بعد دقائق سمعنا ضربا عنيفا على الباب، وحين فتح الباب ارتطم بالحائط محدثا صوتا عاليا. دخلت سيدة كبيرة ممتلئة وخلفها سيدتان وأخذت تلطم وتصرخ وتبكي، واتجهت فورا إلى ابنة خالي وأخذت تسبها وتدفعها وتدعو عليها، وارتفعت الأصوات، وتجمهرت النسوة ولم أكن أدري حقا ماذا يحدث. اتجهت إلى أمي أستفسر عن هذه السيدة، فأخبرتني أنها أخت المتوفاة وأنها غاضبة لأنها أرادت أن تغسل أختها ويقام العزاء في بيت العائلة، ولما لم يحدث ذلك غضبت. كما أنها تتهم ابنة خالي بأنها سرقت أموالها وألبت أمها المتوفاة عليها فقاطعتها. كانت تحدثني أمي وبالكاد أسمع صوتها من كثرة الضجيج الذي حدث؛ فقد ارتفعت أصوات النساء وتدخل الجميع لحل النزاع الذي بدأ بالكلام وتطور إلى الصفع واللكم، ولم ينته الموقف حتى سمعنا صوت تحطم زجاج إحدى النوافذ على إثر رمي مزهرية زجاجية عليه، هنا صمت الجميع فجأة لثوان ثم صرخت السيدة الممتلئة وهي ترفع سبابتها «يا ويلكم من الله.» وغادرت أخيرا.
جذبتني أمي من يدي ووبختني لمراقبتي لكل ما يحدث، وطلبت مني أن أعود بفاطمة إلى البيت فهي لم تتوقف عن البكاء.
خرجت ممسكة بيدها نحث الخطى نحو البيت، كنت أشعر بضيق شديد وكانت فاطمة لا تتوقف عن طرح الأسئلة، فنهرتها فعادت إلى البكاء فما كان مني إلا أن حملتها وعدت بها إلى البيت فسرعان ما نامت، وكان الوقت متأخرا فعلا، وضعتها في سريرها واستلقيت في سريري مجهدة متعبة، لكنني لم أحظ بالنوم، كنت في حالة من الذهول، كيف رحلت زوجة خالي في غفلة عن الجميع؟ كل من حولها كان يجهل تماما ما سيحدث، لكنها وحدها من كانت تعلم، أتراها علمت يقينا أم حدسا؟ لم لم تخبر عائلتها بذلك صراحة؟ لا، إنها فعلت ذلك، لكن الناس دائما يميلون إلى عدم التصديق، وكأن الموت لا يمكن أن يزورهم؛ فنحن نبكي على أموات غيرنا، ونزور قبورهم، ونعزي ذويهم، لكننا دائما ما نستبعد فكرة أن يحدث ذلك معنا أو مع شخص مقرب جدا منا، ثم تذكرت حادثة السيدة الممتلئة، عجبت لها ولما فعلته اليوم، ألم تشعر أن روح أختها لا تزال تحوم حولنا؟ لم لا تؤجل ذلك لوقت لاحق حتى تنعم المتوفاة بالسلام؟ كيف يقودها الحقد لتحرم روح أختها منه؟ ثم عادت إلي صورة الميتة بجسدها البارد المغطى بالبياض، لم اللون الأبيض؟ أهي إشارة إلى رغبة الإنسان إلى أن يعود إلى خالقه صافيا خالصا من كل شائبة؟ أم هو رمز للسلام الذي تحظى به الروح بعد مغادرة البدن؟ وما هذه المفارقة العجيبة؟ الأبيض للميت والأسود لذويه الأحياء، وكأن الميت عاد إلى النور والسلام، والأحياء لا يزالون في سواد الدنيا وتعكيرها ودنسها.
كنت منفعلة جدا، ففتحت الفيسبوك وكتبت:
مهما بلغ الإنسان في قوته فإنه يهرب دائما من فكرة الموت لأنه يخافه.
حين يمتلئ القلب بالحقد فإنه يفقد أبسط ملامح إنسانيته، الاحترام.
جسد الإنسان لا يشكل سوى القشرة الخارجية لماهيته الحقيقية، وبالموت يسقط كل شيء.
أصبحت في اليوم التالي مريضة، كان جسدي يرتعش بشدة، والعرق البارد يتصبب مني على الرغم من حرارتي المرتفعة، مما اضطر والدتي للبقاء بجانبي وترك واجب العزاء. لا أذكر الكثير في تلك الساعات التي قضيتها وأنا تحت وطأة الحمى سوى بعض الومضات التي اختلطت فيها الحقيقة بالأحلام أو بالكوابيس، تارة كنت أشاهد أمي وهي تلطم، وأرى نفسي أحوم حول الغرفة ثم أحلق إلى البعيد، وتارة كنت أرى نفسي أبكي على قبر ما، ومرة كنت أسمع صياح أبي وإخوتي، لم أعد أذكر أني وعيت إلا على المخدة وقد بللها العرق، كان الظلام يسود الغرفة، نظرت حولي فوجدت أمي نائمة على سرير أختي بجواري. تحسست الطاولة أبحث عن هاتفي لأعرف الوقت لكني لم أجده، حينها جفلت أمي مستيقظة على صوت قدح الماء الذي أسقطته لتوي، هرعت إلي تتلمس حرارتي، وسألتني عن حالي. كنت أشعر بتحسن، وقد بدأت أستعيد قوتي ووعيي لما جرى معي اليوم الماضي، كنت شاردة الذهن، فقلت على نحو مباغت: «أمي، إن كان الموت محتما علينا فما جدوى هذه الحياة؟ هل نعيش لنموت؟ لماذا نعيش إذن؟ لم خلقنا في الأصل؟» وبقيت أنتظر الجواب أحدق في وجه أمي التي أخذت بدورها تحملق في واقتربت مني ووضعت يدها مجددا على جبيني وقالت: «نامي يا عزيزتي، ستتعافين حين تستيقظين، أعدك بذلك.» قلت وقد استفزني كلامها: «لا أمي، أنا لا أهذي، أريد حقا أن أعرف، هل تعرفين؟ أرجوك.» جلست بجانبي وقالت: «لو افترضنا أن الموت نهاية كل شيء، ألا تشعرين بالامتنان أنك وهبت الفرصة للتمتع بالحياة؟ لو سألتني عن رأيي فأنا لا أمانع مطلقا أن تنتهي حياتي إلى الأبد، فقد عشت تجارب جميلة وجربت مشاعر عديدة. هذا إذا افترضنا أن الموت النهاية الأبدية للإنسان، وأنت تعلمين جيدا أن الموت ما هو إلا بداية لحياة جديدة لا نهاية لها في الجنة. الموت ليس سيئا بالنسبة إلى الميت، لكنه كذلك لذويه ولأهله ولكل من أحبه.» كان جوابها مقنعا ومريحا في الوقت ذاته. أسندت رأسي إلى الوسادة مجددا، وعدت إلى النوم.
بقيت يومين أو ثلاثة ملازمة البيت بطلب من أمي لأتحسن تماما، حتى إنني لم أذهب إلى ثالث أيام العزاء الذي هو أهمها. أخذت أبكي أسبوعا كاملا كل ليلة، لكنني لاحظت أنني كل ليلة صرت أبكي أقل وأنام أسرع من الليلة التي سبقتها، حتى إنني في نهاية الأمر لم أعد أبكي؛ الأمر الذي أثار دهشتي، عندها أيقنت أن الألم مهما كبر فإنه سيصغر ويتحول إلى ذكرى.
ابتسمت وكتبت في الفيسبوك:
Page inconnue