ركب سيارته وانطلق مسرعا، تجاوز بضعة حواجز، ثم أكمل متوغلا أكثر باتجاه حي بستان القصر، وشيئا فشيئا بدأ المشهد يتغير، عمارات بأكملها مهدمة، وأخرى مسودة من آثار الاحتراق، ركام يملأ الشوارع وكأنك عبرت حافة الموت إلى الجحيم. ركن سيارته بعيدا وأكمل رحلته سيرا على الأقدام متناسيا حاجة جسده للماء فقد كان صائما وكذلك الجميع. بدأت الطرقات تزدحم بالمارة، أناس قادمون، وآخرون مثله ذاهبون. كان يتفحص الوجوه بحثا عن أجوبة لتساؤلات كثيرة، لكنه ما كان يلتقط شيئا؛ فجميع المارة القادمون منهم والذاهبون لهم الملامح الجامدة نفسها؛ لا غضب، ولا خوف، ولا حزن، ولا فرح. وجوه مطرقة متأملة، ونظرات عابثة، وخطوات مسرعة. حاول إيقاف أحدهم، شيخ يحمل عدة أكياس ثقيلة يمشي ببطء شديد، سأله: كيف الوضع؟ أجابه: «منيح منيح.» وتركه مسرعا. لم يعد يريد أن يسأل أحدا، فليعبر وليكن ما يكون.
أمتار قليلة تفصله عن «معبر كراج الحجز»، وقد ازداد الازدحام، وأخذ يسمع من بعيد أصوات إطلاق رصاص، أكمل سيره وانحشر بين الجموع. لاحت له الحافلتان الصفراء والحمراء المتوضعتان فوق بعضهما بطريقة لطالما أعجزته عن معرفة كيفية حدوثها، كان يرى هذا المشهد في الصور، والآن هو يعاينه وجها لوجه. ركام كثير، وسواتر رملية متراكمة، سيارات الأجرة الصفراء أيضا هنا في صف طويل في انتظار دورها للدخول من أجل تعبئة الوقود، وكذلك الحافلات الصغيرة البيضاء. الجو حار مع شمس تتجه غربا فتفقأ أشعتها العيون. الناس هنا متجمعون على اختلافهم؛ رجال ونساء وأطفال ، رأى طفلا يجر شيخا مقطوع الرجل على عربة نقل حديدية، وامرأة تحمل رضيعا وتجر اثنين بيدها، رأى الكثير والكثير، وكلهم يتدثرون بالصمت ويحترفون الانتظار.
اقترب أكثر فمد عنقه متطاولا ليرى، لكن الزحام حجب عنه الرؤية، لاذ بالصبر حتى اقترب من المكان الضيق الذي من خلاله يعبر الناس، خمسة أو ستة أشخاص يحملون البنادق على ظهورهم، والمسدسات على خواصرهم يتحكمون وحدهم في مصائر هؤلاء البشر! أي ظلم؟ ولماذا؟ لا يوجد أي سبب، أي ذريعة يمكن أن تقبل ليمنع ثلة من المجرمين الغذاء عنا، واللبن عن الصغيرة فاطمة، تذكرها فاختنقت العبرة في حلقه، قاومها وأكمل سيره. وصل أمامهم مباشرة، سأله أحدهم: «إلى أين؟ ماذا لديك؟» ارتبك لحظة فلم يكن جاهزا لهذا السؤال، وانعدمت لديه القدرة على اختلاق جواب، أيكون السعي لشراء الخضار واللبن جريمة يجهد المرء في إخفائها، ويسقط في رهبة الخوف لأنه ما من سبب آخر أخرجه غيرها؟ ربما ضاق ذاك المسلح من سكوته الطويل، فأومأ له برأسه فدخل.
مشى مع الناس أمتارا ثم لاحت له من بعيد لوحة كتب عليها بخط اليد: انتبه قناص! كان قد سمع كثيرا عن القنص الذي يحدث في هذه المنطقة، لكن هل يعقل أن أموت هنا؟ ارتعد وابتسم سخرية في اللحظة نفسها وأكمل سيره. بدأ الناس حوله يسرعون خطاهم، وأخذ آخرون يركضون، هكذا يتحايلون على الموت، ويقللون الفرصة على القناصين في إصابتهم. راح أبو سعيد يفعل كما يفعلون: رجل قارب الستين من عمره يركض متوغلا في المجهول. كان يلهث بشكل متصل فهو لم يعتد على السير مسرعا فكيف بالركض؟ سبقه كثيرون، وسبق كثيرا ممن آثر المشي متجاهلا كل التحذيرات والمخاوف، مراهنا بحياته اليقينية في سبيل حياة محتملة. تناهى له صوت صبية يبكون، وامرأة تطمئنهم: «لا تخف حبيبي الآن نصل، الآن نصل.» وهي تجرهم جرا، تساءل أبو سعيد في نفسه: أيهم أشد خوفا هم أم هي؟ أم تراه هو؟
تجاوز طريق الخطر أخيرا وقد مالت الشمس أكثر نحو المغيب، هاتفه يرن في جيبه، لقد بدأت حملة التفقد! لم يعبأ به فالوقت لم يكن لصالحه. انفتح الحي أمامه على الباعة من مختلف البضائع، تجمعت الغصص في حلقه وهو يرى كل شيء هنا بعد أن فقدوا كل شيء أكثر من شهر هناك، احتار من أين يبدأ، ثم عرف على الفور، فاتجه إلى بائع اللبن فابتاع سطلا كبيرا ناسيا أن عليه أن يخفف حمله ما أمكن لأنه سيحمل غيره الكثير، ثم أخذ ما قدر على حمله من الخضار والفاكهة واللحم؛ فكل شيء متوفر هنا وبأسعار جيدة جدا.
أجاب على هاتفه، وطمأن أسرته على قرب عودته من غير أن يخبرهم عن مكانه، واتجه مسرعا صوب المعبر. طريق العودة كان كطريق الذهاب، لكن مع كثير من التعب المتراكم بفعل الصيام واشتداد العطش والحمل الثقيل. العرق يبلل ياقة قميصه، واليدان تقبضان بقوة على أمل محشور في أكياس. كلما خارت قواه تذكر وجه الصغيرة حين سيتهلل ويشرق لدى رؤيتها اللبن فيسرع مجددا.
قبيل الحاجز سأله شاب بجواره: ماذا تحمل يا عمي؟ - أشياء للبيت. - أعرف، أقصد ما هي بالتحديد؟ - خضار ولبن وكيلو لحمة. - اللحم ممنوع، ألا تعرف؟ وكذلك السجائر وحليب الأطفال. - نعم؟ ولماذا إن شاء الله؟ - لا أعرف، لكنه ممنوع، سيأخذونه إن رأوه، صدقني. - وما الحل إذن؟ - خبئه يا عمي. دعني أساعدك ...
ركن أبو سعيد الأكياس أرضا، والتقط كيس اللحم، فقام الشاب بطريقة، يبدو أنه استعملها كثيرا، بشق أحد الأكياس طوليا، ثم قام بالضغط على كيس اللحم ليبدو مبسطا أكثر ما يمكن، وطلب من أبي سعيد أن يفكك أزرار قميصه، فاستجاب الأخير له، وقام الشاب بمهارة كبيرة بلف كيس اللحم حول جسد أبي سعيد، ثم أعاد تزرير قميصه. نظر إليه الشاب مبتسما وقال: «اللحم بأمان الآن بإذن الله.»
شكره أبو سعيد وقفل عائدا إلى بيته.
9
Page inconnue