأمر. فسارت توا إلى الفتاة وخاطبتها سرا بما في نفسه لأجلها وطلبت منها أن تعطف عليه وتجبر خاطره الكسير. فقالت لها: أبلغيه مني السلام وقولي: أي أخاه إني والله قد وهبت نفسي لمليك يكافئ من أقرضه بالعطايا الجزيلة، ويعين من انقطع إليه وخدمه بالهمم الرفيعة، وليس إلى الرجوع بعد الهبة سبيل، فتوسلي إلى مولاك ومولاي أن يسبل علي ذيل المعذرة ويعاملني على ذنبي بجميل المغفرة والسلام. فقامت المرأة من عندها وأخبرته بمقالتها، فبكى بكاء شديدا. فقالت له العجوز: والله يا بني ما رأيت فتاة أشد تقاوة وطهارة منها، فاعمل بما أمرتك به ولا تلق نفسك بالتهلكة، ولو قدرت على عمل حيلة أنفذ بها لعملتها، ولكني رأيت أنها جعلت الله نصب عينيها، ومن جعل الله - تعالى - نصب عينيه لها عن زينة الحياة. فجعل يبكي ويقول: أنى لي بلوغ ما دعت إليه ومتى يكون الملتقى؟ واشتد وجده حتى أفضى إلى الجنون، فصار يجول في الطرقات بحالة يرثى لها فيجتمع عليه الأولاد قائلين ومستهزئين: مت عشقا مت عشقا، فكان يقول:
أأفشي إليكم بعض ما قد يهيجني
أم الصبر أولى بالفتى عندما يلقى
أأوعد وعدا ما له الدهر آخر
وأؤمر بالتقوى ومن لي بالتقوى
سلام على من لا أسميه باسمه
ولو صرت مثل الطير في قفص يلقى
ألا أيها الصبيان لو ذقتم الهوى
لأيقنتم أني محدثكم حقا
أحبكم من حبها وأراكم
تقولون لي مت يا شجاع بها عشقا
فلم تنصفوني لا ولا هي أنصفت
فرفقا رويدا ويحكم بالفتى رفقا
فلما اتضح لأهله حقيقة حبه وغرامه جعلوا يسألونه عن أمره فلا يجيبهم، وكتمت العجوز حقيقة أمره، فأخذوه وحبسوه في بيت لهم، فلم يزل فيه حتى مات.
مصرع عاشق سمع آية الكتاب
قال عبد الرحمن الصوفي: كنت ببغداد بسوق النخاسين فرأيت قوما مجتمعين فدنوت منهم، فرأيت شابا مصروعا مغشيا عليه، فقلت لواحد منهم: ما الذي أصابه؟ فقال: سمع آية من كتاب الله عز وجل. فقلت: وأية آية هي؟
فقال: قوله عز وجل:
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله (الحديد: 16)، فلما سمع أفاق وأنشد:
ألم يأن للهجران أن يتصرما
وللغصن غصن البان أن يتبسما
وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى
أما آن أن يبكى عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي
كتابا حكى نفس الوشاة منمنما
ثم صاح صيحة خر مغشيا عليه، فحركناه فإذا هو ميت.
محمد بن داود وإبراهيم بن نفطويه
قال إبراهيم بن نفطوية النحوي: دخلت على محمد بن داود الأصفهاني في مرضه الذي مات فيه، فقلت: ماذا ألم بك؟ قال: حب من تعلم أورثني ما ترى. قلت: ما منعك منه مع القدرة عليه؟ قال: الاستمتاع على وجهين؛ النظر المباح واللذة المحظورة، فقد منعني منها ما بلغني عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قوله: «من عشق وكتم وعف؛ غفر الله له وأدخله الجنة»، ثم أنشد أبياتا لنفسه. فلما انتهى إلى قوله:
إن يكن عيب خده من عذار
فعيوب العيون شعر الجفون
قلت له: أنت تنفي القياس في الفقه وتثبته في الشعر. فقال: غلبة الهوى وملكة النفس دعوا إليه. فما كدت أفارقه حتى سمعت نعيه، فأسفت عليه كثيرا.
جارية عبد الله بن جعفر وأحد الفتيان
قال عبد الله بن جعفر: اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم، وكانت حاذقة مطبوعة، فهمت في حبها غاية الهيام. ففي ذات يوم قدمت إلي عجوز فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه، وأنه يجيء كل ليلة فيقف بالباب ليسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا. فعزمت على كشف الأمر، فلما كان الوقت المذكور نظرت فإذا به قد دنا مقبلا، فلبث محدقا بهما مصغيا إلى ما يقولان، فإذا بها تكلمه ويكلمها ويشكو كل إلى رفيقه ما يلاقي من ألم البعد. فلما أشرق الصباح دعوت بها فحضرت، فأخذتها بيدها وملت نحو الرجل فحركته فانتبه مذعورا، فقلت: لا بأس عليك ولا خوف، هي هبة مني إليك. فدهش الفتى ولم يجبني، فدنوت منه وقلت همسا في أذنه: قد أظفرك الله بما تريد، فقم وانصرف بها إلى منزلك. فلم يرد جوابا، فحركته فإذا هو ميت.
امرأة مات حبيبها
أحبت امرأة رجلا وكان متمنعا عنها زمانا فراسلته أن يتزوج بها ففعل، وكانت بينهما ألفة شديدة فمكثا على ذلك مدة فمرض فمات، فجعلت المرأة تتردد إلى قبره ولزمته يوما تبكي وتنشد:
كفى حزنا أني أموت بحسرة
وأغدو على قبر ومن فيه لا يدري
فيا نفس شقي جيب عمرك عنده
ولا تبخلي بالله يا نفس بالعمر
فما كان يأبى أن يجود بنفسه
لينقذني لو كنت صاحبة القبر
ثم زادت في النحيب وانكبت على القبر تبكي فإذا هي ميتة.
الشريف البياضي والجارية
عشق الشريف البياضي جارية لبنت فخر الملك فوجد بها وجدا عظيما، وزاد أمره حتى شاع بين الناس، ولم يزل حتى مرضت فمرض هو أيضا، فلما ماتت طاش عقله وذهب لبه فلحق بها وهو ينشد قائلا:
دع الوقوف على الأطلال والدمن
فليس ينفع مسكون بلا سكن
أما تراني لا أثني على طلل
بعد الفراق ولا آوي إلى وطن
وكيف يأنس قلبي بالديار وقد
أصاب فيها الردى من كان يؤنسني
إن الذي أذاقوني فراقهم
أفنيت بعدهم دمعي من الحزن
لله من لعبت أيدي المنون به
ضنا بما فيه أن يبقى على الزمن
جعلت روحي له من روحه عوضا
مقيمة معه في ذلك الكفن
فصار كالحي إذ روحي تحل به
وصرت كالميت إذ لا روح في بدني
وكيف تصحب روحي بعده جسدي
وكان إن غاب تأبى أن تصاحبني
عبيد النعالي وأحد العشاق
قال عبيد النعالي: انصرفت من جنازة من مسجد الرضا في وقت الهاجرة، فلما دخلت سكك البصرة اشتد علي الحر، فتوخيت سكة ظليلة واضطجعت على باب دار فسمعت ترنما يجذب الفؤاد، فطرقت الباب واستقيت ماء، فإذا فتى بديع الجمال نحيل من شدة السقام أدخلني إلى غرفة نظيفة له، فلما هدأ بالي وراقت أحوالي خرج الفتى ومعه وصيفة تحمل طستا وماء ومنديلا، فغسلت يدي وشربت وأخذت ردائي، وجلست فلبثت يسيرا وإذا بالفتى قد أقبل ضاحكا ليؤنسني والعبرة تنحدر من عينيه، ثم جيء بالطعام فأقبل يأكل كأنه نغص بما يأكله، وهو في ذلك يبسطني، فلما انقضى أكلنا أتتنا بشراب فشرب قدحا وشربت آخر، ثم زفر زفرة ظننت أن أعضاءه قد انقضت وقال لي: يا أخي، إن لي نديما فقم بنا إليه، فقمت وتقدمني ودخل مجلسا فإذا قبر عليه ثوب أخضر وفي البيت رمل مصبوب، فقعد على الرمل وطرح لي رداءه فقلت: والله لا قعدت إلا كما تقعد، وأقبل يردد العبرات ثم شرب كأسا وشربت وأنشأ يقول:
أطأ التراب وأنت رهن حفيرة
هالت يداي على صداك ترابها
إني لأعذر من مشى إن لم أطأ
بجفون عيني ما حييت جنابها
لو أن جمر جوانحي متلبس
بالنار أطفأ حرها وأذابها
ثم أكب على القبر مغشيا عليه، فجاءه غلام بماء فصبه على وجهه فأفاق، فشرب ثم أنشأ يقول:
اليوم آب لي السرور لأنني
أيقنت أني عاجلا بك لاحق
فغدا أقاسمك البلى ويسوقني
طوعا إليك من المنية سائق
ثم قال لي: قد وجب حقي عليك فاحضر غدا جنازتي، قلت: يطيل الله عمرك، قال: إني ميت لا محالة، فدعوت له بالبقاء، فقال: إن طاوعتني فأنت قائل:
جاور خليلك مسعدا في رمسه
كيما ينالك في البلى ما ناله
فانصرفت وقد طال ليلي ونفذ صبري، وغدوت إليه فإذا هو قد مات.
المرقش وأسماء
كان المرقش من حبه لأسماء يألف البراري ويلزم الخلاء، ففي ذات يوم مر به راع يرعى غنمه فرآه مطروحا على الأرض، فقال له: من أنت؟ قال له المرقش: أنا رجل من مراد، فراعي من أنت؟ فأعلمه باسم سيده فإذا هو زوج أسماء، فقال له: تكلم مولاتك؟ قال: لا، ولكن تأتيني جارية من عندها لأخذ اللبن، فنزع المرقش خاتمه وقال للراعي: ألقه في القدح فتصيب به خيرا، ففعل، فلما رأته أسماء دعت بالجارية وسألتها عن الخبر، فقالت: لا أعلم، فسألت زوجها عنه فأحضر الراعي فأعلمه الحقيقة، فأشفق عليه وركب وأركب زوجته فأدركوا عمرا على آخر رمق، فحملوه إليهم، فلم يلبث قليلا حتى مات، فوجدوا أمامه رقعة فيها:
سما نحوي خيال من سليمى
فأرقني وأصحابي هجود
حواليها مها بيض التراقي
وآرام وغزلان رقود
نواعم لا تعالج بؤس عيش
أوانس لا تروح ولا ترود
سكن ببلدة وسكنت أخرى
فقطعت المواثق والعهود
فما بالي رقيق القلب حبا
وما بالي أصاد ولا أصيد
أناس كلما أخلقت وصلا
عناني منهم وصل جديد
مسعدة بن وائلة ورملة بنت أثيلة
صادف مسعدة بن وائلة الصادمي فتاة حسناء قادمة لتملأ جرة من الماء، فقالت له: هل لك أن تكفيني كلفة التعب؟ قال: وما تطلبين؟ قالت: ملء هذه الجرة، وأعطته إياها، فلما ملأها وهمت أن تتناولها منه شمرت عن زندين كالبللور حسنا ونورا، ثم تناولت القربة فانكشف البرقع عن وجهها كأنما تعير الشمس منه ضياء، فوقع في قلبه حب مكين لها، فشكا إلى صديق له وسأله عن اسم الجارية، فقال: هي رملة بنت أثيلة، وأعلمه بمكانها، فكان يمضي في كل يوم فيقف حتى يراها فيشكو إليها ما عنده من الحب حتى داخلها من العشق ما داخله، فعلم أهلها بذلك فحجبوها عنه، فخرج حزينا خائفا، فرأى حمامات على أراكة ينحن، فهاجت بلابله وأنشد:
دعت فوق أغصان من الأيك موهنا
مطوقة ورقاء في إثر آلف
فهاجت مفاعيل الهوى إذ ترنمت
وشبت ضرام الشوق بين المعاطف
ثم أظلم الظلام فسمع قائلا يقول:
ولا شيء بعد اليوم إلا تعلة
من الطيف أو تلقى بها منزلا قفرا
فهاج قلقه وسار، فإذا براع يقول:
كفى بالليالي مخلقات لجدة
وبالموت قطاعا حبال القرائن
فلما سمع هذا البيت خر مغشيا عليه، فحملوه إلى بيته، فلما أفاق أنشد يقول:
يا راعي الضان قد ألقيت لي كمدا
يبقى ويقلقني يا راعي الضان
نعيت نفسي إلى روحي فكيف إذا
أبقى ونفسي في أثناء أكفاني
لو كنت تعلم ما أسررت في كبدي
بكيت مما تراه اليوم أبكاني
فلم يزل يردده حتى مات.
الفتى العاشق
قال عبد الملك بن محمد: خرجت من البصرة أريد الحج فإذا أنا بفتى نضو قد نهكه السقام يقف ناظرا في كل محل وهودج يمر من هناك، فعجبت منه ومن فعله، فقال:
أحجاج بيت الله في أي هودج
وفي أي خدر من خدوركم قلبي
أأبقى أسير الحب في دار غربة
وحاديكم يحدو بقلبي في الركب
فلم أزل أقف عليه حتى جاء إلى المنزل، فاستند إلى جدار ثم قال:
خل فيض الدمع ينهمل
بان من تهواه فارتحلوا
كل دمع صانه كلف
فهو يوم البين مبتذل
ثم تنفس الصعداء وشهق شهقة فحركته فإذا هو ميت.
الأعرابي ومحبوبته
قال ابن الزهري: خرجت في نشدان ضالة لي فآواني المبيت إلى خيمة أعرابي، فقلت: هل من قرى؟ فقال لي: انزل، فنزلت، فثنى لي وسادة وأقبل علي يحدثني ثم أتاني بقرى فأكلت، فبينا أنا بين النائم واليقظان إذا بفتاة قد أقبلت لم أر مثلها جمالا وحسنا، فجلست وجعلت تحدث الأعرابي ويحدثها إلى أن طلع الفجر ثم انصرفت، فقلت: والله لا أبرح موضعي هذا حتى أعرف خبر الجارية والأعرابي، فمضيت في طلب ضالتي يوما ثم أتيته عند الليل، فأتى بقرى، فبينا أنا بين النائم واليقظان وقد أبطأت الجارية عن وقتها قلق الأعرابي فكان يذهب ويجيء وهو يقول:
ما بال مية لا تأتي لعادتها
أعاجها طرب أم صدها شغل
لكن قلبي عنكم ليس يشغله
حتى الممات وما لي غيركم أمل
لو تعلمين الذي بي من فراقكم
لما اعتذرت ولا طابت لك العلل
نفسي فداؤك قد أحللت بي سقما
تكاد من حره الأعضاء تنفصل
لو أن عادية منه على جبل
لماد وانهد من أركانه الجبل
ثم أتاني ونبهني وقال لي: إن خلتي التي رأيت بالأمس قد أبطأت علي وبيني وبينها مسافة طويلة لا آمن عليها من سبع مفترس فابق هنا لأبحث عنها، ثم مضى فأبطأ قليلا، ثم جاء بها يحملها بين يديه وقد فتك بها أحد السباع فوضعها بين يدي، ثم أخذ السيف ومضى، فلم أشعر إلا وقد جاء بالأسد مقتولا، ثم أنشأ يقول:
ألا أيها الليث المضر بنفسه
ضللت لقد جرت يداك لك الشرا
أخلفتني فردا وحيدا مولها
وصيرت آفاق البلاد بها قبرا
أأصحب دهرا خانني بفراقها
معاذ إلهي أن أخون بها دهرا
ثم قال لي: هذه ابنة عمي كانت عزيزة علي فمنعني أبوها أن أتزوجها، فزوجها رجلا من أهل هذه البيوت، فخرجت من مالي كله ورضيت بالمقام هنا على ما ترى، فكانت إذا وجدت خلوة أو غفلة من زوجها أتتني فحدثتني وحدثتها كما رأيت من سلامة النية وطهارة الفؤاد، وقد آليت على نفسي ألا أعيش بعدها، فأسألك بالحرمة بيننا إذا أنا مت فالففني وإياها بهذا الثوب وادفنا في مكاننا هنا، واكتب على قبرنا هذا الشعر:
كنا على ظهرها والدهر في مهل
والعيش يجمعنا والدار والوطن
ففرق الدهر بالتصريف فرقتنا
فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن
ثم اتكأ على سيفه فخرج من ظهره فسقط ميتا، فلففتهما في الثوب وحفرت لهما فدفنتهما في قبر واحد وكتبت عليه كما أمرني.
عبد الله بن المعمر وعتبة وريا بنت الغطريف
قال عبد الله بن معمر: حججت سنة إلى بيت الله الحرام، فلما قضيت حجي عدت إلى زيارة قبر النبي، فبينما أنا ذات ليلة جالس في الروضة بين القبر والمنبر إذ سمعت أنينا رقيقا بصوت رخيم، فأنصت إليه وإذا هو يقول:
أشجاك نوح حمائم السدر
فأثار منك بلابل الصدر
أم ساء حالك ذكر غانية
أهدت إليك وساوس الفكر
يا ليلة طالت على دنف
يشكو الغرام وقلة الصبر
أسهرت من يصلى بحر جوى
متوقد كتوقد الجمر
فالبدر يشهد أنني كلف
صب بحب شبيهة البدر
ما كنت أحسب أنني كلف
حتى بليت وكنت لا أدري
ثم انقطع صوته ولم أدر من أين جاءني، فبقيت حائرا، وإذا به أعاد الأنين وأنشد يقول:
أشجاك من ريا خيال زائر
والليل مسود الذوائب عاكر
واعتاد مقلتك الهوى بسهاده
وأهاج مهجتك الخيال الزائر
ناديت ليلي والظلام كأنه
بحر تلاطم فيه موج زاخر
يا ليل طلت على محب ما له
إلا الصباح مساعد وموازر
فأجابني لا تشكون إطالتي
إن الهوى لهو الهوان الحاضر
فنهضت إليه عند ذلك أقصد جهة الصوت، فرأيته غلاما في غاية الجمال لم ينبت له عذار بعد، فقلت له: نعمت غلاما، فقال: ومن أنت؟ قلت: عبد الله بن معمر القسيس، قال: أفلك حاجة؟ قلت له: كنت جالسا في الروضة فما راعني هذه الليلة إلا صوتك، فبنفسي أفديك ما الذي تجده؟ قال: اجلس، فجلست، قال: أنا عتبة بن الحباب بن المنذر الأنصاري غدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيت راكعا وساجدا، ثم اعتزلت أتعبد وإذا بنسوة يتهادين كالأقمار وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت، فلم أسمع لها خبرا ولا وقفت لها على أثر، وها أنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان، وصرخ وانكب على الأرض مغشيا عليه، ثم أفاق كأنما صبغت ديباجة خديه وأنشأ يقول:
أراكم بقلبي من بلاد بعيدة
تراكم تروني بالقلوب على بعد
فؤادي وطرفي يأسفان عليكم
وعنكم روحي وذكركم عندي
ولست ألذ العيش حتى أراكم
ولو كنت في الفردوس أو جنة الخلد
فقلت له: يا عتبة، يا بن أخي تب إلى ربك واستغفر من ذنبك، فإن بين يديك هول الموقف، فقال: هيهات! ما أنا سال حتى يئوب القارظان، ولم أزل معه حتى طلع الفجر، فقلت له: قم بنا إلى المسجد، فقام فجلسنا فيه حتى صلينا وإذا بالنسوة قد أقبلن، وأما الجارية فليست فيهن، فقلن: ما ظنك بطالبة وصلك، قال: وما بالها؟ قلن : أخذها أبوها وارتحل إلى السماوة، فسألتهن عن اسم الجارية فقلن: ريا بنت الغطريف السليمي، فرفع رأسه وأنشد:
خليلي ريا قد أجد بكورها
وسارت إلى الأرض السماوة عيرها
خليلي إني قد غشيت من البكا
فهل عند غيري عبرة أستعيرها
فقلت له: يا عتبة، إني وردت بمال جزيل أريد به ستر أهل المروءة، لأبذلنه أمامك حتى تبلغ رضاك وفوق الرضا، فقم بنا إلى مجلس الأنصار، فقمنا حتى أشرفنا على ملئهم، فسلمت عليهم، فأحسنوا الرد، ثم قلت: أيها الملأ، ما تقولون في عتبة وأبيه؟ قالوا: من سادات العرب، قلت: اعلموا أنه رمي بداهية الهوى، فأريد منكم المساعدة إلى السماوة، فقالوا: سمعا وطاعة، فركبنا وركب القوم معنا حتى أشرفنا على مكان بني سليم، فعلم الغطريف بمكاننا فخرج مبادرا واستقبلنا وقال: حييتم يا كرام، فقلنا له: وأنت حييت، إنا لك أضياف، فقال: نزلتم بأكرم منزل رحب، فنزل ثم نادى: يا معشر العبيد انزلوا، فنزلت العبيد وفرشت الأنطاع والنمارق وذبحت النعم والغنم، فقلنا: نحن لا نذوق طعامك حتى تقضي لنا حاجتنا، قال: وما حاجتكم؟ قلنا: نخطب ابنتك الكريمة لعتبة بن الحباب بن المنذر العالي الفخر الطيب العنصر، فقال: يا إخواني، إن التي تخطبونها أمرها لنفسها وأنا أدخل وأخبرها، ثم نهض مغضبا ودخل إلى ريا، فقالت: يا أبت، ما لي أرى الغضب بائنا عليك، فقال: ورد علي قوم من الأنصار يخطبونك مني، فقالت: سادات كرام استغفر لهم النبي عليه السلام، فلمن الخطبة فيهم؟ فقال لها: لفتى يعرف بعتبة بن الحباب، قالت: سمعت عن عتبة هذا أنه يفي بما وعد ويدرك ما طلب، فقال: أقسمت لا أزوجك به أبدا، فقد نمى إلي بعض حديثك معه، قالت: ما كان ذلك، ولكن أقسمت أن الأنصار لا يردون مردا قبيحا فأحسن لهم الرد، قال: بأي شيء؟ قالت: أغلظ عليهم المهر فإنهم يرجعون، قال: ما أحسن ما قلت، ثم خرج مبادرا فقال: إن فتاة الحي قد أجابت ولكن تريد لها مهرا لائقا بها، فمن القائم به؟ فقلت: أنا، قال: أريد لها مهرا ألف أسوار من الذهب الأحمر وخمسة آلاف درهم من ضرب هجر ومائة ثوب من الأبراد وخمسة أكرسة من العنبر، فهل أجبت؟ فقلت: أجبت، وأنفذت نفرا من الأنصار إلى المدينة المنورة فأتوا بجميع ما ضمنه، وذبحت النعم والغنم واجتمع الناس لأكل الطعام، فأقمنا على هذه الحال أربعين يوما، ثم قال: خذوا فتاتكم فحملناها على هودج وجهزها بثلاثين راحلة من التحف، ثم ودعنا وانصرف، وسرنا حتى بقي بيننا وبين المدينة المنورة مرحلة ثم خرجت علينا خيل تريد الغارة فحمل عليها عتبة بن الحباب فقتل عدة رجال وانحرف وبه طعنة ثم سقط إلى الأرض، وأتتنا النصرة من سكان تلك الأرض فطردوا عنا الخيل وقد قضى عتبة نحبه، فقلنا: واعتباه، فسمعت الجارية ذلك فألقت نفسها على الناقة وانكبت عليه صائحة نائحة وأنشدت تقول هذه الأبيات:
تصبرت لا أني صبرت وإنما
أعلل نفسي أنها بك لاحقه
ولو أنصفت روحي لكانت إلى الردى
أمامك من دون البرية سابقه
فما أحد بعدي وبعدك منصف
خليلا ولا نفس لنفسي موافقه
ثم شهقت شهقة واحدة وأسلمت الروح، فحفرنا لهما قبرا واحدا وواريناهما التراب، ورجعت إلى ديار قومي وأقمت فيها سبع سنين، ثم عدت إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلت: لأعودن إلى قبر عتبة، فأتيت إليه فإذا عليه شجرة عالية عليها عصائب لطيفة الألوان، فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين، فأقمت عند القبر يوما وليلة وانصرفت.
مصرع ثلاثة عشاق في يوم واحد
كانت فتاة جميلة تهوى شابا لطيفا للغاية، وكان الشاب يهوى قينة بديعة الصوت فتانة الملامح لها معرفة بتلك الفتاة، فبينما كانت تلك القينة في مجلس مع الشاب أنشدت له هذين البيتين:
علامات ذل الهوى
على العاشقين البكا
ولا سيما عاشق
إذا لم يجد مشتكى
فقال لها الشاب: أحسنت يا سيدتي، أفتأذنين لي أن أموت؟ فقالت له القينة: نعم، إن كنت عاشقا فمت، فوضع الشاب رأسه على وسادة وأغمض عينيه، فحركوه فإذا به ميت، ولما سمعت الفتاة التي تهواه بخبر موت حبيبها توسدت على منواله فحركوها فإذا بها ميتة، فجهزوها مع الشاب وساروا في جنازتهما، فبينما هم في الطريق رأوا جنازة ثالثة فسألوا عنها فإذا هي جنازة القينة، فدفنوا الثلاثة في يوم واحد.
غسان بن جهضم وزوجته أم عقبة
كان غسان بن جهضم مفتونا بحب ابنة عمه أم عقبة، وكانت من أجمل النساء وأحسنهن وأفضلهن خصالا، فلما حضرته الوفاة جعل ينظر إليها ويبكي، ثم قال لها: إني منشدك أبياتا أسألك فيها عما تصنعين بعدي وأرجوك أن تصدقيني، فقالت: قل فوالله لا أكذبك أمرا، فأنشد:
أخبري بالذي تريدين بعدي
ما الذي تضمرين يا أم عقبه
تحفظيني من بعد موتي لما قد
كان مني من حسن خلق وصحبه
أم تريدين ذا جمال ومال
وأنا في التراب رهن سجن وغربه
فأجابته:
قد سمعنا الذي تقول وما قد
خفته يا خليل من أم عقبه
سوف أبكيك ما حييت شجوا
بمراث أقولها وبندبه
فقال:
أنا والله واثق بك لكن
ربما خفت منك غدر النساء
بعد موت الأزواج يا خير من عو
شر فارعي حقي بحسن وفاء
إنني قد رجوت أن تحفظي العهد
فكوني إذا مت عند رجائي
فلما مات توافد عليها الخطاب، فقالت:
سأحفظ غسانا على بعد داره
وأرعاه حتى نلتقي يوم نحشر
وإني لفي شغل عن الناس كلهم
فكفوا فما مثلي من الناس يغدر
سأبكي عليه ما حييت بعبرة
تسيل على الخدين مني فيكثر
فلما طالت الأيام وكثر إلحاح الناس أجابت الخاطب، فلما كانت الليلة التي زفت بها جاءها غسان في النوم فأنشد:
غدرت ولم ترعي لبعلك حرمة
ولم تعرفي حقا ولم تحفظي عهدا
ولم تصبري حولا حفاظا لصاحب
حلفت له يوما ولم تنجزي وعدا
غدرت به لما ثوي في ضريحه
كذلك ينسى كل من سكن اللحدا
فانتبهت مرعوبة كأنما كان معها، فقالت لها النساء: ما دهاك؟ قالت: ما ترك غسان لي في الحياة إربا ولا في السرور رغبة، أتاني في المنام فأنشدني هذه الأبيات، ثم جعلت ترددها وتبكي، فشاغلنها بالحديث، فلما غفلن عنها أخذت شفرة فذبحت نفسها ووفت لزوجها.
شهيدة الوفاء
اتهمت الحكومة امرأة بقتل زوجها لعدم معرفتها أين مقره فدفعت للتعذيب وكانت بريئة، فأذعنت إلى ذاك الحكم دون أن تبرئ نفسها لأنها قد سئمت حياتها بعده، فشنقوها، وبعد يومين عاد زوجها وطالب بحقوق امرأته فكذبوه، فبرهن على أنه زوجها، فلم ينظروا إلى كلامه، فسار هائما على وجهه يائسا من الحياة.
شهيدة الحب
منظومة بقلم جامع الكتاب
لله موقف غادة
عبثت بمهجتها الشجون
لعب الهوى بفؤادها
غصنا تتيه على الغصون
فتقصفت أوراقها
حتى علا منها الأنين
ما تلك أوراق جنتها
قط أيدي الغارسين
حتى تعود فتنجلي
للعين زهراء الجبين
تلك الجوارح إنما
رقت لتكسير الجفون
فجنى عليها الوجد ما
لم تجنه نبل العيون
من نظرة قد غادرت
في قلبها السهم المكين
سهم بدا عن قوس حا
جب أهيف يرمي الفتون
فغدت تقول بلوعة
أماه هلا تعلمين
قد جاءني وحي الخفا
أني سأقضي بعد حين
فحنت عليها أمها
تبكي بكاء الخائفين
بيد تضم فؤادها
كالطير ضمته الغصون
وغدت تقول بلهفة
لله ما هذي الظنون
ما أنت إلا وردة
حجبت فأنى تقطفين
تحيين ما بكت السحا
ئب أو جرت ماء العيون
فبكت بنيتها بدمع
هاجه الداء الدفين
وثنت غصين قوامها
تشكو ولكن لا معين
وتقول من وله إل
هي ارحم قلوب العاشقين
واغفر لهم زلاتهم
فلأنت خير الغافرين
حتى إذا بسم الصبا
ح وفتحت منه الجفون
نظرت فخالج طرفها
شبح رأته منذ حين
فدنت بجاذب شوقها
حتى إذا التقت العيون
ورأت حبيب فؤادها
يدنو وتحجبه الغصون
قالت وقد نشر الحيا
ء لواءه فوق الجبين
أهلا بمن ملك الفؤا
د هواه دون العالمين
فأجابها ذاك الفتى
فرحا بلقياها حزين ...
يا من حوت ورد الريا
ض بخدها الباهي المصون
من لي بأن يبني الهوى
منا على عهد متين
فتعاهدا حتى إذا
وافى حماها بعد حين
نظر الفتى في وجهها
دمعا فهاجته الشجون
وارتاب في حب الفتا
ة له وراعته الظنون
ورنا إليها قائلا
بالله ماذا تشتكين
قالت وقد بسط المما
ت جناحه فوق الجبين
أشكو شرابا صبه
الرحمن في كأس المنون
وأتت به الأقدار تس
عى نحو ذا القلب الحزين
فبكى الفتى جزعا وصا
ح بلهفة أنى يكون ...
أبيقظة يا أذن أم
في الحلم ما قد تسمعين
فأجابه من عالم النج
وى لسان العاشقين
هيهات قد حكم القضا
ء وذاك أقوى الحاكمين
بجنى غصين قد حلا
منه الجنى دون الغصون
فاصبر على بلواك إن
الله يجزي الصابرين
فجثا الفتى جزعا وصا
ح حبيبتي هل تسمعين
لا لا فذاك يروع قل
بك ذكره لو تعلمين
ما زلت في مهد الصبا
من روض حسنك ترتعين
فبكت حبيبته وقا
لت تلك يا قلبي ظنون
فادن حبيبي للوداع
قبيل أن يدنو المنون
ويروع قلبينا بنأي
لا لقاء له يكون
فبكى وقال حبيبتي
بالله ماذا تكتمين
وأراد تخفيف الجوى
منها وإبداء الحنين
وإذا بها سقطت تجل
لل ورد خديها الغصون
فدنا ينازعها الفنا
ندما ولكن لات حين ...
ويقول يا عذراء رف
قا بي وبالقلب الحزين
حتى إذا هدأ الظلا
م وعم في الأرض السكون
سمع الفتى من نحوها
صوتا يخامره الأنين
وهتاف وحي قائل
وا رحمتا للعاشقين
Page inconnue