بيوت مهدمة وأخرى محروقة، ركام هنا، وأوساخ هناك، أصوات الحرب تقطع الأجواء، رائحة احتراق ممزوجة بروائح الطبخ الحلبي الخارجة من البيوت، شمس حارقة، وقرب الشجرة وقف اثنان متعانقين.
10
كانت شديدة الارتفاع، إنها «كوكبان» يخيل إليك وأنت تسير في شوارعها أنك عدت إلى ما قبل الحضارة والمدنية؛ فشوارعها ترابية، وكل أبنيتها من الحجارة والطين، لا لون هنا سوى لون التراب، ولن تلحظ أي اختلاف أو تباين بين الشوارع والأبنية، حتى الناس ملامح وجوههم كلها متشابهة، هل يعيش الناس هنا حقا؟ ووسط هذا التشابه والتماهي اللوني، كان وحده بريق الجواهر يلتمع في عيني ويجذب اهتمامي، قلادات قديمة، وأساور فضية، ومصابيح مذهبة، ومسابح فضية مزينة بالأحجار الكريمة من مختلف الألوان، وبالطبع فإن العقيق له النصيب الأكبر من هذه الأحجار.
تجمع أصحاب العربات حولنا؛ فقد لاحظوا بالتأكيد أننا غرباء ما يعني أن جيوبنا مليئة وأننا نرغب حقا في الشراء، وهذا ما جعل الباعة يطلبون أضعاف السعر الحقيقي، لكن من يعرف السعر الحقيقي لأي شيء هنا؟ حمدا لله؛ فقد كانت معي سيدة عاشت هنا لفترة طويلة فماطلت معه بالأسعار حتى نزلت إلى النصف أو أقل، فابتعت عقدا من حجر الجزع، كان لونه أسود بخطوط بيضاء وفضية ويشبه شكل العين.
وهناك على ارتفاع آلاف الأمتار صليت الظهر والعصر، عجبا! هل كنت أتخيل ولو للحظة واحدة في حياتي أنني هنا في أقصى الجنوب وعلى ارتفاع 2800 متر، وعلى هذه البقعة الصغيرة من الأرض بالتحديد سأصلي واضعة جبهتي على الأرض؟ من يدري فيما بعد أين ستكون صلاتي؟
السيدة سمر من دمشق العريقة، احتضنتني هي وعائلتها الجميلة، كانت كريمة معي إلى أبعد درجة، خصصت لي غرفة عندها لأقيم ريثما أتدبر أموري. في بيتها لم أشعر إلا وأني في سورية مع أهلي وبيتي وحارتي، معاملتها الراقية معي، نظرتها الجميلة للحياة، محاولتها الدائمة لرؤية الجانب المشرق حتى في أعقد الأمور وأكثرها سوءا؛ كلها أمور ميزتها عن غيرها. بيتها يتحدث عن رقيها وذوقها الدمشقي الأصيل، وكأنه جوهرة منتزعة من قلب دمشق ومزروعة هنا وسط صنعاء اليمن. أوصتها بي السيدة رندة فهما صديقتان قديمتان جمعتهما الدراسة في برلين وفرقتهما دروب الحياة. وضعتني السيدة سمر في عينيها كما يقولون، وعرفتني على البلد والناس الطيبين هنا، مع عاداتهم وأكلاتهم الشعبية ومطاعمهم البسيطة منها والفاخرة. أخذتني إلى الآثار القديمة للمكان، إلى الأسواق التقليدية المرصوفة بالحجر، والمسقوفة بالأقواس، والمحلات التي تفوح منها روائح الهال والحناء والتوابل الأخرى. كم تذكرني هذه المحال الصغيرة المتقاربة بأسواق حلب القديمة في «المدينة وسوق العتمة والسويقة».
1
غدا هو يوم الجمعة، وعلى الرغم من إصرار السيدة سمر علي بالبقاء عندها فترة أطول، فإن علي أن أغادر؛ فأسبوع واحد من استضافتها السخية لي يكفي، كما أن هناك عملا مهما علي أن أنجزه.
الفصل الثامن
1
Page inconnue