مرة سألت جدو نور عن الموضوع قال: أخبريني برأيك أنت يا سماء؟ - لو لم أكن واقعة في حيرة شديدة لما أتيت إليك لأسألك عن رأيك. - طيب، ما شعورك تجاه ما تسمعين؟ - أشعر بخوف وحرقة في قلبي لكنني لا أصدق. - لا تصدقين؟ أم أنك لا تريدين أن تصدقي؟ - ماذا تقصد؟ - أحيانا يقف الخوف حاجزا بيننا وبين الحقيقة. - هل تعني أن ما يقال صحيح وواقع؟ - لم أقل هذا. - إذن كذب وافتراء؟ - لم أقل هذا أيضا. - طيب أخبرني! - إياك أن تصدقي يوما أي شيء تسمعينه أو ترينه ما لم تتثبتي به بنفسك؛ فليس كل ما يعرض هو الحقيقة، وما قنوات التلفزة إلا أدوات موجهة بسياسات مالكيها. - ألا وجود للحقيقة إذن؟ - بلى، هناك حقيقة ثابتة وراسخة فيما يتعلق بما يجري اليوم، ويمكنك أن تثقي بها، وهي أن الشر الذي يكمن في النفس الإنسانية لا حدود له.
أخذت أفكر في كلماته مليا، وانتابني الخوف مجددا، ثم قلت: وكذلك الخير، ألا يمكننا أن نثق به؟ - بلى بالتأكيد، لكن الفوضى هي ما تخيفني؛ لأنها ملعب خصب للشر، ومتى ما حدث ذلك انتفت كل معالم الإنسانية من البشر، وتحول الناس إلى كائنات أسوأ من الوحوش والسباع يأكل بعضهم بعضا، والله يستر مما سيحدث مستقبلا. - أنت تخيفني جدو! ماذا علي أن أفعل؟ - أمران اثنان؛ الحذر والمراقبة، ولنر ما ستئول إليه الأمور.
لكن ممن علي أن أحذر؟ ومن أي شيء؟ لم أشأ أن أسأله فقد أصابني الحديث بغم في قلبي. صمتنا قليلا ثم تذكرت رندة فقلت وأنا أبتسم: «حدثني عن رندة.» نظر إلي متفاجئا واكتفى بالابتسام، ثم قلت: «صحيح جدو لم لم تبحث عنها على الإنترنت؟» أجاب: «هذه أمور لا أفقه فيها مطلقا، ثم إنني أحب أن تعود هي طواعية من تلقاء نفسها، لا أن ...» وهنا رن هاتف جدو فأجاب وتحدث مع صديق له يدعى سليمان، وختم المحادثة بقوله: «نعم في البيت، أهلا وسهلا، بانتظارك.» قلت: «جدو، أتسمح لي بالبحث عنها؟» ابتسم وقال: «وهل يمكن ذلك؟» ضربت على صدري بيدي وأجبت بحماس: «اترك هذا علي.»
بعد دقائق دق الباب، فذهب جدو ليفتح وسمعته يسلم على صديق له بحرارة وحفاوة كبيرتين، لا بد أنه صديق عزيز جدا، بعد لحظات السلام دخل جدو مع صديقه إلى المكتبة. كان أطول من جدو بشبر على الأقل، بشعر رمادي كثيف، وعينين رماديتين أيضا، وبشرة أقرب إلى السمرة منها إلى البياض، «دري اللون» كما يقول أهل حلب. كانت عظام وجنتيه الواضحة تضفي على ملامحه نكهة رجولية طاغية، مع غمازتين غائرتين، وذقن مربعة تغطيها لحية خفيفة. كان يرتدي بزة رسمية سوداء مع قميص من الساتان الأبيض، وحذاء أسود لامعا، وكان يحمل حقيبة سوداء جلدية.
ابتسم وسلم علي حين رآنا، قال جدو: «هذه سماء جارتنا في الحي، وهي قارئة ممتازة، وتلك هي أختها فاطمة.» ابتسمت وقد شعرت بحرارة في وجنتي، ثم قال مشيرا إلى صديقه: «وهذا سليمان، جاري أيضا لكن في حارتنا القديمة في «الجبيلة»، وصديقي الذي استعدته مؤخرا، وشاعر سورية العظيم.» ضحكا معا وشعرت أنه يجب علي الرحيل، فاستأذنت ولم يستبقني جدو فرحلنا. رحت أمشي إلى البيت وصورة سليمان بغمازتيه الغائرتين وقامته المنتصبة ظلت ترافقني، إنه ملك! مثل الملك سليمان.
بعد يومين ذهبت مع أمي إلى الدرس الديني الذي كان قد توقف عدة أسابيع لأسباب نجهلها. كنت متحمسة له فقد افتقدته كل تلك المدة، كان كل شيء كعادته، الآنسة التي تعرف كل شيء بإشاربها الأبيض المطرز، والنسوة الباكيات، والسجادة المزركشة الجميلة، لكن ثمة شيء ناقص، شيء ما سبب لي غيابه غصة واختناقا غريبا، ولولا إثارة الأقاويل لاستأذنت خارجة، لكن بكثير من الجهد ألصقت نفسي بجانب أمي. كانت الآنسة تتحدث عن موضوع الزهد في الدنيا، وتروي القصص عن صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كانت بيوتهم تخلو من متع الدنيا وزينتها، وكيف كانت بيوت النبي ليس فيها إلا ما يسد الحاجة، وكانت الآنسة تتحدث بأسلوب يفطر القلوب، وتلون صوتها ببراعة تذرف لها العيون وتأخذ بالألباب. نظرت حولي فوجدت أننا نجلس على طقم من الأرائك من أفخم أنواع الخشب المحفور يدويا، وكذلك الستائر وطاولات المرمر، والمزهريات الكريستال، والثريات المذهبة، والسجاد وفناجين القهوة والصواني كلها من أرقى وأجمل ما يمكن أن تقع عليه العين، فضلا عن أن البيت نفسه في حي تجميل الفرقان وهو أحد أغلى الأحياء في حلب. هممت أن أقول لها: وماذا عن زهدك أنت؟ لكنني آثرت الصمت.
وبعد انقضاء بعض الوقت أقبلت إحدى السيدات متأخرة، وفور وقوع نظري عليها وعيت تماما ما كان ناقصا، إنها ابنتها الفتاة العشرينية النحيلة ، لم تأت معها اليوم. وفور انتهاء الدرس انتهزت الفرصة لأقترب من السيدة وأسألها عن ابنتها، وكأنما استفزها سؤالي أو أحرجها أو أرعبها، لكنها بالتأكيد لم تكن مسرورة برؤيتي ولا بسؤالي فتجاهلتني تماما وكأنني ذبابة طنت بقرب وجهها، فأزاحتني بظاهر يدها وأكملت حديثها. عدت لأمي وسألتها عنها، فرفعت حاجبيها وكتفيها وقالت: «ماذا تريدين منها؟ إنها لم تعد تحضر من زمان، تعرفين، صار وجودها محرجا لأمها التي هي النائبة المنتظرة لاستلام الدرس بعد انتقال الآنسة؛ فهي تحفظ القرآن كاملا، وتتابع دروس الشيخ عبد الحي.» شعرت بغضب شديد، طبعا فالفتاة المغضوب عليها صارت عارا على مركز أمها الديني. كتمت غيظي وسألت أمي عن مكان سكنها، وعرفت أنها لا تبعد كثيرا عن بيت الآنسة.
لم أنتظر كثيرا؛ فقد ذهبت وحدي في اليوم التالي ظهرا إلى بيت السيدة والدة الفتاة النحيلة. طرقت الباب وانتظرت، «مين؟» سمعت صوتا أنثويا من خلف الباب، قلت: «أنا سما بنت أم سعيد.» فتح الباب وأطل وجهها، إنها هي بالتأكيد وبالكاد تمكنت من تمييزها. قلت: «أنا سما، كيف حالك؟ افتقدناك في الدرس يوم أمس.» فابتسمت بفرح وفتحت الباب على مصراعيه، وضحكت بفرح طفولي وهي تلفظ اسمي وتجرني إلى الداخل، وأخذتني في حضنها، وكأنها كادت تبكي لكنها تمالكت نفسها حين سمعنا صوتا من بعيد ينادي: «من يا بنت؟» وسرعان ما أقبلت والدتها ترتدي ثياب الصلاة. خطوت إليها مادة يدي وقلت: «تقبل الله يا خالة، أنا سما، البارحة كنا معا.» وبوجه أشبه بحساء محترق قالت لي: «أهلا أهلا، أمك ليست معك؟» قلت: «كلا يا خالة، إنها في البيت، وتسلم عليك، وتسألك أن تشرفينا بزيارتكم يوما ما.» أخذت تتفحصني وتتفرس في وجهي الذي رسمت عليه ابتسامة مصطنعة، وقفنا صامتات هكذا ثواني. شعرت بحرج كبير، ثم أمسكت الفتاة بيدي قائلة: «تفضلي سما لا يمكنك الرحيل هكذا بلا قهوة.» ولم أنتظر، بل تبعت الفتاة إلى الداخل وجلسنا في الصالة. تبعتنا الأم وقالت لنا: «أكمل صلاتي وأعود.» وحدجتني بطرف عينها وذهبت، وفور اختفائها أمسكت الفتاة بيدي وقالت : لا تعرفين كم أنا سعيدة برؤيتك، كيف عرفت أين أسكن؟ - لا يهم، المهم أنت، لقد أقلقني اختفاؤك. - آه لو تعرفين! - ماذا؟
التفتت واقتربت مني وقالت همسا: أهلي منعوني من الخروج من البيت، حتى إلى المعهد والدرس والسوق إلا برفقة أمي أو أخي. - ولكن لماذا؟ - تعرفين، القصة نفسها، يوم فضحتني الآنسة، وا... وأمور أخرى ما أحب الحديث عنها، تعالي عندي كل يوم. - ليتني أستطيع لكن لا أظن أن والدتك أحبتني.
علت موجة من الحزن على وجهها، وصارت أكثر شحوبا ثم قالت: اتصلي بي، لا، أنا سأتصل بك، حين أجد الوقت مناسبا.
Page inconnue