تصدير وإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
خاتمة
تصدير وإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
خاتمة
نسيج
نسيج
تأليف
مزنة رياض كمال
أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: القدر. قال: فكتب ما يكون، وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
حديث شريف
تصدير وإهداء
الكتابة ورطة! هكذا شعرت بعد ولوجي هذا العالم، وخاصة العالم الروائي، تتورط بالأحداث وبالشخصيات والزمان والمكان، فتفرض نفسها عليك، وتسوقك من حيث لا تدري، تتورط بها لحد الهوس، فتنام وتصحو عليها، تختلط الأعوام والأحداث والشخوص في رأسك فتتورط أكثر وليس لك من مخرج سوى الوصول إلى النهاية. الكاتب حلال عقد، والخيوط المتشابكة المعقدة إذا لم تحلها، بقيت الشخصيات عالقة تنظر إليك باستعطاف أو بلؤم، ولن يهنأ لك بال حتى تعيد كل الخيوط إلى مسارها، فيكتمل النسيج.
أذكر جيدا ورطتي الأولى بالكتابة، فراق لي أن أورط بها غيري، فما وجدت أفضل من صديقي وزوجي صبحي، فحكيت له الحكاية الأولى، وبعد ثلاثة أعوام أو يزيد كان هو قارئي الأول، فألهمني وساعدني كثيرا، وحل لي بعض العقد!
المتورطة الثانية هي أختي سدرة، والثالثة صديقتي ضياء، أوجه لهما كل المودة والاحترام لقراءتهما المحفزة، وآرائهما القيمة، وإضافاتهما الجميلة في روايتي هذه.
ولهم أهدي هذا العمل:
محمد صبحي شرف
سدرة كمال
ضياء حمزة
الفصل الأول
1
2010م
أكان يتوجب عليك أن تكون بهذا القدر من الوسامة؟ ومن السحر الغامض؟ بشعر داكن، وجبهة عريضة، وشفتين رقيقتين، وندبة واضحة في راحة يدك اليمنى، أراها بوضوح وأنا أسلمك كتابا أو مالا؟ أكان يجب أن تكون بهذا الكمال؟ وعبارة يتيمة تظل ترددها أمامي كلما حاولت أن أعبث بغرورك لأسمع منك المزيد، لكن لا تقول سواها: «كل قارئ له عشقه الخاص!» تلقيها أمامي بسخرية المنتصر، وعبث الشامت، وكأنك تقول: «كلا، لم تنفع محاولتك أيضا هذه المرة!» لكن أنى لي بغيرها ، وأنا بعد في السابعة عشرة من عمري؟
كانت مكتبتك التي تعمل فيها ذلك الوقت هي نافذتي الوحيدة إليك وإلى عالمك الساحر، لا أذكر مرة أن التقت أعيننا، لكم تمنيت أن يحدث ذلك ولو لمرة واحدة؛ فنظرة واحدة فقط كانت ستعلمك كم في القلب من معان! وفي كل زيارة كنت أطرح عليك السؤال ذاته: «بم تنصحني هذه المرة؟» وكنت تجيبني الإجابة ذاتها: «كل قارئ له عشقه الخاص.» كم كنت صغيرة وساذجة! لم أتعلم بعد حيل النساء وأساليبهن. ومر العام سريعا، كنت فيه جاري ومؤنسي وأملي وبابي إلى سعادة مسروقة أتنسمها بداية كل شهر، وانتهى العام في لحظة واحدة، شهق بعدها الزمن ليتركني في هوة كبيرة من الفراغ والوحشة. هكذا رحلت بكل البساطة والبرود الممكنين، ولم لا؟ أكنت أعني لك شيئا؟ وما الغريب في القصة؟ افتتحت مكتبة، وأغلقت بعد عامين، فلم يكن مشروعا رابحا على أية حال. وهكذا انتهت قصتك الوسيمة وملامحك السعيدة التي لا أعرف لها وصفا غير ذلك؛ فأنت السعادة وكفى. رحلت لكنك وهبتني عشق الكتاب، «شكرا» الآن أقولها، «شكرا» فقد منحتني عشقا جديدا.
لاحظ أبي أنني أقرأ كثيرا، فاقترح علي، على الرغم من تشدده، أن ألتقي أحد جيراننا الذي يسكن عند المنعطف، وهو رجل كبير في العمر يمتلك مكتبة ضخمة، يمكنني أن أستعير منه ما أشاء من الكتب، لكن بشرط ألا أذهب وحدي؛ إذ علي أن أصطحب معي أختي الصغيرة. هكذا أبي، كلما أحسست أنه أغلق علي أبواب الحياة، أجده يترك لي إحدى نوافذها لتتسلل إلي نسائمها الشائقة.
لم يكن أبي متعلما، كان حرفيا يعمل في دباغة الجلد، المهنة التي ورثها عن أبيه وجده، وكان يعمل فيها هو وأعمامي كلهم ما عدا عمي الكبير الذي قرر ترك هذا العمل، فقرر الجميع تركه لأنه تخلى عن العائلة وتمرد عليها، أو هكذا قالوا. لم نعد نسمع عنه شيئا، أنا شخصيا لم أره في حياتي، وصدقوني لم يكن أحد يتحدث عنه إلا بالسوء. أما أبي فكان على عكسه تماما، كان الولد الطائع المرضي الوالدين، كما كانت تقول جدتي دوما. على كل حال كان أبي متدينا جدا، وكذلك أمي، وهل لها أن تكون غير ذلك؟ أذكر أنني منذ أن وعيت على الدنيا وأمي تضع نظاراتها وتقرأ القرآن، وأبي لا تفوته صلاة في المسجد، أما أنا فكنت أرتدي الحجاب منذ أن أصبحت في العاشرة من عمري، أو قبل ذلك بقليل، وكنت أصلي مع أمي، ولا أتأخر أبدا عن الصلاة. أتذكر أن المعلمة قالت لنا مرة: «إن الصلاة هي صلة بين الإنسان والله، فإذا أراد الإنسان أن يحدث ربه فعليه أن يصلي.» لكنني كنت أعجب من نفسي، لطالما خاطبت الله في صلاتي لكنه لم يكن يجيبني، كنت دائما أشعر بالإحباط، وكدت أقتنع حقا أن الله لا يسمعني، أو أنه لا يكترث بي! فقررت أن أخاطبه بطريقتي الخاصة، فقد كنت أدفن رأسي في الوسادة، وأتذكر كل شيء جميل حصل معي في ذلك اليوم، وأعلم أن الله هو من ساقه لي، كنت أقول له: «شكرا.» وكان يقول لي: «عفوا.» وهكذا أحببت صلاتي أكثر، وابتعدت عن تلك الصلاة أكثر، فإذا كانت الصلاة لا تصلني بالله، فلماذا أصلي؟ كانت هذه الفكرة تراودني كثيرا، وكبرت معي حتى قررت أخيرا ترك الصلاة إلى أن أتمكن يوما من سماع صوت الله فيها.
كانت أمي تصطحبني إلى دروس الدين التي تلقيها «الآنسة»،
1
وكنت أعجب من أمي ومن جميع النسوة اللاتي كن يبقين الحجاب على رءوسهن على الرغم من عدم وجود رجال في البيت! كانت «الآنسة» تتحدث بنبرة شجية فيها الكثير من الحزن، ويحدث كثيرا أن تبكي النساء من حديثها، في الوقت الذي كنت فيه أتابع نقوش السجادة التي تتوسط الغرفة، كانت رائعة الجمال، فيها الكثير من الزخارف والنقوش والألوان المتداخلة التي كانت تجعلني أديم تأملها. لست وحدي؛ فكذلك كنت أرى أعين جميع النسوة على الأرض فقد أسرهن جمال السجادة، أو هكذا كنت أظن!
ما زلت أذكر مرة حين كنت ساهمة في تأمل السجادة، وإذا بالآنسة تصرخ بأعلى صوتها: «أنت!» كاد قلبي ينخلع من مكانه، حسبت أنها تخاطبني، وإذا بها تسمر نظرها على فتاة عشرينية نحيلة كانت تجلس بجواري، وقالت: «أنت، قومي معي إلى الغرفة المجاورة.» ارتجفت الفتاة، وحملقت بها والدتها بنظرات اتهام واستفسار، ومشت الفتاة ذليلة خلف الآنسة خارج الغرفة. علمت فيما بعد أن الآنسة طالبتها بالاعتراف بذنبها الذي عرفت به الآنسة عن طريق كشف الحجب عنها، وأمرتها بالتوبة والتطهر حتى يرتفع غضب الله عنها لتكون أهلا لحضور جلساتنا.
حين عادت الفتاة كانت آثار البكاء واضحة على وجهها، لست أدري أكان من الخوف، أم من الندم، أم من الشعور بالخزي؛ فقد كانت نظرات جميع النسوة تلتهمها، أما أنا فكنت أنظر إلى أعينهن وقرأت فيها التشفي والسخرية. قالت «الآنسة» بعد أن استوت على أريكتها الوثيرة: «الشهوة يا بناتي من رجز الشيطان، وعليكن كبحها حتى تصرفنها في الحلال مع أزواجكن، استغفرن الله، عل الله أن يغفر لكن.» ثم تابعت «الآنسة» مواعظها، وفي قلبي نما كرهي ونفوري منها، ومن يومها لم أعد أذهب مع أمي إلى هذه الدروس متحججة مرة بمرضي ومرة بدروسي. وصحيح أننا لم نكن نعرف بالضبط ذنب الفتاة ذلك اليوم، لكن كيف لك أن تخفي سرا كهذا في مجتمع نسائي قائم على النميمة؟ فقد قيل إنها تصاحب شابا، وقيل إنها تواعده في الحدائق، وإنهما يقيمان علاقة محرمة، كما قيل لي إنها تلتقي بأكثر من شاب. لكن من يقدر على التقاط الحقيقة من بين أفواه النساء وحكاياتهن الممزوجة بخيالاتهن، والمنسوجة بالكثير من التشفي أو الغيرة أو الحقد أو على الأقل بشهوة الحكي ونقل الأخبار، والشعور بالنشوة لرؤية السامعين ينشدهون استغرابا؟
هل يعقل أن يكون الله الذي يسمع صلاتي ويجيبني هو نفسه من يحل العقوبة واللعنة والغضب على تلك الفتاة البائسة؟ أم أن إلههم غير إلهي؟ أليس هو الرحمن الرحيم؟ لم أعد أريد أن أعبد الإله الذي في دروسهم ومواعظهم، عاهدت الله بيني وبين نفسي أن أبحث عنه يوما ما عندما أتمكن من الخروج وحدي، عندما أكبر، سأسافر وأبحث عنه؛ فهو بالتأكيد لا يقبع في سياط الواعظات والواعظين.
2
في الزيارة الأولى ذهبت مع والدي وقد كان ذلك في بداية العطلة الصيفية قبل عام بعد أن نلت شهادة الثانوية العامة. كنت أرغب في الالتحاق بالجامعة، لكن أبي لم يوافق، بحجة أنه لا فائدة من دراسة البنت، وأمام ما رآه مني من كآبة وحزن اقترح علي أن أرافقه إلى بيت جارنا الذي تفصله عنا ثلاث عمارات. كانت تنبعث من بيته رائحة تبغ قوية، ولا يكاد ضياء الشمس يتسلل عبر ستائره السمكية القاتمة. انقبض قلبي في البداية، إلى حين دخولنا غرفة المكتبة فقد كانت واسعة فسيحة تتوسطها طاولة خشبية مستديرة لماعة، وحولها كرسيان خشبيان، وعلى جدران الغرفة الثلاثة تنتصب أرفف الكتب التي تمتد من الأرض حتى قبيل السقف بقليل، وعند الجدار الرابع مكتب خشبي عليه مذياع خشبي، ومنفضة خشبية، وعلبة تبغ، والعديد من الغليونات، وبعض الجرائد، وبجوار المكتب كرسي خشبي هزاز عليه وسادة قديمة باهتة اللون. بدا كل شيء هنا مصنوعا من الخشب، وخلافا لتوقعاتي فقد كان كل شيء نظيفا ولامعا.
كانت رائحة التبغ هنا أقوى من الردهة فسعلت قليلا، انتبه إلي صاحب البيت وسارع إلى فتح الستائر والنوافذ وهو يعتذر. وما إن دخل نور النهار إلى الغرفة حتى اكتست الغرفة سحرا جديدا، أخذ الخشب المصقول يلتمع حولي، وازدادت ضخامة الكتب. ولاحظت أيضا أن أرضية الغرفة كانت من الخشب، كان الخشب يضفي على المكان دفئا خاصا، وحميمية محببة. وعندها فقط تبينت عن قرب ملامح جارنا، كان رجلا في أواخر الخمسين من عمره، قد غزت التجاعيد وجهه الأبيض الشاحب، لكنه مع ذلك كان مريحا وهادئا، بشعر فضي وعينين زرقاوين ضيقتين، وكان نحيلا يرتدي قميصا سماويا وسروالا داكن اللون، وفي يده اليمنى يرتدي خاتما بحجرة سوداء.
ابتسم عندما رآني أحدق في الخاتم، وقال: «أعجبك؟ إنه من حجر العقيق، هدية قديمة من شخص قديم.» ارتبكت لملاحظته، ووخزني أبي على كتفي، فأطرقت في الأرض خجلا. سارع إلى القول: «تفضلا بالجلوس.» وجلس هو وأبي حول الطاولة الخشبية، وأخذت أحدق في الكتب الكثيرة بينما كانا يتحدثان، ونظرت إلى الأعلى فرأيت ثريا تتدلى من السقف تشبه بتصميمها تلك التي في بيوت الأشباح. انتبهت على قوله موجها حديثه إلي: «حدثيني، أي نوع من الكتب تفضلين؟» أجبته مستحضرة عبارة ذلك الشاب ذي الجبهة العريضة: «لكل قارئ عشقه الخاص.» رفع حاجبيه إعجابا كما أظن، بينما قطب أبي جبينه استياء، ثم قال: «أفترض إذن أنني سأتركك هنا لتختاري من الكتب ما تشائين.» ابتسمت لهذه الفكرة، وخرج مع والدي.
3
بقيت وحدي في غرفة المكتبة، كانت من أكثر اللحظات إثارة في حياتي، أخذت أقلب نظري بين أرفف المكتبة. كان ثمة جدار بكامله لا يحوي تقريبا إلا كتبا أجنبية، بلغة عرفت فيما بعد أنها اللغة الألمانية. اتجهت إلى قسم آخر فوجدت الكثير من الكتب التي تتحدث عن المعادن والآلات والميكانيك وغيرها من المصطلحات التي لم أفهم معظمها، بدأ حماسي يخبو. مشيت باتجاه النافذة فثمة كتب مكدسة تحتها على الأرض، أخذت أقلبها فإذا هي في مواضيع دينية تتحدث عن الله، ودواوين كثيرة لشعراء لم أسمع بهم من قبل، ولأني لم أكن أحب الشعر وقفت وقد ازدادت خيبة أملي. في الحقيقة لم أكن أدري عن أي شيء أبحث، اتجهت إلى قسم آخر ووجدت الكثير من القصص والروايات، فتحمست قليلا، أخذت أبحث عن واحدة تلفت انتباهي، لكن عناوين الروايات والقصص كانت تبدو لي مملة، حينها سمعت أبي يناديني: «هيا سنعود إلى البيت.» ودخل الجار إلى المكتبة وسألني: «هل اخترت كتابا؟» ولما وجد يدي فارغة قال: «ليس بعد؟» أجبته: «لم أجد ما أعرفه بعد.» فقال: «إذا كنت تبحثين عما تعرفين، فستكررين قراءة الكتب ذاتها، كيف ستكتشفين حبك لأمر ما إذا كنت لا تجربينه أولا؟» لم أجب، فنظر إلى الكتب حيث كنت واقفة، وقال: «القصص والروايات ممتعة جدا.» ثم مد يده وأخرج كتابا أعطاني إياه وقال: «ما رأيك أن تبدئي بهذه الرواية؟» نظرت إلى العنوان: «الدوامة»، ولأني لم أشأ إحراجه أمسكت بالرواية مبتسمة وقلت: «شكرا لك، سأقرؤها.»
عدنا إلى البيت على أقدامنا؛ فلم يكن بعيدا، وقد اشتد الحر، فلم أكد أصل إلى البيت حتى رميت بنفسي على السرير مجهدة، وقد أخذ النعاس يتملكني وخيل إلي أنني أطير بين بناءين عاليين وكنت في غاية السعادة. انتبهت على صوت أمي تنادينا على طعام الغداء، تحلقنا حول الطاولة، التفت أبي إلي وقال: «متى ما انتهيت من الكتاب أعيديه للدكتور نور، لا نريد أن يقول عنا إننا لا نعيد الأمانة، وها قد عرفت البيت، لكن لا تذهبي وحدك، خذي فاطمة معك.» «نور» هذا هو اسمه إذن، أخذت أفكر لم هذا هو اسمه بالتحديد؟ كنت أومن أن للأسماء طاقة خفية تسري في صاحبها، وعبثا يحاول الآباء والأمهات انتقاء أسماء أولادهم، ويعتقدون أنهم هم الذين يهبونهم الأسماء، لكن الحقيقة أن لكل إنسان اسمه الخاص المرتبط بوجوده وبذاته، ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم على الإطلاق، «نور» اسم جميل يحمل الكثير من التفاؤل والحياة. كانت الأفكار تتدفق إلى رأسي بينما كنت أتناول الطعام، ثم تذكرت أن أبي قال «الدكتور نور»، فسألته: «هل جارنا يدرس في الجامعة؟» أجاب: «نعم، يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية.» التمعت عيناي وقلت بعفوية: «ما أروع هذا!» أجاب أبي: «وما الرائع فيه؟ أتعلمين كم راتبه؟ إن أعلى راتب يحصلونه لا يتجاوز نصف ما أجنيه شهريا، ويقولون إنهم في أعلى السلم الوظيفي!» ثم ضحك ساخرا وأكمل طعامه في حين توقفت أنا وقد شعرت باستياء كبير.
اتجهت إلى غرفتي وأمسكت الرواية: «الدوامة» لجان بول سارتر، أهو إنجليزي أم أمريكي أم غير ذلك؟ لم أكن قد سمعت عنه من قبل، ولم أكن قد قرأت أعمالا أو كتبا مترجمة أصلا. وما إن بدأت في القراءة حتى اختفى كل شيء بالنسبة إلي، وانحصر عالمي كله في هذه الرواية، ولم أتوقف حتى انتهيت من قراءتها. كانت ممتعة حقا، وأكثر ما شدني إليها فكرة أنه لا يوجد خير أو شر محض في هذا الوجود، وما نعتقده شرا مطلقا، فإنه يحمل فيه بذرة الخير، والعكس صحيح. أخذت نفسا عميقا ورحت أبحث في حياتي عن الأمور التي أمقتها وأعتقد أنها سيئة، فتذكرت الدروس التي كنت أحضرها مع أمي، عندها عقدت العزم على أن أعود إليها بروح جديدة حتى لو كنت أعتقد أنها سيئة جدا، أن أبحث فيها عن خير ما، عن شيء يجعلني أعتقد حقا بهذه الفكرة، فإن لم أجد سلمت ببطلانها. أعجبتني الفكرة، وقبل أن تشغلني الحياة عنها، فتحت صفحتي على الفيسبوك وكتبت فيها:
لا شر مطلق؛ ففي شدة الظلام ثمة بصيص نور.
وحدث ما كنت أخشاه؛ فما إن عدت إلى الدروس مع أمي بعد انقطاعي عنها مدة سنة تقريبا حتى انهالت النسوة علي وعلى أمي بالأسئلة عن سبب اختفائي، وهل ذلك بسبب خطبة أو زواج أو مرض ما، وكن يحدقن في يدي بحثا عن خاتم خطوبة، وأخذت بعضهن تغمز أمي وتهمس لها، بينما راحت أخرى تحدق في حاجبي وتسألني: «كأنك أزلت شيئا من حاجبيك؟ ما تعرفين أن من تفعل ذلك ملعونة؟» كنت أبتسم مجاملة لهن حتى حضرت «الآنسة» وكان كل شيء يجري بشكل اعتيادي حتى وقعت عيناها علي، فحملقت في وحدقت وقالت بلهجة حانية: «أهلا أهلا، أخيرا قررت العودة إلى الله، لا تيأسي يا ابنتي فالله يغفر للمعرضين عنه.» ومع أنها قالت ذلك بأسلوب ودود، فإنني لست أدري بعد أن سمعت منها هذه الكلمات ما الذي جرى لي، شعرت بحرارة مباغتة تسري في جسمي، وأخذت الكلمات تتدفق من لساني كنبع ماء متفجر، وكان مما قلته؛ فقد نسيت معظمه: «ومن قال لك إنني قد أعرضت عنه للحظة؟ هل تجرئين على القول إنني لا أحب الله؟ وهل كشفت عن قلبي؟ أم أن الوحي نزل إليك؟ لم لا تنظرين إلى قلبك وتطلبين المغفرة أنت؟ أم أنك معصومة عن الخطأ؟ أخبريني لم تكشف الحجب عنك أنت بالتحديد دونا عنا جميعا؟ ما هي هذه الحجب؟ حدثينا، وكيف يحدث ذلك؟ اشرحي لنا، من حقنا أن نعرف، وأنت ألا ترتكبين الذنوب أبدا؟»
خيم صمت مطبق كصمت القبور وشعرت أنه سيدوم إلى الأبد، كانت عيناي مسمرتين في عينيها، ولم أرمش للحظة، ولم أدر عن بقية النسوة أين وماذا كن يفعلن. كانت تغمرني نشوة الانتصار، استمر الصمت طويلا حتى شعرت بألم حاد في فخذي فقد كانت أمي تقرصني وتقول: «دخيلك يا آنسة لا تؤاخذيها؛ فهي طفلة لا تدري ما تقول.» ظلت الآنسة صامتة وقد احمرت وتلونت من فرط غضبها ولكنها أخيرا رفعت نظرها إلى الأعلى وقالت: «ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، قوموا إلى بيوتكم. انتهى الدرس!»
لن أحدثكم بعدها ما حدث من النسوة ومن أمي تحديدا التي أصابها العار مني لأني تطاولت على «الآنسة»، لكنني بقيت صامتة طوال الوقت؛ فاللذة التي حصلت عليها تكفيني، فلما عدنا إلى البيت انهالت علي أمي بغضبها، وأظهرت حسرتها على أنني ضيعت تعبها وتربيتها، ومنعتني هذه المرة من الحضور معها في الأسبوع القادم. دخلت إلى غرفتي مجهدة؛ فقد خضت للتو أول معركة لي وانتصرت فيها، لكن عن أي نصر أتحدث؟ وأي معركة؟ وهل فعلا حصلت على ما كنت أبحث عنه؟ هل وجدت الخير؟ وجدتني أتضاءل من جديد، وأنكفئ على نفسي ندما. وفي تلك الليلة حين وضعت رأسي على الوسادة واستحضرت نعم ربي علي، لم أسمع رده المعتاد حين قلت له: «شكرا!»
4
ثمة شيء ما لم أتمكن من فهمه بعد، فقررت أن أعرف أكثر عن مؤلف الرواية التي أنهيتها مؤخرا «الدوامة»، فكتبت في محرك البحث: «سارتر»، وعلى خلاف ما كنت أظن فقد ظهرت نتائج كثيرة جدا للبحث، وإذ ب «سارتر» ليس كاتب روايات فحسب، وإنما صاحب الفلسفة «الوجودية»، وهي فلسفة تركز على الإنسان وتعلي من قيمته، وأنه أقدم شيء في الوجود، وما قبله عدم، وأن عليه أن يثبت نفسه أمام كل العوائق والحدود، أما القيم فهي غير ثابتة، وليس لأحد أن يفرض قيما أو أخلاقا معينة على الآخرين. «الجحيم هو الآخر» هذا عنوان أحد أعمال الكاتب نفسه، هذا صحيح تماما؛ فلو كنت وحدي لأصبحت أكثر سعادة. أعجبني الجزء الأخير المتعلق بالحرية، وسرحت قليلا بخيالي، أخذت أفكر ماذا لو كنت حرة بالمطلق فلا سلطة لأحد علي؟ ماذا كنت سأفعل ؟ وابتسمت للفكرة، كنت سأرتاد الجامعة بلا شك، كنت سأسافر، وأعمل، سأسكن وحدي، لا، لا أريد أن أكون وحدي. وفي هذه اللحظة تذكرت وجه الشاب ذي الشعر الداكن الذي كان يعيرني الكتب، «أريد أن أكون معه!» وعند هذه الفكرة احمرت وجنتاي فحركت رأسي أحاول طرده من خيالي، وعدت إلى «الدوامة».
كنت أشعر بضيق، فلم أصل بعد إلى ما كنت أبحث عنه، عن ذلك الشيء الذي حجب عني الحقيقة وأبعدني عنها، فاتصلت بجارنا الدكتور نور واتفقت معه على الحضور. أخذت معي أختي فاطمة وذهبت إليه مساء. عندما فتح لي الباب، بدا لي مبتهجا، فسألته: «كيف حالك اليوم دكتور؟» قطب جبينه ثم ابتسم وقال: «أما عن حالي فأنا على خير ما يرام، وأما عن ندائك لي بدكتور فلم يرق لي، هذه كلمة لا أحب سماعها إلا في الجامعة، وأنت جارتي، وهذا بيتي.» فقلت له: «أناديك عمي إذن.» ضحك وقال: «بالنظر إلى عمرينا فأنا بعمر جدك.» فقلت بعفوية: «أنت إذن جدو نور.» فقال مبتسما: «جدو نور»، ستكونين أنت أول من يناديني بذلك». وقادنا إلى غرفة المكتبة، جلسنا على الطاولة المستديرة، وقال: «أرى أنك أنهيت الرواية بسرعة كبيرة.» قلت: «نعم، كانت ممتعة جدا، ومحتواها يختلف كثيرا عن أي شيء قرأته سابقا.» ابتسم جدو وقال: «وكيف وجدتها؟» أجبته: «رائعة، أقصد أنها أعطتني فكرة عن فلسفة سارتر الوجودية، وقمت بالبحث عنها على الإنترنت، وتوصلت إلى فكرة أنه لا يوجد خير أو شر محض، وبما أنني لا أعتقد بشيء حتى أجربه، فإنني إلى الآن لم أتبن هذه الفكرة.» رفع جدو نور حاجبيه مستحسنا كلامي وقال: «أنت فتاة ذكية، لكن هل لي أن أسألك كيف ستجربين هذه الفكرة؟» قلت: «لقد فعلت ذلك بالفعل.» قال: «حقا، كيف؟» فحكيت له قصة الدروس الدينية وكيف تركتها ثم عدت إليها وما حدث في الدرس الأخير من مواجهة بيني وبين «الآنسة»، فلم يقل شيئا، بل ظل صامتا، فقلت وقد نفد صبري: «ما رأيك؟ ماذا أفعل؟» أجاب: «طالما أنك بدأت بالتجربة فأكمليها إلى النهاية، وأخبريني بالنتائج لاحقا. هل أعطيك كتابا آخر؟» ولم ينتظر ردي بل قام إلى المكتبة واستل كتابا وناولني إياه وقال: «خذي، هذه رواية جديدة، وكاتبها برازيلي معاصر، أظنك ستحبينها، اقرئيها ولا تعودي حتى الأسبوع المقبل.» أمسكت بالرواية: «الخيميائي»، قطبت جبيني فلم أفهم العنوان، لكنني لم أكترث كثيرا فوضعتها في حقيبتي؛ فقد كنت ما زلت أفكر فيما سأفعله مع تجربتي في الدروس الدينية، وكم كنت أود الحديث معه أكثر عن الموضوع، لكنني فوجئت به ينادي أختي فاطمة: «هيا يا حلوة، ستعودان إلى المنزل.» وناولها قلما ذهبيا وقال: «أتعرفين أن هذا قلم سحري؟» قالت أختي وقد شدتها نبرته: «حقا؟ ماذا يفعل؟» أجاب: «إنه يجلب السعادة لكل من يستعمله، ولا يفارقه حتى يمكنه من القراءة والكتابة بأجمل الخطوط.» أمسكت فاطمة القلم بيديها الصغيرتين وأخذت تنظر إليه بسعادة. غمزني جدو وربت على كتفي وقال: «هيا، هيا حان وقت الرحيل.» أمسكت بيد أختي وعدنا إلى البيت.
وفي ليلة ذلك اليوم لم أتمكن من النوم؛ فغدا هو موعد الدرس الديني. كان علي أن أقرر هل أذهب أم لا؟ وإذا ذهبت فماذا علي أن أفعل؟ هل أكمل المواجهة؟ أم أعود أدراجي؟ أخذت أفكر كيف ستنظر إلي النسوة والآنسة تحديدا؟ وبعدها رحت أغط في النوم.
في الصباح فتحت عيني على صوت فاطمة تهزني من كتفي وتقول: «لقد نجح القلم الذهبي، تمكنت أخيرا من كتابة الهمزة!» أختي فاطمة عمرها ست سنوات، كانت تعاني من مشكلة في كتابة المنحنيات في الأحرف والأرقام، ولذلك فقد كانت تكتب الهمزة على شكل خط أفقي صغير فوق الألف. لم أكترث لما قالته، وأبعدت دفترها عني، وقمت وأمر واحد يشغلني: ماذا سأفعل اليوم في الدرس؟
بعد الغداء ركضت إلي فاطمة ومعها دفترها، قالت: «هل أخبرتك عن القلم السحري؟» أجبتها بشرود: «نعم فعلت، مبارك عليك.» وأبعدتها عني، ثم نظرت إلى عينيها اللتين كانتا تفيضان إثارة، فرأيتهما انكسرتا من ردة فعلي الباردة. فجأة تبدى لي شيء كنت غافلة عنه تماما، أمر تمكنت أختي الصغيرة من الوصول إليه بينما عجزت أنا عنه. أمسكتها من يدها وقلت: «أريني دفترك مرة أخرى، أنا آسفة، لم أنتبه في المرة السابقة.» تهلل وجهها وعاد البريق إلى عينيها، وسارعت إلى القول: «هذا هو القلم الذي تمكن من كتابة الهمزة، إنه حقا قلم سحري!» أجبتها: «أتعلمين ماذا قال لي جدو نور عندما ذهبت؟» نظرت إلي متعجبة، أكملت: «قال إن القوة السحرية التي في القلم تنتقل إلى اليد التي تكتب به، فتغدو قادرة على فعل العجائب.» «صحيح؟» أجابت أختي وهي تنظر إلى يدها، قلت: «بالتأكيد.» وأخذت القلم من يدها وأعطيتها قلم رصاص، وقلت: «والآن، جربي بنفسك، سترين كيف أن يدك أصبحت يدا سحرية.» أمسكت فاطمة القلم بتردد وأخذت تخط على الورقة حرف الألف وفوقه الهمزة، وإذا بها تكتبه بسلاسة ووضوح، ويا لفرحتها حين فعلت ذلك! أخذت تقفز وتصرخ، وشاركتها الأمر ذاته وتعانقنا لنجاحنا الكبير، ولربما علت أصواتنا قليلا، فاندفعت أمي للحضور متسائلة عن سبب صياحنا، أجبتها وأنا أغمز أختي: «لا شيء، سوى أن فاطمة أصبحت تمتلك قوى سحرية!» وضحكنا.
كيف غفلت عن ذلك؟ عن أن الخير الذي كنت أبحث عنه في الآخر السيئ هو انعكاس لما في ذاتي، ولولا النور الذي في، لما رأيت النور الذي في الآخر؛ فما هو إلا صورة عني، وعندما أتلمس خيري سأجد بالتأكيد خير غيري، والعكس بالعكس صحيح؛ فحين لا نرى إلا الشر والسوء عند غيرنا فهذا لأننا لا نراهم إلا من ناحية النقص الذي فينا، وكذلك فعلت أختي بطبيعتها الحساسة لكن بصورة منعكسة، حين آمنت بقوة القلم السحرية انتقل إليها إيمانها بذاتها، أعجبتني الفكرة وتحمست لها كثيرا، فكتبت في صفحتي على الفيسبوك:
لتجد الخير في غيرك، عليك أن تجد خيرك.
سارعت إلى أمي التي كانت مستلقية وبادرتها: «متى نذهب إلى الدرس؟» حملقت في وقالت: «نذهب؟ وهل ستأتين معي لتحرجيني مجددا بكلامك الغريب الذي لا أعرف من أين تأتين به؟ لن أصحبك معي اليوم.» أجبتها: «كلا، كلا، أرجوك خذيني معك، أعدك أن أكون طيعة كما تريدين.» أجابتني وهي ترمقني بنظرة ريبة: «حسنا ، لكن لا تفتحي فمك بحرف.» لم أكن أدري ماذا سأفعل، كنت أريد الذهاب وحسب.
وفي الوقت المحدد ذهبت مع أمي وجلست بجوارها وسط النسوة اللاتي أخذن يتهامسن وهن يرمينني بسهام نظراتهن الحادة. كنت أبتسم لكل واحدة منهن وأترقب حضور الآنسة، ولم يطل انتظاري كثيرا؛ فقد أطلت وسط ترحيبات النسوة وسلاماتهن الحارة، اتخذت مكانها في صدر الغرفة، وسلمت علينا، وأخذ قلبي يخفق، ماذا ستفعل حين تراني؟ هل ستطردني؟ أم تتجاهلني؟ هل ستعنفني؟ كنت مرتابة في كل شيء، ولم أكن مطمئنة إلا لأمر واحد وهو أن قلبي اليوم مليء بالحب، أخذت نبضات قلبي تتسارع أكثر فأكثر، وشعرت ببرودة في أطرافي على الرغم من حرارة الجو، وأخيرا في لحظة واحدة التقت أعيننا، ومثل شحنتين متماثلتين تباعدت نظراتنا. ابتدأت الآنسة الدرس، وأحسست برجفة خفيفة في صوتها، وبعد المقدمات والدعاء قالت: «اليوم ستتفضل الآنسة الصغيرة لتلقي الدرس؛ فهي، كما تعلمن، شابة متعلمة وتحب أن تتطاول على من هن أكبر منها.» وأشارت إلي، والتفتت جميع النسوة ما بين متشككة وساخرة. نظرت إليها؛ فقد بدا واضحا أنها كانت تتحداني، وحين هممت بالكلام، قرصتني أمي وقالت وهي تفتعل ابتسامة على وجهها: «أنت بالتأكيد تمازحين ابنتي؛ فهي لم تتلق تعليما دينيا لائقا لكي تلقي درسا، وعن أي شيء ستتحدث؟ إنها لا تعرف، كما أنه لا يجوز لأحد أن يتكلم بحضورك.»
آلمتني كلمات أمي أكثر من أي شيء آخر، لكنها جعلتني أنتصر على ترددي، فسارعت بالوقوف بينما جميع النسوة جالسات، وقلت موجهة الكلام إلى أمي: «ولم لا يا أمي؟ لم لا يمكنني أن أتحدث؟ فقد جادل بعض الصغار الرسول عليه الصلاة والسلام في حضوره.» ثم التفت إليهن، ونظرت في أعينهن واحدة واحدة، وأكملت وأنا أشعر بطاقة جميلة: «لست أدعي العلم ولا الفهم ولا الفقه، ولم أتلق تعليما دينيا، ولم أحصل على شهادات، ولا أحفظ القرآن الكريم كاملا، لكنني أوقن أن لدي قلبا يحب خالقه. لا أطلب منكن تصديقي؛ فيكفيني أن الله يعلم، وأنني أعلم أن في قلب كل واحدة منكن حبا مماثلا. لست هنا لأخطئ واحدة منكن، بما فيكن أنت أيتها الآنسة، ولو كان الموقف الذي حصل في الدرس السابق قد أساء إليك أو إلى أي واحدة منكن فأنا أعتذر. أما وقد سنحت لي هذه الفرصة لأنال شرف الحديث إليكن فأود القول إننا جميعا متساوون، وليس لأحد الحق في تفضيل نفسه أو غيره على الآخرين، الله وحده يفعل ذلك لأنه وحده المطلع على القلوب، وا... والسلام عليكم.»
ألقيت بنفسي على الأريكة، وكأن حملا كبيرا انزاح عن صدري، كنت مرتاحة وخفيفة، ولم يعد يهمني شيء، ولم أعد أنظر إلى أعينهن، ولا أذكر تماما ماذا حدث أو ماذا قيل، كنت راضية عن نفسي وعما قلته، وكان ذلك يكفيني. قبل الرحيل أخذت النسوة تسلمن على «الآنسة» وحين حان دوري، صافحتها فابتسمت، فابتسمت بدوري. وقبيل أن نرحل جاءت إلي الفتاة العشرينية النحيلة التي كانت قد وبختها «الآنسة» في درس سابق، وكنت قد نسيتها تماما، احتضنتني بشدة، وقالت: «أتعلمين، أنت أول واحدة أشعر أن كلامها يقرأ ما في قلبي بدقة، أنت لطيفة حقا، أتمنى أن نظل معا.» ورحلت سريعا تاركة إياي في حالة غريبة تملكتني حتى عودتي إلى البيت، وأمي لم تعنفني هذه المرة ولم تقل شيئا.
وقبيل النوم فتحت الفيسبوك وكتبت:
أحيانا، قد تكون غير مهيأ بعد للإصلاح، لا تنزعج، تنح جانبا؛ فالوقت لم يحن بعد.
ثم خطرت لي تلك الفتاة النحيلة، وما فعلته وما قالته، تذكرت أنني لا أعرف اسمها أيضا، فكتبت:
قد يفاجئك الخير في طريق مغاير تماما للطريق الذي تسلكه، ما عليك سوى أن تتفتح وحسب.
نظرت إلى ما دونته، كنت أشعر بالرضى، واستسلمت لنوم عميق.
5
نظر إلى نفسه مليا في المرآة، ارتسمت ابتسامة عريضة على محياه، شعر بالرضى والثقة. ارتدى ساعته الفضية، تناول مفاتيحه وهاتفه النوكيا من على الطاولة وخرج. كان ممتلئا بالفخر كصباح كل يوم؛ فوسامته خدمته كثيرا في السنوات القليلة الماضية، وها هي تؤمن له عملا محترما. وصحيح أنه كثيرا ما يسلخ ساعات الصباح في وحدة مقيتة بين الكتب من غير أن يدخل زبون واحد، لكن المساء مختلف كثيرا؛ فبالنسبة إليه تكفي صبية واحدة جميلة يقنعها بشراء كتاب في أن تفتح شهيته للعمل طوال اليوم، فكيف وهو يرى بوضوح آثار وسامته متبدية في عيون السيدات والآنسات، الصغيرات منهن والكبيرات على حد سواء؟ لكنه لم يكتف بهذا، بل أضاف إلى ذلك لباقته في الكلام، وحسن محاورته، مع لمسة ساحرة من ابتسامة ماكرة تجعل أي شخص لا يخرج إلا وقد ابتاع كتابين أو ثلاثة على أقل تقدير.
كما أن سياسته الجديدة في المكتبة حسنت من عمله كثيرا؛ فقد ابتدع لأول مرة نظاما جديدا في إمكانية استعارة الكتب بدلا من شرائها لمن لا يملك الثمن، مقابل مبلغ مالي بسيط، وقد زاد هذا من أرباحه، وإن كان قد سرع في تلف الكتب وضياعها؛ الأمر الذي لم يعجب صاحب المكتبة، خاصة أنه لم يدر بذلك إلا بعد ما يقارب العام.
وصحيح أنه لا يحب القراءة، وليست الكتب بالنسبة إليه سوى رأس مال عليه أن يستثمره جيدا، لكنه حين وجد نفسه مضطرا للعمل بها، فإنه تمكن ببداهته من امتلاك أسرار هذه «الصنعة» كما يحلو له أن يسميها؛ فقد حفظ أسماء الكتب ومؤلفيها، واطلع على أكثر الكتب طلبا، وأجبر نفسه على قراءة أشهرها. عرف كيف يعرض بضاعته بحيث تكون مغرية للزبون، وتعلم مداخل كل زبون ومفاتيحه، وكيف يقنعه بالشراء، وخاصة الفتيات منهم.
صدحت الموسيقى معلنة إقلاع جهاز الكمبيوتر، جلس أمامه وراح يتفقد، كما يفعل كل صباح، سجلاته الخاصة بالاستعارة، ليعرف أسماء الزبائن الذين عليهم إعادة الكتب اليوم. ظهر أمامه اسمها وحيدا، تذكرها تماما فهي من ذلك النوع الذي يطلق عليه «زبونة مستدامة»، إنها لا تسبب المتاعب أبدا، ولا يمكنها أن تدفع كثيرا، لكنها بالتأكيد ستفيده على المدى البعيد ولن تذهب إلى غيره؛ فقد عرف بالضبط نوعية الكتب التي تفضلها، وفهم نفسيتها جيدا؛ فبخلاف بعض الصبايا الحسناوات اللاتي يتخذن من الكتب ذريعة لهن لرؤيته واستمالته بمحاولاتهن المكشوفة، فإن هذه مختلفة، إنها تأتي إلى المكتبة لسببين اثنين : إنها تقرأ حقا، لكنها بقدر ما تنجذب إلى الكتب فهي منجذبة إلى سحر عباراته الغامضة التي يعرف كيف يلقيها أمامها مع لمسة خفيفة من ابتسامة حلوة.
لم ينتظر طويلا؛ فقد اقترب موعد حضورها، إنها دقيقة جدا ومنظمة؛ فهي تعيد كل الكتب في موعدها المحدد، التاسعة والنصف صباحا، كما أن الكتب تعود وكأنها لم تمس، وهذا نادرا ما يحدث مع الزبائن الآخرين.
تسلم الكتب منها، شكرها بلباقته المعتادة، تصفح الكتب متظاهرا أنه يتفقدها، أخفى رأسه خلف شاشة الكمبيوتر، انتظر دقيقتين وهو يمثل تقليب نظره فيها، ثم نظر إليها أخيرا وقال وهو يعلم تماما من هي: «سما صايغ؟» أومأت رأسها بالإيجاب، أخذت تعصر يديها، وتنشغل بالنظر يمينا وشمالا، راقبها مستحليا ارتباكها، ضغط بضعة أزرار على الكمبيوتر، ماطل قدر ما يستطيع، فتح درج مكتبه، أخرج هويتها وأعادها إليها.
أخذتها وهي تشكره، التفتت تنظر إلى الكتب، خطت إلى الداخل بضع خطوات، لم يلاحقها كعادته مع الصبايا الأخريات، كلا إنها ليست من هذا النوع. انتظرها دقائق، فعادت بكتابين، قالت وهي تعرضهما له: «بأيهما تنصحني؟» رفع كتفيه مبتسما وقال: «لا يمكنني المزاودة على ذوقك الجميل في اختيار الكتب، ثم إن لكل قارئ عشقه الخاص.»
6
في صباح أحد الأيام كنت متحمسة جدا لألتقي جدو نور حتى أخبره بما حدث معي في الدرس الديني، وما توصلت إليه، لكنني تذكرت أنني لم أقرأ بعد الرواية التي أعارني إياها، استللتها من الدرج وأخذت أقرأ: «الخيميائي»، تذكرت أن جدو نور قال إنني سأحب هذه الرواية، وإن كاتبها برازيلي. أغمضت عيني وأخذت أتخيل كتابا يخرج من البرازيل ويطير عاليا ويعبر المحيطات والقارات ليصل إلي، ابتسمت وفتحت عيني وبدأت القراءة. كانت الرواية ساحرة بكل جزء منها، وكلما توغلت فيها أكثر ازداد تعلقي بها وشوقي إلى إنهائها على الرغم من أعمال المنزل واضطراري إلى تركها مرات كثيرة؛ فقد زارتنا عمتي وأولادها في ذلك اليوم، كنت أحضر لهم القهوة والكتاب بيدي، أريد أن أعرف ماذا حدث؟ وكيف؟ ولماذا؟ شدتني أجواء الرواية السحرية، وأسفار الشاب «سانتياغو » ومغامراته وخساراته، والعلامات، والأسطورة الشخصية، كان كل شيء يبدو لي رائعا مثاليا. كنت أحسد الشاب على حريته في حياته، على أسفاره ومغامراته، وأنه امتلك الشجاعة ليلاحق حلما رآه في النوم.
لم أتمكن يومها من الذهاب إلى جدو نور فعمتي لم تغادرنا حتى وقت متأخر. وأنا لم أكن أريد الذهاب إليه حتى أكمل الرواية التي لم يتسن لي إنهاء قراءتها حتى أوى الجميع إلى النوم. أعجبتني كثيرا، وأخذتني إلى عالم جديد رائع، ورغم إعجابي الشديد بها، فإنني في الوقت نفسه شعرت بالظلم وبالأسف على نفسي، ماذا لو أنني تمكنت من السفر يوما ما وحدي؟! لو كنت شابا لفعلت ما يحلو لي، كنت سأجوب العالم سعيا وراء حلمي، لكن أي حلم؟ ما هي «أسطورتي الشخصية»؟ فكرت كثيرا وعزمت على أن أسأل جدو نور غدا عندما أذهب إليه.
وحين حل مساء اليوم التالي، أخبرت أمي أنني سأزور جارنا، قالت: «كلا، لن تذهبي؛ فعمتك ستأتي اليوم.» أجبت باستياء: «مجددا؟ لكنها كانت عندنا البارحة.» قالت أمي مبتسمة: «نعم، وسيأتي ابن عمتك أيضا، تعرفينه، إنه هنا في إجازة من عمله وبعد أسبوع سيسافر، هو مستعجل جدا وجاهز تماما.» قطبت جبيني أحاول استيعاب ما قالت ثم سألتها: «مستعجل على ماذا؟ وجاهز لماذا؟» أمسكتني أمي من يدي وجلسنا، وقالت: «ألم تعرفي بعد يا حبيبتي لماذا زارتنا عمتك البارحة واليوم أيضا؟» ولما لم أجب أكملت: «ابن عمتك يعمل منذ أشهر في قطر، وأحواله من حسن إلى أحسن، وهو هنا الآن في إجازة ليتزوج واختارك أنت عروسا له، وهذه أفضل فرصة لذلك؛ فأخوك سعيد هنا أيضا، وفرحتنا ستكتمل ونحن معا.» صدمتني كلماتها وفاجأتني كثيرا، وأول ما خطر لي حين تذكرت سامر ابن عمتي نفوري منه، قلت لأمي: «ذلك المتعجرف البغيض؟» عضت أمي على شفتيها محاولة إسكاتي، وتلفتت حولها خوفا من أن يسمعني أبي. وقفت غاضبة وقلت: «ومن قال إني أريد الزواج؟» أمسكتني أمي من يدي وأرغمتني على الجلوس وتفحصتني بعينيها وقالت: «وهل هناك فتاة شابة جميلة مثلك لا تريد الزواج ؟ أتنوين أن تعيشي حياتك كلها من غير زوج وبيت وأولاد؟» أجبتها: «لم أقصد هذا، وإنما لا أفكر الآن بالموضوع، ثم إن سامرا بالتحديد لا يروق لي، بل على العكس أجده ثقيل الدم ومتعجرفا جدا.» أجابتني أمي: «إنه لطيف صدقيني، ثم إنك ستحبينه بعد الزواج، أؤكد لك ذلك.» قلت: «آه، نعم صحيح!» ثم وقفت قائلة: «أريدك أن تخبري عمتي أن تبحث لابنها عن عروس غيري.» وتوجهت إلى غرفتي وأخذت الأفكار تجتاح رأسي من كل جانب. تذكرت ذلك الشاب ذا الشعر الداكن الذي كان يعيرني الكتب، لم أكن قبل هذه اللحظة أفكر في الزواج منه، كنت أتشوق لرؤيته فحسب، كان يمثل لي الكمال والجمال والسعادة، لكنني الآن تمنيت لو أنه يأتي ليخطبني من أبي، حتى أذهب معه بعيدا عن الجميع، لكن كيف لهذا أن يحصل وقد مضى أكثر من عام على رحيله عن حارة بيتنا؟ كان الشعور بالقهر يخنقني ويخلف مرارة في حلقي، فعزمت بيني وبين نفسي أن أبحث عنه مهما كلف الأمر.
وما هي إلا دقائق حتى انفتح الباب ودخل أبي مسرعا وقرأت في عينيه الغضب، عدلت من جلستي، وأخفيت دمعتي، فقال: «صحيح ما سمعته؟ ما تريدين ابن عمتك يا بنت؟» لم أعرف بم أجيب؛ فقد كان موضوع الزواج يحرجني، وخاصة بحضور أبي. صمت برهة، كان صوته يترك صدى رهيبا في الغرفة. أخذت نفسا عميقا وقلت: «ليس عندي شك في محبتكم لي وتعرفون مصلحتي، لكن أبي، أيرضيك أن تجبرني على الزواج؟ وهل هذا عمل يرضي الله؟» تفاجأ أبي وظل صامتا لحظات، وكأنما هدأ قليلا فتركني وخرج وهو يتمتم، وبقيت وحدي أحاول أن أتنبأ بما سيحدث.
في المساء جاءت عمتي ومعها زوجها وابنها، وفي غرفة الضيوف جلسنا معا كلنا، أبي وأمي وسعيد ونادر وأنا، شاهدت على الطاولة باقة من الأزهار الجميلة. استرقت النظر إلى سامر، كان يرتدي بزة رسمية بربطة عنق حمراء، وكان يضرب على الأرض بكعب حذائه اللامع. كانت أمي تحدث عمتي، وأبي يحدث زوجها وابنها، وكنت أنا جالسة بجوار أمي ، لم أكن أسمع حديث الرجال فقد كانوا بعيدين عني قليلا. حاولت التركيز في حديث أمي وعمتي التي لم تتوقف عن الكلام، وكانت أمي تهز رأسها فحسب، سمعتها تتحدث بلا توقف عن الحياة في قطر، وعن الرفاهية في السيارات والقطارات والأسواق والمهرجانات، وعن الهدايا التي يجلبها لهم ابنها من هناك. شعرت بملل شديد، قمت إلى المطبخ فلحق بي سعيد، سألني: «ما بك؟ هل تشعرين بما أشعر به؟» قلت: «وبم تشعر؟» قال: «بالملل الشديد، من عمتك التي لا يهدأ لسانها، ومن ابنها المتحاذق، ومن أبيه الأحمق.» ضحكت من وصفه لهم، وسررت لوجوده إلى جانبي وإحساسه بي، وشعرت في داخلي بالامتنان الكبير له، حينها دخلت أمي وقالت: «القهوة، أسرعي بها.» شرعت بإعداد القهوة، وظل سعيد معي يدعمني وجوده، وحين حملت الصينية لأخرج، حملها عني وقال: «أنا سأقدمها لهم، وأنت عليك أن تكوني قوية وسأكون إلى جانبك، تأكدي من ذلك.» أخذت نفسا عميقا وشعرت بالراحة والقوة ومشيت خلفه ودخلنا الغرفة.
باشر أخي بتقديم القهوة لزوج عمتي فقال: «أما وقد جاءت القهوة، فدعونا نتحدث في المهم.» وما إن جلست حتى انبرت عمتي تحاول أن تخلق جوا من المرح فقالت: «لا تتعجل يا أبا سامر؛ فالبنت هنا، والبنات يخجلن، صحيح؟» ووكزتني في معدتي محدثة ضحكة عالية مصطنعة، همست لي أمي: «اذهبي إلى أختك وأطعميها.» وحين هممت بالنهوض، أسرع أبي بالقول: «اجلسي يا بنتي؛ فالكلام يخصك أنت.» عدلت من جلستي، وأسندت ظهري وأنا أشعر بإحراج شديد، قالت عمتي: «كما تعلم يا أخي فابني سامر، الله يخلي لك أولادك، يعمل في أضخم الفنادق في قطر، ويتقاضى راتبا ممتازا، وقد استأجر بيتا رائعا في بناء فخم وإطلالة جميلة، وقد ...» قاطعها أبي قائلا: «سبق أن حدثتنا بهذا يا أم سامر.» فقال زوج عمتي متداركا الموقف: «نعم، نعم، ونحن هنا لنطلب يد ابنتكم المصون لابننا على سنة الله ورسوله، وقد سبق أن وعدتنا خيرا، واليوم أتينا لقراءة الفاتحة، والاتفاق على باقي الأمور.» تمتمت في سري وقلبي يرتجف: «أي خير؟ وأية فاتحة ؟» نظرت إلى أخي سعيد مستنجدة، فوجدته بدوره ينظر إلي أيضا، أشرت له بعيني أن قل شيئا، فقال أبي على الفور: «أهلا بكم في بيتكم وبين أهلكم، أما السؤال الذي سألتموه فاسمعوا جوابه من صاحبة العلاقة، ها هي أمامكم فاسألوها.» حملقت عمتي عينيها وقالت: «منذ متى يكون للصغار كلام في حضرة الكبار؟ ما هكذا ربانا والدنا يا أخي، أم أنك نسيت الأصول؟» قال زوج عمتي: «بل عين الصواب والأصول، دعينا نسمع منها رأيها؛ فهي العروس والقرار قرارها.»
صمت الجميع وتحولت أنظارهم إلي، شعرت بحرارة في وجنتي، قالت عمتي مقرة: «ها، السكوت علامة الرضى.» قال زوجها بنزق: «اسكتي يا امرأة، دعيها تتحدث.» أخذت نفسا ونظرت إلى عمتي وقلت: «عمتي، لن أنسى أبدا كم كنت وما زلت كريمة معنا، وكم كنت أحب اللعب في فناء بيتكم مع بناتك اللاتي هن أخواتي، وستظلين كذلك، إلا أنني في الحقيقة لا رغبة لدي بالزواج في الوقت الحالي؛ فما زلت صغيرة.» ضربت عمتي على فخذها انزعاجا، بينما أشاحت أمي وجهها، وظل أبي بلا انفعال، وساد السكون لحظات، ثم قالت عمتي: «جيل آخر زمن، وما العيب فينا وفي ابني؟ ألف بنت تتمناه.» فقال أخي سعيد: «لا عيب فيكم عمتي، أنتم خيرة الناس، وها قد سمعت جوابها: ما في نصيب.» قال أبي قبيل أن تنطق عمتي التي قامت واقفة تستعد لإكمال الحرب: «إلى أين يا أختي؟ وأنت يا ولد الزم أدبك.» قالت: «أيرضيك ما سمعته منهما؟» حرك أبي يديه وذراعيه أن ما باليد حيلة. قام زوج عمتي ممسكا بيد ابنه وقال: «هيا بنا، بيتكم عامر، السلام عليكم.» خرجت عمتي وانتشلت باقة الورد معها وأخذت تردد: «ستندمون، لن تجدوا أفضل من ابني، دعوها عندكم حتى تعنس.» وزوجها يسحبها ويقول: «اسكتي يا امرأة، اسكتي.»
أما إن سألتموني عن ابن عمتي العريس سامر وماذا فعل في كل هذه الأحداث؟ فسأجيبكم بلا شيء، نعم، لم ينطق بكلمة، ولم يغضب، أو ينفعل، فقط عندما مر من جانبي نظر إلي باحتقار.
وهكذا انتهى كابوس عمتي وابنها والزواج على خير، تنفست الصعداء، وشكرت سعيدا على دعمه لي. وهنا عاد أبي إلى الغرفة بعد أن شيع عائلة عمتي، وقال وهو يرفع إصبعه متوعدا: «ها نحن نخسر بيت أختي بسببك، هذه المرة تركتك على راحتك، لكنها الأولى والأخيرة، ما تريدين الزواج يا بنت؟» وخرج.
7
سعيد، أخي الكبير، يكبرني بأحد عشر عاما، يشبه جدي لأمي كثيرا، مربوع القامة، شعره أسود مموج، ووجهه مدور وكذلك أنفه، عيناه بنيتان صغيرتان ورثهما عن جدي، وبشرته حنطية، كان شكله يتغير كثيرا من عام إلى عام، ويزداد وسامة كلما تقدم في العمر، وكأنه ينضج على مهل فتظهر حلاوته شيئا فشيئا. هو أخي وصديقي وأبي، صاحبني أيام طفولتي، وعلمني كثيرا، وعوضني عن حنان أبي الذي كان حاضرا غائبا. أذكر مرة أنني دخلت إلى البيت عائدة من المدرسة، فوجدت أبي في البيت على غير العادة، نظر إلي باستغراب كبير وقال: «لماذا يا بنت غيرت لباسك المدرسي؟» ظننته مازحا فضحكت، لكن ملامح وجهه الجامدة جعلتني أوقن أنه كان جادا، كانت أمي هي من أجابته: «البنت صارت في الثانوية، ما تريد لها أن تكبر؟» رمش بعينيه وظل صامتا، كيف يعلم في أي مرحلة أنا، وجل وقته انصب على تجارته التي هي إرث العائلة الثمين؟ ابتعد عنا كثيرا، وأنا نأيت بنفسي عنه أكثر، والتصقت بأخي سعيد الذي رحل قبل عام، ففقدت برحيله جدار الأمان الرجولي الذي كنت أستند عليه، أكان عليه أن يتركني؟ وأنا إلى من ألتجئ؟ اليوم أشعر بحاجتي إليه أكثر من أي وقت مضى. صحيح أنه يتصل بي ويراسلني بشكل شبه يومي، لكن ما عدنا كما كنا، حلت اللهفة لسماع صوته محل السكينة للحديث إليه، ونازعني فيه والداي وإخوتي، بعد أن كنت أستأثر به وحدي، أصحيح كما يقولون إن البعيد عن العين بعيد عن القلب؟
كنت أختلف عن سعيد في كثير من الأمور، هو يبسط، وأنا أركب، هو يحزم، وأنا أتردد، ومع ذلك كنت أطمئن للحديث إليه، وأعلم أنه سيفهمني جيدا كما أنا، لا كما يريد أن يتصور هو. بعد الثانوية التحق سعيد بمعهد تجاري هربا من الخدمة الإلزامية لا حبا في التعليم، وللسبب ذاته رحل عنا. كان يمثل لي الجانب المتزن الصارم من الحياة، لا أذكر أنه خرج للعب مع أصدقائه، أو في سهرة شبابية، ولم تكن لديه هواية يمارسها، ولم ينتسب لأي ناد رياضي ولا يتابع مباريات كرة القدم المهووس بها أخي نادر. كان يستجيب لمطالب أبي بلا جدال، وكان أبي يحبه ويفضله على نادر. لم يرسب في أية مادة في المعهد، بل كان ينال أعالي الدرجات على الرغم من نفوره من التعليم؛ الأمر الذي طالما حيرني.
ذات ليلة وجدت غرفته مضاءة إضاءة خافتة، اقتربت من الباب، أصغيت، وسمعت نحيبا يخترق القلب، هممت بالدخول لكنني امتنعت حفاظا على خصوصيته وعلى نفسي؛ فما كنت أقدر على تحمل رؤيته في هذه الحالة. في الصباح عاد سعيد إلى طبيعته، رباه! إنه يضحك ويثرثر كما لو أن ما حدث البارحة من نسج خيالي! أيعقل أن يكون وراء هذا الجلد والحزم قلب رقيق يبكي بحرقة؟ ولماذا؟ سافر سعيد، وسافر سره معه بعيدا.
أما أخي نادر فهو يكبرني بأربعة أعوام، وهو على عكس سعيد؛ فمنذ ولادته كان جماله يخطف الأبصار، هكذا حدثتني جدتي، شعره أشقر ناعم، وعيناه واسعتان عسليتان وبشرته بيضاء متوردة. ظهرت معالم رجولته باكرا فكبر دفعة واحدة، وازداد طولا حتى إنه يضطر لثني رقبته في غرفة الضيوف ليتجنب كريستال الثريات المدلاة من السقف، وهو الوحيد الذي نعتمد عليه كلنا في جلب غرض علق في الأعلى، أو لإحضار ماكينة «الكبة» التي تحفظها أمي فوق خزائن المطبخ.
كان نادر حبيب جدتي لأبي فهو يشبه كثيرا زوجها المتوفى الذي رحل عنها وهي لا تزال صبية في الثلاثينيات وكانت قد أنجبت أبي وأعمامي الثلاثة، من يومها عزفت جدتي عن الزواج ونذرت نفسها لتربيتهم. كانت سيدة قوية، ولا تزال كذلك إلى اليوم؛ فعلى الرغم من أنها تجاوزت الثمانين عاما فهي لا تزال تقضي كل احتياجاتها بنفسها، حتى فنجان القهوة الصباحية لا يمكن أن تشربه إلا إذا أعدته هي شخصيا؛ فلا أحد يعرف كيف تغلى القهوة «على الأصول» بحسب رأيها.
ولأن نادرا يشبه جدي فقد أحبته جدتي وفضلته علينا، كانت تميزه بقبلاتها وإطرائها وتشتري له أجمل الثياب والهدايا، حتى إنها لم تسمح لوالدي بأخذه معه إلى العمل، وكان أبي يقول لها دوما: «لا تفسدي الولد يا حاجة.» لكن تنبيهاته لم تكن تجدي نفعا، فنشأ نادر مدللا متواكلا، لكنه كان متوقد الذكاء نبيها، إلى جانب وسامته وطوله مع كتفين عريضين وشعر أشقر ناعم.
كنت أتشارك مع نادر في الشغف بتربية الحيوانات وجلب مختلف أنواعها إلى البيت؛ قطط ضالة، وسلاحف صغيرة، وعصافير ملونة، وأرانب، وصيصان. وكان سعيد يوبخنا بقوله: «حرام عليكم، دعوها تعيش بحرية.» وكان يرد عليه نادر: «لو تركناها لماتت فورا، على العكس نحن نطيل أعمارها ونعتني بها.» وكنت كلما نفق أحدها وجدت نفسي أدخل في حالة من الحزن والكآبة الشديدة، وخاصة تلك السمكة الذهبية التي ما زلت إلى اليوم أذكر كيف وجدتها طافية على سطح الماء وقد فارقت الحياة. أصبت يومها بغثيان تبعه إعياء وإقياء حتى إن أمي حلفت على نادر بعدم إحضار أي نوع من الحيوانات بعدها، لكنها كفرت عن يمينها بعد أيام بالطبع.
وعلى خلاف توقعاتنا جميعا فقد أحب نادر الدراسة، وكان ذكيا ينال أعلى الدرجات بأقل مجهود، وبعد الثانوية العامة اختار نادر قسم الكيمياء الحيوية. كان رأسه مزروعا بأفكار جدتي التي طالما ذكرتنا وتظل تذكرنا أن لنادر مستقبلا علميا مرموقا، وأن العمل والتجارة لا تناسبان وجهه الجميل. وهكذا نشأ نادر طفلا مدللا وشابا مجتهدا، لا أدري كيف اجتمعا، لكنني أعلم أنه طالما أغاظني، وكنت الوحيدة التي تعانده وتتشاكل معه.
أما فاطمة أختي الصغرى، التي جاءت إلى الدنيا خطأ، بحسب رأي جدتي حين علمت بحمل أمي بها، فهي بمثابة ابنتي؛ فقد شهدت ولادتها وساهمت كثيرا في تربيتها، وكانت ولا تزال مثل فلقة القمر تفوق بجمالها أخي نادرا، وجهها مدور، وبشرتها ناصعة البياض بعينين زرقاوين وشعر أشقر مجدل. وكثيرا ما كنت أسمع جدتي تحدث عماتي بأن فاطمة سينطلق نصيبها قبلي نظرا لجمالها، ربما؛ فما كنت أملك بشرتها الناصعة، ولا شعرها الأشقر اللامع.
8
ذات مساء عدت إلى رواية «الخيميائي» أحاول أن أستعيد توازني الذاتي، استحضرت بعض عباراتها التي أثرت في أكثر من غيرها: «كل كائن على هذه الأرض يؤدي دورا أساسيا في كتابة تاريخ هذا الكون، لكنه لا يدرك شيئا من هذا الواقع.» فكرت قليلا، ربما هذا غير صحيح تماما بالنسبة إلى الناس كلهم، أما عن نفسي فأريد أن أصنع شيئا مميزا؛ فقد مللت من كل الأمور العادية التي تحدث معي ومع الآلاف غيري في هذا الزمن وفي الماضي، وستتكرر هي نفسها في المستقبل. شعرت أننا نسخ متكررة لنمط واحد، تخيلت مئات الفتيات يتزوجن بأبناء عماتهن أو أعمامهن، ينجبن، ويربين، وينجبن المزيد ويربين ويكبرن ويشخن ويمتن. كنت سأكون واحدة منهن لولا أن الشجاعة كانت حليفي في المرة الماضية، وكم أخشى أن تخونني في المرة القادمة. حسنا، وماذا بعد؟ ماذا عن أحلامي؟ عن حريتي؟ عن حبي؟ ماذا عن أسطورتي الشخصية؟ لكن ألا أريد أن أتزوج وأنجب ويكون لي بيت خاص وأسرة سعيدة؟ فتحت الفيسبوك وكتبت:
العقبات في الطريق كثيرة، واحدة تزيحها لتكمل، والأخرى تبقيها لتصعد.
شعرت برغبة كبيرة في لقاء جدو نور، لم أفكر كثيرا، هاتفته على الفور، فوافق على حضوري، جهزت نفسي وأختي، حملت الكتاب وخرجت.
كان في انتظاري خارج منزله، سلمت عليه، فناولني مفتاح بيته، وقال: «خذي، سأغيب قليلا، لن أتأخر، ادخلي المكتبة وتصرفي كأنك في بيتك، إلى اللقاء.» وقبل أن أنطق وجدته قد رحل، شيعته بنظراتي، كان يمشي بخطوات عريضة وسريعة، عجبت له بالنظر إلى كبر عمره. توجهت إلى العمارة، فتحت الباب بحذر شديد، فأصدر أزيزا مزعجا، دخلت وأغلقته خلفنا، وكأنما تملكني شعور بالحذر الشديد فأخذت أمشي بخفة على الأرض وأومئ إلى فاطمة بالسكوت. لم أسأل مرة جدو نور عن عائلته، هل زوجته نائمة الآن؟ ماذا عن أولاده؟ تذكرت أنني لا أعرف شيئا عنه، وفي المرات التي زرته فيها، لم أر يوما أحدا آخر في بيته. أخذت أتخيل كيف سيكون موقفي لو دخل علي الآن أحد أفراد عائلته، ليتني لم أقبل الدخول إلى بيته بعدم وجوده، لكن هذا لا ينفع الآن.
دخلت إلى المكتبة، كانت معتمة كالعادة، فتحت الستائر فالتمع الخشب تحت ضياء النهار. وضعت أغراضي على الطاولة المستديرة، وأعطيت أختي أوراقا وأقلام تلوين، وتوجهت ناحية المكتبة حيث قسم الروايات. كانت الأرفف نظيفة تماما، نظرت إلى الأعلى ووقفت على رءوس أصابعي، لكنني لم أستطع الوصول إلى الرفوف العليا. سحبت كرسيا ووقفت لألقي نظرة، المزيد والمزيد من الروايات لكنها قديمة وشبه مهترئة. توقف نظري عند رواية ضخمة «البؤساء» تذكرت أنها رواية مشهورة من الأدب العالمي، علي إذن أن أقرأها. سحبتها ونزلت ووضعتها على الطاولة، بدأت في قراءتها، وحين وصلت حتى الصفحة الثلاثين فكرت في أن لدي الوقت الكافي في البيت لإكمال القراءة، أما الآن فعلي أن أكتشف المزيد. استثارني الفضول لأعرف أكثر عن جدو نور، كان هناك مكتب صغير يقبع في إحدى الزوايا، عليه صدفة كبيرة، ومصباح ومنفضة والكثير من الأوراق. نظرت إلى الأسفل وإذا بثلاثة أدراج، هل أفتحها؟ سيكون ذلك تصرفا سيئا، لكن سألقي نظرة واحدة فقط، لن ألمس شيئا، وهكذا أقنعت نفسي بفتحها، فتحت الدرج الأول وإذا به المزيد من الأوراق وكتاب بلغة أجنبية، أغلقته وفتحت الثاني، وجدت علبة مخملية خضراء باهتة اللون، ومن غير تردد فتحتها، يا إلهي! ما هذا؟ لم تقع عيناي على أجمل مما أرى! كانت قلادة فضية يتوسطها حجر أزرق بلون السماء رائع الجمال، أمسكتها بيدي فأخذت تلتمع تحت أشعة الشمس، وتتوهج بأنوار مختلفة الألوان.
في هذه اللحظة، سمعت طرقا على الباب، ارتجفت للصوت، فوقعت القلادة من يدي، وبسرعة أعدتها إلى مكانها، وأغلقت الدرج، وركضت نحو الباب وأنا أرتجف خوفا. فتحت الباب، واصطنعت ابتسامة لأخفي توتري الشديد، سلم علي جدو نور ودخل متجهما، جلس على الكرسي الهزاز وظل واجما.
أتراه اكتشف فعلتي؟ هل كان يختلس النظر من النافذة، ظل صامتا ساهما دقائق حتى كأنه انتبه لوجودنا فرفع رأسه وتكلم مع فاطمة وناداها فأتت إليه فأجلسها على حضنه ومازحها، أخبرته عن القلم الذهبي وكيف أن سحره انتقل إلى يدها فتمكنت من الكتابة، أظهر القليل من الحماسة، ثم التفت إلي وقال: «ما أخبار قراءاتك؟» «جيدة» أجبته بسرعة، فتمتم: «جيد.» ولم يقل بعدها أي شيء. كنت في حيرة منه ومن نفسي، لم يكن على عادته، ولم أكن أنا أيضا على طبيعتي؛ فقد كان الخطأ الذي ارتكبته مكتوبا على جبيني، أحسسته يرشح مني، فقررت الهروب قبل أن يسألني أي شيء. أخرجت رواية «الخيميائي» من حقيبتي، أعدتها إليه وقلت: «شكرا لك لقد أنهيتها.» قال: «حقا؟ أعجبتك؟» أجبته: «كثيرا، أود الحديث عنها معك لكن ذاهبتان الآن.» رفع يده مودعا، وهكذا خرجنا، ولم أكد أرى السماء حتى تنفست ارتياحا، أعادها إلي وقال: «قراءة ممتعة.» فلملمت أغراضي وأمسكت بيد فاطمة وقلت: «شكرا لك، نحن في وقت لاحق ربما.» فقال: «ربما.» نظر إلى يدي الأخرى، كنت أحمل رواية «البؤساء»، بادرته بالقول: «سأستعير هذه من بعد إذنك.» أمسكها وراح يتأملها لحظات وهو يبتسم بشرود، ثم وكأنني نجوت من عقاب محتم، مشيت إلى البيت وشيء واحد يشغل بالي «القلادة ذات الحجر السماوي».
9
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كان نادر يسير مع أصدقائه في أحد شوارع حي الشهباء الراقي، كانوا يتناولون المثلجات، ويحتفلون على طريقتهم، فقد أنهوا صباح اليوم امتحانات الثانوية العامة. صحيح أن النتائج لم تظهر بعد، ولا يدري نادر ولا أصدقاؤه ما إذا كانوا قد نجحوا أم لا، لكنهم مع ذلك يحتفلون تفاؤلا بنجاح غير مؤكد، أو خلاصا من شبح الامتحانات الذي جثم طويلا على صدورهم، وعلى صدر كل بيت فيه طالب ثانوية «بكالوريا».
كان الليل حلوا كحلاوة المثلجات وكحلاوة مشاعر شباب استقبلوا للتو أول عطلة صيفية لهم بعد انتهاء رحلة المدرسة الطويلة التي استهلكت طفولتهم وشيئا من شبابهم. كانوا يتحدثون عن الحياة الجامعية، عن الصبايا الجميلات اللاتي سيتسنى لهم لأول مرة الاجتماع بهن، عن الرحلات والمغامرات الموعودين بها في الجامعة أو في المعهد على أقل تقدير. كان نادر الوحيد من بينهم صاحب الخبرة الأكبر في هذا المجال؛ فكثيرا ما كان أخوه الذي سبقه إلى المعهد يحكي له الحكايا، وكان بدوره ينقلها لأصدقائه مازجا الكثير من الخيال مع القليل من الحقيقة. أخذ نادر يلتقط لنفسه ولأصدقائه صورا بالكاميرا الرقمية الجديدة التي حصل عليها مؤخرا من خاله المقيم في أمريكا، كانت كاميرا حديثة بتقنيات متطورة. اتخذ نادر مع أصدقائه وضعيات كثيرة لالتقاط الصور؛ استلقوا على الشارع، حملوا واحدا منهم على الأكتاف، تسلقوا جدران إحدى الفلل الفاخرة، وراحوا يراجعون الصور ويضحكون.
كان الشارع خاليا إلا من نسمات صيفية باردة وأصوات ضحكاتهم، وكأنما احتجت أرواح الأرصفة والأشجار والأبنية على فرحهم الطاغي، فاستجاب لها حظهم العاثر، وكان أن عبروا أحد الشوارع الخالية، ومثل حب يأتي على غفلة ظهرت سيارة فارهة تشق الطريق، وفي لحظة واحدة شهقت فراملها مصطدمة بنادر فأوقعته أرضا، وتوقفت.
التم الأصدقاء بصراخهم وصيحاتهم حول نادر، لكن إصابته لم تكن خطيرة؛ فلم تكن السيارة مسرعة على أية حال. استشاط أحد الشباب غضبا، فاتجه إلى السيارة سبا وشتما، في هذه اللحظة فتح بابا السيارة دفعة واحدة وظهر رجلان، فابتلع الجميع ألسنتهم من مظهرهما المميز، وتراجع الشاب الغاضب محتميا بأصدقائه المجتمعين حول نادر الذي ابتلع بدوره ألمه وصمت. «من تفكر نفسك يا ولد؟» قال أحدهما من خلف نظارته السوداء بصوت أجش بينما اكتفى الآخر بوضع يديه خلف ظهره وهو ينظر يمنة ويسرة، وقبل أن ينطق نادر بكلمة عاجله الرجل بقوله: «هات ما بيدك.» ولم ينتظر أيضا، إنما أشار إلى صاحبه بإيماءة من رأسه، فانقض الآخر عليه على مرأى من أصدقائه الذين انشلت حركتهم وألسنتهم تماما لهذا المشهد الذي ما كانوا يتوقعون رؤيته إلا في مسلسلات الكوميدية. وفي أقل من دقيقة كانت كاميرا نادر في يده. - ما هذه؟ - كاميرا. - ماذا تصورون؟ - آنا، أنا وأصدقائي نلتقط صورا لنا. - هات هويتك. - نعم؟ - هويتك يا ولد.
مذهولا أخرج نادر محفظته وناوله هويته، فانتشلها من يده، تفحصها جيدا، واتجه وصاحبه إلى السيارة، مد نادر يده وصرخ: «لكن يا سيدي، الهوية الله يوفقك.» لم يجب الرجل بل التفت مع صاحبه عائدين إلى السيارة، وزمجر المحرك بصوته، وانطلقت السيارة بمحاذاة نادر الذي ما يزال غارقا في الدهشة.
دخلت العائلة بعدها في دوامة لمدة أشهر طويلة لاستعادة الهوية، في خلالها انتهت مدة التسجيل في الجامعة، وتأخر نادر بسبب ذلك سنة دراسية كاملة. وفي خلالها أيضا جند والد نادر لهذه المهمة كل الوسائل التي يطولها من وساطات ومعارف لاسترجاع الهوية.
وبعد كثير من الجهد عادت الهوية؛ فبعد أن سلك والد نادر كل الطرق التي يطولها تبين له أن الطريق الوحيد الذي لم يسلكه هو الأصلح؛ فقد تمكن من لقاء ضابط ذي رتبة عالية، وأخلاق طيبة على خلاف الذين التقى بهم سابقا، وقد تفهم الموقف جيدا وفي الأسبوع نفسه عادت الهوية. وحين علم الضابط بالقصة وعد بمعاقبة الشخصين اللذين قاما بإيذاء نادر واحتجاز هويته.
وصحيح أن نادر عاد إلى الجامعة، وانتهى كابوس المعاملات والأوراق والطوابع والرشاوى، وعاش نادر سنواته الجامعية بشكل اعتيادي، لكنه ما كان يدري أن شيئا ما كان ينتظره في أكثر لحظات حياته حسما، وأن النار التي اعتقد أنه أخمدها كانت لا تزال مختفية تحت الرماد تنتظر الشرارة الأخيرة لتشتعل وتحرق كل شيء.
10
في الأسابيع التالية ذهبت مع أمي إلى الدرس الديني، كان على عادته، النسوة والآنسة والمواعظ. قررت أن أواظب على الحضور، لكنني هذه المرة لا أريد أن أهزم أحدا، أو أن يهزمني أحد، أريد أن أعرف أكثر وحسب. رأيت تلك الفتاة النحيلة، كانت تبتسم كلما نظرت إليها، وكنت أبادلها الابتسام.
ثم عدت إلى قراءتي لرواية «البؤساء»، التي كانت طويلة، فاستغرقت أياما لإنهائها. كانت تتحدث عن الظلم الاجتماعي في فرنسا في القرن التاسع عشر، أحببتها، شعرت باختلافها عن كل ما قرأت، وعرفت كيف استحقت أن تكون من الأدب العالمي. من أجمل عباراتها: «أنت تنظر إلى النجم لسببين؛ لأنه متلألئ، ولأنه غامض لا يرقى إليه الإدراك.» هكذا هي الأحلام، تشدنا بروعتها وسحرها، ثم تغيب مع ضوء النهار لتعود إلى البريق ليلا حين ينام كل شيء، ولا يبقى سوانا، تجابهنا بحقيقتها، وتذكرنا بروعتها، وتتحدانا لبلوغها.
حين وصلت إلى الصفحات الأخيرة من الكتاب وجدت ورقة مطوية بإحكام، كانت رقيقة ومخبأة جيدا بين طيات الكتاب، انتزعتها برفق حتى لا تتمزق؛ إذ يبدو أنها ملتصقة بالصفحات بفعل الرطوبة. عاودني الفضول مجددا، لكنني الآن أكثر شعورا بالأمان، وأبعد عن التردد، فتحتها بحذر، كان الكلام واضحا مكتوبا بخط دقيق بقلم أزرق جاف وقد كتب في الأعلى: «كتاب الوداع»، وهذا نص الكتاب:
أكتب إليك كتابي هذا، والدمع يمنع عني الرؤية، فأجد صعوبة في تمييز الأحرف والكلمات، أعرف تماما ما أود قوله لك، في جعبتي الكثير، وفي قلبي ألم كبير. سأختصر لأقول: اشتقت إليك، وشوقي يقتلني. لو كنت بعيدا عني لهان ذلك، لكنك بجانبي، تنظر إلي، تسمعني، تحدثني، وأظل أشتاقك وأنا أقرب ما أكون إليك. ليس شوقا عاديا، إنه شوق ممزوج بيأس، وحب ممزوج بكره، لست أدري كيف اتفق هذا، لكن هذا ما يجول في نفسي ويأكل روحي. الألم ينخر كل زاوية في، في جسدي وروحي وعقلي. أشعر أن الكون ينهار على رأسي وأنني في عتمة تامة، إنه ألم محض يكويني لكنه للأسف لا يزهق روحي. أكرهك لأنني مجنونة بحبك، أكره حبي لك، وددت لو أن لي القدرة على إلغاء ذاكرتي، لو حصل هذا لكان من أكبر النعم علي. أعترف أني خطر ببالي مرة أن ألقي بنفسي أمام إحدى السيارات المسرعة حتى أتخلص من الشعور بك!
أواه أواه! كيف يبلى القلب ممن يهواه؟
أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني. يا قلعة حلب، يا جامعها الأموي، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءا من آلامي، خذوني إليكم، ضموني بحنانكم؛ فأنا متعبة. ما لي أجد الكلمات تنثال على الورقة بلا توقف؟ وكأنما يتوالد الشعر حين يحتضر الحب وتكثر خيباته؟ وداعا، أقولها لك لأن الشوق يأكلني. وداعا حفاظا على روحي، علني ألقاك يوما أو لا ألقاك لست أدري، سأترك الأقدار تفعل ما تشاء.
حلب، 13 آب ، 1994م
تأملت الورقة طويلا، وأعدت قراءتها مرات عديدة، شعرت بالأسف تجاه كاتبتها، من تراها تكون؟ ماذا فعل جدو نور بعد أن قرأ هذه الرسالة؟ أي ألم يفيض من الكلمات! كم كانت جريحة؟! هل عادت إليه أم لا؟ أتراه ظلمها؟ أم ماذا؟ ثم شعرت بشيء غريب، أحسست بمسئوليتي تجاهه، أن علي أن أفهم أكثر وأعرف أكثر، لكن الرسالة مضى عليها ستة عشر عاما تقريبا، إنها فترة طويلة جدا، ماذا علي أن أفعل؟ هل أتجاهل الموضوع وأعيد الورقة إلى مكانها وكأن شيئا لم يكن؟ أم أسأله عنها؟ نظرت في التاريخ مرة أخرى، الثالث عشر من شهر آب، نظرت إلى التقويم، قلبت الأوراق الماضية، الثالث عشر من آب! إنه اليوم الذي ذهبت إليه المرة الماضية، هل هذه مصادفة حقا؟ وهل لهذا علاقة بمزاج جدو نور السيئ ذلك اليوم؟ تذكرت القلادة ذات الحجر الأزرق السماوي، وعاد إلي الفضول، كتبت في الفيسبوك:
أن تكون فضوليا يعني أن تقع في المتاعب، وفي المعرفة أيضا.
الفصل الثاني
1
1986م
وكم أعجب من قرطها اللؤلؤي، حبتان من اللؤلؤ لا تفارقان أذنيها، أتراهما تهمسان لها من الغزل والدلال بالقدر الذي يرضي غرورها فلا تخلعهما؟ أيعجز الإنسان أن يبتكر من معاني الحب والجمال ما يضاهي به حبتي لؤلؤ؟ أم أن البريق الذي تمنحانه لها آثر عندها من حبي البائس؟
ويا لحظ ذلك الخاتم الذي يلف إصبعها ويتوسط كفها اليمنى! أتراني أبتذل الكلمات حين أغبطه وهو يلامس حلاوة شفتيها، ويستريح على حرير وجنتيها؟ ويرقبها وهي تسبح في بحر النوم متنقلا بين خصلات شعرها؟ ما لي ولهذا الخاتم؟ ولم يثيرني؟ وأنا من يشغل حيزا من تفكيرها، لا هو، أحقا أكون كذلك؟ أتراني أخطر على بالها؟
أنهى القراءة وأخذ يرمق أثر كلماته عليها، لكنها كعادتها ظلت تبتسم، رفعت يدها إلى أذنها تداعب قرطها اللؤلؤي في حركة ساهمة، وانحنت برأسها خجلا إلى الأمام أكثر، فانثالت خصلة من شعرها المموج على وجهها حاجبة عنه رؤيته، يا للروعة! كيف يمكن للجمال أن يختصر في انحناءة، وطيف ابتسامة ، وخصلة شعر تعبث في قلب ولهان؟! وكيف للحب أن يسري في يده التي تزيح خصلة الشعر عن وجهها فتعاود الانسدال، وتعاود اليد حركتها، والحب يتردد ما بين رفع وانسدال؟!
وها إن اليد قد قاربت الوجنة الوردية كثيرا فما ضرها لو لامستها؟ لتحس بالنور الساحر المنبثق عنها، لتغوص في العذوبة وتذوق حلاوتها الطاغية؟ وبظاهر أصابعه حاول الملامسة لكنها أشاحت بوجهها هامسة بنبرة عتب حلوة: «نوار!» من الجيد أنه لم يفعل، كان يفكر وهو يرقب وجنتيها اللتين هما من الرقة والعذوبة بحيث لو لامسها النسيم لتسبب في جرحها، فكيف بيده؟ وها قد ازداد ورد الوجنتين حمرة وألقا، وزاد في قلبه ولها وإكبارا وعشقا، فابتعد عنها إلى الوراء خطوة، واقترب منها في روحها رتبة، وقال: «ها، ما رأيك؟» فقالت بدلال: «بماذا؟» فتجاهل سؤالها وأجاب على دلالها: «بحبي؟» فارتمت أروع الألحان وأجمل النغمات في صوتها فضحكت فرحا، وضحك هو طربا.
شهران مرا، والسعادة تتهادى على مهل بين قلبيهما، يلتقيان في الزمان؛ فكل الزمان لهما، ولم العجلة؟ قلب أنثوي رقيق كرفة فراشة تناغم مع روح رجولية شغوفة كدهشة طفل. ويتواعدان في أي مكان؛ فكل مكان لهما، والحب خلاق، يتوجهما ملكين فيتلاشى كل شيء؛ ما كان وما سيكون، الأسباب والعلل والنتائج، الحركة والسكون، ويمحو في عينيهما كل شيء سواهما، يصبحان ويمسيان ولا أحد أسعد منهما؛ فحبهما نادر لا مثيل له، وكذا شأن المحبين.
2
في اليوم التالي قررت الذهاب إلى جدو نور؛ فقد مضى على زيارتي الأخيرة له عشرة أيام، هاتفته فلم يرد، لكنه عاود الاتصال بي. كان مرحا هذه المرة ورحب بحضوري، وفي المساء خرجت مع فاطمة وذهبت إليه.
استقبلنا بوجهه المبتسم الذي يبعث على الارتياح، وقادني إلى المكتبة، فوجدت فيها شابين وفتاة. تفاجأت وشعرت بالإحراج، ترددت في مشيتي، فأحس بذلك فقال: «تعالي، لا بأس، هؤلاء بعض طلابي، من أفضلهم في الحقيقة، تفضلي أعرفك عليهم؛ أنس، وعبد الله، وإنجي.» ونظر إلي وقال: «وهذه سماء وأختها فاطمة، أيضا هما من أفضل الجيران، أسماء تحب القراءة وتأتي لتستعير من عندي بعض الكتب.» لست أدري لم شعرت بخجل كبير، ابتسموا لي وأطروا علي، وبادلتهم الابتسامة لكن لم أكد أنظر إليهم. وإنجي لم تكن ترتدي الحجاب، لكن ثيابها كانت جميلة جدا، كانت ترتدي تنورة طويلة بيضاء، وسترة ملونة مزهرة، وكانت تضع وشاحا سماويا، آه! السماوي مجددا؟ كان شعرها أسود منسدلا على كتفيها، كم كانت جميلة! شعرت تجاهها بشيء من الإعجاب والنفور في آن معا، صافحتني وقالت: «في أي صف أنت؟» قلت: «نجحت من الثانوية العامة أدبي.» قالت: «رائع، وأي اختصاص اخترت؟» فأحسست بغصة، وأخذت الحرارة تنبعث من وجهي، فسارع جدو إلى القول: «الحقيقة أنها لم تسجل بعد ولم تقرر. سعدت بوجودكم، أتمنى أن تطلعوني على ما تنجزونه مستقبلا، أراكم غدا في الجامعة.» وهكذا ودعهم ورحلوا.
كم كان لطيفا! قلت له بعد رحيلهم: «أشكرك.» قال: «على ماذا؟» أجبته: «على إنقاذك لي.» حرك يده وقال: «آه، لا داعي، هل أنهيت الرواية؟» أخرجتها من حقيبتي وقلت: «بالتأكيد، تفضل.» وأعدتها إليه، والرسالة في مكانها الذي كانت فيه. أخذها من يدي ووضعها على الطاولة، وقال: ها، هل من جديد تحبين أن تطلعيني عليه؟ كنت المرة الماضية تودين الحديث عن الخيميائي، صحيح؟ - نعم، في الحقيقة أعجبتني كثيرا، لكنني لست أدري كيف لي أن أعرف ما هي أسطورتي الشخصية. أنت قرأت الرواية، صحيح؟ - ليس بعد في الحقيقة. - حقا؟ - نعم، ويسعدني أنك قرأتها، بإمكانك أن تحكيها لي الآن.
فكرت قليلا أحاول استرجاع تفاصيلها وبدأت أحكيها له وهو يصغي مبتسما، وحين انتهيت سألته: «والآن كيف لي أن أعرف ما هي أسطورتي الشخصية؟» أجابني: «وهل تعتقدين أن بوسعي معرفة ذلك؟ إنها أسطورتك أنت، وعليك أنت اكتشافها.» شعرت بخيبة أمل من إجابته لكنها استفزتني في الوقت نفسه فقلت: «وهل تعرفها أنت؟» التفت إلي مبتسما وقال: «بكل تأكيد.» سألته: «وما هي؟» قال: «هذا أمر يخصني.» أحسست بالقهر والغضب؛ فمن المفترض أن يعلمني لا أن يتعالى علي، ثم تذكرت أنني أملك شيئا من أسراره، العقد ذا الحجر السماوي، والرسالة، وهذان سلاحان لا بأس بهما.
تركته ومشيت نحو المكتبة لأفكر كيف أبدأ هجومي؛ فإجابته الأخيرة لي أزالت كل تردد عندي في أن أخبره بأمر الرسالة على الأقل، فلم أعد أشعر نحوه بأي أسى. ثم التفت إليه وقلت: «أريد أن أخبرك بأمر.» فنظر إلي: «تفضلي»، أكملت: «لقد قرأت الرسالة التي كانت مخبأة في الرواية: «كتاب الوداع»، وما إن نطقت بالكلمتين الأخيرتين حتى عم السكون طويلا، وطويلا جدا. عندها شعرت بندم كبير، كنت أنظر إليه، وكان ينظر إلى الأسفل، وشفتاه ترتجفان رجفة خفيفة. لم أدر ما أفعل، لقد أخطأت حتما، لكني أدركت ذلك متأخرا، ثم مشيت على الأرض الخشبية بخطوات سريعة إليه وقلت: «أعتذر منك، لكنها كانت مخبأة في الرواية فقرأتها رغما عني، سامحني أرجوك، سأرحل ولن أعود إذا كان هذا يرضيك.» ولم أنتظر رده، أمسكت بيد فاطمة وقلت: «هيا، نحن ذاهبتان.» امتنعت فاطمة وانتزعت يدها وقالت: «لا، لقد وصلنا للتو.» نهرتها وقلت: «كلا، سنرحل.» هنا نطق أخيرا وقال: «دعيها، لا بأس، بإمكانكما البقاء، لا تعتذري؛ فما حدث حدث، تعالي اجلسي، سأحكي لك قصة الرسالة.» استجبت له بخجل، وجلست في الكرسي الذي كان أمامه، وبدأ حديثه. ••• «اسمها رندة، كنت في بعثة لإكمال دراستي إلى ألمانيا، التقيتها في إحدى حدائق الجامعة، كانت جاثية على ركبتيها لتلتقط كتابها من الأرض.»
وسكت قليلا، وسرح في خياله، وكأنما يغوص في ذاكرته بعيدا، ثم أكمل: «خمنت من هيئتها أنها عربية، فتجرأت وقلت: «السلام عليكم.» رفعت رأسها وكانت لا تزال جاثية، نظرت إلي بحاجبين مرفوعين دهشة، وزهرة حمراء كانت تزين شعرها الكستنائي، وسألتني على الفور «أنت عربي؟» كان هذا أول ما سمعته منها، ثم عرفتها عن نفسي، وتحدثنا قليلا، كانت من تونس تدرس الفلسفة، تقيم مع عائلتها في برلين منذ سنوات. في اليوم التالي رأيتها في الحديقة نفسها، فجلسنا معا. وهكذا صرنا نلتقي كل أسبوع يومين أو ثلاثة نتحدث لساعات في الحديقة، كنا نتكلم عن الواقع العربي، عن وضع المرأة وعلاقتها بالرجل، عن بعض العادات الاجتماعية التي كانت تنتقدها. أخبرتني أنها تحب سورية وتتمنى لو تزورها، أعجبت بطريقة تفكيرها، بأسلوبها السريع في الحديث، وكأنما تزدحم الكلمات والأفكار في رأسها فتلقيها كلها دفعة واحدة حتى لا تنسى شيئا. وكثيرا ما كانت الأفكار تتداخل وتتوالد وتتشظى، وكنت أصغي لها في أغلب الوقت؛ فهي من كانت تتحدث أكثر. كانت مغرمة بكل شيء يتعلق بفرنسا، بثقافتها وأدبها ولغتها وطعامها، ووعدتني أن نزور باريس معا يوما ما. وفي أحد الأيام أهدتني رواية «البؤساء» هذه التي قرأتها أنت، كانت الهدية الوحيدة التي أهدتني إياها، وقد كانت نسختها الشخصية.
كانت رندة مفعمة بالحياة، تحب أن تناديني «نوار»، أنستني الغربة ووحشتها، وملأت حياتي بالحب والأمل والتفاؤل. وكان أن أحببتها، هكذا بكل البساطة الممكنة، وكلما تحدثنا أكثر أحببتها أكثر، ورحت أغوص في عقلها وأفكارها أعمق وأعمق، كانت شديدة الحساسية لكل ما يحيط بها. أحيانا كنت أعتقد أنها تمتلك حاسة غير عادية ونظرا فائقا، فترى ما لا يراه غيرها. كانت تبهرني بكلامها على الناس، وعلى الكائنات والأشياء، كانت «تروحن» كل شيء، وهذا ما زاد من تعلقي وإعجابي بها. ما زلت أذكر كيف كانت تضع يدها الصغيرة على صدري وتقول: «يوما ما سيشع نورك يا نوار.» كانت دائما تذهب للصلاة وحدها، على الرغم من أنها غير محجبة وهو ما كان يثير استغرابي كثيرا في ذلك الوقت، وكنت أنتظرها. لم أكن أصلي، ومن كان يصلي في برلين؟ فقد كنت مثل أي طالب عربي انتقل إلى أوروبا، أما هي فقد كانت متفردة لا تشبه إلا ذاتها.
بقينا سبعة أشهر وأسبوعا معا، كانت هي أجمل أيام حياتي، كل شيء فيها كان مثاليا، تراسلنا، وتحدثنا، لعبنا ومشينا كثيرا وركضنا، أكلنا وشربنا وتنزهنا، ثم رحلت.»
عندها رن جرس الهاتف، كان أبي يسأل عني، نظرت إلى ساعة يدي فوجدتها الثامنة والربع مساء، لم أشعر بمرور الوقت هنا، قال جدو: «عليكما الرحيل، والدك قلق عليك.» أجبته بأسى: «لكنك لم تكمل لي ما حدث معك.» قال: «لاحقا، ربما لاحقا.» وأردف: «خذي هذا الكتاب حتى لا تعودي خالية اليدين.» وناولني كتابا دسسته في حقيبتي وخرجنا عائدتين إلى البيت.
استقبلني أبي بغضب كبير، وأخذ يعنفني على تأخري وندمه في أن سمح لي بالذهاب، وتوعدني بألا أعود إليه مجددا، واختتم كلامه بقوله: «عار عليك، ماذا سيتحدث عنا الجيران الآن؟» وما دخل الجيران فينا؟ وعن أي عار يتحدث؟ وماذا فعلت لأستحق هذا؟ دلفت إلى غرفتي والقهر يخنقني، بكيت قليلا، كنت أظن أن أبي على حق؛ فقد تأخرت فعلا، ثم تذكرت قصة جدو نور، كان الفضول لمعرفة ما حدث معه الشاغل الأكبر لتفكيري. لم أتمكن ليلتها من النوم سريعا، أخذت أتخيل رندة وجدو عندما كان شابا، شعرت أنني أحسدها على تحررها وجرأتها، على حبها له وحبه لها، كيف لي أن أحب أحدا؟ وأنا لا أرى ولا يراني أحد؟ وها قد حرمت رؤية جدو نور أيضا! ثم أخذت أتخيل رندة بتنورتها الطويلة المزركشة، بشعرها الكستنائي المجعد، وتضع وشاحا سماويا طويلا، أين رحلت؟ ولماذا؟ كانت جميلة وممتلئة بحب صادق، لكن ما أدراني؟ وهل أعرف الحب أنا؟ كتبت في صفحتي على الفيسبوك:
ليس الحب حظا أو قطعة حلوى، لكي تعرف الحب عليك أن تحيا، ولكي تحيا عليك أن تحب.
الحياة شلال متدفق، وجود صخرة في وجه الشلال لا يعني توقفه أبدا.
3
في الأيام والأسابيع التالية تجنبت الحديث مع والدي عن جدو نور، مع أن قلبي كان يذوب شوقا لمعرفة المزيد. كنت أعلم أن الوقت لم يحن بعد، وأنني لو طلبت الذهاب فسأقابل بالرفض. كانت الأيام تسير كعادتها، أصحو من النوم لأساعد أمي في تنظيف البيت التنظيف النصف سنوي وهو ما نسميه «تعزيل». كنا ننظف كل شيء وأي شيء، الوسائد والشراشف والأثاث والجدران والأسقف والأبواب والأرضيات والنوافذ. كنا لا نتوقف إلا لتناول الطعام، وحين يكون أبي وإخوتي في البيت بالطبع، كان لا يحل الليل إلا وأنا في قمة الإنهاك، فأنام سريعا. كانت أمي تحثني على العمل بقولها: «الشغل «يجوهر» الصبية.» تعني أن أعمال المنزل تجعلني جوهرة! حسنا، لم لا؟ أما عني فكنت أعمل لسببين آخرين؛ إذ ما من أحد سيساعد أمي أولا، وثانيا لأنني قرأت أن أعمال المنزل أفضل رياضة، وكنت أحب أن أظل رشيقة وجميلة!
في أحد الأيام دخل أبي صامتا على غير عادته ورمى بظرف أبيض على الطاولة، تناولته أمي وفتحته، قطبت جبينها وناولتني إياه. قرأت وإذا به دعوة لحضور حفل زفاف ابن عمتي سامر غدا، يا إلهي! بهذه السرعة؟ علقت أمي: «أرأيت أي حظ أفلته من يديك، هل قرأت في أي صالة؟ ومع عشاء أيضا، سعيدة الآن؟ فلنر إلى أين ستأخذك أفكارك.» لم أعلق بشيء سوى أن قلت: «هنيئا لهما.» في الحقيقة أحب حضور الأعراس، أحب الموسيقى الصاخبة وأن أحدا لا يمكنه سماع أحد، وأن أرقص حد الإعياء، سألتني أمي: «وهل ستذهبين؟» أجبتها على الفور: «ولم لا؟ بالتأكيد سأذهب.»
في مساء اليوم التالي جهزت نفسي، وضعت القليل من مساحيق التجميل؛ فلم تكن أمي لتسمح لي بالمبالغة فيها. لبست حذائي ذا الكعب العالي ورافقت أمي إلى الصالة «الفخمة»، دخلنا فوجدنا القاعة شبه خالية، أين الحضور؟ لقد قارب الوقت منتصف الليل ولم تأت النسوة. هذا أفضل؛ فهو يتيح لنا الجلوس في أفضل مكان لنرى كل شيء؛ المسرح حيث يجلس العروسان، وقوالب الكعك المزينة، والساحة حيث ترقص النساء. جلست مع أمي وتحدثنا وبالكاد أسمعها وتسمعني، ومع مرور الوقت علت الأصوات أكثر فأكثر، وتوالى حضور النسوة، ولم تمتلئ الصالة حتى الواحدة صباحا؛ إذ كلما تأخرت أكثر يعني أنك أرقى و«أكابر» أكثر! لا يهم، أخذت أراقب النسوة والفتيات اللاتي يدخلن الصالة، كانت الواحدة منهن تمشي أسرع من السلحفاة بقليل، ولا تلتفت يمينا ولا شمالا، ولا حتى ترى موقع قدميها، تتبختر في مشيتها وهي تعلم أن كل الجالسات ينظرن إليها، إلى فستانها، وتسريحة شعرها، وحذائها البراق، تجلس وتنتظر أي فرصة لتتحدث عن فستانها من أين ابتاعته وكم دفعت ثمنا له، وعن الصالون الراقي الذي عملت فيه شعرها وزينت وجهها، وعن حذائها الغالي الثمن، وهي بالطبع تصرخ وتلصق فمها في أذن صاحبتها حتى تتمكن الأخرى من سماعها. كنت أراقب وأضحك في داخلي، لا سيما وهي تقف وتدور حول نفسها ليراها الجميع جيدا، وتظل جالسة تراقب حلبة الرقص بفارغ الصبر، تنتظر من تشدها من يدها وتدعوها للرقص، فتتظاهر بالتمنع والخجل، ثم تقوم أخيرا فترقص وترقص ولا تعود للجلوس إلا والعرق يتصبب منها!
هكذا كان حال معظم النسوة إن لم يكن كلهن، أما أنا فلم أكن أنتظر أن أدعى إلى الرقص، أقوم وحدي، وأتوسط الحلبة وأرقص مع من أعرف ومن لا أعرف. كان الرقص يسعدني كثيرا، خاصة أن الموسيقى كانت صاخبة جدا، فلا تترك لي مجالا لأفكر في أي شيء سوى في الدخول في الإيقاع. كنت أبتسم لكل واحدة ألقاها وأرقص معها لنشكل ثنائيا فنتبادل الأدوار والانحناءات، وحين أسمع أغنية لا أحبها أستغل الفرصة لأعود إلى أمي وأرتاح قليلا. كانت أمي فخورة بي، هكذا تريدني؛ فالرقص برأيها يجلب الخاطبات فيسرع حظي و«ينطلق نصيبي».
وبينما كنت جالسة أراقب الحضور شاهدت عمتي تتحدث مع مجموعة من النسوة وكن يحدقن في، وكانت هي تشير إلي بحاجبيها. عرفت على الفور أنني محور حديثهن، وأنني في نظرهن الغبية التي رفضت ابنها الساحر. عندها أمسكت بيد ابنة عمي التي تكبرني بعامين والتي كانت حزينة لأن عمتي لم تتقدم لخطبتها بحجة أنها كبيرة عليه. سحبتها من يدها وتوسطنا حلبة الرقص وأخذنا نرقص بجنون، وحاولت الاقتراب أكثر فأكثر من عمتي، فأخذت ترقص بوجه عبوس، وأنا وابنة عمي ضحكنا ورقصنا حتى الإعياء.
ثم حلت الساعة المرتقبة من الجميع، دخول العروسين، خفتت الأضواء ودخل العروسان بخطى بطيئة، وموسيقى هادئة فيما أخذت النسوة تتهامسن. أخذني الفضول لأعرف عن أي شيء، فتقدمت وجلست بجوار إحداهن، ولم أبذل كثير جهد لأسمع؛ فقد كانت ترفع صوتها بكل ما أوتيت من قوة، قالت: «واه! العريس أجمل بكثير من العروس، ما وجدوا أجمل منها؟ ثم انظري إليها إنها أطول منه، كما أن فستانها من موضة العام الماضي، وكذلك تسريحة شعرها، ألا تخجل من نفسها؟ أم أن العريس بخل عليها ولم يأخذها إلى صالون محترم؟ سمعت أنه من الأثرياء؛ فهو كما تعلمين يشتغل في قطر ويأخذ راتبه بالدولار.» أجابت جارتها: «انظري، انظري إليه إنه كالمخبول يمشي ولا يزيح نظره عنها، واضح أنها ستحكمه، مسكينة أمه، إنه نسيها من اللحظة هذه، وهي تصفق وتضحك كالبلهاء.» وتمايلتا من فرط الضحك. هنا وصل العروسان إلى المنصة، فوقفت أشاهدهما، وأخذت المصورة تأخذ لهما الصور بوضعيات مختلفة، وكانت عمتي كلما أرادت أن تقف بينهما أزاحتها المصورة، فتعود إلى الوراء، ثم تتقدم، والمصورة تزيحها مجددا، والعروس تتمايل على عريسها، والعرق يتصبب منهما. شعرت بالملل وبألم في قدمي من الوقوف، فعدت وجلست على أحد الكراسي، فسمعت اثنتين من النسوة العجائز تتحدثان، ودار بينهما هذا الحوار: العروس جميلة جدا، ومسكينة جدا أيضا؛ فجمالها كله سيذهب مع هذا العريس القصير الدميم. إنها أجمل منه بكثير، وكذلك فستانها وشعرها وزينتها جميلة ورائعة. لست أدري كيف فرط بها أهلها وهي لا تزال في السادسة عشرة؟ - حبيبتي، كل شيء يحل بالمال، انظري إنه الآن يلبسها عقود الذهب واللؤلؤ، يظهر أنه كريم ومن عائلة كريمة، لكن لم تبدو أمه غاضبة وتبتسم رغما عنها؟ - ما سمعت ما حدث؟ - ماذا؟ - حقا لا تعرفين؟ كل الناس يتحدثون في هذه السيرة، يقولون في يوم حفلة الخطبة لما دخلت العروس إلى الغرفة صافحت حماتها فقط ولم تقبل يدها. - حقا؟ يا للعار! ما تعرف الأصول؟ أم أن أهلها لم يعلموها؟ لا عجب في ذلك فهي من عائلة وضيعة.
وأمنت صديقتها على كلامها، وتابعتا مشاهدة العروسين.
يا إلهي! أي سخف وأي ظلم تمارسه هؤلاء النسوة على الناس؟ وما هذه الأفكار والآراء المتناقضة؟ أيقنت حقا أن رضا الناس غاية لا تدرك!
بعد ذلك جاء العشاء توزعه المضيفات على الحاضرات، في هذه الأثناء كانت الأصوات قد خفتت، وكل من كانت واقفة جلست خشية أن يفوتها عشاؤها. وقفت أنظر إليهن، وذلك بعد أن استلمت طبقي بالطبع فقد كنت جائعة جدا، انهمكن جميعا في الطعام وفي الحديث الذي لا ينتهي. بدأت بتناول الطعام، كان شكله شهيا لكنه كان باردا ولا روح فيه، ومع ذلك التهمته كله، نظرت إلى أمي فإذا بها تنتهرني بعينيها، واقتربت من أذني وهمست: «كم مرة علي أن أقول لك عليك أن تتركي شيئا في الطبق؛ فمن العيب التهامه كله.» «لكنني جائعة» أجبتها رافعة صوتي، فتغير لون أمي، وأخذت تتلفت يمينا وشمالا، وشعرت أنني أصبتها بسكتة قلبية، خاصة أن النسوة حولنا التفتن ليرين من هذا الكائن النهم الذي التهم كل ما في الطبق؟! عندها سمعت امرأة كانت تجلس خلفنا: «وهل يسمون هذا عشاء؟ أفقر العائلات تقدم أفضل من هذا، يا لبخلهم!» التفت لأرى صاحبة الصوت، فوجدتها مثلي قد التهمت الطبق كله إلا أنها تزن أضعاف ما أزن فلا يكاد الكرسي يحملها، ضحكت وكتمت ضحكتي، وعدت أراقب العروس. كانت جميلة وصغيرة وسعيدة لا تكاد الضحكة تفارق فمها، أحببتها ورثيت لحالها؛ فبعد يومين ستترك أهلها وإخوتها وبيتها وغرفتها وذكرياتها لتسافر بعيدا حيث كل شيء جديد عليها. لكنني في الوقت نفسه تمنيت أن أسافر أنا أيضا لأكتشف الجديد، لأرى وجها آخر للعالم، ولأبحث عن الله كما كنت قد عاهدته يوما.
عدنا إلى البيت وقد أذن الفجر، وأنا أترنح من ألم قدمي من الحذاء ذي الكعب العالي، وقبل أن يسطو علي النوم كتبت في صفحتي:
في بلادي، تأتي النسوة إلى الأعراس لغرضين لا ثالث لهما؛ أما الأول فلكي تتباهى كل واحدة منهن بثيابها ومجوهراتها وبأنها تملك أكثر فهي إذن أرقى وأفضل. وأما الثاني فلمراقبة العروسين، والحكم على شكليهما، والتدقيق فيما جلبه العريس لعروسه من ذهب وهدايا، وما أنفقه أهله على الحفل من عشاء وسواه. تيقنت أنه لا يمكن إرضاء الناس مهما فعلت، وأن النسوة فوتن على أنفسهن متعة الأعراس الحقيقية، الرقص.
وكتبت أيضا:
انتقاد الآخرين وإطلاق الأحكام عليهم يعطيك شعورا بالنشوة التي توقعك في وهم الصواب المطلق، وأن ما سواك خطأ مطلق، فتعمى عن رؤية معايبك.
ورحت أغط في نوم عميق.
4
استيقظت ظهر اليوم التالي منهكة؛ فالسهر لا يناسبني. وجدت أمي مهمومة وحين سألتها عن السبب أجابت: «تعرفين أم رمزي التي تحضر الدروس معنا؟» قلت: «نعم ، ما بها؟» قالت : «لقد كانت حاضرة ليلة البارحة في العرس، ورأتني ولم تسلم علي»، أجبتها: «نعم، وماذا في ذلك؟» قالت: «لا تعرفين؟ نحن نحضر دروس الدين، من المفترض إذن ألا نحضر حفلا فيه غناء وموسيقى، أنا متأكدة أنها ستخبر الآنسة والجميع، لكنني كما تعلمين لم أحضر إلا صلة للرحم، وتلبية لخاطر أبيك في حضور زفاف ابن أخته.» قلت وقد صدمني جوابها: «أتعنين ذلك حقا، وهل هذا بالأمر الذي تهتمين له؟ إذا كان هذا صحيحا فلم حضرت أم رمزي إذن؟ إنها شريكتك في الجريمة!» جمدت أمي وكأنما أسمعتها شيئا جديدا، ثم تهلل وجهها وقالت: «صحيح، أنت على حق، هي أيضا كانت حاضرة، فلو تكلمت علي فإنها في الوقت نفسه تؤكد على حضورها؛ لذا فإن من مصلحتها ألا تنطق بشيء.» ثم أمسكت بكتفي وأكملت: «لقد أرحتني فعلا، هيا قومي إلى المطبخ!»
وها هي التصنيفات تدخل بيتنا أيضا، ومع أمي تحديدا؛ فهذه تحضر دروس دين إذن عليها ألا تكون هنا، يجب أن تكون هناك، وتلك لا تحضر إذن يمكن أن تكون هنا لا هناك. تذكرت فتاة جاءت مرة مع أمها إلى الدرس، ولم تكن محجبة، عندها أخبرتها الآنسة أمام الجميع أن عليها أن تلتزم بكل الشروط والتي منها الحجاب في الخارج والداخل لكي تنال امتياز الحضور، وإلا فلا يحق لها، لقد كان ذلك اليوم أول وآخر يوم لها معنا.
في المساء خطر جدو نور على بالي كثيرا، واشتقت لسماع بقية قصته، تذكرت أنني استعرت كتابا منه لكنني لم أفتح حقيبتي منذ أن كنت عنده آخر مرة. مددت يدي وأخرجت الكتاب كان عنوانه «هكذا غنى طاغور»، من طاغور هذا؟ قلبت الأوراق وإذا به ديوان شعر وليس رواية، لكنني لا أحب الشعر، فهو يشعرني بالملل. ومع ذلك فتحت الديوان وأخذت أقرأ، كان شعرا مترجما عن لغته الأصلية لذلك هو بلا وزن ولا قافية، ومع ذلك فقد أحببته، كان بسيطا سهلا لم تكن فيه مفردات صعبة كما في الأشعار التي كنا ندرسها. وطاغور شاعر هندي ذو شهرة واسعة كما قرأت عنه في الإنترنت ونال جائزة نوبل للأدب. كانت حياته غنية مليئة بالأشياء العجيبة؛ فهو أولا لم يكن مسلما، كما كنت أظن في بادئ الأمر، وتزوج باكرا جدا من فتاة صغيرة جدا وقد أحبها وألف لها الكثير من القصائد الرائعة، لكنه عاش ألما كبيرا بوفاتها ووفاة ابنه وابنته. لكن ما أدهشني حقا في سيرته أنه بدأ يرسم في الستين من العمر، بل إنه أقام عدة معارض! إنه حقا رجل متميز؛ فليس للعمر قيمة بالنسبة إليه، والوقت عنده لا يفوت أبدا. الأهم من كل ذلك هو الشغف، فعلى الرغم من أنه سافر إلى إنكلترا لاستكمال دراسته في الحقوق إلا أنه عاد إلى موطنه بلا شهادة؛ لأنه لم يكن شغوفا بها! كيف يفعل ذلك؟ كيف واجه عائلته ومجتمعه حين عاد إليهم؟ كيف يترك إنكلترا بعظمتها ويعود إلى البنغال في الهند ببساطته؟ كيف يفوت فرصة السفر والاكتشاف؟ ما كنت لأفعل ذلك لو كنت مكانه! لكن لعله وجد في موطنه ما لم يجده في لندن. تذكرت قصة الفتى في «الخيميائي» الذي سافر بحثا عن كنز عند الأهرامات، لكنه اكتشف أخيرا أنه مخبأ تحت شجرة الجميز بقرب بيته! وأنا، أين علي أن أبحث؟ وعن أي شيء؟
كتبت في صفحتي:
بقدر أهمية الكنز تكون أهمية الطريق الموصلة إليه.
ثم قرأت شيئا من ديوان طاغور، وكان مما أعجبني:
بسيطة كلماتك أيها المعلم،
بساطة لا يملكها أولئك الذين يتحدثون عنك.
إنني أفهم صوت نجومك،
وصمت أشجارك،
وأعرف أن قلبي سيتفتح كالزهرة،
وأن حياتي قد أفعمها نبع خفي،
وإني لسعيد،
بانتظار الموسم الجميل.
أحببت هذه الكلمات لأنها تعبر تماما عما في قلبي، عما كنت أحسه وأبحث عنه لكنني لا أجده، كم أشعر برغبة في أن ألتقي برفيق يشاركني بحثي، ويماثلني في أفكاري، فيساعدني وأساعده! أتراني ألتقي ذلك الشاب ذا الجبهة العريضة مجددا؟ أشعر أن لديه شيئا ما، سأكون أكثر جرأة حين ألقاه، ما كنت أدري أنني فوت علي فرصا كثيرة في الحديث معه، والتعرف إليه، من يدري؟ لعل الحياة كانت ستأخذ مجرى آخر معي؟ لكن الوقت لم يفت بعد؟ في هذه اللحظة بالذات نظرت إلى ديوان طاغور وتذكرت أن الوقت لا يزال قائما، عندها عقدت العزم على البحث عنه، لكنني لا أعرف سوى اسمه الأول فحسب «رائد»، هكذا سمعتهم مرة ينادونه في المكتبة، يا له من اسم! سأبحث عنه، وسأجده، وسأتحدث إليه، صحيح أنني لا أعرف تماما كيف وأين، لكن الأمر الوحيد الذي أعرفه جيدا أنني لن أتوقف حتى أجده.
أين أنت؟ ففي جعبتي حكايا لم أحكها لأحد، وفي عيني رؤى لم أروها لأحد، وفي صدري أحلام تكاد تنفلت من عقال المستحيل، لا تتباطأ في الوصول، فخيل آمالي مسرجة تترقب الرحيل.
وقبيل أن أنام فتحت بريدي الإلكتروني كعادتي، وإذا برسالة تصلني من عنوان لا أعرفه، عجبا! لا أتلقى عادة رسائل من مجهولين، فتحت الرسالة وقرأت التالي:
الصديقة العزيزة
أشكرك على ثقتك الغالية بأن أعطيتني عنوان بريدك الإلكتروني، وهي وسيلة التواصل الأفضل حاليا بسبب اضطراري للسفر. أتمنى أن تفكري مليا فيما اقترحته عليك، ولك خالص الشكر.
شادي
5
1997م
إنها الساعة الثانية صباحا، الحرارة تحت الصفر بثلاث درجات، مطر خفيف تلسع حباته كإبر مسمومة، هواء مثلج يلفح الوجوه، الأبواب كلها مغلقة، المحال والأكشاك مقفلة، والتيار الكهربائي مقطوع، والقمر مختبئ خلف الغمام متواطئا مع كل شيء ليظهر وجه الشتاء الكالح. حافلة تتحرك بتثاقل يشق هدير محركها الصاخب صمت الليل والشتاء، تقف جاثمة عند ساحة «سعد الله الجابري»، تفتح بابيها دفعة واحدة ليخرج منها اثنان وأربعون رجلا قد نالهم العفو العام، وها هي أقدامهم تطأ الأرض للمرة الأولى بعد عشرة أعوام على الأقل. تبادلوا نظرات الوداع بعيون تفيض فرحا وألما وشوقا، إنها كومة من مشاعر تتفجر في قلوبهم دفعة واحدة.
تفرق الجميع واختفوا في السواد، كل إلى وجهته المحتملة، نظر سليمان إلى «الحاج صالح» الذي كان أكبرهم سنا وعزم على اللحاق به؛ فلم يعد يعلم أين يسكن أهله في حلب، توغل خلفه في الحارات المظلمة، كل شيء يبدو غريبا وجديدا حتى الهواء بدا له خارجا للتو من رئة الطبيعة البكر. وعلى الرغم من الوحشة والعتمة تملكته دهشة الاكتشاف الأول وهو يراقب مدخل الحديقة العامة بأدراجها العريضة الممتدة نحو الأسفل، وأشجارها الكثيفة، وتمثال أبي فراس الحمداني القابع في المنتصف. كانت رؤيتها بعد كل هذه السنين بمثابة النقرة الأولى في جليد ذاكرته المتجمدة منذ خمسة عشر عاما. إنها هي كما هي، لكنه لم يعد هو، ها هو ينزل درجاتها ركضا ليلحق بوالدته وأخيه الذي يحمل المثلجات حتى يتناولها قبل أن تذوب. هنا كان يجلس بائع الألعاب «صطيف»، وبجانبه «بسطة أبو عبدو» للموالح والمكسرات، وهناك عربات البوشار وبائع اليانصيب. خطا إلى الأمام خطوتين فانزلقت قدمه في حفرة تجمع فيها ماء المطر وسقط أرضا ليستفيق من طوفان الذكريات على ألم في كاحله أعاد إليه الإحساس بالزمان والمكان. بحث عن «حاج صالح» لكنه لم يجده، قطب جبينه فقد صار وحيدا الآن بلا مكان يأوي إليه، ولا أحد يلحق به.
قادته خطواته في الحارات المظلمة مستهديا بحدسه وبخريطة انطبعت منذ زمان في ذاكرته المجمدة حين كان يخرج من الحديقة كل مرة إلى دكان جارهم في «الجميلية» بائع الألبان والأجبان ليشتري لترين من الحليب كما كانت توصيه أمه دوما، ويا للعجب! وجد المحل كما هو، وقف قبالة «درابيته» الحديد المغلقة، واستسلم لفيض الذكريات، راح يبتسم وعيناه تجودان بالدموع كمن عاد أخيرا إلى حضن أمه بعد فراق طويل. تذكر الحاج بكري وهو يلوح له بالعصا حين يراه يختلس قطعة من الجبن الشهي الساخن الذي خرج توا من الماء المغلي، وداعبت رائحته الممتزجة بالمحلب وحبة البركة حواسه المتلهفة ومعدته الخاوية، ابتلع ريقه وهو يتذكر طعمها الذائب في فمه، تذكر أنه لم يتذوقها كل تلك السنين «لا بأس؛ فالحياة تنتظرني الآن بكل ما فيها من متع مؤجلة!» تلفت يمينا وشمالا، لاحظ على بعد دكانين بصيصا من نور ينبعث من أسفل أحد الأبواب المغلقة، يبدو أن أحدهم في الداخل، اتجه إليه وطرق طرقا خفيفا. بعد دقيقة فتح الباب وخرج رجل خمسيني قصير أصلع الرأس، يضع نظارة على أرنبة أنفه، ويرتدي معطفا سميكا من الجوخ يصل إلى تحت ركبتيه.
نظر إليه متفحصا مرتابا من الأعلى إلى الأسفل، فبادره سليمان بقوله: السلام عليكم. - وعليكم السلام. - أعرف أن الوقت متأخر لكن ليس لي مكان أذهب إليه، وا... - طيب؟ - أتساءل إن كنت تسمح لي بالمبيت عندك حتى الصباح فقط، البرد هنا لا يحتمل.
أخذ الرجل يتفحصه مليا، ثم تنحى عن الباب وأشار إليه بالدخول، شكره سليمان كثيرا ودخل. كان المحل صغير المساحة، تتوسطه ماكينة خياطة قديمة، وقطع من القماش المتراكم على الأرفف والأرض، وبعض الثياب المعلقة، وعلى الجدار خلف الماكينة علقت صورة بالأبيض والأسود لرجل يرتدي طربوشا، وفي الزاوية مدفأة مازوت صغيرة تضطرم فيها النار وتملأ المحل دفئا. قال الرجل: «تشرب شاي؟» رد سليمان بارتياح: «نعم شكرا.» فغاب الرجل خلف ستار وعاد بعد دقائق حاملا كوبين من الشاي الساخن، وفطيرة جبن، قال: تفضل، ستشعر بالدفء الآن. - أشكرك وأعتذر لإزعاجك. - بالعكس، أتيت في وقتك المناسب؛ فقد بدأت أشعر بالنعاس والضجر، وعلي عمل كثير لأنهيه الليلة؛ فغدا هو العيد كما تعلم، والناس لا تفطن لإصلاح ثيابها أو تقصيرها إلا ليلة العيد. - آه، صحيح، غدا العيد! الله يعطيك العافية، وكل عام وأنت بخير. - حظك حلو، لولا العيد ما وجدتني هنا في المحل.
ابتسم سليمان وارتشف رشفة من الشاي. - أنا أبو أنس الخياط، وجنابك؟ - سليمان. - احك لي يا ابني سليمان، كم سنة بقيت؟ - بقيت في ماذا؟ - في الحبس!
فتح سليمان عينيه دهشة، هل هو مكتوب على جبيني أم ماذا؟ ضحك أبو أنس وقال: نعم، هذا واضح، لا أحتاج إلى ذكاء كبير لأعرف.
اكتفى سليمان برشف الشاي فقد شعر بالاستياء، فعاجله أبو أنس بقوله: عليك ألا تنزعج، أنا لا أحاكمك.
ابتسم سليمان بشرود، وأكمل كوبه وفطيرة الجبن الباردة، ودلف خلف الستار، واستلقى على إسفنجة كانت هناك نصف استلقاء؛ فالمساحة لم تكن لتسمح له بالتمدد الكامل، لكن من يأبه؟ لقد اعتاد سليمان على النوم في ظروف وأمكنة أسوأ من هذه بكثير .
6
من شادي هذا؟ لا بد أنه أخطأ العنوان، وهممت أن أرسل له رسالة توضيحية وأخبره أنه أخطأ، لكن شيئا ما منعني من ذلك، فأقنعت نفسي بأن أؤجل ذلك ليوم غد، وخلدت إلى النوم.
استيقظت صباح اليوم التالي باكرا، وشيء واحد يشغل تفكيري: سأبحث عن رائد اليوم حتما، وأعرف تماما أين أبحث. ارتديت حجابي وخرجت متوجهة صوب طريق الجامعات، هناك الكثير من المكتبات لا بد أنه انتقل إلى إحداها حين ترك حارة بيتنا، كانت هناك مكتبتان فقط تبيعان الكتب أما البقية فهي للأدوات القرطاسية. اتجهت نحو أول مكتبة وقلبي يرتعد، هل يعقل أن أجده هنا؟ في أول مكتبة أدخل إليها؟ ماذا سأفعل إذا رأيته؟ ماذا سأقول له؟ ربما لن يتذكرني وقد مضى أكثر من عام على آخر مرة رأيته فيها. على أية حال، فلأجده أولا ثم سأرى ما سيحدث بعدها. فتحت الباب ودخلت، كانت المكتبة مكيفة من الداخل فسرت رعشة خفيفة من البرد في جسدي، وتقدمت إلى الأمام أفحص وجوه البائعين أبحث عنه، لكنه لم يكن هنا! «تفضلي يا آنسة»، التفت إلى مصدر الصوت وإذا به أحد الباعة يعرض خدماته، ارتبكت قليلا واعتذرت وخرجت. يا لحماقتي! ماذا أفعل؟ كم أنا واهمة! هل يعقل أنني أبحث عن شخص لا أعرف عنه شيئا في هذه المدينة الكبيرة؟ ولا دليل يقودني إليه سوى عمله في مجال الكتب؟ حسنا، علي ألا أفقد الأمل سريعا.
ذهبت إلى المكتبة الثانية واكتفيت بالنظر من خلف الزجاج لكنه لم يكن هناك أيضا! يا للخيبة! توجهت فورا إلى الحافلة المتوجهة إلى المدينة القديمة؛ فهناك الكثير من المكتبات التي تبيع الكتب. استغرقت في التفكير وأنا أراقب الأبنية كيف تتبدل من الحارات الجديدة إلى الحارات الأكثر قدما. أصبحت المباني أقصر وشبابيكها أضيق، لكنها أكثر دفئا وحميمية، أشعر بها ترمقني بنظرات حانية فأنا ابنتها التي ولدت في أحضانها، ولعبت على شوارعها المرصوفة التي كانت تقودنا إلى بيت جدي في حارة «باب قنسرين» العتيقة التي تعبق برائحة صابون الغار الشهير. جميلة هي مدينتي القديمة ! على الرغم من سواد الأدخنة الذي علق بجدرانها على مر السنين، كم شهدت هذه الجدران أناسا وقصصا وحكايا؟ بالتأكيد مر شاب أحلامي من جوارها يوما ما، ليتها تخبرني أين أجده! كانت الحافلة تتوقف مرات عند كل محطة ويصعد أناس وينزل آخرون، وبقيت أنا حتى نهاية الخط تقريبا.
نزلت وواصلت رحلتي سيرا على الأقدام حتى وصلت حارة باب النصر. كانت الشمس قد توسطت كبد السماء، والحياة تضج في كل ركن وزاوية، والحارات تنبض أناسا وباعة وبضائع وخليطا من مختلف الروائح؛ خبز طازج، وكباب مشوي، وأدخنة الحافلات، وعطور نسائية وأخرى رجالية. وصلت حي باب النصر وهناك وجدت المكتبات، كان علي، لأرفع الحرج عن نفسي، أن أختلق شيئا لأسأل عنه، دخلت مكتبتين أو ثلاثة وكلما سألت أحدا كان يدلني على «شيخ الكار»، كما يقولون، وهو «الحاج إبراهيم» الذي يعمل في هذه المصلحة منذ زمن؛ فهو يعرف كل شيء عنها وعن أصحابها. توجهت إليه ودخلت مكتبته، كانت بالفعل أكبر مكتبة كتب رأيتها، بطابقين واسعين وكتب تملأ الأرفف حتى السقف. لم يكن هناك من حاجة إلى السؤال عن «الحاج إبراهيم»؛ فبمجرد دخولي وجدت رجلا كبيرا في العمر يجلس وراء مكتب خشبي في زاوية المكتبة، ويرتدي نظارة طبية تدلت حتى أرنبة أنفه. توجهت إليه مباشرة، كان يتحدث على الهاتف، رمقني بنظرة من خلف عدسات نظارته، وأكمل حديثه وحين وضع السماعة قال لي: ها يا بنتي، ما طلبك؟ - في الحقيقة أود أن أسأل عن شخص لا عن كتاب. - ما اسمه؟
فقلت له مستحضرة الحبكة التي اختلقتها: اسمه رائد، لكنني لا أعرف كنيته، القصة أنه كان يعمل في مكتبة بجوار بيتنا، وكنت أستعير منه الكتب، وقد استعرت كتابا وتأخرت في إعادته، ولما ذهبت إلى المكتبة وجدتها مغلقة، ولم تفتح من يومها، وأريد أن أعيد الكتاب إلى صاحبه، فهل تعرفه؟
ابتسم الحاج إبراهيم وأخذ ينظر إلي رافعا حاجبيه وكأنه اكتشف كذبتي، ثم قال: عندي فكرة لك أيتها الشابة الأمينة، أقترح عليك أن تضعي الكتاب في إحدى المكتبات العامة ليستفيد منه الجميع، وبهذا تكونين قد برأت ذمتك منه، ما رأيك؟ - لكن الكتاب ليس لي حتى أهبه للمكتبة العامة، إنه ملك لصاحبه وعلي أن أبحث عنه، فضلا أتمنى أن تساعدني. - حسنا، صفيه لي.
وأخذ يراقبني متفحصا، فأحسست بحرارة في وجهي وقلت: إنه شاب طويل بشعر داكن، وجبهة عريضة، وشفتين رقيقتين، وحاجبين كثيفين، وندبة واضحة في يده اليمنى، وثيابه في العادة غير رسمية، و...
قاطعني الحاج بضحكة عالية لفتت الأنظار إلينا، عندها تمنيت أن أذوب في ثيابي لأختفي عن الجميع، أو تنشق الأرض لتبتلعني. وبعد موجة الضحك قال الحاج: طيب، طيب، انظري إلي جيدا يا بنتي، أنا خبرت الحياة طويلا، ولدي شيء من فراسة، ولما أنظر إليك أرى فيك فتاة طيبة ذكية متمردة، سأسألك سؤالا أجيبيني عليه بصدق: هل يعجبك هذا الشاب؟
لست أدري ماذا أصابني حين سمعت كلماته؛ فقد زال عني الحرج دفعة واحدة، نظرت مباشرة في عينيه وقلت: وما دخل هذا بالموضوع؟
وكأنما نزل جوابي كالصاعقة على رأسه، فأخذ يضحك مرة أخرى بصوت أعلى حتى سالت دموعه، وقال: تماما كما وصفتك، ذكية ومتمردة، معك حق، معك حق، لا دخل لهذا بالموضوع. - وهل ستساعدني أم ماذا؟ - لا!
ثار الدم في عروقي ونقمت عليه، وقمت على الفور، والتفت خارجة من المكتبة، فأخذ يناديني: «انتظري، أنا أمازحك تعالي.» التفت إليه فوجدته واقفا فقال: «ألا تريدين أن تسأليني لماذا لا أريد أن أساعدك؟» لم أنطق بشيء ولم أتحرك خطوة، فقال: «هيا تعالي، أعرفه تماما، تعالي.» هدأت لجوابه قليلا، فعدت إليه، ووقفت أمامه ملتزمة الصمت فقال: «رائد، إنه في الحقيقة ابن صديقي!»
وا خجلي! أيعقل أن تقودني الأقدار في البحث عنه لأقف وجها لوجه أمام صديق والده؟! حاولت أن أقول شيئا لكن ما من شيء يقال، فابتلعت ارتباكي وبقيت صامتة، فقال: «إنني لا أريد أن أساعدك لأنني أرى أنه لا يستحق أدنى اهتمام منك.» وسكت قليلا وقطب جبينه وما عاد ينظر إلي، وأكمل: «شاب فاسد، ماذا أحكي لك عنه؟ مع أنني عاملته كولد من أولادي ، لا تريدين أن تعرفي ، أنت تستحقين الأفضل.» فكرت في نفسي: أنا من يقرر ذلك وليس أنت، لكنني آثرت الصمت وقلت: «هل لي أن أعرف أين هو الآن؟» قال: «ذهب إلى بيروت، يريد أن يصبح مغنيا، سيشارك في مسابقات الغناء السخيفة.» ثم نظر إلي ينتظر ردة فعلي، عندها شكرته وقلت: «على الأقل هو يعرف ماذا يريد.» وتركت المكتبة وخرجت.
وهكذا انتهت قصة مطاردتي الفاشلة لشاب أعجبني يوما، ولم يكن بيننا سوى بضع كلمات وبعض نقود والكثير من الكتب، كلمات ونقود وكتب، أكانت كافية لتجعلني أتعلق بوهم؟ بشاب ما كنت لأجرؤ على التحدث إليه أو النظر في عينيه؟ ولماذا رحت أبحث عنه؟ ماذا يشكل بالنسبة إلي؟ وهل حقا أحبه؟ أم أنني أحب أن أعيش الحب؟ على أية حال فقد عرفت أن القصة انتهت.
كان الوقت ظهرا، وقد أتعبني المشي وشعرت بالجوع، فخطرت ببالي فكرة مجنونة، لم أفكر بها كثيرا؛ فالأفكار الجميلة تموت حين نحللها ونعيد التفكير فيها، نظرت في محفظتي فوجدت أن المال الذي معي يكفي لتنفيذها. ركبت الحافلة العائدة وتوجهت فورا إلى مطعم وردة الشهباء الشهير ب «شهبا روز». دخلت واخترت طاولة ذات إطلالة على السماء، فبادر أحد العاملين يسألني: «طاولة لشخصين؟ أم أكثر؟» أجبته مبتسمة: «لا، أنا وحدي.» وجلست.
شعرت بشعور غريب؛ فهذه هي المرة الأولى التي أجلس فيها وحدي في مطعم، ليس جميلا أن أتناول الطعام وحدي وخاصة في مطعم؛ فالطعام ليس لسد الجوع فحسب، إنه طقس اجتماعي وأجمل شيء فيه المشاركة، وكل ما يصاحبه من أحاديث وذكريات وضحكات لا يقل أهمية ومتعة عن الطعام نفسه. أخذت أرقب الجالسين وأنتظر أن يفاجئني القدر بالحب هنا، كما في الروايات، أجلس وحدي، أستمتع بطعامي، وبالموسيقى الكلاسيكية التي تلف الأجواء، وإذا بشاب وسيم يقترب مني ويستأذن بالجلوس، ويكون بيننا حديث جميل ومن ثم قصة حب! سلمت نفسي تماما هذه المرة، سأقوم بدور المشاهد، وسأدع الأقدار تأخذ مجراها لتقرر عني المشهد التالي.
اقترب مني النادل بقائمة الطعام، تصفحتها وطلبت فورا أحد الأطباق، لم أفكر كثيرا كعادتي، وبقيت أنتظر، وأراقب الناس حولي. كان في الصالة عائلة من أبوين وثلاثة أطفال يتناولون طعامهم بكثير من الصخب فأصغرهم يرفض تناول أي شيء، وهناك رجلان بلباس رسمي يأكلان، بوجهين جامدين وصمت مطبق. وفي الزاوية الأبعد والأظلم كان هناك شاب وفتاة يتناولان المثلجات، يظهر من نظراتهما وحركاتهما أنهما حبيبان، يا للسعادة التي ترشح عن وجهيهما! ومن مكاني استطعت رؤية يده تتسلل تحت غطاء الطاولة لتلامس ركبتها، شعرت بالنفور ولم أعد أنظر إليهما.
في الطاولة المجاورة لي كانت هناك مجموعة من الفتيات اللاتي خرجن من الجامعة، عرفت ذلك من الكتب والملازم التي يحملنها، كم أحسدهن! تمنيت أن أقترب منهن وأتعرف إليهن، لكن لا، إذا فعلت ذلك فسأفوت علي فرصة اللقاء بالشاب المنتظر.
حضر الطعام وأخذت أتناوله ببطء وأراقب مدخل الصالة عله يأتي في أية لحظة، ثم بدأت تتبدل الموسيقى الكلاسيكية إلى بعض الأغاني العربية القديمة، وتحديدا لعبد الحليم، هذا هو الوقت المثالي تماما لظهور الحب. ولم يطل انتظاري كثيرا؛ فقد حضر سريعا مستجيبا لنداء القدر، عرفته على الفور! دخل وتلفت يمينا وشمالا، مشى مباشرة إلى الجهة التي أجلس فيها، واستكمالا لدهشتي فقد اختار الطاولة التي تواجهني تماما. كان رجلا في الثلاثين من عمره، ببشرة فاتحة وشعر أسود خفيف، وكان يرتدي قميصا أبيض وسروالا داكنا، وحذاء عسليا من الشامواه. كان أنيقا ببساطة تليق بقوامه الجميل، يحمل حقيبة سوداء جلدية وضعها على الطاولة وأخرج منها حاسوبا محمولا فتحه على الفور وأخذ يعمل، بقيت أنظر إليه وهو بقي ينظر إلى شاشته، طلب قهوة ثم عصيرا. كنت قد أنهيت طعامي فطلبت كوبا من الشاي، وأخرجت بعض الأوراق وتظاهرت بالكتابة وأنا أختلس النظر إليه، كان بمفرده، وكنت بمفردي، ما ضر لو جلسنا معا؟
وطال انتظاري، وأنهيت كوبي لكن لم تبد منه أية بادرة، ومرة أخرى شعرت بتفاهة ما أفعل. عزمت أخيرا على طلب الحساب والمغادرة على الفور، خاصة أنني تأخرت كثيرا، وها هي رحلتي تنتهي بفشل مركب. حضر النادل، دفعت الحساب وقمت أمشي باتجاه الباب، ولما وصلت بمحاذاته قمت بالحركة الوحيدة المتبقية لي، أوقعت حقيبتي عليه! جفل أولا فقد كان منهمكا في العمل على حاسوبه، سارعت بالاعتذار وقلت وأنا أرفعها: «أنا آسفة حقا، أتمنى ألا أكون قد آذيتك.» قال: «على الإطلاق، تفضلي.» ناولني الحقيبة، فأخذتها وشكرته فعاد إلى حاسوبه، وانصرفت أنا إلى خيبتي. ضحكت من نفسي في سري؛ فما يحدث في الروايات والقصص لا يحدث بالضرورة في الحياة الحقيقية. وحين وصلت إلى الباب أوقفني أحد العاملين قائلا: «يا آنسة، أحد الحضور يشير إليك.» التفت فوجدته واقفا يلوح لي بيده، كاد قلبي يقع، وشعرت بألم في معدتي من هول المفاجأة. عدت أدراجي مسرعة، أخيرا؟ هل يعقل أن ما ببالي سيحدث الآن؟ لكن الوقت تأخر، لكن ربما لا، علي ألا أتعجل كثيرا.
وصلت إليه فوجدته ممسكا بمحفظتي فقال مبتسما: «محفظتك، لقد أوقعتها.» أخذتها وابتسمت وقلت: «أشكرك، أنت حقا رجل أمين.» فقال: «لا، هذا واجبي تجاهك؛ فأنت جارتي.» «جارتك؟ أين؟» سألته على الفور باستغراب، فابتسم وأجاب: «نعم، جارتي المؤطرة بهذا الزمان وهذا المكان، ألم نأكل معا؟ صحيح أنك في طاولة، وأنا في أخرى، لكننا متجاوران، فحقك علي هو حق الجيرة، صحيح؟» ضحكت لكلماته وأعجبتني فقلت: «صحيح، أشكرك مرة أخرى أيها الجار الطيب.» ثم لم أدر ما أقول بعدها فمشيت خطوة إلى الوراء، وقلت: «إلى اللقاء إذن، علي أن أرحل.» فقال: «كما قلت: إلى اللقاء، نعم، وليس وداعا.» قطبت جبيني وبقيت واقفة فلم أفهم تماما، وظل هو مبتسما، فخرجت من المطعم وأنا في حيرة وفرح.
وصلت إلى موقف الحافلة أنتظر قدومها، وأنا لا أزال أفكر في كلماته الأخيرة، فسمعت صوتا من خلفي يقول: «ألا تريدين على الأقل أن تتعرفي على اسمي يا سماء؟» أجفلني الصوت، فالتفت ورائي فرأيته هو بذاته مبتسما، فشعرت بخوف مفاجئ، ثم قلت: «كيف عرفت اسمي؟» فضحك وقال: «لا تخافي، لست عرافا، محفظتك كانت مفتوحة وفيها اسمك مخططا بشكل جميل.» قلت وقد تذكرت تلك الورقة: «آه، صحيح.» فقال: «اسمي خالد.» ومد يده مبتسما ليصافحني، لست أدري ما الذي جعلني في هذه اللحظة أتراجع خطوة إلى الوراء؛ فقد لمحت في ابتسامته شيئا أخافني، شيئا ما كان يمنعني من الاستمرار في هذه اللعبة الخطرة، لكن الخوف سيطر علي وشل حركتي فلم أنطق بحرف، ولم أفعل شيئا سوى التحديق في كفه الممدودة لمصافحتي. بعد لحظات وصلت الحافلة، نظرت إليها بفرح، فقد كانت وسيلة خلاصي، عندها فقط تمكنت من الحركة والكلام، انطلقت إلى الباب المفتوح وقلت: «علي أن أرحل.» وقفزت إلى الداخل وقلبي يخفق هلعا. جلست وأنا أتلفت خلفي خشية أن يلحق بي، تحركت الحافلة فرأيته من النافذة لا يزال واقفا وهو يبتسم بغرابة!
وصلت إلى البيت متأخرة، فتلقيت جام غضب أبي، منعت من الخروج مجددا، لم أقل شيئا، كان على حق، رميت بنفسي على السرير وشعرت أخيرا بالأمان، فتحت الفيسبوك وكتبت:
ثق بغريزتك؛ فقد تقرع ناقوس الخطر محذرة إياك في أية لحظة، لا تتجاهلها، قم بما تمليه عليك فقط.
7
في غرفته جلس وحيدا؛ فالليلة هي الأولى التي يتمكن فيها من الانفراد بنفسه ليطلق ما كان محتبسا في صدره لأشهر طويلة، وقبل فعل أي شيء أفرغ حقيبته مما فيها حتى وصل إلى الصندوق، فأخرجه بعناية وعاد ليجلس على الأرض مسندا ظهره على الخزانة. كانت مشاعر الرهبة والترقب تسيطر عليه وهو يرمق الصندوق وخفقات قلبه تتسارع على نحو مؤلم، أزاحه جانبا، ربما لم يحن الوقت بعد. وقف واتجه نحو النافذة، كانت تغطيها طبقة سميكة من الغبار المتراكم، لعل أحدا لم يفتحها منذ زمن، وهل أحد يفتح النوافذ هنا؟ لكن الغرفة تحتاج فعلا إلى هواء نظيف؛ فالرائحة هنا لا تطيقها رئتاه؛ مزيج من توابل غريبة، وغبار، وعفونة.
فتح النافذة ليجدد الهواء، وليرى كيف يبدو العالم الخارجي من غرفته الجديدة، تذكر المشهد الذي كان يراه من نافذة بيته في موطنه؛ أشجار الزيتون تزين الرصيف ذا اللونين الأصفر والأحمر أمام بيته، وكذلك رصيف الشارع المقابل الذي يقبع في آخره دكان عم حسن (السمان).
1
أخذ نفسا عميقا وأطل برأسه من النافذة، فرأى على بعد مترين أو ثلاثة على أبعد تقدير جدرانا عالية ونوافذ متراصة مغلقة تقابل نافذته، وهدير المكيفات يخترق الأجواء، وبالكاد كان يرى السماء، «سماء! ماذا ستفعل بعد غيابي؟» أخذ يفكر ووجهها الجميل يتراقص أمام عينيه. عاد وأغلق النافذة فقد بدأت حبات من العرق تغزو جبينه، أخذ نفسا عميقا من هواء المكيف البارد، حمدا لله؛ ففي مثل هذا الجو يعد التكييف من ضروريات الحياة.
عاد إلى صندوقه وتذكر وجوه عائلته وأصدقائه وهم يودعونه، كان الجميع يدعو له، تذكر كلمات والده جيدا: «انتبه إلى نفسك، ولا تسرف في أموالك؛ فما بعثناك إلى الغربة إلا لتفك نفسك من الخدمة، وترجع إلى بلدك وناسك، ومكانك في الشغل محفوظ حتى ترجع، الله معك يا ولدي.» كان الجميع يعتقد أنه سافر لهذا السبب، والله وحده يعلم الحقيقة المخبأة في صدره وفي هذا الصندوق الذي لا يزال مغلقا في يده، تسارع نبض قلبه مجددا، شيء ما كان يمنعه من فتحه، ربما الخوف من ألم مؤجل، أو لعله الخوف من الفراغ من ألم محبب، كان يريد أن يظل مسكونا فيها ومسكونة فيه حبا أو شوقا أو ألما، لا يهم.
فتحه أخيرا في لحظة واحدة، وتأمل ما فيه دهرا، وعادت إليه الذكريات صورا وأصوات وشذى وكلمات.
التقى بها في أسبوعه الأول في المعهد التجاري، ووحده من بين الجميع تعلق قلبه بها، لم تكن فائقة الجمال، أو شديدة الأناقة، كانت نحيلة ببشرة بيضاء وعينين داكنتين. كانت ترتدي غطاء رأس قطنيا من قطعتين، ومعطفا أسود يصل إلى الركبتين مع بنطال من الجينز الفاتح وحذاء رياضي صيفا، وجزمة جلدية عالية الساقين شتاء. لم يكن مظهرها ليلفت انتباه أحد خاصة في وجود حسناوات الجامعة الكثيرات، لكنه وحده كان هناك مستسلما لقدر نسج لهما معا خيوطا تتشابك وتتعقد وتتباعد لتلتقي أخيرا هنا، في هذه اللحظة بالذات، وفي هذا المكان بالتحديد.
التقط عذوبتها وحده من بين الجميع، واحتفظ بإعجابه بها، كانت رقيقة صادقة بسيطة حزينة، وهذا كل ما كان يرغب فيه، أن يسبر أغوار هاتين العينين الحزينتين ، ويكتشف سر روحها. وببراعته المعتادة تمكن من كتم مشاعره عن أصحابه وأهله، ظل عاما ونصف العام يراقبها عن بعد وعن قرب، والأيام تمضي وحبها في قلبه ينمو برفق، وهو يداريه كبذرة صغيرة لن تنبت إلا بصبر وطول نفس وكثير عناية؛ فالحبيبة مثل الوردة، مغلقة على سر روحها بأوراقها اللطيفة الرقيقة، فإذا أحبها قلب سكب من ماء عاطفته على جذورها فترتوي، وأشرق من نور ذاته على أوراقها فتشرع بالتفتح، إلا أنها تحتاج صبرا ودراية وطول عناية، فإن استعجلت كشف سرها، وحاولت فتح أوراقها، ذبلت وماتت وغاب سرها إلى الأبد، ولن يبقى منها إلا خيال كان يوما ما. وإن لامستها بحبك، وغمرتها بعنايتك شرعت تتفتح على يديك ورقة ورقة، وتبدى لك منها في كل يوم جمال خاص، وفتنة مختلفة، وزادك انشراح كل ورقة منها لوعة وشغفا للغوص أكثر في أعماقها واقتناص سرها، لكن ذلك لا يتأتى لك إلا بعد أن تذيب حشاشة قلبك في قلبها باللطف الذي هو سر الحب الإنساني الرفيع، حتى إذا ما استتمت أوراقها، وأكملت تفتحها، واستوت على عروشها، حارت ملكاتك الذهنية والنفسية والروحية في استيعاب ما يرشح عنها من حسن هيئتها، وروعة عبيرها، وكمال جمالها، فتذهل فيها، وتعشقها، وتشقى بها، وتشتاق إليها، وكذا شأن المحبين؛ ذهول وعشق وشقاء واشتياق.
لم يكن يتحدث إليها، كان يكتفي بالجلوس قريبا منها في المحاضرات من غير كلام، ويظل يختلس النظر إلى يديها الصغيرتين وحبة خال تزين طرف يدها اليمنى، ورائحة زهر البرتقال الخفيفة تتهادى إليه كلما حركت يديها لتعدل حجابها، أو لتخرج شيئا من حقيبتها الجينز الكبيرة. كم كان يطيب له أن يراقب يديها، ويعجب من هذا التناغم في أطوال أصابعها، وانسجام حركاتها وهي تحتضن القلم بأظافرها الزهرية المقلمة بعناية، والتي لم يرها يوما مصطبغة بأي لون سوى سحر لونها الطبيعي الخالص، ثلاثة أصابع تحتضن القلم، واثنتان ترقدان أسفله في وداعة وسكون، والخال يتيه مختالا بهذا الجمال الأخاذ.
كانت سارحة مرة في شيء ما، شيء ما حرك أصابعها على الورقة البيضاء فخربشت خطوطا ودوائر، أتراها ترسم قدريهما مفترقين وملتقيين؟ وفي زاوية الورقة الأقرب إليه رسمت قلبا صغيرا ممتلئا، أتراها لاحظته؟ هل التقطت إيقاعات قلبه؟ لكن عينيها سارحتان ساهمتان، وقلمها استقر عند القلب ساكنا. وهكذا كانت تنتهي كل محاضرة؛ عيناه تتأملان يديها الصغيرتين، وقلبها المرسوم في زاوية الورقة، ولا تزال الكلمات حائرة لا تجد لها طريقا إليهما؛ فقد احتفظ بصمته وبلذة القرب والمراقبة، واكتفت هي بخربشات على الورق.
عام ونصف العام، درس خلاله تفاصيل حياتها اليومية، مواعيد حضورها وانصرافها، كيف تمشي، وكيف تضحك، وماذا تحب أن تأكل؛ عصير التفاح أو البرتقال مع فطيرة محضرة في البيت. حفظ كم معطفا وبنطالا وحذاء لديها، تعرف على حقيبتيها الجينز الكبيرة والبيضاء الجلدية، راقب صديقتها الوحيدة التي تشبهها كثيرا، اختزل حركاتها وملامح وجهها وابتساماتها القليلة النادرة، وإذا حدث والتقت نظراتهما، كان يهرب سريعا إلى الساحة الخارجية وقلبه يطرق انفعالا، ويظل يسأل نفسه كل مرة: ماذا أصابني؟ لم هذا الذهول والخوف؟ كيف يمكن أن أكون ضعيفا إلى هذا الحد؟ ما تلك المشاعر التي تضطرب لها نفسي وتشقى بها روحي، وفي الوقت نفسه أجد فيها لذة عجيبة وطعما حلوا في قلبي لا طاقة لي في دفعها، ولا مهرب لي منها؟ النفور والجذب، اللذة والألم، كيف اتفق أن اجتمعت في قلبي؟ أكون عاشقا؟
8
في مساء اليوم التالي كنت في حاجة إلى رؤية جدو نور كثيرا، خاصة أنه قد مضت ثلاثة أسابيع على غيابي عنه، فجهزت نفسي وأختي، وهممت بالخروج. شاهدتني أمي فقالت: «يعني نسيت كيف غضب أبوك منك في آخر مرة ومنعك من الذهاب؟» أجبتها: «أرجوك أمي، لن أتأخر مجددا، أعدك بذلك، كما أن كتابه لا يزال معي، ولا نريد أن يقال عنا إننا لا نعيد الأمانة، لن يحب أبي ذلك أبدا.» امتعضت والدتي وأشارت إلي بيدها لأذهب ثم قالت: «لكن عليك أن تعودي قبل عودة والدك، لا أريد أية مشاكل، أسمعت؟» وعدتها بذلك وخرجت.
فتح لي الباب جدو نور، وجدت عنده في المكتبة «إنجي» تلك الفتاة التي رأيتها من قبل، وكانا وحدهما! شعرت باستياء وعدائية تجاهها، كانت جميلة كما رأيتها أول مرة، أنيقة في ثيابها، لطيفة في ابتسامتها، لكنني اليوم لم أعد معجبة بها، ماذا تفعل وحدها مع جدو نور؟ يا لوقاحتها! قال قاطعا الصمت: «تفضلا بالدخول، لماذا تقفين هكذا يا سماء؟ لقد قابلت إنجي من قبل، صحيح؟» أومأت بالإيجاب، وابتسمت لي، أخرجت الديوان من حقيبتي وأعدته إليه، فقال: «لقد تأخرت كثيرا، بدأت أقلق عليك، أين كنت طوال هذه المدة؟» أجبته وأنا أشعر بعدم الارتياح من وجود إنجي معنا وسماعها لكل ما يقال: «لا تكترث، ظروف البيت لم تسمح لي بالمجيء، أعتذر عن تأخري في إعادة الكتاب.» قال على الفور: «لا تقولي هذا، ما كنت مهتما به بقدر اهتمامي بغيابك، والآن أخبريني كيف وجدت الديوان؟» أجبته: «أعجبني كثيرا، شعرت أنه في معظمه ينطق بلساني، يعبر عن أمور كنت أعجز عن التعبير عنها، وزاد من عجبي أنه غير مسلم وغير عربي أيضا، ومع ذلك فإن شعره أعجبني كثيرا.» وبعد أن قلت ذلك شعرت بحرج شديد، قد تكون إنجي غير مسلمة، قد تعتبر كلامي إهانة لها، قلت بارتباك: «أعتذر، لم أقصد أن أنتقص من قيمة أحد غير مسلم أو أي شيء، لم أكن أعني أنني ...» قاطعني جدو نور ضاحكا: «ومن قال إن أحدا ما شعر بالإهانة؟ لم يفهمك أحد بخلاف ما تقصدين، أنت تعنين أنه على الرغم من اختلاف المعتقد الديني والثقافي واللغوي فإنه نال إعجابك، وهكذا يكون الإنسان العظيم يا سماء، مهما اختلف عنا فإنه يتمكن دوما من ملامسة روحنا لأننا نشترك معا في الإنسانية يا عزيزتي، أليس كذلك؟» كانت إنجي تبتسم، وكذلك فعلت وقد زال عني الحرج.
بعد قليل رحلت إنجي، فسررت لرحيلها، ولم يكن يشغل تفكيري سوى معرفة ما حدث مع جدو نور ومع رندة، ولما هممت بسؤاله قال: «هل أتيت لإعادة الكتاب أم لتسمعي بقية القصة؟» ابتسمت وبقيت صامتة، فقال: «أتعلمين أنك أنت وشخص آخر الوحيدان اللذان تعرفان القصة هذه؟ الشخص الآخر هو صديق طفولتي وجاري في حارتنا القديمة الذي التقيته العام الماضي، ولا مانع عندي على الإطلاق من أن أطلعك عليها؛ فالموت لم يعد بعيدا عني كثيرا، فإذا مت أحب أن يبقى أحد ليذكرني وإياها بخير.» فكرت: أليس لديه أبناء إذن؟ لكنني لم أشأ أن أسأله فقلت: «بعد عمر طويل إن شاء الله.» ضحك وقال: «شكرا لك، لكن العمر الطويل بالنسبة إلي سنوات معدودة على أبعد تقدير.» ثم قال: «على أية حال، إلى أين وصلنا؟» قلت على الفور: «حين رحلت رندة ولم تقل لي أين.» قال: «نعم، لقد عادت مع أهلها إلى تونس، وهناك لم تتمكن من التواصل معي بسبب مشاكل عائلية واصطدامها مع أهلها الذين قرروا الاستقرار في تونس. وهكذا غابت عاما كاملا، لم أستطع خلالها منع نفسي من البحث عنها، من رؤية خيالها في كل حسناء عربية، صرت أتخيل كل شال أزرق سماوي هو شالها، وكل حقيبة بنية حقيبتها، كنت أفتش في عيني كل أنثى عنها. في أثناء ذلك أنهيت دراستي، ونلت شهادتي؛ فقد عاهدت نفسي أن أكمل طريقي حتى أصل إلى هدفي. لعلها لم تكن حب حياتي، لعلها كانت مقدرة لغيري، لعل أنثى غيرها تنتظرني في مكان ما. وهكذا طويت صفحتها، ونويت أن أعود إلى الوطن لأبدأ حياة جديدة حتى عادت.»
وسكت، وطال صمته وهو سارح في الكتب أمامه، حتى فقدت صبري فسألته: «ثم ماذا؟ ماذا قالت لك؟» أجاب: «بررت لي غيابها، واعتذرت مني وكان أن سامحتها.» صرخت وقد ثرت غضبا: «كيف؟ هكذا؟ بهذه البساطة؟» ابتسم وقال: «نعم بهذه البساطة.» كان يتحدث ببرود شديد أثارني وأغضبني فقلت: «كيف ذلك؟ وهل سامحتها؟ أقصد هل صدقتها؟» ضحك وقال: «ماذا ستقولين إذن إذا أخبرتك أنني فوق ذلك عرضت عليها الزواج؟» وظل ينظر إلي مبتمسا ينتظر ما سأفعل، فوقفت من هول الصدمة وضربت رأسي وقلت: «يا إلهي! هذا جنون! لا بد أنك تمزح، أرجوك أخبرني أنك غير جاد.» أجاب وهو لا يزال مبتسما: «اجلسي، اجلسي، يوما ما ستفهمين، الغضب لا يفعل أي شيء أمام الحب، أتعلمين؟ كانت رؤيتها مجددا بمثابة الحلم الذي لا أريد أن أستفيق منه؛ لذلك قررت إبقاءها إلى جانبي مدى الحياة، فعرضت عليها الزواج فوافقت على الفور، كنا أسعد اثنين، وعدنا إلى ما كنا عليه.
أصبحت تحكي لي كل يوم عن أفكارها وبحثها في مختلف الديانات والمعتقدات عن الحقيقة، وكنت أجاريها وأشاركها حتى غدوت أهتم لما تهتم به. صرت أقابل الناس وأتحدث إليهم عن تجاربهم الروحية، دخلت إلى الكنائس وحاورت الرهبان، ودخلت إلى المساجد لأول مرة وتحدثت إلى المشايخ والمصلين، زرت مختلف الأديرة والمعابد، وكنت سعيدا بكل معلومة أحصل عليها لأنني سأنقلها لها. كنت كالطفل الذي يتعلم بشغف وسعادة كبيرين، وكانت تزداد يوما بعد يوم إشراقا وجمالا.»
سكت قليلا فقد كنت أنظر إلى الساعة، فقال: «أعتقد أن عليك الذهاب.» تنهدت استياء وقلت: «آه، نعم، الوقت يمر بسرعة هنا، أريد أن أحدثك عما حدث معي البارحة.» فوقف وقال: «في المرة المقبلة، هيا إلى اللقاء، لا تتأخري عن البيت.»
عدنا إلى البيت قبيل عودة أبي فاستقبلتني أمي وهي تحمد الله على وصولي باكرا. أخذت أفكر في «رندة»، كنت أحسدها على حريتها وعلى جرأتها وقدرتها على السعي وراء هدفها. ليتني ألتقي بها، أشعر أنها تشبهني، ترى أين هي وماذا حدث لها؟
كتبت في صفحتي على الفيسبوك:
لا تكمن العظمة في أهدافنا فحسب، بل في أنفسنا أيضا حين نرفض التخلي عنها لأي سبب.
ثم فتحت بريدي الإلكتروني فوجدت الرسالة التالية:
الصديقة العزيزة
أتمنى أن تكوني بخير، أتساءل ما سبب عدم إجابتك لي على رسالتي الأولى، وتركي يومين بلا رد، إذا كنت أزعجك برسائلي فإنني أعتذر وأعدك بإيقافها. ولك خالص الشكر.
شادي
آه! يا إلهي! كنت قد نسيت أمره تماما، يا لفظاظتي! علي أن أجيبه، كتبت له على الفور:
السيد شادي
تحية طيبة، أعتذر منك إذ يظهر أنك أخطأت العنوان، أنا لست من تظن. تحياتي.
وأرسلتها، وبعد دقائق تلقيت الرد التالي:
آسف على إزعاجك برسائلي.
نظرت إلى كلماته المقتضبة، كنت أريد المزيد، فكتبت:
لا تعتذر، الأخطاء تحدث دائما، أشكرك على لباقتك.
وانتظرت، لكنه لم يرسل أي شيء. أغلقت الجهاز وخلدت إلى النوم.
9
1997م
كان أذان الفجر يصدح من جامع الصديق الذي لم يكن يبعد كثيرا عن دكان أبو أنس الخياط. انتبه سليمان وأخذ يجول ببصره في أرجاء المكان محاولا إدراك كيف وصل، ثم تذكر كل شيء في لحظات. أخذ يسعل على عادة أهل حلب للتنبيه على وجوده، أزاح أبو أنس الخياط الستار، وقال: «يسعد صباحك، عيدك مبارك، ها قد أذن الفجر، أنا ذاهب إلى الصلاة وسأبقى حتى صلاة العيد، تحب ترافقني؟» ظل سليمان واجما، أتكون أول صلاة لي بعد خروجي هي صلاة العيد؟! هل تحتفل بي الأرض على طريقتها؟ أم أنها مجرد مصادفة بحتة؟
كان أبو أنس ينظر إليه متفحصا ثيابه، ثم قال: «اليوم عيد، ولا أعتقد يا ابني أنك ستذهب بهذه الملابس، قم معي.» ثم اتجه إلى هاتف أخضر كان موضوعا على المكتب وأدار قرص الأرقام، وتحدث: آلو مرحبا. - ... - الحمد لله. - ... - نعم تقريبا، اسمعي، أنا قادم إلى البيت ومعي ضيف، سخني الحمام وحضري لقمة. - ... - بعدين بعدين، مع السلامة.
نظر إليه سليمان مستفسرا، فأومأ له أبو أنس بالتزام الهدوء، فاستجاب سليمان وساعده في إغلاق درابية المحل، وتمشيا معا في الشارع المظلم عدة دقائق حتى صعدا بناية عتيقة إلى الطابق الثاني. طرق أبو أنس باب الشقة اليمنى، ولم ينتظر بل أخرج مفتاحه وفتح الباب «يا الله، يا الله، خذوا طريق.»
2
وأشار إلى سليمان بالدخول إلى الغرفة على اليسار، وقال: «تفضل يا ابني ارتح قليلا، وسأعود إليك.» دخل سليمان إلى الغرفة، كانت غرفة باردة مفروشة بالسجاد المزخرف ويلتمع دهان جدرانها ذو اللون السكري تحت ضوء الثريا الضخمة ذات الشموع والكريستال. كان أثاث الغرفة من الخشب الذهبي اللون المحفور باليد، والمنجد بالمخمل الأحمر القاتم، وفي وسط الغرفة انتصبت طاولة ذات سطح مرمري أبيض، يتوسطها مفرش سكري اللون وتحفة زجاجية ونفاضتان من الكريستال. دار سليمان حول الغرفة، أزاح ستارة النافذة، فارتد إلى الوراء قليلا، لقد رأى انعكاس صورته على الزجاج العاكس، فراح يمرر يده على وجهه، على التغضنات التي علت جبهته، على شعره الآخذ في التساقط، تأمل ثيابه الرثة، وعظمتي صدره البارزتين، والعرق الأزرق الناتئ في يسار رقبته، ثم راح يمرر يده على ذقنه التي استطال شعرها قليلا، بدا شكله أشبه بمدمني الكحول، لقد كان أبو أنس محقا! راح يتأمل هاتين العينين البنيتين، لهما اللون نفسه والأهداب نفسها لكنهما غريبتان عنه، متى كانت آخر مرة رأيت فيها نفسي في مرآة؟ من أنا؟ ما عدت أعرفني! وهذا الشيب، منذ متى بدأ يشتعل في رأسي؟ كان سارحا في صورته حين فتح عليه الباب أبو أنس حاملا معه ثيابا ومنشفة، ابتسم وهو يراه يحدق في شباك مغلق، ثم قال: «تفضل يا ابني، الحمام جاهز، أتمنى أن تناسبك، هذه من ملابس ابني.» أسدل سليمان الستارة وقال: «لا تؤاخذني، مضى لي أعوام ما رأيت وجهي في مرآة!»
10
أخبرتني أمي في صباح أحد الأيام أننا سنذهب إلى أحد الجوامع للاحتفال ببعض الفتيات اللاتي أتممن حفظ القرآن أو أجزاء منه، وستكون «آنستنا» هناك. وصلنا متأخرات فاضطررنا للجلوس في آخر الصفوف. كانت النسوة جالسات على الأرض، ما عدا بعضهن اللاتي جلسن على الكراسي، ميزت «الآنسة» من بينهن فقد كانت تجلس في المنتصف.
بدأت الفتيات بتلاوة القرآن، ثم أخذن بإنشاد الأناشيد، ورقصت الفتيات الصغيرات بحجابهن، ثم حان موعد التكريم، فوقفت «الآنسات» وبدأن بتكريم الحافظات وسط هتافات النسوة وتصفيقهن. كانت الواحدة منهن تستلم شهادتها وجائزتها وتسلم على «الآنسات» وحين تصل إلى «آنستنا» فإنها تنحني لتقبل يدها، مرة ومرتين وثلاثا. كلهن فعلن ذلك حتى إن إحداهن حين وصلت إلى «الآنسة» ارتمت عند قدميها لتقبلهما! فأوقفنها النسوة فعادت لترمي بنفسها مجددا، فسالت أعين النسوة بالدموع، ونكزتني أمي وقالت متأثرة: «أرأيت كم نحن محظوظات ببركة هذه الآنسة؟ انظري إلى محبة كل النسوة والفتيات لها، لو أنك استمعت لي فحفظت القرآن لكنت اليوم من بينهن ولرآك الجميع.» حملقت في أمي وقلت لها: «هل أنت جادة حقا؟ وهل الهدف من حفظ القرآن أن تتباهي بي أمام النسوة؟» والتفت قبل أن تجيب، وخرجت من الجامع إلى الساحة الخارجية.
شعرت بالغضب يخنقني، وبالغربة عنهن، وصرت أتحدث بصوت عال من فرط غضبي: «نعم، صحيح، إن علي أن أحفظ القرآن لأرضي غرور أمي، وعلي أن أقبل يدي الآنسة وقدميها أيضا، وإلا فلن تحل بركتها علي ...» وعندها انتبهت إلى سيدة كانت تجلس في ظل إحدى الأشجار فشعرت بالحرج وسكت على الفور، والتفت معطية ظهري لها. بعد لحظات شعرت بيد باردة على كتفي وصوت يقول: «لم أنت غاضبة يا سماء؟» التفت فوجدتها، الفتاة النحيلة التي كانت تحضر الدروس معي، تفاجأت من وجودها وتذكرت أنني لا أعرف اسمها، لكن رؤيتها أعادت إلي الهدوء قليلا، قلت: «ماذا تفعلين هنا؟ لم لست في الحفل؟» ضحكت بسخرية وقالت: «وهل لمثلي حضور هذه الاحتفالات؟» استغربت من ردها وسألتها: «ماذا تقصدين؟» قالت: «لقد أصبحت منبوذة منذ ذلك اليوم الذي افتضحت فيه أمام الجميع، لم تعد أمي تعاملني كما كانت؛ فلم أعد بالمستوى الذي يليق بها وبصديقاتها ومجتمعها الديني؛ فأنا خاطئة! كنت شديدة الأسف لما حصل، فبذلت جهدي، وأتممت حفظ القرآن وأحاديث الأربعين النووية منذ أسبوع، كنت أجهز نفسي للتكريم اليوم لكن لم يحدث هذا.» فقلت لها: «قد تكون الآنسة لا تدري بذلك، قومي معي لنخبرها.» وقفت على الفور وأمسكتها من يدها، فسحبتها وقالت: «بلى، أخبرتها بذلك بنفسي، لكن كما تعلمين فإن خطيئتي وصمة عار لا تمحى أبدا. لقد تجاهلتني تماما، ولهذا أنا هنا؛ إذ لم يعد لي مكان هناك.» كانت ترتجف بردا أو ألما وقد أصابتني كلماتها بالعجز فلم أدر ما أقول. عدت وجلست بجوارها وأحطتها من كتفها وبقينا تحت شجرة الكينا الكبيرة التي كانت سخية معنا بظلها. كنا هادئتين نتأمل انعكاس ظلال أوراق الشجرة على الأرض التي تحركها نسمات أيلول. بقينا صامتتين وأصوات الاحتفال في الداخل تتنامى إلى مسامعنا وكأنها من عالم غريب، شعرت بشيء من الحنين وبكثير من السكينة والفرح الرفيع. كان ثمة نور أحسسته بقربي منها، وكنت سعيدة بذلك حد الاكتفاء. لم يكن بي رغبة بالحديث، كأنني ولجت إلى روحها وفهمت كل شيء. كنت أمسك بيدها وكانت باردة، وكنت دافئة. كنت على استعداد لأن أمضي العمر وأنا بجوارها، تمنيت أن يستمر هذا إلى الأبد. كانت دمعة حلوة تستعد لتهطل من عيني وإذا بي أسمع صوت أمي فأعادني إلى وعيي بالزمان والمكان: «سماء، سماء، أنت هنا، بالله عليك ماذا تفعلين عندك؟ بحثت عنك في كل مكان، لقد فاتك الكثير، تعالي.» واقتربت مني أكثر فوقفت على الفور مخفية صاحبتي عنها خلفي، فجذبتني أمي من يدي ومشينا ثم التفتت إلى الوراء وتمتمت: «ماذا تفعلين معها؟»
في تلك الليلة كتبت في الفيسبوك:
هناك الكثير من التجارب التي لا يمكن تفسيرها إلا بالحب الخالص.
لا تستهن بشيء في طريقك إلى النور مهما كان؛ فالذنب الكبير قد يهبك من الجمال مثله مثل الطاعة العظيمة.
استيقظت قرابة الثالثة فجرا، جلست على سريري لدقائق، كان الصمت مطبقا، والظلام كثيفا؛ فقد كان التيار الكهربائي مقطوعا. وقفت وأخذت أتلمس طريقي، وبصعوبة بالغة وصلت إلى هاتفي النقال، فتحته ليهبني شيئا من نور، ورحت أقلب الصور فيه. لم تكن بي رغبة في النوم، قمت إلى الحاسوب وفتحت بريدي الإلكتروني فوجدت رسالتين من «شادي»، كانتا من الرسائل الممررة لمعلومات عامة، حذفتهما وعدت إلى سريري أحاول النوم مجددا لكنني لم أفلح. استعنت بضوء الهاتف الضئيل واتجهت إلى الشرفة وخرجت، كان الهواء باردا خفيفا صافيا. نظرت إلى السماء فإذا هي متلألئة بالنجوم التي ما كنت لأراها لولا انقطاع الكهرباء، كان ذلك رائعا! سحبت أحد الكراسي وجلست، ورحت أتأمل السماء، وسبحت فيها طويلا، وكنت سعيدة، بإمكاني قول ذلك بكل ثقة. اجتمع سكون الليل مع الظلمة والنسمات العليلة ليهبوا لي جميعا هذا الشعور اللذيذ الذي سكن قلبي، وملأ كياني راحة جميلة، ثم تناهى إلي «تسميع»
3
أحد الجوامع البعيدة، كان يقول:
يا من هواه أعزه وأذلني
كيف السبيل إلى وصالك؟ دلني
ووصلتني حتى ملكت حشاشتي
ورجعت من بعد الوصال هجرتني
الهجر من بعد الوصال قطيعة
يا ليت قبل الوصل قد آنستني.
ياه! ما أعذب صوته ! وأجمل كلماته! كأنه يحكي عن حالي. بعد قليل أخذت الجوامع القريبة بالتسميع فاختلطت الأصوات وما عدت أميز كلماتها، ثم أذن الفجر، كنت أسمعه بإصغاء شديد، وسكينة تامة. قررت أن أصلي هنا بالذات، رحت وتوضأت وعدت إلى الشرفة وبدأت أصلي بعد طول انقطاع. أحسست بكل كلمة، وبكل حركة وبكل تسبيحة وتكبيرة، كان كل شيء يفتح لي معاني جديدة ومشاعر جميلة لم أشعر بها من قبل. أحسست بضياء حان يحيط بي، يلفني ويخترقني، لم أدر كم مضى علي من الوقت لكنني أحببت الصلاة من جديد. كنت جالسة على السجادة سعيدة بما قمت به، وإذا بأمي تدخل وشمعة في يدها، قالت: «ماذا تفعلين؟ الجو بارد، ادخلي.» دخلت ودسست نفسي في سريري. كانت اللذة تغمر جوارحي وتهبط على جفني نوما هنيئا، بينما راحت خيوط الصباح تتسلل عبر النافذة لتنير لي غرفتي وعالمي الصغير.
استيقظت نشطة في اليوم التالي، فهاتفت جدو نور وطلبت منه موعدا فاعتذر لملاقاتي صباحا وأجل الموعد إلى المساء، كانت فرصة لي لأنهي كتابي الذي استعرته مؤخرا. في المساء ارتديت ثيابا سميكة قليلا، وكذلك ألبست أختي فاطمة؛ فنحن في أواخر أيلول، وقد بدأ البرد باكرا هذا العام. توجهنا إلى بيت جارنا ورحب بنا كعادته، وولجنا إلى صومعته. سألني: «أنهيت الكتاب؟» شعرت بالإحراج وقلت: «كلا، لكنني أعدك أن أعيده لك قريبا. لقد شغلتني عدة أمور.» أجاب: «لا بأس، ما أخباركم؟» قلت: «بخير حال، عاد الجميع إلى مدارسهم أما أنا فلا مدرسة ولا جامعة!» قال: «الحياة بأكملها تنتظرك وهي ليست محدودة في أروقة الجامعة فحسب يا سماء.» لم أجب؛ فلم أقتنع بكلامه، وكنت لا أزال واقفة، قال: «اجلسي، أنت تنتظرين إكمال القصة صحيح؟» هززت رأسي بالإيجاب فقال: «تزوجنا أنا ورندة وعدت بها إلى الوطن.» وسكت قليلا، فقلت: «هذا رائع، كأنه حلم حقيقي.» ابتسم جدو نور بدوره وقال: «نعم، كان حلما عشناه حقيقة، وكانت سعادة انتشينا بها دفعة واحدة حتى ما بقي لنا منها شيء.» قطبت جبيني وسألته: «ماذا تقصد؟ ماذا حدث؟»
الفصل الثالث
1
1988م
رائحة تحميص الملوخية مع الثوم والكزبرة تملأ الدرج حتى مدخل العمارة، وقع خطوات سريعة تقترب نحو الباب، كان ممسكا بيدها محاولا طمأنتها وهما ينتظران الباب ليفتح، شعرت به يرتجف وقد بلل العرق يدها بالكامل، ابتسمت له، «إنه متوتر أكثر مني!» يتحرك مقبض الباب وينفتح إلى الداخل مصدرا أزيزا عاليا، يطل وجه سيدة خمسينية بثياب البيت الصوفية وقد جمعت شعرها المصبوغ بالأشقر بربطة حمراء تتناسب مع ثيابها المزهرة، منتعلة خفين أسودين وجوربين سميكين. ما إن وقعت عيناها على ابنها الذي لم تره منذ سنتين تقريبا حتى صرخت: «نووووور.» وضربت على فخذيها من هول المفاجأة، ضمته إلى صدرها بكثير من العناق والقبلات والدموع، وسرعان ما أقبلت نورة وعانقت أخاها.
وبعد موجة الاستقبال الحار الذي دام طويلا عند العتبة ولا يزال الباب مفتوحا انتبهت نورة إلى وجود سيدة في الخارج بجانب الحقائب، نظرت إلى أخيها مستفهمة، يبدو أنه نسيها لبرهة، أمسك بيدها وأدخلها إلى البيت قائلا: «ماما، نورة، هذه رندة ...» وسكت. قطبت الأم جبينها ونظرة فزع واستفهام قفزت إلى عينيها، وهي تستحثه على إكمال حديثه. ابتسم مرتبكا وأكمل: «رندة زوجتي!» وساد الصمت لحظات واختفت ملامح السعادة التي كانت ترفرف على الوجوه، لتحل محلها نظرات الصدمة والتأنيب.
كانت نورة أول من تحدث فقالت: «تفضلا بالدخول، لا بد أنكما متعبان من السفر، سأدخل الحقائب إلى غرفتك نور، إنها على حالها منذ تركتها، هيا، هيا.» دخل الجميع وأغلق الباب أخيرا، جلست رندة على إحدى الكراسي في الصالة، وحين هم نور بالجلوس جذبته والدته من يده إلى المطبخ وأغلقت الباب وقالت: «كنت أتوقع منك كل شيء، كل شيء إلا هذا، كيف طاوعك قلبك لتفعل بي ذلك؟ ما عدت تهتم لرأي أمك، كل هذه السنين وأنا أنتظر أن أفرح فيك، وأنت تحرمني من فرحة عمري؟ بهذه البساطة تفرضها علينا، حرام عليك ...» قاطعها نور ممسكا بيدها: «ماما، ماما.» انتزعتها منه وقالت والدموع تطفر من عينيها: «دعني أكمل، لا تقاطعني، أبوك ليس هنا، لكن جد حلا قبل عودته، لا تتوقع منه أن يرحب بشخص غريب معنا .» وأشاحت بوجهها ناحية الفرن وهي تدافع دموعها.
خرج نور والهم يركبه والغصة تخنقه، وجدها واقفة تنظر إليه بعين كسيرة، «لقد سمعت كل شيء.» أمسك بيديها معتذرا متوسلا، لم يقل شيئا؛ فلا شيء يمكن أن يقال، سحبت يديها بهدوء، تناولت حقيبتها وهمت بالرحيل، عندها جاءت نورة حاملة كوبا من الماء، صاحت: «رندة بالله عليك إلى أين تذهبين، تعالي، كلي شيئا على الأقل، لا يمكن أن أسمح لك بالرحيل. نور، قل شيئا، الآن يأتي بابا ونحل كل شيء.» نور بقي جامدا، الأم في المطبخ، رندة تنتظر نور، نور لا يقول شيئا، ونورة تتوسل. ابتسمت رندة وقالت: «بل سيتعقد كل شيء»، استدارت واتجهت ناحية الباب، «لا تذهبي.» قال نور أخيرا، لكن رندة فتحت الباب وإذ بها أمام عمها مباشرة.
قفزت نورة باتجاه رندة ومن غير أن تتفوه بكلمة سحبتها من يديها إلى غرفتها. دخل الأب في دوامة المفاجأة والصدمة، وجد نور أمامه منكبا على يديه يعانقه ويبكي، قال: «متى وصلت؟ لم لم تخبرنا؟ كنا أحضرناك من المطار، هكذا تفاجئنا؟» ابتسم نور مجاملة، «ما لك يا ولد، أنت مريض؟ تعالي أم نور أين أنت؟ نورة تعالي هذا أخوك رجع دكتورا قد الدنيا.» وضرب على صدر ولده بفرح. أقبلت أم نور، وحين رآها قال: «ما لك أنت أيضا؟ حصل شيء؟ أخبروني.» وأخذ ينقل نظره بينها وبينه، قالت: «قل له أنت يا نور.» أمسك نور بكتفي أمه وقال: «أمي أرجوك تمالكي أعصابك، لم يحدث شيء، لا تخيفي أبي.» صرخ الوالد على الفور: «ماذا؟ تكلم يا ولد الآن، ماذا حصل؟» التفت نور ليتحدث، فقالت أمه: «ابنك تزوج، تزوج يا أبو نور، تزوج.» وشددت على حرف الواو. ضرب نور على جبهته، حملق والده فيه، قال نور: «بابا، بابا، دعني أشرح لك كل شيء، أنت تريد أن تفرح بي، وأنا أنهيت دراستي وسأعمل، وهي طيبة جدا ولطيفة. إنها ...» ولم يعرف ما يقول فقد أخرسته ملامح وجه أبيه الذي تهاوى على أحد المقاعد وأشار إليه بيده أن اذهب، وجلس الجميع صامتين.
بعد عشر دقائق أو يزيد من الصمت قام والد نور إلى غرفته ثم خرج منها وهو يحمل مبلغا من المال، اتجه ناحية نور فوقف من فوره، قال: «يا ولد، ما درسناك وصرفنا عليك حتى آخر شيء تعمل فينا الذي عملته، تحب أن ترجع لبيتك أهلا وسهلا، لكن وحدك، وإذا ما رفضت فتفضل هذا المبلغ لتدبرا أموركما، لكن لا ترني وجهك مرة أخرى.» حملق نور في أبيه وانفجر قائلا: هل تطردني من البيت؟ - تحمل نتيجة أفعالك، أما بيتك فهو مفتوح لك في أي وقت. - يعني أترك زوجتي؟ هل هذا ما تريد؟ - ... - تعرف عليها على الأقل، قابلها. - ... - ليتني لم أعد ولم أركم أبدا، ونقودك هذه لا أحتاجها.
ثم صرخ بأعلى صوته: «رندة، رندة.» خرجت مسرعة، سحبها من يدها بقوة وأخرج الحقائب، وصفق الباب وغادر.
على قارعة الطريق وقفا مع حقائبهما في برد شباط الشديد، وقد سيطر الغضب على نور ومنع عنه التفكير، كان يلتفت يمينا وشمالا وهو يضرب بيديه مرة على رأسه ومرة على فخذيه في حالة ذهول، ثم تهاوى جالسا على الرصيف وقد غابت عنه تماما أية قدرة على التفكير. تقدمت رندة ووقفت عند مقدمة الشارع، وبحركات واثقة أوقفت سيارة أجرة، تحدثت مع السائق، فتح لها الباب الخلفي وقاما بإدخال الحقائب. كان نور يراقبها بذهول: ماذا تفعل؟ وهل تعرف أين تذهب؟ اقتربت منه بابتسامة حانية، مدت يدها له، ومثل طفل تاه عن أمه طويلا سلمها يده ونفسه فقادته إلى السيارة وانطلقوا.
انطلقت السيارة من حي السبيل باتجاه أحياء حلب القديمة وصولا إلى الجامع الكبير حيث توقفت. حاسبته رندة، وأنزلا الحقائب واتجها إلى ساحات الجامع.
جلس نور بجانب الحقائب، وظلت رندة واقفة شابكة يديها إلى صدرها، ودمعة إجلال التمعت في عينيها وهي ترى الجامع الأموي للمرة الأولى. كانت مثل عاشق يرى معشوقه بعد طول غياب، يمتع نظره بكل جزء منه، يتفحصه بحب وإجلال وشوق، ساق الحب خطواتها نحو معشوقها للتوغل فيه وسبر أركان جماله ركنا ركنا، كانت مأخوذة تماما بأرضيته المرصوفة بالبلاط الرخامي ذي اللونين الأصفر والأسود والذي يتوزع بأشكال هندسية جميلة. مشت حتى قبتي الوضوء اللتين التف حولهما بعض الرجال، والكثير من الأطفال يدورون ويلعبون، وطيور الحمام تشرب ما تطاير من مائها المتلألئ تحت أشعة الشمس الخجولة. اقتربت أكثر، جثت على ركبتيها، خلعت معطفها الجلدي، ورفعت كمي بلوزتها الصوفية حتى مرفقيها وشرعت بالوضوء، نزلت المياه شديدة البرودة على يديها، ارتعش جسدها لحظة، فملأت كفيها وارتشفت رشفات منه، غسلت وجهها ومرفقيها ومسحت على شعرها بعناية، كانت تؤمن أن كل قطرة منه مباركة طاهرة ومطهرة. أنهت وضوءها وشربت مجددا من هذا الماء المبارك، هذا العنصر العجيب الذي تجود به الطبيعة، ليهب لنا الحياة. وفي هذه الساحات الطاهرة رأت الحياة في أسمى مظاهرها، امتزج الماء الطاهر بلحمها ودمها، فالتذت روحها، واطمأن قلبها، وسكنت نفسها، وشعرت بالقوة التي ستعينها على ما سيأتي من أحداث، ثم استوت واقفة واستدارت وإذا ببعض الأعين ترمقها وكأنما ارتكبت جرما، من هذه المرأة الحاسرة الرأس التي تجرأت على الوضوء في مكان مخصص للرجال؟! ابتسمت لهم، ارتدت معطفها وسارت باتجاه الأروقة. كانت الفوانيس النحاسية المدلاة من السقف قد أضيئت؛ فقد شارفت الشمس على المغيب. كم شخصا عمل على إنشاء هذه الأقواس والزخارف والفوانيس؟ وكم مر ناس من هنا من غابر الأزمان؟ يموت الإنسان ويبقى الحجر، ويظل شاهدا على كل من حمله ونقله ورفعه، وعلى كل من مر بقربه. كانت تؤمن أن للأماكن ذاكرتها الخاصة، ولا يزيدها القدم إلا عراقة وحكمة؛ فهي تختزل كل الناس والأحداث وكل ما كان يقال من صلوات وأدعية ومناجاة، ولو استطاع الإنسان الوصول إلى ذاكرة الحجر لرأى عجبا! دارت الأفكار هذه في رأسها وهي تمرر يدها على الجدران، توقفت عند لوحة خط كتب عليها: «إذ نادى ربه نداء خفيا.» مكتوبة بخط الثلث الذي تعرفه جيدا، لماذا يكون النداء خفيا؟ ولماذا إذن يرفع كثير من الأئمة أصواتهم بالدعاء حتى كأن بعضهم يصرخ صراخا؟
أحست بيد تربت على كتفها، استدارت فوجدت سيدة قد غزت التجاعيد وجهها المغطى نصفه وهي تحمل بيدها رداء ترابي اللون، قالت: «ألا تريدين أن تدخلي الجامع وتزوري مقام سيدنا زكريا؟» ابتسمت رندة وقالت: «بالطبع أريد.» قالت السيدة: «استديري يا بنتي أساعدك على لبسه.» انصاعت رندة للطيبة في وجه العجوز واستدارت لها، فوضعت السيدة الرداء على كتفيها، وقامت رندة بإدخال يديها في الأكمام، فوصل الرداء إلى ما قبل كاحلها بقليل، وقامت السيدة برفع القلنسوة المثبتة بالرداء على رأس رندة التي أدخلت شعرها فيه جيدا ثم قالت للسيدة بفرح: «ها! كيف أبدو؟» أجابت: «مثل حوريات الجنة!» التمعت عينا رندة، فلم تتوقع جوابها. شكرتها، واتجهت نحو الجامع.
كان نور ما يزال تحت تأثير الصدمة جالسا في ساحة الجامع بجوار حقائبه يستعيد ما مر معه في بيت والده، كيف يمكن أن يكونوا بهذه القسوة؟ أين نذهب الآن؟ أنعود إلى ألمانيا؟ وهل بقي معنا نقود أصلا للسفر؟ ماذا ستفكر رندة بي الآن؟ لكن لحظة، أين رندة؟ بالله عليها ماذا تفعل؟ وقف باحثا عنها في ساحات الجامع فلم يجدها، زاد غضبه وأخذ يذرع المكان جيئة وذهابا، عليها أن تكون أكثر شعورا بالمسئولية، كيف تتركني وتمضي وحدها؟ بعد دقائق أحسها نور دهرا عادت رندة، كانت ترتدي رداء عجيبا يغطي رأسها فلم يعرفها، ولما اقتربت كانت مبتسمة، وكان نور غاضبا، كيف يمكن لها أن تتركني وتنسى مصيبتنا لتمارس هواياتها السياحية؟ وما إن اقتربت أكثر ومن غير أن يسمح لها بكلمة انفجر في وجهها تعنيفا وصراخا. وفي محاولة منها لتهدئته قالت: «أنت تبالغ.» لكن ما زادته هذه الكلمة إلا غضبا وحنقا فما كان منه إلا أن انفجر بغضبه وإحباطه وخيباته كلها عليها وصفعها على وجهها صفعة أوقعتها أرضا! •••
شهقت فزعا وأغلقت وجهي بيدي، هل يعقل هذا؟ جدو نور باتزانه وطيبته فعل ذلك؟ حين سمع شهقتي قال: «نعم أعلم كم كنت قاسيا، كانت المرة الأولى والأخيرة التي أضرب فيها إنسانا، فضلا عن الإنسانة الأجمل التي أحببتها واخترتها. عندها أخذت رندة تبكي، رندة الجميلة كانت تبكي على الأرض، وقد آلمتها بنفسي، بيدي هذه، كان إحساسي بالندم لا يوصف، عندها توجه إلينا بعض المصلين ممن شاهد ما فعلت وأخذوا يدفعونني بعيدا عنها، ولم يتركوني إلا بعد توسلاتها لهم. من يومها انكسر شيء ما في قلب رندة، ولم تجد جميع محاولاتي نفعا في إصلاحه.»
وسكت قليلا والحزن باد على وجهه المجهد، أحسست أنه كبر فجأة عشرة أعوام. كان مستغرقا في التفكير وهو يعبث بفنجان القهوة الفارغ، فلم أشأ أن ألح عليه بإكمال ما حدث، فالتزمت الصمت، ومرت دقائق قبل أن يتنهد أخيرا ثم يقول: «لقد مر على ذلك وقت طويل يا سماء، وقت طويل.» قلت: «أعتذر منك جدو، فإن كان تذكر الماضي يؤلمك فلست مضطرا للإكمال وسأنصرف في الحال.» ابتسم وقال: «كلا كلا؛ فالزمن يعالج أصعب الجروح، تذكري ذلك جيدا. كنت فقط أفكر كيف أن قناعات الإنسان وقيمه ومشاعره تتبدل مع تقدم الإنسان في العمر، هذا مذهل حقا! إن على الإنسان ألا يتشبث بأفكاره كثيرا، عليه ألا يخسر ما هو أهم من أجلها، ألا يرتكب حماقات لإثباتها؛ لأنه سيدرك آجلا تفاهة طريقته في التعلق بها. إنها الحكمة يا عزيزتي ولكنها للأسف تأتي متأخرة.» قطبت جبيني فلم أجد رابطا بين كلامه وبين ما حدثني عنه، هل يقصد أنه وجد أن حبه لرندة كان سخيفا؟ يبدو هذا قاسيا جدا! سألته على الفور: «هل تعني أنك لم تعد تؤمن بقيمة الحب؟» فضحك جدو نور وقال: «تعجبني فيك ثورة الحماسة في قلبك، أنا لم أقصد على الإطلاق ما قلته، إنما أعني غضبي في ذلك الوقت ونقمتي على أهلي وشعوري الكبير بالمصيبة التي أوقعوني فيها حين تركونا بلا مأوى أنا وزوجتي، هذا الغضب الذي أعماني وجعلني أخسر كثيرا، لكنني الآن لا ألومهم، بل ألوم نفسي، كان علي أن أتوقع الأسوأ. أما الحب يا سماء فلم ولن أندم عليه يوما.»
ثم حدثني كيف تدبر أمره مع زوجته في مسألة السكن فقد اضطرا للبقاء في بيت ابن خالته أسبوعا، ثم انتقلا إلى السكن مع أصدقائه الشباب، وأخبرني عن مدى صعوبة ذلك خاصة مع وجود رندة، ثم تمكن بصعوبة من تدبير غرفة لها في السكن الجامعي مع طالبتين، فيما بقي هو مع رفاقه. وهكذا افترقا، وطال ذلك أشهرا حتى وجد عملا في تدريس دروس خصوصية لبعض الطلاب، فتمكن من استئجار غرفة في بيت عربي قديم مع سيدة تعيش مع حفيدتها، وقد مكثا عندها سنتين ونصفا تقريبا، ثم قال: «في الحقيقة لم أكن مستعدا للحياة الحقيقية في ذلك الوقت، كنت شابا مدللا مرفها من قبل أهلي، كنت آخذ لقمتي من مال والدي، ثم وجدت نفسي فجأة أتحمل مسئولية كاملة لتأمين أبسط متطلبات الحياة لي ولزوجتي، المسألة كلها تقع علي وحدي فلم أكن مستعدا بعد. بدأت أصارع الحياة متأخرا جدا، لم أكن أحمل هم نفسي حتى أحمل هم غيري، الأشياء التي تعلمتها في تلك السنوات الأولى بعد عودتي تفوق كل ما تعلمته في حياتي. إن على المرء أن يخوض غمار الحياة مبكرا، لا أن ينتظر حتى تغمره أمواجها وتغرقه، عليه أن يكون مستعدا وسباحا ماهرا ليواجه الحياة بشجاعة، لكنني للأسف لم أفعل. كنت دائم التذمر والشكوى، وكانت رندة هادئة وادعة لم تصرخ في وجهي مطلقا. لقد تحملت تقلبات مزاجي كثيرا، لكنني لم أدرك ذلك إلا متأخرا جدا.» وسكت قليلا وقال: «أعتقد أن عليك العودة إلى بيتك، كما أنه لدي موعد بعد قليل.»
قلت وقد عجبت من مضي الوقت سريعا: «حسنا جدو، لكن عليك أن تكمل لي القصة غدا.» أجاب: «بالتأكيد، سأكملها لك لكن دعي الغد للغد، لا أحد يعلم ماذا يحمل الغد لنا.»
ما الذي قصده جدو نور من أنه لم يدرك ذلك إلا متأخرا؟ ماذا حدث لها؟ هل يعقل أن تكون قد ماتت؟ ارتعبت للفكرة وأبعدتها فورا من خيالي، ثم تذكرت العقد السماوي اللون، ما علاقته بما حدث؟ علي أن أعرف المزيد!
كتبت على صفحتي في الفيسبوك:
الحياة مليئة بالمفاجآت، علي أن أكون مستعدة لها كلها.
2
عدت إلى البيت وأذان المغرب يصدح في المآذن فلم أجد أحدا فيه، وجدت رسالة على الطاولة بخط أمي كتبت: «نحن في بيت خالك محمد فقد توفيت زوجته، تعالي فورا.» يا إلهي! زوجة خالي هند العزيزة، كيف؟ قبل أيام كنا معا! كانت صدمة كبيرة. بدلنا ثيابنا وانطلقنا إلى بيت خالي، كان باب البيت مفتوحا والأنوار مضاءة، وجدت الكثير من النسوة اللاتي لا أعرف معظمهن، كان السواد سيد كل شيء؛ الثياب والدموع والوجوه. مشيت أتفحص الوجوه أبحث عن وجه أمي، وأنا أشد بإحكام على يد فاطمة. لم أشعر يوما بالوحشة في بيت خالي كما اليوم، وإذا بيد تشدني من كتفي، التفت فإذا هي أمي لكنها كانت في حالة أخرى جعلتني أرتمي بين يديها وأعانقها. في تلك اللحظة أخذت أبكي فجذبتني أمي إلى الداخل، وكذلك بكت فاطمة وارتفع صوتها عاليا مما رد إلي قليلا من وعيي بنفسي، تمالكت دموعي وأخذت أهدئ من بكاء أختي الصغيرة، وحين هدأنا قليلا سألت أمي: «ماذا حدث؟ كيف ماتت؟» قالت: «لا أحد يعلم، كانوا عند بيت جيرانهم قبل ذلك بيوم، وسهروا جميعا ثم عادوا إلى بيتهم، وحين طلع الصباح استيقظ الجميع إلا هي.» حملقت في أمي وقلت: «غير معقول، ماذا حدث في الحقيقة؟ هل تسممت؟ هل مرضت؟ كيف؟ هكذا فجأة؟ لا يمكن أن أصدق.»
ثم اندفعت خارجة من الغرفة فاصطدمت بابنة خالي الكبيرة، عانقتها وعدت إلى البكاء مجددا وكذلك فعلت هي، ثم سألتها: «أخبريني ماذا حدث بالضبط؟ هل كانت مريضة؟» قالت: «كلا، لم تكن تشكو من شيء سوى من أعراض كبر العمر الاعتيادية، لكنها البارحة كانت تعرف.» سألتها: «ماذا تقصدين؟ ماذا تعرف؟» قالت: «كانت تعرف أنها ... أنها ...» وأخذت تبكي مجددا وأنا أحدق فيها، ثم قالت: «يوم أمس طلبت مني أن آتي إلى زيارتها، فاعتذرت بانشغالي بتدريس أولادي، فألحت علي، فأتيت، وجلسنا هنا، على هذه الأريكة بالذات. وضعت ولدي في حضنها وأخذت تلاعبهما وتقبلهما وتدعو لهما، وقالت: «من يعلم ما الذي يخبئه الغد لنا؟»» وسكتت قليلا، وراحت عبارتها الأخيرة تتردد في عقلي فقبل أقل من ساعة سمعتها بالذات من جدو نور! انتشلتني مجددا من ذهولي حين قالت: «وأخذت أمي تطلعني على المكان الذي خبأت فيه بعض الذهب والمال، وتوصيني أن أنفق شيئا منه على الفقراء والأيتام، كنت أضحك يا سماء، هل تصدقين ذلك؟ لقد كانت تعرف، حتى إنها أوصتني بأبي.» وأخذت تبكي مجددا، كان الذهول مسيطرا علي، لم أعد أبكي بل استغرقت في التفكير، هل يمكن للمرء أن يملك حدسا بما سيحدث؟ وخاصة بقرب وفاته؟ يبدو هذا غريبا حقا!
كانت أمي منشغلة بفاطمة، فتسللت إلى حيث كانت جثة زوجة خالي، كانت موضوعة على طاولة الطعام مغطاة بقماش أبيض، ورائحة طيبة تملأ المكان، اقتربت خطوة إلى الأمام، فمنعتني سيدة، فأومأت لها أخرى بالسماح لي، اقتربت أكثر ورفعت القماش عن وجهها، يا إلهي! أمسكت بيدها فإذا بها باردة كالثلج، هذا هو الموت! من أنت؟ ما هذا الشيء الذي يرقد أمامي؟ شعرت بغربة ووحشة، إنها هي وليست هي، لكن في الحقيقة أين هي؟ لا أرى أمامي إلا الموت مجسدا بهيئة زوجة خالي، لكن أين هي الآن؟ أتراها ترقبنا في هذه اللحظة من مكان ما؟ سرت رعشة في جسدي وأخذت أنظر إلى الأعلى، أين أنت يا هند؟ هل أنت في الأعلى؟ أم هنا؟ وجعلت أقلب نظري إلى الأعلى وإلى الأسفل حيث جسدها يرقد أمامي، فشعرت بغربة عنه وكأنني لا أعرف هذه السيدة، أو بالأحرى هذه الجثة!
أومأت لي المرأة التي معنا بشيء من التوبيخ بأن أتلو لها الفاتحة، رفعت يدي ... اهدنا الصراط المستقيم ...
آمين، الصراط المستقيم، ما هو؟ أتراها عرفته الآن؟ يقولون إن الروح حالما تخرج من البدن تعرف كل شيء، عندها ربتت المرأة على كتفي وأومأت لي برأسها لأخرج.
بعد دقائق سمعنا ضربا عنيفا على الباب، وحين فتح الباب ارتطم بالحائط محدثا صوتا عاليا. دخلت سيدة كبيرة ممتلئة وخلفها سيدتان وأخذت تلطم وتصرخ وتبكي، واتجهت فورا إلى ابنة خالي وأخذت تسبها وتدفعها وتدعو عليها، وارتفعت الأصوات، وتجمهرت النسوة ولم أكن أدري حقا ماذا يحدث. اتجهت إلى أمي أستفسر عن هذه السيدة، فأخبرتني أنها أخت المتوفاة وأنها غاضبة لأنها أرادت أن تغسل أختها ويقام العزاء في بيت العائلة، ولما لم يحدث ذلك غضبت. كما أنها تتهم ابنة خالي بأنها سرقت أموالها وألبت أمها المتوفاة عليها فقاطعتها. كانت تحدثني أمي وبالكاد أسمع صوتها من كثرة الضجيج الذي حدث؛ فقد ارتفعت أصوات النساء وتدخل الجميع لحل النزاع الذي بدأ بالكلام وتطور إلى الصفع واللكم، ولم ينته الموقف حتى سمعنا صوت تحطم زجاج إحدى النوافذ على إثر رمي مزهرية زجاجية عليه، هنا صمت الجميع فجأة لثوان ثم صرخت السيدة الممتلئة وهي ترفع سبابتها «يا ويلكم من الله.» وغادرت أخيرا.
جذبتني أمي من يدي ووبختني لمراقبتي لكل ما يحدث، وطلبت مني أن أعود بفاطمة إلى البيت فهي لم تتوقف عن البكاء.
خرجت ممسكة بيدها نحث الخطى نحو البيت، كنت أشعر بضيق شديد وكانت فاطمة لا تتوقف عن طرح الأسئلة، فنهرتها فعادت إلى البكاء فما كان مني إلا أن حملتها وعدت بها إلى البيت فسرعان ما نامت، وكان الوقت متأخرا فعلا، وضعتها في سريرها واستلقيت في سريري مجهدة متعبة، لكنني لم أحظ بالنوم، كنت في حالة من الذهول، كيف رحلت زوجة خالي في غفلة عن الجميع؟ كل من حولها كان يجهل تماما ما سيحدث، لكنها وحدها من كانت تعلم، أتراها علمت يقينا أم حدسا؟ لم لم تخبر عائلتها بذلك صراحة؟ لا، إنها فعلت ذلك، لكن الناس دائما يميلون إلى عدم التصديق، وكأن الموت لا يمكن أن يزورهم؛ فنحن نبكي على أموات غيرنا، ونزور قبورهم، ونعزي ذويهم، لكننا دائما ما نستبعد فكرة أن يحدث ذلك معنا أو مع شخص مقرب جدا منا، ثم تذكرت حادثة السيدة الممتلئة، عجبت لها ولما فعلته اليوم، ألم تشعر أن روح أختها لا تزال تحوم حولنا؟ لم لا تؤجل ذلك لوقت لاحق حتى تنعم المتوفاة بالسلام؟ كيف يقودها الحقد لتحرم روح أختها منه؟ ثم عادت إلي صورة الميتة بجسدها البارد المغطى بالبياض، لم اللون الأبيض؟ أهي إشارة إلى رغبة الإنسان إلى أن يعود إلى خالقه صافيا خالصا من كل شائبة؟ أم هو رمز للسلام الذي تحظى به الروح بعد مغادرة البدن؟ وما هذه المفارقة العجيبة؟ الأبيض للميت والأسود لذويه الأحياء، وكأن الميت عاد إلى النور والسلام، والأحياء لا يزالون في سواد الدنيا وتعكيرها ودنسها.
كنت منفعلة جدا، ففتحت الفيسبوك وكتبت:
مهما بلغ الإنسان في قوته فإنه يهرب دائما من فكرة الموت لأنه يخافه.
حين يمتلئ القلب بالحقد فإنه يفقد أبسط ملامح إنسانيته، الاحترام.
جسد الإنسان لا يشكل سوى القشرة الخارجية لماهيته الحقيقية، وبالموت يسقط كل شيء.
أصبحت في اليوم التالي مريضة، كان جسدي يرتعش بشدة، والعرق البارد يتصبب مني على الرغم من حرارتي المرتفعة، مما اضطر والدتي للبقاء بجانبي وترك واجب العزاء. لا أذكر الكثير في تلك الساعات التي قضيتها وأنا تحت وطأة الحمى سوى بعض الومضات التي اختلطت فيها الحقيقة بالأحلام أو بالكوابيس، تارة كنت أشاهد أمي وهي تلطم، وأرى نفسي أحوم حول الغرفة ثم أحلق إلى البعيد، وتارة كنت أرى نفسي أبكي على قبر ما، ومرة كنت أسمع صياح أبي وإخوتي، لم أعد أذكر أني وعيت إلا على المخدة وقد بللها العرق، كان الظلام يسود الغرفة، نظرت حولي فوجدت أمي نائمة على سرير أختي بجواري. تحسست الطاولة أبحث عن هاتفي لأعرف الوقت لكني لم أجده، حينها جفلت أمي مستيقظة على صوت قدح الماء الذي أسقطته لتوي، هرعت إلي تتلمس حرارتي، وسألتني عن حالي. كنت أشعر بتحسن، وقد بدأت أستعيد قوتي ووعيي لما جرى معي اليوم الماضي، كنت شاردة الذهن، فقلت على نحو مباغت: «أمي، إن كان الموت محتما علينا فما جدوى هذه الحياة؟ هل نعيش لنموت؟ لماذا نعيش إذن؟ لم خلقنا في الأصل؟» وبقيت أنتظر الجواب أحدق في وجه أمي التي أخذت بدورها تحملق في واقتربت مني ووضعت يدها مجددا على جبيني وقالت: «نامي يا عزيزتي، ستتعافين حين تستيقظين، أعدك بذلك.» قلت وقد استفزني كلامها: «لا أمي، أنا لا أهذي، أريد حقا أن أعرف، هل تعرفين؟ أرجوك.» جلست بجانبي وقالت: «لو افترضنا أن الموت نهاية كل شيء، ألا تشعرين بالامتنان أنك وهبت الفرصة للتمتع بالحياة؟ لو سألتني عن رأيي فأنا لا أمانع مطلقا أن تنتهي حياتي إلى الأبد، فقد عشت تجارب جميلة وجربت مشاعر عديدة. هذا إذا افترضنا أن الموت النهاية الأبدية للإنسان، وأنت تعلمين جيدا أن الموت ما هو إلا بداية لحياة جديدة لا نهاية لها في الجنة. الموت ليس سيئا بالنسبة إلى الميت، لكنه كذلك لذويه ولأهله ولكل من أحبه.» كان جوابها مقنعا ومريحا في الوقت ذاته. أسندت رأسي إلى الوسادة مجددا، وعدت إلى النوم.
بقيت يومين أو ثلاثة ملازمة البيت بطلب من أمي لأتحسن تماما، حتى إنني لم أذهب إلى ثالث أيام العزاء الذي هو أهمها. أخذت أبكي أسبوعا كاملا كل ليلة، لكنني لاحظت أنني كل ليلة صرت أبكي أقل وأنام أسرع من الليلة التي سبقتها، حتى إنني في نهاية الأمر لم أعد أبكي؛ الأمر الذي أثار دهشتي، عندها أيقنت أن الألم مهما كبر فإنه سيصغر ويتحول إلى ذكرى.
ابتسمت وكتبت في الفيسبوك:
في لحظة المصيبة نكون مغمورين بالألم بحيث يعمينا عن رؤية الفرص الجديدة المفتوحة أمامنا.
كل شيء مهما بلغت قوته يضعف أمام سطوة الزمن.
3
بعد أسبوع تقريبا ذهبت إلى جدو نور لأعيد له الكتاب. دخلنا إلى مكتبته وبقيت أتأمل انعكاس ضوء النهار على الأرض الخشبية اللامعة، عندها قال جدو: «اجلسي فلا يجب أن تظلي واقفة.» ثم سألته: «والآن، هل نكمل؟ أتحرق شوقا لمعرفة ما حدث؛ فأنا لا أتوقف عن التفكير.» ابتسم بحزن وقال: «وإلى أين وصلنا يا سماء؟» أجبته: «بعد انتقالكما إلى هنا والمشاكل التي حدثت لكما.» قال: «نعم، لم يحدث الكثير بعدها، بقينا على حالنا من هم إلى هم؛ فقد كنت إذا انتهيت من تأمين إيجار الغرفة، انتقلت إلى هم تأمين لقمة العيش، ثم إلى هم الدواء والعلاج الذي أخذته رندة فقد كانت تمرض كثيرا خاصة في الشتاء مع التدفئة الشحيحة التي بالكاد كنا نحظى بها. لا أجد وصفا لتلك الفترة إلا بالمعاناة الكاملة، ولا أتذكر من نفسي إلا حدة مزاجي واستعدادي للمشاكل على أبسط سبب ، وخاصة فيما يتعلق برغبة رندة في الإنجاب؛ فقد تشاجرنا بسبب ذلك مرات عديدة، كانت متمسكة برغبتها، وأنا لم أكن أريد ذلك إطلاقا، كنت بالكاد أعيل نفسي وزوجي، فمن البلاهة أن أزيد عبئا آخر علي.
أما رندة فكانت تلقي بكل شيء وراء ظهرها وتتجه إلى الجامع الكبير كل يوم تقريبا، لا أدري كيف تذهب ومتى، لكنني كنت أعلم أنها كانت تذهب هناك؛ الأمر الذي أثار غضبي مرارا، لكنني لم أعد أسألها. كنت أشعر بالغيرة الكبيرة، كيف لها أن تنحي جميع مشاكلنا جانبا وتنصرف إلى حياتها، لم لا تشاركني همومي وتتحمل معي أعباء الحياة؟ هذا ما كنت أشعر به، لكنني ما كنت مهتما حقا ماذا تفعل؟ وكيف تقضي نهارها.»
وسكت وأخذ رشفة من فنجان قهوته، ثم قال: «بقينا هكذا قرابة الأربع سنوات، تمكنا بعدها من الانتقال إلى شقة صغيرة في حي بستان القصر. تحسنت أحوالنا قليلا، لكن روحي لم تتحسن، بقيت كما أنا، خاصة أن أهلي استمروا في مقاطعتي، على الرغم من محاولاتي الكثيرة لإرضائهم، ثم حدث ما كنت أخشاه، توفي والدي فجأة!»
كتمت شهقتي وبقيت ساكتة، يا للمصيبة! أردف قائلا وهو يضرب على صدره بقبضة يده: «هل لك أن تتخيلي شعوري تلك الأيام؟ حرمني أبي من نفسه وقرر أن يعاقبني مدى الحياة. لقد كان الخبر بمثابة الصاعقة على رأسي؛ فقد حملني الجميع مسئولية موته، وخاصة أعمامي الذين انقلبوا علي، حتى إن أحدهم قام ليضربني حين أتيت إلى العزاء.» تأثرت كثيرا بكلامه وكأنني أراه وأشعر بحزنه وغضبه حتى إنني جاهدت نفسي كي لا أبكي أمامه.
ثم قال: «كان موت والدي محورا فاصلا في حياتي، أصبحت أكثر عدوانية، صرت أمضي الليل بطوله في إحدى الحانات، أدمنت الشرب، وقطعت عهدا على نفسي أن أقطع صلتي تماما بكل أفراد عائلتي. في تلك الأيام التي أسميها أيام الحضيض، لم أكن أجد من أصب جام غضبي عليه سوى رندة، وكانت تتحملني كثيرا وتغضب أحيانا. كنت في سري أحملها مسئولية كل ما حدث معي، لكن ما ذنبها تلك المسكينة لتهان في بلد غريب عنها؟ واستمر الحال حتى مضت سبع سنوات أخرى، تجاوزت ألمي وغضبي من والدي، لكنني تحولت إلى شخص آخر، لم أعد أبالي بشيء، وفقد كل شيء قيمته بالنسبة إلي، كرهت الناس وانعدمت ثقتي فيهم. أما رندة فبعد أن تحملت تقلبات مزاجي كثيرا انصرفت تماما إلى حياتها، التحقت بالجامعة، شاركت في ندوات ثقافية، تطوعت في بعض الجمعيات الخيرية، ويوما بعد يوم ازدادت علاقتنا سوءا، فقلما كنت أراها أو أتحدث إليها.
وفي أحد الأيام عدت إلى البيت فلم أجدها، في البداية لم أكترث، ظننت أنها ستعود قريبا، لكن مضى اليوم ولم تعد أو تتصل كعادتها إذا تأخرت، غضبت منها، كيف تترك البيت من غير إذني؟ أخذت أبحث عنها وأسأل صديقاتها اللاتي أعرفهن لكن بلا جدوى، أقسمت أني سأعاقبها حين تعود، لكن مضت الأيام والأسابيع ولم تعد. بدأت أقلق عليها، هل حدث لها مكروه؟ سألت المشافي ومراكز الشرطة لكن ما من جواب. وفي أحد الأيام كنت جالسا إلى مكتبي فانتبهت إلى وجود رواية البؤساء، تلك الرواية التي أهدتني إياها أيام الجامعة في ألمانيا، حملتها بيدي وكأنني أراها للمرة الأولى وقد أعادت إلي الذكريات الجميلة، وأجهشت بالبكاء وأخذت أقلب صفحاتها أحاول أن ألتقط شيئا من بقايا عطرها، فوجدت ورقة فتحتها وإذا بها رسالة الوداع تلك التي قرأتها أنت يا سماء.» وناولني الورقة:
أكتب إليك كتابي هذا، والدمع يمنع عني الرؤية، فأجد صعوبة في تمييز الأحرف والكلمات. أعرف تماما ما أود قوله لك، في جعبتي الكثير، وفي قلبي ألم كبير، سأختصر لأقول: اشتقت إليك، وشوقي يقلتني. لو كنت بعيدا عني لهان ذلك، لكنك بجانبي، تنظر إلي، تسمعني، تلمسني، وأظل أشتاقك وأنا أقرب ما أكون إليك، ليس شوقا عاديا، إنه شوق ممزوج بيأس، وحب ممزوج بكره، لست أدري كيف اتفق هذا؟
الألم ينخر كل زاوية في، في جسدي وروحي وعقلي، أشعر أن الكون ينهار على رأسي وأنني في عتمة تامة، إنه ألم محض يكويني، لكنه للأسف لا يزهق روحي. أكرهك لأنني أحبك ، أكره حبي لك، وددت لو أن لي القدرة على إلغاء ذاكرتي، لو حصل هذا لكان من أكبر النعم علي في هذه اللحظة!
أواه أواه! كيف يبلى القلب ممن يهواه؟!
أيتها السماء اسمعيني، أيتها الأشجار والجبال والعصافير ارفقي بحالي وواسيني، يا قلعة حلب، يا جامعها الكبير، يا شوارعها المرصوفة، وأسواقها المسقوفة، ارفقوا بحالي، احملوا جزءا من آلامي، خذوني إليكم، ضموني بحنانكم، عانقوني فأنا متعبة. ما لي أجد الكلمات تنثال على الورقة بلا توقف؟ وكأنما يتوالد الشعر حين يحتضر الحب وتكثر خيباته؟ وداعا، أقولها لك لأن الشوق يأكلني؛ وداعا حفاظا على روحي، علني ألقاك يوما، لست أدري، سأترك الأقدار تفعل ما تشاء.
حلب، 13 آب، 1994م
أعدت قراءة الكلمات بروح جديدة بعد أن فهمت تفاصيل القصة، بعد أن تعرفت ولو قليلا إلى ذلك القلب الذي عانى وتألم وبكى كثيرا. بقيت صامتة أتأمل الكلمات حتى نبهني جدو وقال: «وهكذا فعلت أنا، مثلك تماما، بقيت أتأمل الرسالة غير مصدق، أحاول أن أفهم ماذا جرى ولماذا. بدأت تنثال علي الذكريات وتغمرني، وأخذت كل التفاصيل التي عشناها معا في ألمانيا وبعد زواجنا تتقافز إلى ذهني سريعا، ماذا حدث لنا؟ أين ذلك الحب النقي والمشاعر الجميلة؟ كيف تبدلت السعادة إلى نزق وبؤس؟ بقيت تحت وطأة الذكريات حتى اختلطت بالأحلام ولم أعد إلى رشدي إلا صباح اليوم التالي. استيقظت وكأنني ولدت من جديد، كانت رسالتها بمثابة الصفعة القوية التي أعادت تشكيل حياتي. قمت وأخذت حماما دافئا، وشعرت لأول مرة كيف أن الماء يطهر الروح كما الجسد، تركت الماء يغسل بنقائه عكر الأيام، وما خلفه الحقد في روحي وقلبي من أسقام. لست أدري كم بقيت تحت الماء، لكنني بعدها خرجت بأمل جديد، سأستعيد رندة. أول شيء فعلته أنني ابتعت عقدا فضيا بحجر سماوي اللون، وهو الحجر الذي تفضله رندة وطالما أخبرتني عنه القصص والأساطير.»
وسكت قليلا وقد قفزت صورة العقد إلى ذهني «آه نعم، إنه هو ذلك الذي في درج مكتبه الثاني هناك.» لم أنطق بحرف، شعرت بكثير من الإثارة فأنا أعرفه جيدا، خفضت نظري خشية أن يكتشف ذلك في عيني. ثم قال: «قررت أن أهديه لها حينما تعود لأنها ذكرت في رسالتها أنها ستعود يوما، وأخذت أنتظرها كل صباح عند مفترق الطرق المؤدية إلى بيتنا. كل صباح كنت أتأنق وأجلب معي العقد السماوي لأزين به رقبتها الجميلة وتعود هي لتزين حياتي من جديد، لكنها لم تأت. بقيت شهرا كاملا أنتظرها كل صباح، بعدها بدأ الخوف من اليأس يتسلل إلي، فأخذت أنتظرها في الثالث عشر من كل شهر، حتى مضت سنة كاملة، لكنها لم تظهر. كان الخوف من فقدها مجددا يفقدني صوابي، إنها تركتني مرة وعادت، فهل يعقل ألا تعود هذه المرة؟ لقد عانينا كثيرا، وآلمتها أكثر، لعلها قررت تركي إلى الأبد!
بعد سنة أخرى أخذت أنتظرها في الثالث عشر من آب كل عام أمام بيتنا القديم. كانت مشاعر الندم والألم والخوف تسيطر علي، ومع ذلك بقيت متشبثا بأمل عودتها، وهذا الأمل منحني قوة كبيرة لأكون أفضل في كل أمور حياتي، فقدمت على مسابقة للهيئة التدريسية في جامعة حلب وتم قبولي، تحسنت أموري كثيرا بعدها.» وسكت وطيف من خيال يسرح به بعيدا، وماذا بعد؟ ماذا حل بها؟ لا أعتقد أنها عادت؛ فلا يزال الحزن جاثما عليه. طال سكوته واستحيت أن أستحثه على متابعة الحديث، فالتزمت الصبر دقائق حتى تنهد عميقا وعدل من جلسته وقال: «وحده الأمل برؤيتها مجددا هو ما كان يمنحني القوة لمتابعة الحياة. نصحني الكثير برفع دعوى طلاق، وبالزواج مجددا، ولا أخفيك يا سماء سرا فقد كنت أفكر في ذلك مرارا، وحين كنت أهم بفعله يراودني السؤال ذاته: ماذا إن فعلت ذلك ثم عادت؟ حينها سأفقدها إلى الأبد.» ثم نظر مباشرة في عيني وقال: «ألا تعتقدين ذلك؟ ما رأيك؟» تفاجأت لحظة من سؤاله، ثم قلت: «معك حق، لكن هذا يعتمد على الشخص نفسه.» قال: «ماذا تقصدين؟» أجبته: «لو فكر أحد ما في ذلك لأشار عليك بالانتظار عاما على أبعد تقدير؛ فلو أرادت رندة العودة لعادت خلال هذا العام، لكن ... لكن يا جدو هذا يعتمد عليك وعلى ما تؤمن به، أقصد أي الطريقين ستختار؟ انتظار عودتها، أم نسيانها وإكمال حياتك من غيرها حتى لو عادت، لكن هذا الكلام لم يعد مجديا الآن، فقد قمت باختيارك وانتهى الأمر.» أطرق قليلا وتمتم: «صحيح، صحيح.»
ثم سألته: «وماذا بعد؟ هل انتهى كل شيء؟ ماذا حدث لها؟» التفت إلي وضحك بسخرية وقال: «ماذا بعد؟ لا شيء، لم تعد، وها قد انقضى على رحيلها ثمانية أعوام وأنا لا أتوقف عن الذهاب مرة كل عام في ذكرى رحيلها، الثالث عشر من آب، لأنتظرها في المكان نفسه عند مفترق الطرق المؤدية إلى بيتنا القديم.» قفزت إلى ذهني ذكريات ذلك اليوم فجأة، إنه ذلك اليوم الذي خرج فيه مسرعا وتركنا أنا وأختي وحدنا، اليوم الذي اكتشفت فيه القلادة ذات الحجر السماوي، الآن فهمت كل شيء، يا إلهي! إنه لم يفقد الأمل أبدا حتى بعد مرور كل هذا الوقت! كنت في حالة من الذهول فلم أنطق بكلمة، ثمانية أعوام! إنها فترة طويلة جدا. وبشكل غريب انتقلت شرارة الأمل منه إلي، أحسست بدفق كبير من الحماسة، بأنني سأسعى إلى استعادتها، وسأنجح في ذلك. عدنا إلى البيت وشيء واحد بدأ يشغل تفكيري، كيف سأفعل ذلك؟
في صباح اليوم التالي وجدت رسالة على بريدي الإلكتروني من شادي يعلن فيه عن معرض لفن الخط العربي في صالة مديرية الثقافة، معرض للخط العربي! لم يسبق لي حضور شيء مماثل، لكنه يبدو جميلا، إنه بعد يومين وعلي أن أحضره؛ فهو تجربة جديدة بالنسبة إلي.
في المساء كنا مع عائلتي نتناول طعام العشاء أمام التلفاز، أخذ نادر يقلب قنواته حتى توقف عند إحدى المحطات، وصدح صوت الغناء. رفعت رأسي لأرى، وكان أن غصت اللقمة في حلقي، أخذت أسعل محاولة أخذ نفسي، وهرع الجميع لجلب الماء أو لضربي على ظهري ضربات آلمتني أكثر من أن تساعدني. ولأن الله شاء لي أن أستمر في الحياة فقد تمكنت أخيرا من ابتلاع اللقمة وأخذ نفس عميق. كانت الدموع تطفر من عيني والجميع يحملق في، الحمد لله، قال والدي: «كلي على مهل، لقد أفزعتينا.»
عدت لأنظر مجددا إلى التلفاز، لأتأكد أن ما رأيته حقيقي. إنه هو بلا شك، الشاب الوسيم ذو الجبهة العريضة «رائد»!
4
كان يوما ربيعيا بامتياز، الجو نيساني صحو بعد أمسية ماطرة، وقد قاربت أيام المعهد على الانتهاء. كان عليه أن يبادر بشيء ما، أن يضع نهاية أو بداية للعذابات الحلوة التي عالجها قلبه طوال العام الماضي، واليوم عقد عزمه على الحديث إليها. كانت جالسة كعادتها كل يوم أربعاء بين المحاضرتين في حديقة الجامعة تحت شجرة الكينا الكبيرة. نسمات الربيع شهية، وعبق الأرض الندية بسخاء السماء منعش وعليل، ساعة واحدة تجلسها كل يوم أربعاء وحيدة مع كتاب أو عصير أو مع أحلام فتية تلاحقها مع الغادي والرائح منتظرة شيئا أو قدرا أو أملا.
اقترب سعيد حتى صار على بعد خطوات منها، تظاهرت بالنظر إلى الطرف الآخر، كان على يقين أنها تعلم بوجوده، كانت تعبث بقطعة شوكولا بين يديها. التقط زهرة بيضاء وعاد إلى الوراء واختبأ خلف الشجرة محتميا بها ومستعيدا للمرة الأخيرة كلماته التي أعادها مرارا وتكرارا. استنشق الجرأة من عبير الزهرة وانطلق بخطوات واسعة وسريعة وثابتة وجلس بجوارها، التفتت وابتسمت، وعلى الفور احتواه عبير زهر البرتقال، فملأ منه ما استطاعت رئتاه إلى ذلك سبيلا، وسرى تيار نوراني لطيف، كان يعرف طريقه تماما في جداول قلبيهما، وكأنما كان هناك منذ ملايين السنين. تحدثا طويلا والساعة صارت ساعات، ثم افترقا على وعد قلبي بمستقبل جميل.
بعد أسابيع بدأت الامتحانات النهائية، واستمر سعيد ينتظرها يوم الأربعاء من كل أسبوع، ولكنها لم تظهر، وظل مقعد الأربعاء خاليا، وشجرة الكينا تظلل خيباته المكتومة، كيف اختفت؟ أي ظلم؟ وأي قهر؟ طوال عام ونصف ظل بعيدا عنها، يكتفي بمتعة المراقبة، وحين وضعا قدميهما على أول عتبات السعادة دار الدهر دوراته المعهودة واختطفها! كان حياؤه يمنعه من السؤال عنها؛ فهو لا يحب كثرة الأقاويل، ولا يريد أن يجلب لها أي أذى.
لا أحد يعلم سواه كيف أمضى أيامه ولياليه، كيف أنهى امتحاناته، كيف حمل الليل إليه ذكرى لقائهما الوحيد ورائحة زهر البرتقال تطرق باب ذاكرته فتملؤه بالوجع والحنين وغصة السؤال.
وبعد شهرين وفي صباح أحد الأيام اتجه سعيد خارجا من محل والده في «سوق الزرب»، إلى «سوق النسوان» لاستلام بعض الوثائق التجارية من أحد أصدقاء والده. كان يسير كعادته بخطى سريعة على أرض السوق الحجرية، حتى لمح عن بعد ملامحها، راح يحث الخطى، وحين تحقق من أنها هي، أخذ يلاحقها وكانت تسير مع شاب طويل. تجاوز جمهور الناس هناك بصعوبة، وظل مركزا عليها حتى لا تضيع عنه في الزحام، ثم انعطف يسارا وهو يركض ودخل في إحدى العبارات
1
المسقوفة التي يعرفها شبرا شبرا، ثم انعطف يمينا، ويمينا مرة أخرى، وقفز هذه المرة قفزا، حتى التقى بها أمامه مباشرة تسير متأخرة عن الشاب بخطوتين، وبرشاقة كبيرة قبض على معصمها وسحبها إلى الداخل، إلى مدخل أحد المحال المقفلة. كانت المفاجأة قد شلت دفاعاتها كلها فلم تقاوم، أوقفها أخيرا، كانا يلهثان، تأملها مليا، يا الله! كم اشتقت إليك! كانت تتلفت يمنة ويسرة في فزع وتصيح: «يا مجنون يا مجنون، سيقتلك أخي.» فأغلق فمها براحة يده وقال: «هشششش، اهدئي، اهدئي، أخوك لن يجدنا هنا، لحظات وأعيدك إليه، أريدك أن تسمعيني فقط، اسمعيني.» واقترب منها قيد قبلة، حتى اختلطت أنفاسهما اللاهثة، فأصابها شيء من الدوار فاستسلمت متهاوية بين ذراعيه.
أجلسها على الدرجات الحجرية، وسألها: «لماذا اختفيت؟ إذا شئت الآن أحدث أخاك لأخطبك.» تطلعت إليه بذعر وقالت: «لا، لا، أنت لا تعرف شيئا.» «أخبريني إذن.» صاح بعصبية، قالت: «لقد رأونا ذلك اليوم في الجامعة نتحدث، وعلمت أمي وإخوتي، كلهم عادوني، حاربوني وا وا ...» هزها من كتفها: «وماذا؟» دفعته بعيدا عنها وهمت بالوقوف وقالت بانفعال كبير: «أنت لا تعرف شيئا، لقد ضربوني، هل تسمع؟ ضربوني كل يوم وحبسوني، انظر.» وأخذت تفكك أزرار قميصها وهي تبكي فبانت رقبتها وشيء من كتفها. ضاقت عينا سعيد وهو يرى آثار الكدمات المزرقة على جلدها، تمتم: «من؟ قولي لي من؟» ومد يده ليلامس آلامها، فأبعدته عنها وقالت: «علي أن أذهب.» واستدارت وهي تزرر قميصها، فأمسك بيدها وأخرج جهازه الخلوي وقال: «انتظري، خذي هذا، سأكلمك.» ودسه في جيب معطفها، وأسرعت الخطى ساحبة يدها من يده. صرخ سعيد وهي تبتعد عنه: «تعالي نهرب معا ونتزوج.» توقفت برهة، لم تلتفت، ثم اختفت وسط الزحام.
5 «رائد» لقد كان هو بلا شك، لكن باختلاف كبير، لست أدري ما هو بالتحديد، لكنه فعلا تغير كثيرا. كان يغني بطلاقة أمام اللجنة والجمهور، يبدو أنه وصل إلى مراحل متقدمة في البرنامج، يا للمفاجأة، لا أكاد أصدق! بقيت أحدق في الشاشة أراقب حركاته وتعبيرات وجهه وتفاعل الجمهور معه. كانت تعليقات الحكام عليه محفزة وإيجابية.
عدت إلى غرفتي بمشاعر مختلطة، شعرت بالفرح؛ فأنا أعرف ذلك الشاب والتقينا كثيرا وتكلمنا قليلا ذات سعادة! وكأن ظهوره في شاشة التلفاز أعطاه سحرا خاصا، جعله يتفوق بخطوة علينا، نحن الذين نشاهده من منازلنا ونتوق لنكون مكانه. شعرت بشيء من القهر والغصة، بحسد بغيض، كيف له أن يترك عالمه ويعيش عالما جديدا حرا بعيدا عن كل شيء؟ هل تراه يعود إلى الوطن؟ هل يذكرني؟ لم لا أتمكن أنا من تحقيق ما أحلم به؟ لكن عن أي حلم أتحدث؟ أخذت أتابع البرنامج أسبوعيا، حتى إنني قمت بالتصويت له. كان الأمل يحدوني لأن أراه يكسب المركز الأول وينال اللقب، وكنت إذا بدأ بالغناء اختفيت تماما عن عالمي واخترقت قلبه.
كنت أشعر أنه يغني لي وحدي، غريبة كل تلك الأحاسيس التي أراها تطفح على محياه وحركات يده وتغضنات جبهته، وكأنه يقاسي حبا حقيقيا ما، أتراه يقصدني؟ كان قلبي يخفق بسرعة كلما خطرت ببالي هذه الفكرة، فأهز رأسي، وأسخر من نفسي؛ فهذا ضرب من الخيال!
وأسبوعا بعد أسبوع تألق نجم رائد أكثر، وتعلقي به صار أكبر. أكسبته الشهرة سحرا خاصا، كانت تليق به فعلا، بثيابه الأنيقة وتسريحة شعره الجديدة وساعة يده الباهظة الثمن. يده هذه أعرفها جيدا، كل الناس تراها الآن من خلف الشاشات، لكن وحدي أنا التي أعرف الندبة في راحة يده، وأعرف الكلمات التي كان يرددها، أعرف قمصانه الصيفية التي كان يرتديها، وسرواليه الوحيدين، الجينز الفاتح والقماش الأسود، كنت أشعر بالتميز عن جميع معجبيه.
وها قد حلت اللحظة الحاسمة والأسبوع الأخير من البرنامج، كان مع مشتركتين اثنتين قد وصلتا إلى التصفيات النهائية، كم كنت أحسدهما! يبدو أنهما لا تفارقانه في التدريبات والرحلات وصالونات التجميل وأفخر محلات الثياب ذات الماركات العالمية الشهيرة، هل مال قلبه إلى إحداهما؟ أم أنه يفضل العودة إلى حب قديم لا يزال في الوطن؟
كل شيء يعرض على الشاشة يبدو ساحرا ومبهرا، والمشتركون سعداء وظريفون دائما والضحكة لا تفارق وجوههم. كانوا يعيشون أسعد أيام حياتهم، وكل من يشاهدهم يحسدهم ويتمنى أن يكون مكانهم.
غنى رائد تلك الليلة أغنية «هل عندك شك»، خرجت الكلمات من فمه كالعسل حلوة ولاذعة. كان بارعا حقا، يحرك يديه بعفوية محببة، وملامح وجهه تذوب حنانا وإحساسا. كان يرتدي بزة رسمية سوداء، بقميص أبيض وربطة عنق خمرية اللون، ويضع في جيب السترة العلوي منديلا من الساتان باللون ذاته، كان مفرط الأناقة والجاذبية، وكذلك علق أحد أعضاء اللجنة، قال: «أخاف عليك من المعجبات أكثر من خوفي عليك أن تربح في البرنامج، ما هذا الإحساس العالي؟ اعترف فورا، هل توجد حبيبة؟» صفق الجمهور وتعالت هتافاتهم. أخذ قلبي يضرب بشدة، ضحك رائد وقال: «يمكن!» كلمة واحدة تركت قلبي معلقا في أرجوحة من التساؤلات؛ فلا أنا أهبط إلى أرض اليقين، ولا أنا أعلو فأطول النجوم.
وخلافا لكل توقعات الناس واستجابة لصلواتي ربما فقد ربح رائد، ربح اللقب والسيارة الفارهة والمبلغ المالي الكبير. كانت فرحتي يومها «لا أعطيها لأحد» كما يقولون. حتما سيعود رائد إلى الوطن، فهل سأراه مجددا؟
بعد يومين حان موعد حضور معرض الخط، كنت متحمسة جدا؛ إذ لم يسبق لي حضور معرض مماثل، وكالعادة، لم يسمح لي أبي بالذهاب إلا بصحبة أخي نادر. كانت القاعة مضاءة بشكل مفرط، ولوحات الخط تزين الجدران، والقليل من الناس يقفون هنا وهناك يتأملون ويتحدثون. وبينما راح أخي يتناول بعض الأطعمة المعروضة، فقد أخذت أتنقل بين اللوحات مبهورة بما أرى. لم تكن اللوحات كلها اقتباسات للآيات القرآنية؛ فقد حوت كثيرا من الحكم والأمثال والأشعار العربية، ومع ذلك فقد شعرت بشيء من القداسة في أشكال الحروف وطريقة تكرارها وكتابتها وانحناءاتها وألوانها، كان الجمال يتبدى في صورة نورانية روحية سعيدة.
شعرت أنني أصبت بعدوى الجمال فاتجهت صوب أحد الخطاطين لأحاوره، لست أدري عن أي شيء، كنت أريد الحديث معه وحسب. رأيت رجلين يقفان عند لوحة مكتوب عليها «لا غالب إلا الله» أحدهما شاب والآخر رجل في الخمسين من عمره، فخمنت أن هذا الأخير هو الخطاط. بدأت حديثي معه قائلة: «السلام عليكم، بصراحة وجدت صعوبة كبيرة في منع نفسي من التحدث إليك عن أعمالك الرائعة؛ فهذه هي تجربتي الأولى في حضور معرض للخط العربي. لقد كان شرفا لي بحق أن أقف أمام كل هذا الجمال و...» وأخذ الرجل يبتسم مما جعلني أتوقف عن الكلام، هل قلت شيئا أساء إليه؟ أم أنه يسخر مني؟ توقفت عن الكلام دفعة واحدة، قال بعدها بصوت هادئ وهو يومئ إلى الشاب الذي بجواره: «ربما عليك التوجه بالكلام للفنان صاحب اللوحات، السيد شادي!»
6
كان الهاتف يضيء في يدها بصمت، لقد استمر بالرنين منذ ابتعادها عنه حتى هذه اللحظة في غرفتها، وكذلك كانت كلماته تومض في مخيلتها بصوته الحنون: «نهرب ونتزوج.» استدارت نحو المرآة، أسدلت شعرها الأسود على كتفيها، أخذت تسرحه ببطء، مررت يدها على وجنتيها وذقنها ثم على رقبتها وكتفها العارية، تأملت الكدمات التي صارت زرقاء وبنفسجية، ضغطت برفق عليها فشعرت بالألم. عادت لتتأمل وجهها، وجنتان غائرتان، وذقن رفيع، وعينان عسليتان ذابلتان، ما الذي جعله يحبني؟ هل يحبني؟ أيراني جميلة؟ ابتسمت، وعادت لتسرح شعرها. توقفت برهة وأخذت نفسا عميقا تحاول أن تجمع بقايا رائحته التي علقت على وجهها الذي حرصت على ألا تغسله. وضعت يدها على فمها تماما كما فعل، أغمضت عينيها، وراحت تتذكر تفاصيل تلك اللمسة. كانت كفه قوية وحانية في الوقت نفسه، ورائحة مميزة تسللت إلى أنفاسها، رائحة لم تعرفها من قبل، هي مزيج من عطر وبهارات وورد، نعم كانت رائحة الورد، وخاصة حين اقترب منها وحرارة أنفاسه تلفح روحها العارية.
أزاحت يدها عن فمها، لا تزال كتفها تؤلمها، لكن ألما آخر كان ينخر في قلبها، كانت ذكرى ذلك اليوم لا تغيب عن بالها، لكمات أخيها، لعابه المتطاير من سبابه ولعناته: «يا فلتانة، يا فاجرة، وضعت راسنا في التراب، حتى لو كان أبوك ميتا فأنا موجود أربيك.» أمها التي وقفت تبكي وتولول، ثم انقلابها عليها، نظرات الاتهام من الجميع ... الهاتف يومض مجددا، حملته بعصبية ورمته بعيدا.
جلست على الأرض تنتحب، من أنا؟ أنا نكرة، أنا لا شيء، لا أستحق شيئا، أنا جبانة، عاصية، مسكينة، كل هذا بسببي، كل اللوم يقع علي، وهل لمثلي أن تحب وأن تحب؟ أستغفر الله العظيم، يا رب سامحني. هدها الألم والبكاء حتى نامت مكانها.
كانت لا تزال على الأرض حين استيقظت فجأة، التيار الكهربائي مقطوع، تلمست طريقها وفتحت درج مكتبها حيث تضع ضوء الشاحن، أشعلته ونظرت إلى الساعة، الثالثة إلا ربعا، جلست على السرير ورأسها بين يديها، تشعر بالصداع. أطفأت الشاحن، وتمددت على السرير، بقيت وقتا حتى كادت تستسلم للنوم مجددا حين رأت ضوءا خافتا يومض وينطفئ، هل استيقظ أحد؟ عادت وأغلقت عينيها، ثم قعدت فجأة وقد تذكرت شيئا، نظرت تحت السرير، كان الهاتف يرن، إنه هو! أمسكته بيدها المرتعشة، اتجهت إلى خزانتها واختبأت فيها، شعرت بانقباض في معدتها، وبأن قلبها ينبض في حنجرتها، سمعت نبض عروقها، لهاثها المتسارع، أحست بحبات من العرق البارد تنسل من رقبتها وتسيل على ظهرها، كان الخوف يأكلها، وكذلك شعور لذيذ بالإثارة.
وبعد تردد ضغطت على زر الإجابة، قربت الهاتف من أذنها: «سلمى، سلمى، هل هذه أنت؟» لم تجب، كان الخوف يشل صوتها، شعرت أن أي همسة تصدرها ستصل إلى جميع أهل البيت، «سلمى، أرجوك، أتوسل إليك، لم أنم كل الليل، أنا قلق عليك، سلمى، لا أريد أن أوذيك، قولي أي شيء لأعلم أنك بخير.» ارتجفت شفتاها وقالت همسا: «نعم، أنا معك.» ومن مكانها سمعته جيدا وهو يضحك ويبكي معا ثم قال: «الحمد لله، الحمد لله، لو تعلمين كم هلعت عليك، لم لم تجيبي؟ لا بأس، لا عليك، الآن لا تجيبي على أي رقم سوى هذا الرقم، كيف حالك؟ هل علموا بأي شيء؟ هل آذاك أحد؟» - لا سعيد لا، لكن ... هل نقوم بالصواب؟ أقصد أليس ذنبا ما نفعله؟ هذا حرام، هل تفهمني؟ - سلمى سلمى لا تفكري بهذه الطريقة أرجوك. - كيف علي أن أفكر إذن؟ بأي صفة تحدثني؟ - سلمى افهميني، أنا أريدك زوجة لي، امنحيني فرصة فقط، الله وحده يعلم كيف كانت أيامي من دونك. سلمى يا سلمى، لا أعرف كثيرا أن أصوغ الكلمات، لكني تعلقت بك، أنت لا تفارقين تفكيري، أنت معي في كل نفس من أنفاس حياتي. - ... - ما بك لا تجيبين؟ - خائفة. - كلنا خائفون، لكن الهرب ليس حلا، وأنا معك وسأقف إلى جانبك دائما. - علي أن أغلق الآن، إلى اللقاء.
7 «شادي؟» وهبط قلبي في الدهشة، تقافزت إلى ذهني رسائل الإنترنت ولوحات الخط، ولم أقل شيئا. وبعد دهر، أو هكذا شعرت، سمعت صوت نادر يناديني: «سما، سما.» ثم ألقى التحية على الرجلين وقال: «أتمنى ألا تكون أختي قد أشغلتكما عن أمر مهم؛ فهي متحمسة دائما.» عندها نطق شادي: «لا، على الإطلاق، كانت الآنسة تتحدث عن الخط بكثير من الشغف، وكنت سعيدا لأسئلتها ورؤيتها الناقدة.» قلت مبتسمة لسرعة بديهته: «بالفعل سيد شادي، أود أن أعرف سر اختيارك للونين السماوي والذهبي في أغلب لوحاتك؟» قال: «هذا أمر يطول شرحه، لم لا ترافقانني إلى الجلسة الصحفية التي ستعقد غدا حول المعرض في التوقيت نفسه؟» قال أخي: «يسرنا ذلك.» وسحبني من يدي وودع السيد شادي وخرجنا.
كان في جعبتي الكثير ذلك المساء، سارعت إلى تفقد بريدي الإلكتروني لكنني ما وجدت شيئا. كانت الدهشة لا تزال تسيطر على كياني؛ فلم ألحظ تسمر العائلة كلها أمام شاشة التلفاز إلا حينما سمعت صراخ أمي. أسرعت نحو الغرفة مستفسرة، فأومأ لي أبي بالتزام الصمت، كانت الأخبار تبث مشاهد من تجمعات للناس، ثم صوت إطلاق النار، وبعض الجرحى المطروحين على الأرض، مشاهد أخرى لحي وقد تحول إلى دمار. وقفت غاضبة وقلت: «ماما أتصدقين أن هذه المشاهد في سورية؟ مستحيل، ماما، هذه مصورة في دول أخرى ويقولون إنها في سورية، لا لا مستحيل.» نظرت إلى أبي منتظرة تأييده لكنه ظل ساكتا وقد أطفأ التلفاز، سكوته أفزعني، وأوقع في قلبي الشك. كان نادر هو من تكلم فقال: «طيب طيب، ابقي أنت نائمة في كتبك وأوهامك أحسن لك.» وغادر الغرفة.
سكوت أبي ودموع أمي وكلمات نادر رافقتني طوال تلك الليلة فلم أنعم بنوم جيد، بالإضافة إلى الأحلام المزعجة. ويوما بعد يوم أخذت الأخبار تكثر، ونار الحرب تحرق مدنا أكثر، أصابتني حيرة شديدة، لم أكن متثبتة من أي شيء. ما كان مؤكدا حقا هو أحاديث الناس التي يتهامسون بها، ونظرات الذهول التي تطفو على الوجوه، وحالة الترقب الحذر الذي سكن الجميع.
كنت كلما حاولت أن أسأل أبي تجاهل أسئلتي ولاذ بالصمت، وماما لم تعد تشاهد الأخبار معنا أبدا. أما نادر فكان يخيفني؛ فهو يحدثني بأمور تدخل الرعب في قلبي لكنه بالتأكيد كان يبالغ كثيرا. هكذا نادر دائما، لم أعد أود أن أسأله عن شيء، كما أنه أصبح سريع الغضب ولا يجلس معنا إلا قليلا، أين أنت يا سعيد؟ كم أشعر بحاجتي إليك، إلى أن تكون هنا بجانبي أحدثك وجها لوجه، من غير أن تغير الموضوع كلما حاولت التحدث معك على الهاتف أو في «الفيسبوك».
مرة سألت جدو نور عن الموضوع قال: أخبريني برأيك أنت يا سماء؟ - لو لم أكن واقعة في حيرة شديدة لما أتيت إليك لأسألك عن رأيك. - طيب، ما شعورك تجاه ما تسمعين؟ - أشعر بخوف وحرقة في قلبي لكنني لا أصدق. - لا تصدقين؟ أم أنك لا تريدين أن تصدقي؟ - ماذا تقصد؟ - أحيانا يقف الخوف حاجزا بيننا وبين الحقيقة. - هل تعني أن ما يقال صحيح وواقع؟ - لم أقل هذا. - إذن كذب وافتراء؟ - لم أقل هذا أيضا. - طيب أخبرني! - إياك أن تصدقي يوما أي شيء تسمعينه أو ترينه ما لم تتثبتي به بنفسك؛ فليس كل ما يعرض هو الحقيقة، وما قنوات التلفزة إلا أدوات موجهة بسياسات مالكيها. - ألا وجود للحقيقة إذن؟ - بلى، هناك حقيقة ثابتة وراسخة فيما يتعلق بما يجري اليوم، ويمكنك أن تثقي بها، وهي أن الشر الذي يكمن في النفس الإنسانية لا حدود له.
أخذت أفكر في كلماته مليا، وانتابني الخوف مجددا، ثم قلت: وكذلك الخير، ألا يمكننا أن نثق به؟ - بلى بالتأكيد، لكن الفوضى هي ما تخيفني؛ لأنها ملعب خصب للشر، ومتى ما حدث ذلك انتفت كل معالم الإنسانية من البشر، وتحول الناس إلى كائنات أسوأ من الوحوش والسباع يأكل بعضهم بعضا، والله يستر مما سيحدث مستقبلا. - أنت تخيفني جدو! ماذا علي أن أفعل؟ - أمران اثنان؛ الحذر والمراقبة، ولنر ما ستئول إليه الأمور.
لكن ممن علي أن أحذر؟ ومن أي شيء؟ لم أشأ أن أسأله فقد أصابني الحديث بغم في قلبي. صمتنا قليلا ثم تذكرت رندة فقلت وأنا أبتسم: «حدثني عن رندة.» نظر إلي متفاجئا واكتفى بالابتسام، ثم قلت: «صحيح جدو لم لم تبحث عنها على الإنترنت؟» أجاب: «هذه أمور لا أفقه فيها مطلقا، ثم إنني أحب أن تعود هي طواعية من تلقاء نفسها، لا أن ...» وهنا رن هاتف جدو فأجاب وتحدث مع صديق له يدعى سليمان، وختم المحادثة بقوله: «نعم في البيت، أهلا وسهلا، بانتظارك.» قلت: «جدو، أتسمح لي بالبحث عنها؟» ابتسم وقال: «وهل يمكن ذلك؟» ضربت على صدري بيدي وأجبت بحماس: «اترك هذا علي.»
بعد دقائق دق الباب، فذهب جدو ليفتح وسمعته يسلم على صديق له بحرارة وحفاوة كبيرتين، لا بد أنه صديق عزيز جدا، بعد لحظات السلام دخل جدو مع صديقه إلى المكتبة. كان أطول من جدو بشبر على الأقل، بشعر رمادي كثيف، وعينين رماديتين أيضا، وبشرة أقرب إلى السمرة منها إلى البياض، «دري اللون» كما يقول أهل حلب. كانت عظام وجنتيه الواضحة تضفي على ملامحه نكهة رجولية طاغية، مع غمازتين غائرتين، وذقن مربعة تغطيها لحية خفيفة. كان يرتدي بزة رسمية سوداء مع قميص من الساتان الأبيض، وحذاء أسود لامعا، وكان يحمل حقيبة سوداء جلدية.
ابتسم وسلم علي حين رآنا، قال جدو: «هذه سماء جارتنا في الحي، وهي قارئة ممتازة، وتلك هي أختها فاطمة.» ابتسمت وقد شعرت بحرارة في وجنتي، ثم قال مشيرا إلى صديقه: «وهذا سليمان، جاري أيضا لكن في حارتنا القديمة في «الجبيلة»، وصديقي الذي استعدته مؤخرا، وشاعر سورية العظيم.» ضحكا معا وشعرت أنه يجب علي الرحيل، فاستأذنت ولم يستبقني جدو فرحلنا. رحت أمشي إلى البيت وصورة سليمان بغمازتيه الغائرتين وقامته المنتصبة ظلت ترافقني، إنه ملك! مثل الملك سليمان.
بعد يومين ذهبت مع أمي إلى الدرس الديني الذي كان قد توقف عدة أسابيع لأسباب نجهلها. كنت متحمسة له فقد افتقدته كل تلك المدة، كان كل شيء كعادته، الآنسة التي تعرف كل شيء بإشاربها الأبيض المطرز، والنسوة الباكيات، والسجادة المزركشة الجميلة، لكن ثمة شيء ناقص، شيء ما سبب لي غيابه غصة واختناقا غريبا، ولولا إثارة الأقاويل لاستأذنت خارجة، لكن بكثير من الجهد ألصقت نفسي بجانب أمي. كانت الآنسة تتحدث عن موضوع الزهد في الدنيا، وتروي القصص عن صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كانت بيوتهم تخلو من متع الدنيا وزينتها، وكيف كانت بيوت النبي ليس فيها إلا ما يسد الحاجة، وكانت الآنسة تتحدث بأسلوب يفطر القلوب، وتلون صوتها ببراعة تذرف لها العيون وتأخذ بالألباب. نظرت حولي فوجدت أننا نجلس على طقم من الأرائك من أفخم أنواع الخشب المحفور يدويا، وكذلك الستائر وطاولات المرمر، والمزهريات الكريستال، والثريات المذهبة، والسجاد وفناجين القهوة والصواني كلها من أرقى وأجمل ما يمكن أن تقع عليه العين، فضلا عن أن البيت نفسه في حي تجميل الفرقان وهو أحد أغلى الأحياء في حلب. هممت أن أقول لها: وماذا عن زهدك أنت؟ لكنني آثرت الصمت.
وبعد انقضاء بعض الوقت أقبلت إحدى السيدات متأخرة، وفور وقوع نظري عليها وعيت تماما ما كان ناقصا، إنها ابنتها الفتاة العشرينية النحيلة ، لم تأت معها اليوم. وفور انتهاء الدرس انتهزت الفرصة لأقترب من السيدة وأسألها عن ابنتها، وكأنما استفزها سؤالي أو أحرجها أو أرعبها، لكنها بالتأكيد لم تكن مسرورة برؤيتي ولا بسؤالي فتجاهلتني تماما وكأنني ذبابة طنت بقرب وجهها، فأزاحتني بظاهر يدها وأكملت حديثها. عدت لأمي وسألتها عنها، فرفعت حاجبيها وكتفيها وقالت: «ماذا تريدين منها؟ إنها لم تعد تحضر من زمان، تعرفين، صار وجودها محرجا لأمها التي هي النائبة المنتظرة لاستلام الدرس بعد انتقال الآنسة؛ فهي تحفظ القرآن كاملا، وتتابع دروس الشيخ عبد الحي.» شعرت بغضب شديد، طبعا فالفتاة المغضوب عليها صارت عارا على مركز أمها الديني. كتمت غيظي وسألت أمي عن مكان سكنها، وعرفت أنها لا تبعد كثيرا عن بيت الآنسة.
لم أنتظر كثيرا؛ فقد ذهبت وحدي في اليوم التالي ظهرا إلى بيت السيدة والدة الفتاة النحيلة. طرقت الباب وانتظرت، «مين؟» سمعت صوتا أنثويا من خلف الباب، قلت: «أنا سما بنت أم سعيد.» فتح الباب وأطل وجهها، إنها هي بالتأكيد وبالكاد تمكنت من تمييزها. قلت: «أنا سما، كيف حالك؟ افتقدناك في الدرس يوم أمس.» فابتسمت بفرح وفتحت الباب على مصراعيه، وضحكت بفرح طفولي وهي تلفظ اسمي وتجرني إلى الداخل، وأخذتني في حضنها، وكأنها كادت تبكي لكنها تمالكت نفسها حين سمعنا صوتا من بعيد ينادي: «من يا بنت؟» وسرعان ما أقبلت والدتها ترتدي ثياب الصلاة. خطوت إليها مادة يدي وقلت: «تقبل الله يا خالة، أنا سما، البارحة كنا معا.» وبوجه أشبه بحساء محترق قالت لي: «أهلا أهلا، أمك ليست معك؟» قلت: «كلا يا خالة، إنها في البيت، وتسلم عليك، وتسألك أن تشرفينا بزيارتكم يوما ما.» أخذت تتفحصني وتتفرس في وجهي الذي رسمت عليه ابتسامة مصطنعة، وقفنا صامتات هكذا ثواني. شعرت بحرج كبير، ثم أمسكت الفتاة بيدي قائلة: «تفضلي سما لا يمكنك الرحيل هكذا بلا قهوة.» ولم أنتظر، بل تبعت الفتاة إلى الداخل وجلسنا في الصالة. تبعتنا الأم وقالت لنا: «أكمل صلاتي وأعود.» وحدجتني بطرف عينها وذهبت، وفور اختفائها أمسكت الفتاة بيدي وقالت : لا تعرفين كم أنا سعيدة برؤيتك، كيف عرفت أين أسكن؟ - لا يهم، المهم أنت، لقد أقلقني اختفاؤك. - آه لو تعرفين! - ماذا؟
التفتت واقتربت مني وقالت همسا: أهلي منعوني من الخروج من البيت، حتى إلى المعهد والدرس والسوق إلا برفقة أمي أو أخي. - ولكن لماذا؟ - تعرفين، القصة نفسها، يوم فضحتني الآنسة، وا... وأمور أخرى ما أحب الحديث عنها، تعالي عندي كل يوم. - ليتني أستطيع لكن لا أظن أن والدتك أحبتني.
علت موجة من الحزن على وجهها، وصارت أكثر شحوبا ثم قالت: اتصلي بي، لا، أنا سأتصل بك، حين أجد الوقت مناسبا.
واستلت قلما من المنضدة ورفعت كم ثوبها لأكتب رقم بيتنا، وقالت: عجلي عجلي. وما كدت أنتهي من كتابة الرقم حتى أقبلت والدتها مع القهوة، فشربتها على عجل وخرجت.
في مساء ذلك اليوم اتصلت بي وتحدثنا قرابة الساعة، عرفت منها أنها ممنوعة من أي شيء يمكن لفتاة في مثل عمرها أن تحظى به، كم أنا محظوظة إذن! أحسست بالأسى تجاهها. تحدثنا بعد ذلك مرارا، كانت تحدثني خفية بعد نوم أهل بيتها، أو في غيابهم. لست أفهم لم هذه السرية، وكأنها تغوي شبابا لا قدر الله. عرفت عنها أشياء جميلة، وعرفت عني أنني أستعير الكتب وأقرأ، ورجتني أن أحكي لها عن كل الكتب والروايات التي أقرؤها، وبالفعل كنت كلما أنهيت جزءا أحدثها عنه، وكنت أقرأ لها بعض المقاطع، وكانت تستمع بانتباه شديد ونظل نتحدث عن الأحداث أو الأفكار، كانت أوقاتا جميلة جدا.
8
تواقيع كثيرة وطوابع أكثر، معاملات وأذونات وبراءات ذمة، ويوما تلو الآخر كان على نادر أن يستيقظ باكرا، باكرا جدا قبل «الشحاذة وبنتها»، ويصطف في الدور على أبواب الموظفين حتى يبدأ الدوام ويبدأ رحلته في الركض من مكان إلى آخر من أجل استكمال معاملة استخراج مصدقته الجامعية. كان غير مبال لمتاعبه، لكل تذمرات الموظفين وتقلبات مزاجهم، فحلاوة تخرجه كانت طاغية. وأخيرا سيحصد ثمرة جهوده، ثمرة سهره ودراسته طوال خمس سنوات خلت. كانت الأبواب مفتوحة أمامه اليوم مرة أخرى، وكان عليه أن يختار.
يقف نادر الآن عند الشباك الخارجي لشئون الطلاب في كليته، «دقيقة» هكذا قال له الموظف ليجلب له مصدقة تخرجه. ابتسم وهو ينظر إلى صورته المنعكسة على الزجاج، تذكر جدته تقول له: «وجهك الحلو يا ابني ما يناسب التجارة، الله خلقك لتكون عالما أو أستاذا جامعيا تتهافت عليك البنات.» أخذ نفسا عميقا ومسح حبات العرق التي نفرت من جبينه في حر آب «اللهاب»،
2
وصل الموظف أخيرا وفي يده أوراق، جلس على مقعده، وضع نظارته، وأخذ ينادي على أسماء الطلاب لاستلام مصدقاتهم، تلهف وترقب وانتظار ثم خيبة أمل. نفدت الأوراق واستلم الطلاب مصدقاتهم وانصرفوا فرحين، وبقي نادر مع واحد آخر، بادره نادر بالسؤال: «أستاذ، الله يخليك، أعطيتك أوراقي كاملة.» وكذلك قال الطالب الآخر. سألهما الموظف عن اسميهما، نظر إلى مكتبه، أخذ ملفا وناوله للطالب الآخر وقال: «تنقصك ورقة التبرع بالدم.» «وأنا، وأنا يا أستاذ.» قال نادر بيأس، فنظر الموظف إلى ملفه مرة أخرى وناوله إياه وقال: تفضل، ما عندي لك أي مصدقة. - كيف يا أستاذ؟ أوراقي كلها كاملة. - أعرف أعرف، لكن يا ابني ما وصلتني مصدقتك. - طيب وما الحل الآن؟ - راجع الامتحانات، ربما لم تنجح في إحدى المواد. - نعم! لم أنجح! - يا ابني لا ترفع صوتك الله يرضى عليك، أنا ما لي علاقة، قد يكون هناك خطأ ما، الأخطاء تحدث دائما.
ومنذ هذه اللحظة دخل نادر في دوامة من المراجعات والواسطات والالتماسات لمعرفة سبب عدم حصوله على مصدقته. كان عليه أن يحصل عليها قبل أن تنقضي مدة التسجيل على الماجستير، لكن لم يكن الوقت لصالحه. انقضت أشهر الصيف وانتهى وقت التقديم على الماجستير وعلى غيره من الفرص ونادر لا يزال يتنقل من مكتب إلى مكتب لمعرفة السبب، وظل السبب معلقا في المجهول وكذلك حلمه بالتخرج.
9
لماذا نحتفظ بصورنا القديمة وذكرياتنا؟ إننا ننظر إلى بقايا ذكرياتنا وكأنها أدلة على حياة كنا نعيشها، نبرهن لأنفسنا أننا مررنا بفرح ما، أو نثبت مدى قوتنا لأننا تجاوزنا حزنا ما، نحب الذكريات لأنها جزء مكون لشخصيتنا كما هي الآن، ولأن الذكرى مثل قطعة أثرية ثمينة، لا تحمل قيمتها في ذاتها وحسب بل من تقادم الزمن عليها، وهكذا هي ذكرياتنا كلما تقادمت زاد سحرها وتعلقنا بها. والصور جزء من الذكريات، من الماضي الخاص بنا أو بأحد عزيز علينا. الصورة كانت لحظة خاطفة انتقلت إلى العدم لكن عدسة الكاميرا قامت بتخليدها إلى الأبد.
أنظر إلى هذه الصورة بين يدي؛ فقد كنت أقسمت على سعيد أن يرسل لي مع كل رسالة صورة فوتوغرافية له، ومع ذلك فإنه غالبا ما كان يركن إلى الوسائل الأحدث والأيسر في تراسلنا. واليوم وصلتني منه رسالة مكتوبة، فرحت لها ككنز ثمين؛ فأنا أفضل حميمية الرسائل المكتوبة بخط اليد، والصور المطبوعة على تلك الرسائل الفجة الباهتة والصور الباردة المنبثقة على الشاشات عبر البريد الإلكتروني. أتذكر كيف كنا نتحلق حول أمي وهي تقرأ علينا رسائل خالي محجوب المقيم في أمريكا من سنوات، كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري، كان يرسل لنا طردا مملوءا بألعاب وهدايا لي ولسعيد ونادر؛ فلم تكن فاطمة قد ولدت بعد. كانت هداياه هي الأثيرة على قلبي؛ فقد عبرت القارات والبحار والمحيطات لتصل إلي من مكان بعيد، ومن أمريكا تحديدا.
أتلمس الورقة المكتوبة بخطه فأجد روحه منبثة في ثنايا الأحرف، أشتم حنيني إليه في عبير الكلمات والنقاط والسطور. أنظر إلى صورته فأجد رجلا مبتسما سعيدا، الشفاه تكذب، لكن العينين لا تعرفان الكذب، أرى فيهما حزنا أصيلا يأبى الإخفاء والتورية، أسأله ما بك؟ فلا يجيبني إلا ب «الحمد لله، أموري تمام.» وأنا أعلم أنه يخفي شيئا، تذكرت تلك الليلة التي سمعته فيها يبكي بكاء مخنوقا قبيل سفره بأيام، هل لذلك علاقة بحزنه اليوم؟ رن هاتفي، أجبت فإذا هي مريم صديقتي، قالت لي: ماذا لديك مساء الغد؟ - لا شيء، لماذا؟ - ألا تعرفين؟ - ماذا علي أن أعرف؟ - بالله عليك أين تعيشين؟ ما عرفت أن رائد «السوبر ستار» عائد غدا إلى حلب، والعالم كله ذاهب إلى استقباله في المطار ؟ - حقا؟ - نذهب معا إذا أردت، لكن علينا أن ننطلق قبل ساعتين على الأقل، تعرفين الزحام. - لا أعرف، ربما لن أرافقك. - لماذا؟ - لا أعتقد أن أبي سيسمح لي. - كما تشائين، اتصلي بي إذا غيرت رأيك.
أغلقت الهاتف وأنا أبتسم عجبا، تخيلت رائدا في المطار وسط المعجبين والمعجبات والكاميرات والصحفيين، يا لهذه البلاهة! لن أكون من بينهم بالتأكيد. فتحت كمبيوتري المحمول، لكن لحظة! لم لا؟ أمشي بين الزحام ويراني فجأة، فينادي علي «سما، سما.» يسحبني من يدي، يطوقني بذراعه ونهرب من الصحفيين والناس كلهم. صدح صوت الكمبيوتر عاليا بموسيقى إقلاعه، ففزعت وابتسمت لسخافة خيالاتي!
كنت أنوي البحث عن رندة، لكنني آثرت تفقد بريدي الإلكتروني، فوجدت رسالة جديدة من شادي. كنت قد نسيت أمره تماما، نظرت إلى تاريخ اليوم، إنه الثاني عشر من أيار، لقد مر أسبوعان على زيارتي لمعرض الخطر. كنت قد نويت الذهاب في اليوم التالي إلى الجلسة الصحفية، لكنني لم أذهب. فتحت الرسالة، كان فيها صورة واحدة للوحة كتب فيها «فإنك بأعيننا.» كانت مزخرفة بعناية وباللونين السماوي والذهبي وتدرجاتهما، كانت الأحرف متداخلة بشكل جميل ومبهر، التقاطع والتشابك في الانحناءات والخطوط، والتباين بين الزوايا والمنحنيات لكن بانسجام تام بهرني حقا. نظرت إلى عنوان المرسل إليهم، لم يرسلها لأحد غيري! أعرف رسائله الممررة السابقة جيدا، إنه لا يستخدم أبدا خاصية إخفاء عناوين المرسل إليهم، وكنت دائما أجد اسمي محشورا بين أسماء العشرات من عناوين البريد الإلكتروني. أما هذه الرسالة فهي مرسلة لي وحدي، هل يحاول أن يقول لي شيئا؟ حاولت أن أتذكر وجهه، لم أفلح كثيرا، بل أعتقد أنه كان عاديا جدا. في الحقيقة أنا لا أذكر منه سوى ربطة عنقه الصفراء. عدت لأنظر في اللوحة ووضعتها خلفية لشاشة كمبيوتري.
ثم دخلت على صفحتي في الفيسبوك، قرأت أول منشور كان يتحدث عن إنجازات الخليفة سليمان بن عبد الملك. تذكرت سليمان الملك صديق جدو، ومن باب العبث المحض كتبت في شريط البحث اسمه كاملا، وظهرت لي صفحته الوحيدة، فتحتها، وأخذت أقرأ منشوراته وأتصفح صوره. لقد كان كنزا بحق، ملكا كما أحسست بذلك أول مرة، ملكا لنواصي اللغة التي يكتب بها، وملكا للكاميرا التي يلتقط بها صوره الفنية الرائعة باللونين الأبيض والأسود دائما لوجوه وأشجار وحشرات أيضا. لقد كان مصورا محترفا، وأديبا مفكرا، وشاعرا مرهفا، زاد إعجابي به وشعرت أنني أريد أن أعرف عنه أكثر.
وبعد وقت سمعت أذان العشاء، فانتبهت أنني سلخت الوقت ما بين المغرب والعشاء في قراءة منشوراته. تذكرت أنني أريد البحث عن رندة، فكتبت على شريط البحث، رندة عبد الحفيظ، بالعربية مرة وبالأحرف اللاتينية أخرى، ورحت أبحث في الأسماء الكثيرة التي ظهرت، لكنني لم أجد من بينها «رندة جدو»، «رندة جدو»؟ سألت نفسي، فكرة! كتبت: «رندة نور»، ظهرت لي أربع حسابات بهذا الاسم، تسارعت نبضات قلبي، شعرت أنني اقتربت منها. كان الحساب الأول متروكا، والثاني لواحدة ذات مزاج عال على ما يبدو فجميع صورها بلا ثياب تقريبا، أما الحساب الثالث فهو لفتاة في العشرين من عمرها، والرابع لسيدة عجوز! ليست رندة واحدة منهن بالتأكيد، أخذ اليأس يتسلل إلي، ربما ليس لديها حساب على الفيسبوك أصلا، نحيت الجهاز جانبا، أغمضت عيني بحثا عن حل، لكن مهلا لحظة، «جدو نور» بالنسبة إلى رندة هو «نوار» وليس «نور»! فتحت عيني وقد اشتعلت حماستي من جديد، وعلى الفور كتبت في شريط البحث بالعربية: «رندة نوار»، وظهرت لي صفحة وحيدة لا ثاني لها! تفاجأت لحظة، وحبست أنفاسي، هل سألتقي بها حقا هنا في الفضاء الأزرق في الفيسبوك؟!
10 «الحياة مثل قطعة شوكولاتة بالحليب، أول قضمة منها تملؤك لذة، فتغريك بالمزيد، وبينما أنت في لذة منتهية واشتهاء مستمر تنفد الحلوى، ولا ينوبك في الآخر إلا ذكرى لحلاوة ماضية، وتكدس السكر في دمك! والحكيم من يلتذ بالحلوى على مهل.» كان هذا أول منشور للسيدة رندة، رندة نوار، لقد وجدتها! يا لروعة اللقاء! لكنه لقاء من طرف واحد؛ فأنا أعرفها، أما هي فلا. ترى كم يبلغ عمرها الآن؟ ربما هي في أوائل الخمسين. وجدت أنها تقيم في مدينة «قونية » التركية، كانت هناك عدة صور لها، وكمن وجد كنزا بعد طول بحث رحت أفتح الصور باللهفة التي زاد من وقودها بطء الإنترنت وتأخر تحميل الصور. كانت جميلة القوام، ليس كما تخيلتها تماما؛ فهي تميل إلى القصر قليلا، شعرها الكستنائي المجعد كما في خيالي، لكن تنورتها لم تكن مزركشة. كانت في معظم الصور ترتدي إما سراويل عريضة داكنة، أو فساتين من الكتان المزهر، ورغم سنوات عمرها فإنها كانت امرأة جميلة، سيدة بحق، تعرف تماما ما يناسبها ويبرز مواطن جمالها لكن بكبرياء وتعفف، وبالتأكيد لم يكن الشال السماوي ليغيب عن معظم صورها. كم كانت فرحتي شديدة! أمسكت الهاتف لأزف البشرى لجدو نور، لكنني تراجعت أخيرا، أريد أن أصنع له مفاجأة، وعلي أن أعرف رندة أكثر، أن أقترب منها، وأحاورها، ربما أتمكن من استمالتها للمجيء إلى هنا؟ من يدري؟ يا للحماسة التي تسري في كل خلية في! أخذت أضع سيناريوهات مختلفة لكيفية لقائهما، كم سيكون رائعا!
وبينما أنا مسترسلة في خيالاتي سمعت صفقا عنيفا لباب بيتنا، إنه نادر عاد من صلاة الجمعة وهو يصرخ وكذلك أبي وأمي. خرجت لأستطلع الأمر، فوجدت الجميع في حالة هياج كبير، نادر يصيح بغضب، وأبي بوجه عابس، وأمي بعينين دامعتين خوفا. لقد كان نادر في «مظاهرة» بعد الصلاة، يا للمصيبة! لماذا يفعل شيئا غبيا كهذا؟ هل قصد الخروج؟ أم وجد نفسه متورطا؟ لم أكن أدري، لكن أبي وبخه كثيرا.
وأسبوعا بعد أسبوع زادت الأمور سوءا في حلب، صار التيار الكهربائي ينقطع باستمرار أكثر، ولساعات أطول، وكذلك الماء، وأخذت الأسعار ترتفع بصورة جنونية. لم أعد أتمكن من الذهاب كثيرا لجدو نور، وخيمت على حياتنا سحب كثيفة من النزق والكآبة.
كنت أتسمر أغلب اليوم أمام شاشة التلفاز لمعرفة الأخبار أو أقرؤها على الإنترنت، بحسب وجود التيار الكهربائي أو انقطاعه. في البداية كنت أعد الأيام السوداء ثم تطاولت الحرب واستطالت أذرعها لتنهش كل مدينة وقرية في سورية، وانبثقت لها أذرع وأرجل متفرعة جديدة تنشب أظفارها في قلوب الأطفال والأبرياء، وتلون الخبز بالدم، وتصبغ المدارس والبيوت والجوامع بشيطان الموت الرجيم. عندها فقد كل شيء معناه، واختلطت الأرقام وتوقف العد سامحا لليأس المعجون بالعجز ليتسلل إلى حياتنا كسرطان خبيث يذيب روح الحياة في قلوبنا.
لم يعد لي من متنفس وسط هذه الكآبة سوى صديقتي الجديدة نتحدث معا على الهاتف يوميا تقريبا. ومع أن ظروفها في البيت كانت أكثر بؤسا مني لأنها محبوسة تماما، إلا أنني شعرت أن حاجتي إليها أكبر من حاجتها إلي. تقاربنا في أفكارنا كثيرا، تحدثنا عن مختلف الأشياء، وضحكنا وثرثرنا. كتبت في صفحتي على الفيسبوك:
مهما كانت الظروف فليس لك من ملجأ سوى الحب الخالص.
الفصل الرابع
1
في غرفته بقي وحيدا غريبا جاثيا على ركبتيه، غارقا في بحر من دموع وذكريات، وبقايا قصة حب، فقرر أن يستمر في صمته ووحدته؛ فحبهما لم يعلم به أحد، وكذلك ألمه وفجيعته لن يعلم بهما أحد، وغيابها من حياته أضاف إليها قدسية خاصة، فعاهد روحها على الصمت، وقرر الرحيل فما عاد يطيق أن يرى مملكة يعبق كل ركن فيها بشذاها لكن بلا ملكة، فجمع ما تبقى من ذكرياتها وخبأها في صندوق وسافر بعيدا. وها قد حان الوقت لينتحب، ليعالج ألما مؤجلا، ويبكي دموعا مخبأة كانت طي الكتمان زمنا طويلا، ليعيد نكت جرح رم على فساد فظل ينز وجعا وكآبة ونحولا.
تذكر كيف هاتفها ليلا أول مرة، وكيف أخبرها بحبه، تذكر صمتها وخوفها، ورعشة صوتها وعذوبة أنفاسها، كانت المرة الأولى والأخيرة التي يسمع فيها صوتها عبر الهاتف، ثم تذكر الاتصال الثاني وكيف كان متلهفا لسماع صوتها لكنه بدلا من ذلك سمع صوت سيدة قالت له موبخة: «يا ابني هذا الرقم لا تتصل به، حرام عليك أعراض بنات الناس، البنت عرسها بعد أسبوع، اذهب الله يهديك.» لحظتها انتهى كل شيء بالنسبة إليه، كم عاود الاتصال بعدها لكن الرقم كان خارج الخدمة كل مرة، ما الفائدة ولم يبق للأمل مطرح؛ فحبيبة الروح ستزف لرجل غيري؟ تلك اليدان الصغيرتان، كم أشتاق إليهما! كان يشتعل نارا كلما تخيلها في أحضان الغريب، نار ما عاد يطيق تحمل حريقها فترك كل شيء وغادر بعيدا.
على الأرض بقي زمنا، يقلب في صفحات ذاكرة ممزقة، يقرأ كلمات، ويتأمل صورة، ويشتم بقايا زهرة يابسة وعلبة عطر فارغة، ويقلب ورقة شوكولاتة ذابلة، ولكل منها سجل في الذاكرة، ومشهد من الحب لا يزال حيا ينبض في عالمه. جلس محاطا بجدران إسمنتية سميكة، الشبابيك مغلقة، والستائر مسدلة، في ذهنه عتمة تامة، وفي قلبه شعلة متوهجة، وفي عينيه حزن عميق عميق. شعر أنه محبوس في قمقم، مخبوء في غياهب ظلماته، مثل مارد جبار ينتظر اللمسة السحرية ليتحرر من أسره. جلس محاطا بجدران إسمنتية سميكة، والأحلام تطوف به بعيدا جدا، تطير به في أعالي السماوات، وتغوص في أغوار نفسه والحبيبة، ثم فتح عينيه ليرى يديه مكبلتين بمختلف الأصفاد.
يرن الهاتف، إنها سماء، ماذا تريد الآن؟ لن أجيب، ليس الوقت مناسبا أبدا، يرن الهاتف مجددا ولا يتوقف، لعله أمر طارئ، وبتثاقل يمسك بهاتفه المحمول ويرد، يصغي، يسمع ضجيجا، صراخا عاليا، بكاء متقطعا، يصيح: «آلو، سما، آلو، آلو ... سما.» مزيد من الضجيج والصراخ، وأخيرا يسمع صوتها المتهدج بالبكاء: «قتلوه، يا سعيد قتلوه ...» بكاء شديد، «من؟» يصيح وقد ارتجف قلبه هلعا، يصيح مجددا، «من يا سما من؟» ويأتي صوتها مزلزلا كقيام الساعة: «قتلوه، قتلوه.»
2
كانت تجربة فريدة من نوعها، علمتني الكثير، بدأت بها غيرة من صديقاتي اللاتي أصبحن كلهن تقريبا يتعلمنها، وقتلا للأوقات المملة الطويلة بلا كهرباء؛ فلم نعد نرى الكهرباء إلا مرة كل شهر أو شهرين؛ فقد تحولت حياتنا بالكامل، نصبح ونمسي ولم يعد لنا من هم سوى ترقب عودة التيار، أو انتظار الماء، وسكن الترقب والحذر الشوارع، وصرنا نتنفسه في الأجواء، ونراه جاثيا على ملامح الناس، والموت مثل مهرج يمط لسانه عابثا هازئا، ويبتلع بضحكاته الهستيرية المزيد من البشر.
نهارات صيفية طويلة وحارة، ما الذي يمكن عمله؟ ابتعت إبرا بمقاسات مختلفة وكرات من الخيوط الصوفية والقطنية المتعددة الألوان، بدأت بتعلم أول الغرز. كان كل شيء يبدو مستحيلا بالنسبة إلي؛ مسك الإبرة والخيط، إدخال الخيط وإخراجه من الفتحة التالية. فكرت كثيرا في الاستسلام، وفعلا تركت الموضوع لمدة طويلة، لكن لست أدري كيف كان يأتي إلي ويصطدم بشغفي، فأتجاهله مجددا، لكنه يعود ليتحداني ويواجهني، فاستسلمت إلى خيوطي وإبرتي. وبعد كثير من الجهد بدأت بإتقان الغرز الأولى، ثم انتقلت إلى عمل نسيج متكامل، عملت مربعا من غرزتين فقط، حقيقة لم أصدق يوما أنني سأنجز شيئا ما بشغل الإبرة (الكروشيه)، كان ذلك يمنحني شعورا رائعا. بدأت بالغرز الأولى، وشيئا فشيئا أخذ يظهر الشكل وتتضح ملامحه، وكأنني أزخرف لوحة من المنمنمات، وأخذت الأشكال تتبدى؛ مثلثات ودوائر ومربعات. وما كان يفاجئني حقا هو أنه في أثناء عملي لغرز معينة تتشكل زخارف جديدة لم أحسب حسابها، وتظل تكبر وتنمو، ويظل الجمال يولد الجمال حتى لو لم أحسب له حسابا.
أنهيت المربع، وأخذت أتأمله بحب أمومي، وبفخر كبير، كيف ابتدأ هذا العمل المنجز والكامل بغرزة واحدة بسيطة لتأخذ مكانها الصحيح وتتكرر مرارا وتكرارا ليتكون هذا العمل الرائع! لكن كل شيء بحسبة معينة وميزان دقيق؛ إذ كان علي أن أعمل بعدد معين، فإذا أخطأت في الحسبة ظهرت نتائج مختلفة في نهاية العمل.
أخذت أفكر في هذا المربع الذي بين يدي، شعرت بشبه كبير بيني وبين إحدى غرزه، فما النفس إلا غرزة بسيطة في نسيج هذا الكون الهائل، تشكل معه لوحة متناسقة متناغمة جميلة، صحيح أنها غرزة صغيرة واحدة، لكن جمال الكون كله مختصر فيها، وما جماله إلا انعكاس وتكرار لجمالها لأن يد المصمم التي صممتها واحدة. فتحت الفيسبوك وكتبت في صفحتي:
احذر أن تخرج عن نظام اللوحة العظيمة، إن ذلك لن يؤثر على وجودك فحسب، بل على جمال اللوحة كلها، فإذا نظر إليها الناظر فسيميز على الفور أنك وحدك مصدر القبح والنفور.
3 - ما قصة جارتك الصغيرة؟ - من تقصد؟ - تلك الفتاة التي صادفتها عندك. - آها، تقصد سما؟ سما صايغ؟ - نعم، إذا كان هذا هو اسمها. - يا رجل، ما لك ولها؟ - لا شيء، مجرد فضول. - قلت فضول؟ - لماذا تنظر إلي هذه النظرة؟ (يضحك.) - اسكت وإلا خرجت من فوري . - لماذا الغضب يا صاحبي؟ - أنا لست غاضبا. - أعتقد أنك قررت تركي وحيدا في عالم العزوبية الرائع. - ماذا تعني؟ - أنت تعلم تماما ما أعنيه، من الواضح أن البنت أعجبتك. - هراء. - إنها متميزة، وجميلة، وذكية. - ... - هيا هيا لا تنكر، أنا صديقك يا رجل ولست أمك. - أنت تهذي، ثم إنها صغيرة جدا. - وأنت معجب بها جدا.
4
النوم مثل الحب، عليك ألا تتكلف البحث عنه؛ إذ كلما بالغت في الحصول عليه، أوغل هو في الهرب منك؛ لأن له موعدا يأتيك طواعية، فإذا تسلل إليك فلا تقاوم، عليك أن تستسلم وحسب، فإن قاومت فقد لا يعود أبدا. كنت أتقلب في فراشي مستجدية النوم لكنه تدلل طويلا، كلمات صديقتي لا تزال تتردد في أذني: «لماذا لم تأت يا هبلة! كل أهل حلب كانوا في المطار. كان الزحام شديدا وكأنه يوم المحشر، ومع ذلك تمكنت من الاقتراب منه. لقد صافحته، هل تصدقين؟ تلامست يدانا! كم كان ذلك رائعا! تعالي اليوم وستشمين رائحة عطره على يدي.» تضحك طويلا، وأنا أغص بقلبي كثيرا.
مضى على كلماتها هذه شهران أو ثلاثة ربما، لكنني لم أتمكن بعد من نسيانها على الرغم من كل الأحداث الحزينة التي عشناها، أين هو الآن؟ لقد غادر البلد بكل تأكيد؛ فمن سيبقى فيها سوى أمثالنا من الناس العاديين؟ وبينما أنا في سريري إذا بالمصباح يضيء معلنا عودة التيار الكهربائي، يا للمفاجأة! الساعة الثانية صباحا! فزعت من سريري، وركضت خارج الغرفة، كانت أمي قد استيقظت، رحت أقفز وأصفق بيدي: «جاءت الكهربا، جاءت الكهربا.» هتفت أمي: «ماذا سنفعل أولا؟ ا... امم ... ماذا سنفعل؟ الغسيل؟ كي الملابس؟ لا لا، كنس الغرف؟ الشواحن، بسرعة سما ضعي كل الشواحن في الكهرباء.» هرعت لتنفيذ ذلك ووضعت جهازي الكمبيوتر أيضا في الشحن فقد فرغت بطاريته منذ أكثر من عشرة أيام. لقد أصابتنا عودة التيار الكهربائي بلوثة من فرح وجنون. نظرت إلى النافذة كانت كل شبابيك جيراننا مضاءة أيضا، وتعلو أصوات المكانس الكهربائية منها. قمت بتكنيس الغرف بدوري، بينما كانت أمي تضع ثيابنا في الغسالة الكهربائية لأول مرة بعد شهرين من غسلها لكل شيء بيديها. مرت ساعة ونصف والتيار لا يزال يشرفنا بحضوره، جلست أمي لترتاح قليلا وذهنها يعمل: «ماذا نفعل؟» قلت لها متعبة: «ننام أمي، ننام، هذا ما سنفعل، أرجوك.» ثم قامت باتجاهي وقالت: «قومي انقعي البرغل، سندير الكبة!» «ماما! كبة في الفجر؟» صحت بذهول، لم تجبني واتجهت إلى المطبخ. العجيب أن أصوات «ماكينات الكبة» بدأت تتهادى إلى سمعي من بعض الجيران! ضحكت في سري، واتجهت إلى المطبخ. استنفار جماعي، هذا ما أصاب حينا على الأقل في هذه الساعة المتأخرة من الليل التي أحالتها الكهرباء نهارا.
وجدت أمي جالسة على الكرسي تبكي بحرقة، وأبي واجم بجوارها، عرفت السبب على الفور، لقد تذكرا نادرا فهو وحده من كان يجلب لنا «ماكينة الكبة» من فوق الخزانة من غير أن يستعين بشي. حاولت التخفيف عنهما وسحبت كرسيا، صعدت على الفور وأنزلتها قائلة: «هيا، هيا، فلنباشر، فمن يعلم متى تنقطع الكهرباء؟» لكنها هذه المرة كانت كريمة معنا؛ إذ بقيت أربع ساعات متواصلة، أنهينا في أثنائها عمل «دراويش الكبة» والكبة بالصينية، ولم ننته إلا وضوء النهار يملأ البيت، عندها فقط نمت ك «القتيل» كما يقولون.
كنت محظوظة في اليوم التالي بتصفح الإنترنت من جهازي المشحون جيدا، فتحت صفحة رندة وكنت قد تركتها زمنا. كانت منشوراتها في الغالب صورا لبعض المعالم الأثرية والزخارف الإسلامية المعمارية في تركيا. أما كتاباتها فهي في الأغلب تحمل طابعا صوفيا إلهيا، ذكرتني بكتابات طاغور الذي قرأته منذ عام تقريبا، وكانت قد قبلت صداقتي فأرسلت إليها رسالة خاصة أبدي فيها إعجابي بكتاباتها، ورغبتي في التواصل معها. أرسلت الرسالة فإذا بمربع ينبثق من أسفل الشاشة معلنا وصول رسالة جديدة، من صديق جديد، لقد كانت من سليمان «الملك»!
الآنسة سماء، يسعدني قبولك صداقتي، ومع أنني لم أرك سوى مرتين فإنني رأيت روحك منثورة على صفحتك، وقرأتك في منشوراتك الجميلة، كل المودة لك. سليمان.
وتراءت لي ابتسامته المزينة بغمازتين جميلتين وهو ينظر إلي، أعدت قراءة الكلمات مرات كثيرة ، والغرور يملأ ساحاتي، وينفث في بسحره.
بماذا أجيبه؟ كتبت مرات ومرات، وكنت أمحو كل مرة. فكرت ألا أجيب، لكنه سيكون تصرفا غير لائق، خاصة أنه ظهر متصلا في هذه اللحظة. إنه يجلس الآن أمام الشاشة ينتظر ردي، وطالما ابتدأ هو حوارا فليس أمامي إلا أن أكمله، أليس كذلك؟ لكن علي أن أتقمص جيدا الغرور الذي ملأ به رأسي. كتبت أخيرا: «أشكرك أستاذ» وأضفت الكلمة الأخيرة عمدا، وضغطت
enter
ووصلت الرسالة. انتظرت، وانتظرت ولم يرسل شيئا، ثم خرج، يا للخيبة! طيب، هذا أفضل. عدت إلى صفحة رندة لكنها لم تقرأ بعد رسالتي. كانت بطارية جهازي الكمبيوتر توشك على النفاد، كتبت على صفحتي:
كثير من الأحداث توحد الشعور الجمعي لدى الناس، أعقدها وأبسطها، ومنها مثلا عودة التيار الكهربائي والماء معا في الثانية فجرا!
وقبيل أن تنفد البطارية فتحت بريدي الإلكتروني وإذا برسالة تصلني من شادي، وهذه المرة أيضا لي وحدي، ومجددا لوحة بخط الثلث كتب فيها «اقرأ باسم ربك الذي خلق.» وبينما كنت أتأملها أعطاني الجهاز تنبيها بقرب نفاد البطارية. ارتبكت وقررت على الفور إرسال رد له كتبت فيه: «لوحة رائعة! هل من مزيد؟» وأغلقت الجهاز، هل كان ما أرسلته صائبا؟
5
كنت متحمسة للقاء جدو نور ذلك المساء فقد مضى أكثر من شهر على آخر زيارة له. حرصت على أن أحضر جهازي الكمبيوتر لأشحنه عنده؛ فقد ركب مؤخرا مولدة كهربائية يستعين بها في أيام انقطاع الكهرباء الطويلة. وبصعوبة بالغة قاومت رغبتي في الحديث عن رندة وعن اكتشافي لصفحتها على الفيسبوك؛ فلم يستو بعد السيناريو الذي كنت أطبخه في رأسي. جلست أحدثه عن رواية كنت قد حملتها من الإنترنت «كالماء للشوكولاته» للاورا اسكيبيل، قرأت عليه بعض النصوص المقتبسة منها، وبينما نحن نتحاور إذا بي أشعر بدوار خفيف، أو ربما رعشة قصيرة، وخلال ثانية أو أقل شعرت بضغط كبير على رأسي. وفي اللحظة التالية سمعنا دويا رهيبا راح يتردد في أذني كصرخة موت، صاحت فاطمة والتصقت بي، عانقتها وخبأت رأسي بين يدي بطريقة آلية. لم أدر كيف حدث ما حدث بعد ذلك بسرعة كحلم، سمعنا أصواتا مختلفة في الشدة متقاربة في السرعة. سحبنا جدو من يدينا، أو ربما حملنا لست أدري، وجدت نفسي في قبو البيت وأصوات طلق ناري تسكت ولا تلبث أن تعود. كانت الدموع تنهمر من عيني من غير أن أبكي. لست أذكر إلا أنني كنت أعصر فاطمة بين يدي، وجدو واقف قبالتنا يتمتم بالقرآن أو الدعاء، دخل بعد قليل بعض الجيران، وجلسنا. وما إن هدأت الأصوات حتى التفت إلي جدو وناولني جهازي الجوال الذي لست أدري كيف وصل إلى يده، وطلب مني أن أطمئن أهلي عنا وأطمئن عليهم، وكذلك فعلت.
بقينا هناك زمنا حتى أظلم المكان، وانطفأ ضوء النهار. ومثلما يقوم شخص مدرب جيدا حال الأزمات، قام جدو بإخراج شمعات وكبريت وفوانيس زيتية صغيرة من خزانة كانت هناك، أضاء بها الغرفة، ومن مكان ما أخرج زجاجات من الماء والعصير وزعها على الجميع، يبدو أنه كان مستعدا لظروف كهذه جيدا.
كان الهدوء يلفنا، والتزم كل واحد منا بالصمت نؤازر به بعضنا، حينها فقط استرددت شيئا من رباطة جأشي، وهدأت الرعشة التي شلت حركتي، ورحت أتفحص المكان. كانت غرفة القبو المخصصة لبيت جدو نور، ربما خمسة أمتار في أربعة، في أعلاها شباك ضيق مغطى بقضبان حديدية يطل على الخارج، كانت باردة ورطبة قليلا، فيها سرير حديدي قديم، ومقاعد خشبية وطاولة، وصناديق من الكرتون، وعدة أدراج، ومكتبة صغيرة مملوءة بالكتب! «هنا أيضا!» قلت لنفسي، وبعض فرش الإسفنج ووسادات. كانت الأرضية مغطاة بحصر ملونة، وكان هناك رجل وزوجته وابنتاه اللتان توقفتا أخيرا عن البكاء، وامرأة في الخمسين من عمرها، وفتاة في عمري تقريبا مع أخيها. أسندت فاطمة على الوسادة، وقمت باتجاه جدو، أخبرته أني أريد العودة فلم يسمح لي، وأضاف: «قد نبات الليلة هنا.»
6
17 تموز، 2012م
التاريخ الذي قصم ظهورنا جميعا.
عجيب أمر هذا الإنسان، كل ما كان يجلب له مسرات الحياة يتحول في طرفة عين إلى منغصات لها ، إلى سكاكين حادة تحز ببطء ساخر أوتار قلوبنا المجهدة، فنتمنى ضربة قاصمة أو موتا رحيما لكنه لا يأتي، يظل يتفرج علينا متشفيا ربما، أو مستريحا من جولة صيد دسمة، مستجمعا قواه لقنص جديد. هنيئا للأموات، ويا حسرة على الأحياء!
السابع عشر من تموز، التاريخ الأسود الذي قلب حياتنا وحفر عميقا في قلب بيتنا الذي كان سعيدا، مزلزلا كل ركن وكل حجر وزاوية. كنت جالسة في الصالة أعمل بالكروشيه على حياكة مفرش لمكتبتي، وأمي كانت في اضطراب مبهم؛ فلا تلبث أن تجلس حتى تقوم وتنظر من الشباك، ثم تعود وتجلس، وكأن قلقا رحيما كان يجهزها للفاجعة، وفاطمة تلهو بعرائسها. وكالعادة تهادى إلى سمعنا دوي مدافع أو قذائف فلا فرق، أصوات صرنا نسمعها كل يوم ليلا أو نهارا، فندعو لمن سقطت فوق رأسه، ثم نكمل مشوار يومنا أو نغفو مجددا؛ فتكرار المصائب واختلاطها بتفاصيل حياتنا اليومية جعل من الفاجعة مثل نار التنور كلما حميت أكثر قست لها قلوبنا أكثر.
لكن أمي فزعت لذلك الصوت فزعا مختلفا، فراحت تتفقد قنوات الأخبار، لم أكن أجد مبررا لقلقها، ثم انقطع التيار الكهربائي، وأذن المغرب، وبعد أقل من ساعة أظلمت الشوارع إلا من وميض بعض السيارات المارة التي تلقي بشيء من أنوارها داخل البيت فيضاء للحظات ويغرق مجددا في العتمة. عندها طرق الباب طرقا خفيفا، حسبت أني واهمة، تكرر الطرق بصوت أعلى، ركضت أمي وكانت تصلي المغرب، مرتدية ثياب الصلاة قالت من خلف الباب: «من؟» رد الصوت: «خالة أم سعيد هذا أنا، رامي.» فتحت أمي طرف الباب مستجيبة لصوت صديق نادر الذي تعرفه جيدا، قمت واقتربت لأسمع بوضوح أكبر. أكمل رامي: «دخيلك يا خالة أنت أم مؤمنة، دخيلك احتسبي واصبري، والله سبحانه يجازيك الجنة.» كلمات قليلة يبدو أنه تدرب عليها مرارا قبل أن يقذفها في وجوهنا، لم أجد أمي في حالة كتلك الحالة، وضعت يدها على فمها مخفية شهقة مجروحة، وتهاوت على الأرض. أسندتها وصفقت الباب، وأجلستها على أقرب أريكة، جلبت لها الماء، ورحت أصيح من وراء الباب: «اذهب من هنا ولا تعد، هيا اذهب.» أشارت أمي إلي بيدها وتمتمت: افتحي له وأدخليه. - ماما! هذا واحد كذاب. - أدخليه.
ارتديت ثياب الصلاة وفتحت الباب، كان لا يزال واقفا وخلفه شبح رجل، دخل رامي وجثا على ركبتيه أمام أمي، وقال: «يا خالة، هو والله شهيد، ارفعي راسك، كان طاهرا ومصليا!» صحت فيه: «شهيد ماذا؟ أحذرك، هذا موضوع لا مزح فيه، اخرج من هنا حالا.» لكنه حتى لم يلتفت إلي، كان ينظر إلى أمي بثبات، فرفعت يدها، وحسبتها ستصفعه، لكنها حطت بها على كتفه برقة، ووجهها يحمل أغرب ملامح كان لي أن أراها على وجهها يوما؛ الخوف ممتزجا بحنان، وقالت: «كنت أعرف منذ زمن، لكن لم أكن أدري أن وقته قد حان بهذه السرعة، أحضروه إلى هنا!» حملقت في أمي وقد بدأ الذعر ينال مني، ضعفت ساقاي عن الوقوف فجلست محاولة استيعاب المصيبة التي سقطت على رءوسنا، قال رامي: «متأكدة يا خالة أنك قادرة على رؤيته؟» فوقفت أمي على الفور وقالت: «هيا، أدخلاه حالا.» ثم التفتت إلي وقالت بحزم: «اتصلي بوالدك، أخبريه أن يأتي، واذهبي إلى فاطمة ولا تخرجا حتى أسمح لكما، أسمعت؟ لا تخرجا حتى أسمح لكما.» وبالقوة المتبقية في ساقي سحبت نفسي لتنفيذ ما طلبت، ودخلت غرفة فاطمة أرتجف، وبالرغم من حر تموز، فقد أحسست بالبرد ينبع من قلبي، يصيبني بخدر مؤلم، ووخز في أطرافي، لففت الغطاء حولي وأخذت أتخيل ما يجري في الخارج، رجلان يحملان جثة! جثة من؟ جثة من؟ رباه! تساءلت فاطمة عما يجري، وهمت بالخروج فسحبتها، وقفلت الباب، وقبضت على المفتاح بكل قوة. حاولت أن أبكي، أن أصرخ لكن المشاعر جفت في حلقي، كانت فاطمة مذعورة وبدأت تتذمر. تذكرت أن علي مكالمة والدي، ماذا أقول له؟ كيف؟ ورغم كل اضطرابي شعرت أن علي أن أهدأ بأي طريقة فقد راح تذمر فاطمة يتحول إلى صراخ، وأنا علي أن أستدعي والدي، وأساند أمي.
في تلك اللحظة تذكرت زوجة خالي التي ماتت منذ عام تقريبا. أهكذا يكون الإحساس بالفقد؟ أي وحشة؟ وأي فراغ يسمم العقل والفكر، ويضرب ظلما منابع الدمع الرحيمة فلا نقدر على البكاء؟ اتصلت بوالدي وتحايلت عليه ليحضر، وهدأت من روع فاطمة وأعطيتها جهازي الكمبيوتر لتلعب، ورغم كل الخوف الذي كنت على يقين أنه ينتظرني حزمت أمري وخرجت، وليتني لم أفعل!
7
كان معطفه «الباردسون» يضفي على قامته الطويلة ومنكبيه العريضين جاذبية خاصة، بالإضافة بالطبع إلى سنوات عمره التي ترشحه لأن يكون أستاذا جامعيا، وليس طالبا على مقاعد الدراسة؛ فقد التحق بالكلية نفسها التي كان يدرس فيها قبل أن تغيبه ظلمات الاعتقال أربعة عشر عاما. وكأن ذلك لم يكن كافيا لجذب الطلاب إليه، وخاصة الصبايا اللاتي سحرتهن الخصلات الفضية أكثر من صرعات الشباب وتسريحاتهم الغريبة؛ فقد أضاف إلى هيئته مسحة من الرزانة والرسمية أكسبتاه شيئا من المظهر الودود والغامض في الوقت نفسه. ومنذ يومه الأول، اكتسب صداقات عديدة من باب المساعدة، أو من دافع الفضول لا أكثر، ولكن أصدقاءه وجدوا مشكلة فيما عليهم أن ينادوه به؛ فكلمة «عمو» التي يطلقونها عادة على غيره ممن هم في مثل عمره لا تليق بزميل لهم في الدراسة، كما أن نطق اسمه بلا ألقاب ينقص من قدره ويقلل من ذوقهم، مع أنه ألح عليهم ألا بأس في ذلك لكنهم لم يجدوها لائقة. وأخيرا مازحه أحدهم قائلا: «ما رأيك ب «حجي»؟» ضحك زملاؤه، أما هو فقد أعجبته الكلمة وقال: «لم لا؟ فأل حسن.» ومن يومها التصق به اللقب «حاج سليمان».
وبعد سنوات من التجاور على مقاعد الدراسة اكتسب شعبية أكبر، وصار أكثر انفتاحا مع زملائه، فارتاحوا له وغدا بمثابة الحكيم الذي يلجأ إليه الشبان خصوصا؛ فقد كسب مودتهم بعد أن كان منافسا قويا لهم في الاستحواذ على إعجاب الحسناوات وقلوبهن.
كان مستندا في ذلك اليوم على أحد المقاعد الحجرية في ساحة الكلية متخذا من أوراق الأشجار العملاقة ملاذا له من شمس آب الحارقة. ارتشف رشفة من علبة الكولا الباردة ووضعها بجانبه، وأعاد قراءة الصفحات التي بيده؛ فبعد ساعة سيدخل الامتحان التكميلي للمادة التي رسب فيها. كان يراقب من بعيد ذلك الشاب الأشقر وقد مضى عليه أكثر من ساعة وهو ينتقل من شباك إلى شباك في نزق ظاهر. إنه يعرفه جيدا فهو طالب يتقدمه بعام دراسي، ساعده هو وأصدقاؤه مرات عديدة في شرح شيء، أو وهبوه كتبهم وملخصاتهم التي انتهوا منها. إنه شديد الانفعال، «كل الشباب كذلك» حدث نفسه مبتسما، أو لعله يحب أن «يطالع شقاره»
1
بين الحين والآخر.
أكمل حاج سليمان قراءة ما بيده وعينه على الشاب، بعد دقائق، جلس الشاب على أقرب مقعد واضعا رأسه بين يديه. هز حاج سليمان كتفيه وأكمل دراسته فلم يتبق سوى نصف ساعة على موعد الامتحان.
وصحيح أن الحاج سليمان لم يجده حين خرج، لكنهما تحدثا على الهاتف مساء، ومن يومها تقاربا أكثر، وصارا يلتقيان صباحا في الكلية، أو مساء في بيته مع صديقيه الآخرين يتسامرون ويأكلون ويتحدثون عن همومهم. كان الحاج سليمان حريصا في اختيار زملاء الدراسة ممن يسمح لهم بدخول بيته في حي الأعظمية؛ فهو لا يريد تطفلا من أي نوع على حياته الخاصة، وخاصة فيما يتعلق بذكرياته الأليمة. وصحيح أنهم في مثل عمر أولاده، إلا أنه انسجم معهم وبادلهم الود والثقة ومشاق الدراسة، وهم بدورهم عوضوه شيئا من حنان الأبوة الذي لم يذقه يوما؛ فقد عملت سنوات الاعتقال الطويلة على تشويه مشاعره، وسلبته كثيرا من الحنين. ولما لم يجد من ينتظره من أهله بعد خروجه، فلم يعد يعبأ بالعلاقات الإنسانية الحميمة التي يتقارب فيها الناس بقلوبهم. وهكذا نأى بنفسه عنهم، وأبعدهم عنه، معتبرا أي تقرب من أحدهم إما تجسسا عليه، أو تطفلا أخرق في أحسن الأحوال، وللسبب نفسه لم يتورط بارتباط مع أي امرأة بخطبة أو زواج. كما أنه ظل متخوفا من أي انفتاح إنساني إلا مع أصدقائه القدامى الذين لم يبق منهم سوى واحد أو اثنين، أو مع زملاء الدراسة الجدد الذين ظل يقنع نفسه أنهم حالما يتخرج سيخرجون من حياته كما دخلوها. لكنه مع كل اجتماع بهم في بيته يجد نفسه يتعلق بضحكاتهم، بدعاباتهم الخفيفة منها والسمجة، يستغرب من لهفتهم واندفاعهم إلى الحياة، ويجد نفسه كلما غادروه في وحدة قاتلة ما كان يشعر بها من قبل. لقد تمكن هؤلاء الشباب من أن يبثوا روح الحياة فيه، أعادوا إلى قلبه جذوة الحنين، هذه القوة الرحيمة التي تسم القلب الإنساني بسمتها العذبة، لكنها تمزجه بألم الفقد والشعور بالاحتياج إلى الآخر، وهذا ما كان يزعجه ويؤرقه.
الحنين إلى أي شيء؟ ما كان يعرف تحديدا، أحيانا كان يلعن الجامعة والشباب وكل من عرفه، ثم لا يسلو عن همه إلا بالقراءة أو تصفح «الفيسبوك» والكتابة على صفحته التي أنشأها له أحد زملائه الشباب؛ ف «هذا زمن الفيس» كما ألحوا عليه. وفي مدة قصيرة وجد نفسه منخرطا فيه بشكل أكبر، خاصة أنه أعاد اتصاله بمن بقي له من أقاربه الذين يقطنون خارج البلد. كما أنه جعل من هذا الفضاء الأزرق مستوعبا لا ينتهي ولا يتململ لكل ما كان يجول في خاطره من أبيات شعرية، أو نتف نثرية، يستعيد بذلك أيام صباه الأدبية، ويسكب فيها ما حنكه الزمان به من دراية وحكمة.
كان جالسا إلى مكتبه ذلك المساء كعادته يتصفح الفيسبوك، لكنه كان يمرر إلى الأسفل في شرود واضح ولا يقرأ منشورا، ثم خطرت تلك الفتاة على باله. إنها ماثلة أمامه الآن حين رآها عند صديقه، صبية جميلة متوسطة الطول، بوجه مستدير كقرص القمر يحيط به إشارب من الساتان السماوي وترتدي معطفا كحليا طويلا. كان في عينيها السوداوين سر جاذب، مزيج من العناد والخفر، من الحيوية والكبرياء. مرر المؤشر إلى خانة البحث، كتب متذكرا كلمات صديقه جيدا، وتلك الحمرة الخفيفة التي اصطبغت بها خداها: «سماء صايغ»، وعلى الفور ظهرت له صفحتها. تأكد من أنها هي، ثم أخذ يقرأ منشوراتها، قرأ بعناية فائقة، كلمة كلمة. ظل يقرأ ويمرر إلى الأسفل والساعة تدور تك تك تك، وهو يقرأ والزمن يمضي، ووجهه يتلون بما يقرأ، يرفع حاجبيه إعجابا، يبتسم مرحا، يقطب جبينه مستفهما، حتى انتبه على صوت تسميع مسجد الحي . عندها فقط نظر إلى الساعة وهاله مرور الزمن بهذه السرعة، لكنه عاد إلى الفيسبوك يقرأ، وأذن الفجر، وأقيمت الصلاة، وهو يقرأ، حتى انتهى إلى آخر منشور كتبته، وهو أول منشور لها في الفيسبوك منذ أنشأت صفحتها عام 2009م: «مرحبا، أنا جديدة في الفيسبوك، شكرا لكل من قبل صداقتي، من أهلي وأقاربي وصديقاتي، وأرحب دائما بصداقات جديدة، أنا سما صايغ » ومن غير تردد ضغط على زر طلب الصداقة. أغلق جهازه، واندس تحت لحافه جالبا معه ولأول مرة شعورا بالرضى المعطر بالحنين.
8
كان صوتها يرتجف بشدة، بكاء وشهقات، حتى إنه سمع صوت والده من الخلف يصرخ بكلام غير مفهوم، عليه أن يفهم ماذا حصل لكنه لم يعد يسمع سوى البكاء، وانقطع الاتصال، ما هذه الاتصالات البائسة؟ أهكذا تفعل في هذا الوقت الحرج؟ لعلها ليست سماء، نظر إلى الرقم المتصل مجددا، لكنها هي بلا شك، تبا! أيكون الأمر صحيحا فعلا؟ شعر بظلمة تلفه وتتركه وحيدا مرتجفا غريبا. عاود الاتصال، عليه أن يتأكد، كان لا يزال يتشبث بوهم أن ما سمعه مجرد دعابة سمجة، أو تشابك خطوط هاتفية عتيقة. ابتهل إلى الله في سره، وحاول طرد الأسوأ من ذهنه. رنين، ورنين ولا رد، عاود الاتصال مرات كثيرة، لكن بلا فائدة، انهار أخيرا على أرضية الغرفة المغطاة بالموكيت الكحلي المهترئ وقد بدأ الغضب يتسلل إلى عقله. قام وأخذ يرمي كل ما يراه، الوسائد والأوراق والكتب، كاسات الزجاج والقدور، راح يلعن بصوت عال. وأخيرا سقط على وجهه يعاود الاتصال، مرة ومرة ومرة، كاد الرنين يصيبه بالجنون، لعن الغربة والناس والعمل وكل شيء.
أخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا في خطوات محمومة فوق أكداس الخراب الذي أحدثه للتو، غير عابئ للزجاج المكسر الذي بدأ يدمي قدميه الحافيتين، وإذا به يلمح من بين الركام، ورقة قصدير ملونة، يعرفها جيدا. إنها غلاف حبة الشوكولاتة، التي كانت الشيء الوحيد الذي تلقاه منها، انتشلها فحملته بعيدا إلى ذلك اليوم الهني معها تحت شجرة الزيزفون. ومن غير تفكير، حمل هاتفه وراح يكتب الرقم ، إنه لا يزال يذكره جيدا فقد كان رقم هاتفه قبل أن يعطيه لها. انتظر قليلا منتظرا أن يسمع صوت المجيب الآلي بأنه خارج الخدمة، ولكن يا للمفاجأة! سمع رنينا منتظما، تسارعت دقات قلبه، وراح الأمل الأليم يتسلل مجددا إلى قلبه المكلوم.
انقطع الرنين ولم يجب أحد. اتصل مجددا ومع الرنة الأولى فتح الخط، حبس أنفاسه منتظرا، لحظة، لحظتان، لا صوت، شعر بالحرج والارتباك، فقال: «آلووو، آلو.» وأخيرا أتاه صوت من الطرف الآخر: «نعم؟» كيف يمكن لثلاثة أحرف أن تفجر في قلبه بركانا، مزيجا عجيبا من حنان وشوق وفرح وخوف؟ أخذت ضربات قلبه تتسارع بجنون؛ فقد مضى أكثر من عامين على آخر مرة سمعها، شكر الله في قلبه أن منحه نعمة سماعها مجددا. كان هذا وحده كافيا؛ فكأنما سكب صوتها على قلبه المشتعل ماء الحياة، «آلووو، نعم، من هناك؟» ألح الصوت مجددا، مسح عينيه بطرف كمه وقال: «كيف حالك سلمى؟ ما عرفتيني؟ أنا سعيد، كيفك سلمى هل أنت بخير؟ آه يا إلهي! لم أكن أظن أنني سأسمع صوتك يوما.» توقف ملتقطا أنفاسه ومخففا من وطأة اللهفة على قلبه، لكنه لم يتلق سوى الصمت، الصمت مجددا؟ انتظر لحظات سقط فيها في ظلمة حارقة، «لقد تركتني وانتهى الأمر، ما الذي تريده الآن؟» هكذا أجابت بكلمات حولت الماء إلى نار في طرفة عين فاشتعل القلب مجددا. - أنا لم أتركك أبدا ولن أفعل. - ... - سلمى، لم لا تجيبين؟ - أين أنت؟ كأنك خارج البلد! - من زمان يا سلمى، من زمان خرجت، تركت البلد بعد فقدك، ما عادت مكانا يصلح لي، أردت الهرب وحسب، كيف لي أن أستمر في حب سيدة متزوجة؟ - متزوجة؟! ما هذا الذي تقوله؟ - نعم سلمى، أمك أخبرتني أنك ستتزوجين، ولما حاولت الاتصال مجددا كان الرقم مغلقا، يشهد الله كم حاولت وكم سهرت واحترقت، ثم تركت كل شيء وسافرت. - ... - سلمى. (صوت بكاء متقطع.) - ماذا سلمى؟ ماذا؟ - كيف يمكن أن تفكر أنني قد أتزوج غيرك؟ أما الآن فلا فائدة من كل هذا. اعذرني، علي أن أغلق ؛ فصديقتي في مأزق، علي أن أقف إلى جانبها، وداعا سعيد ...
9
مات نادر، استشهد، أو قتل، لا أعرف؛ فأنا أساسا لم أعد أعرف عنه شيئا منذ عام تقريبا. قال لنا رامي صديقه إنه أصيب بطلقة رصاص طائشة استقرت في صدره مباشرة، من قتله؟ لا أحد يدري! لم أعد أتذكر التفاصيل الأخرى التي قالها؛ فقد ظلت أمي تصغي باهتمام، أما أنا فانتابتني نوبة غضب كبيرة، شعرت بها لأول مرة في حياتي، كان غضبا صرفا تنامى إلى حقد ممزوج بقهر، أحسست بغشاوة سوداء على عقلي وقلبي، وصارت الكلمات والحركات تصدر عني بمحض إرادتها لا إرادتي، وكأني فقدت السيطرة على جسدي. كانت لحظة لا تنسى، تلك التي رأيته فيها مغطى بدمائه، محمولا على الأكتاف، فقدت نفسي لحظة أن رأيته، شعرت بالجنون، عرفت كيف يولد الشر في النفوس، وأحسست بعاصفة من غضب، ثم بكثير من الندم؛ فلم أعرفه جيدا، لم أجلس معه ما يكفي، لماذا قتل نادر؟ ولمصلحة من؟ أحسست أن تلك السنوات التي قضيتها معه لم تكن كافية، والآن غاب إلى الأبد، وفات الأوان.
كنت أصرخ، وألعن وأسب وأشتم، حتى إني ضربت أصدقاءه الذين حملوه، ولطمت وجهي، كم كانت أمي حكيمة حين طلبت مني ألا أخرج! ذلك المشهد الذي رأيته سلبني كل شيء، كل رغبة لي في الحياة، كل أمل وكل متعة، صرت أعيش كل يوم بقرف كبير، وصورة وجهه بخصلات شعره الذهبية المغطاة بالدماء والتراب لا تفارق مخيلتي.
بعدها غص بيتنا بالمعزين، وجوه تأتي وأخرى ترحل، نهار وليل، وليل ونهار، أياد تصافحني، تربت على كتفي، تعانقني، كلمات جوفاء أسمعها: «البقية في حياتك، عظم الله أجركم، عليك أن تصبري، بل أن تفرحي وتفخري.» أبتسم مجاملة وأدعو عليهم في سري، ألمح التعاطف والأسى في عيونهم، لكن ما إن يشيحوا بوجوههم عني حتى يتهامسوا في شئونهم الخاصة، في زوج فلانة الذي طلقها، وتلك التي اشترت سيارة جديدة، وفي سجادة الجيران الباهظة وابنهم الأرعن. تصلني أصواتهم، فأنظر إليهم من بين دموعي، فيعاودون تمرير أصابعهم على السبحات التي بين أيديهم ويتمتمون بشفاههم، أو يعودون لينظروا نظرات جوفاء في المصاحف المفتوحة أمامهم، فألعنهم مجددا! «شهيد الوطن، الخائن، الإرهابي، شهيد الحرية، العميل، البطل» كلها كلمات قيلت في شخص واحد وغيرها كثير، لكنهم لم يقولوا أهم توصيف له: إنه أخي! لم يتحدثوا عن الشامات التي تزين وجهه وعنقه، لم يذكروا القطط والسلاحف التي ربيناها معا، أو ملصقات سيارات البورش واللامبورغيني على جدران غرفته. لم يقولوا شيئا عن حساء الدجاج الذي يفضله، أو مسقعة الكوسا التي لا يمكن أن يأكلها، ولا السلة المعلقة فوق باب الصالون والتي لم يكن أحد يحرز فيها الأهداف غيره. إنهم لا يعرفون شيئا، ومن لا يعرف شيئا لا يحق له أن يعزيني فيه، ولا أن يترحم عليه، ولا حتى أن يلعنه.
دفناه في مقبرة جبل العظام وحدنا تماما، بعد أن صلينا عليه في البيت بحضور إمام مسجد عمار بن ياسر. هكذا كانت إرادة والدي، أو هي تنفيذ لإرادة أخرى، لا أعرف، ثم انتهى وجود نادر إلى الأبد، وابتدأ وجود جديد خبيث يتسلل سرا إلى بيتنا ويسمم حياتنا؛ فعلى الرغم من رباطة الجأش والصلابة الكبيرة التي أظهرتها أمي يوم تلقينا الخبر وأيام العزاء، إلا أنها بعد ذلك انهارت تماما، لم تعد تقوى على عمل شيء؛ فهي إما تصلي أو تبكي أو مستلقية في غرفة نادر، ولا تتحدث إلا قليلا، وأبي قلما نراه؛ فقد صار يتعمد البقاء في العمل لساعات أطول، وفاطمة صارت تأتيها نوبات من الهلع ليلا فتستيقظ باكية إثر كابوس مخيف. وفجأة وجدت نفسي أتحمل مسئولية البيت كله، ومسئولية مساندة أمي وأختي، كان علي أن أتحايل على ألمي؛ فلم يكن هناك أحد غيري. استلمت أعمال البيت كلها، وشعرت لأول مرة بالعبء الكبير الذي كانت تحمله أمي. ومما زاد الأمر سوءا استمرار معاناتنا مع الماء والكهرباء، بلا أمل لنا لحل قريب. كما انشغلت تماما عن أشغالي الكروشيه، وعن القراءة أيضا، مع انقطاع شبه متصل للهواتف الأرضية والإنترنت.
تغيرت حياتنا، وتبدلت معها ملامح حلب؛ فشارع النيل الذي كنا نقطنه وكذلك الأحياء المجاورة صارت أرصفتها مفترشا للباعة لمختلف البضائع ، بائع الحلوى بجوار بائع الخضار والفواكه، بجانبه بسطة ملابس داخلية، وأخرى لأوان منزلية وكهربائية وجوالات مستعملة أو مسروقة، ويرافق كل هذا روائح الفلافل المقلية بزيوت رديئة، أو كباب مشوي مع الكبدة أو العجة. لقد «تبهدلت» الأحياء الراقية بحسب وصف عمتي. ومما زاد من سوء الوضع ارتفاع الأسعار الجنوني؛ فما كنا نشتريه بمائة ليرة تضاعف مرتين أو ثلاثا أول الحرب، ثم وصل إلى عشرة أضعاف. وإذا ناقشت أحدهم عن الغلاء صاح في وجهك: «يعني ما تعرف عن هبوط الليرة أمام الدولار وغلاء المازوت؟» وما دخل الدولار أو المازوت في سروال الجينز أو كيلو البندورة؟ حاولت مع أبي مرارا لأقنعه بالسفر فنخرج من البلد كما يفعل كثيرون، وكذلك ألح عليه سعيد، لكنه كان متشبثا برأيه كثيرا؛ فإلى أين سنذهب وليس لنا من عمل ولا دار؟ أحيانا كنت أفهمه وأعذره، وغالبا ما شعرت بالقهر والظلم من قراره؛ فأي مال وأي عمل هو أهم عنده من أرواحنا؟ ألا يكفي فقدنا لنادر؟
كتبت على صفحتي في الفيسبوك:
الحرب ورم خبيث، قلما دخل بيتا فخرج منه بسلام.
10
على حافة سريرها جلست، تتجاذبها مشاعر شتى، وتخبط بها أمواج متصارعة من غضب وحنين وانتشاء، لا يزال يتذكرني بعد عامين تقريبا! راحت تدندن في سرها: «خطرنا على باله، خطرنا يا هوى ...» ابتسمت، اتجهت إلى المرآة تلمح التماع السعادة في عينيها، ثم ذرفت دمعات سخية من القهر والظلم الذي لحق بها من أقرب الناس إليها. أسرعت إلى هاتفها النقال، ضغطت على زر الذاكرة، فظهر رقم آخر اتصال وارد. كتبته على ورقة خبأتها بعناية تحت ثيابها، وسارعت بمسح الرقم من الذاكرة، ثم أعادت الجهاز إلى مخبئه. لم تكن تستخدمه أبدا؛ فلم يكن فيه رصيد على أية حال. كانت فيما مضى تقوم فقط بالرد على الاتصالات القليلة الواردة التي كانت تطلب صاحب الرقم الأصلي «سعيد»، لكنها تغلق الخط فورا بمجرد سماع الصوت وتتأكد أنه ليس هو. ويوما بعد يوم قلت الاتصالات الواردة، حتى اختفت تماما؛ فبعد آخر مرة تحدثا فيها اكتشف أخوها الجهاز، لكنها بعد أيام ولحسن الحظ وجدت الشريحة سليمة في سلة المهملات بعد أن صادر أخوها الهاتف النقال، فوضعت الشريحة ذاتها في جهاز قديم لم يفتقده أحدهم. ومرت الأسابيع والأشهر وأملها باتصاله يذوي كشمعة بائسة، كان اليأس يقتلها والقلق أيضا. لم تكن تعلم سببا لغيابه المفاجئ رغم وعوده ومشاعره التي بدت لها صادقة جدا. سؤال واحد ظل ينهش صدرها كصرخة مكتومة، كطلقة نارية تغرس في قلبها وتحدث فيه ألما متجددا يوما بعد يوم: لماذا؟ هل حدث له مكروه؟ هل ندم؟ هل تراجع وفقد الثقة بي؟ وعلى الرغم من مشاعر الغضب والمقت وليالي البكاء الطويلة فإنها أبقت بطارية الجهاز ممتلئة على أمل أن يتصل يوما ما.
وها قد اتصل الليلة في هذه الساعة القدسية، لكنه الآن بعيد جدا! لا يهم، المهم أنه لم يتوقف يوما عن حبي! لقد كانت لعبة خبيثة أبعدته عني. كانت ترغب بشدة أن تندفع إلى أمها وتكشف لها كذبتها، أن تصرخ وتنفس عن غضبها، لكن ليالي البكاء الطويلة علمتها الصبر والتأني. أيقنت أنها بذلك ستكون الخاسرة الوحيدة مجددا، فالتزمت الصبر والانتظار؛ فأيام قليلة من الانتظار مع أمل كبير، لا تساوي شيئا أمام عامين مع يأس بائس.
الفصل الخامس
1
حل الخريف أخيرا، كنت متلهفة لقدومه، فأجواؤه الحالمة تأخذني كل مرة إلى عوالمه الجميلة، غيوم حانية تحجب قسوة الشمس، ونسائم باردة تلطف ليالينا الصيفية الحارة بلا كهرباء، وأمطار خفيفة، وبرودة لطيفة، كم أحب الخريف! لطالما حملته الكثير من آمالي، بتحسن حالتي، وانتشالي من الاكتئاب الذي بدأ ينخر في زوايا الروح. وها قد جاء تشرين، لكنه لم يقدر إلا على جر أذيال الصيف الحزين، جاء تشرين متعريا من سحره، متخليا عن بهائه، نازلا من عليائه؛ فلا غيومه ساحرة، ولا أنسامه عاطرة، ولا أمطاره إلا كأياد وقحة تطرق أبواب قلوبنا فتجرحها وتنكأ الذكريات.
دخل الشتاء دفعة واحدة، وغشي بيوتنا، وتسلل إلى عظامنا، كان قاسيا أكثر من المعتاد، أم أننا شعرنا بذلك نتيجة شح مواد التدفئة وغلائها؟ أم بسبب تواطؤ برده مع زمهرير آلامنا وفجائعنا؟ أم مما نشهده كل يوم من تكاثر ذلك السرطان المخيف الذي يتجلى في وجوه تجار الحرب وما يمارسونه علينا من ظلم لا نملك له دفعا؟ لا فرق؛ فعلى كل حال، وحيثما تقلبت بنا الدنيا كنا نلاقي القسوة.
وتحت وطأة هذه الظروف أحس بي أبي أخيرا، نظر إلي ذات صباح وألح النظر وقال: «ما لك مصفرة هكذا؟» وكأنه لا يعلم! ثم جذبني من يدي وأحاط كتفي بذراعه وقبلني على جبيني، وقال: «الله يرضى عليك، انتبهي على نفسك.» ومثل بركان خمد طويلا، راحت الدموع تنفجر من عيني وأخذ قلبي يرتعد، حتى عجب لي والدي وراح يتفحصني ويسألني: «ما بك يا بنت؟ مريضة؟» كنت عاجزة عن الكلام، والعبرات تخنقني، وقد سمحت لنفسي بالبكاء لأول مرة على صدره بعد وفاة نادر بهذا القدر من الحدة. ساقني أبي من يدي وأجلسني بجواره وظل صامتا، وأنا أتنهد مغالبة موجة جديدة من البكاء، ثم أمسك هاتفه المحمول وطلب رقما، وراح يتحدث مع جارنا «جدو نور». ابتسمت في سري فكم كنت مشتاقة للجلوس إليه في مكتبته الحانية! أنهى أبي المكالمة وقال: «أخذت لك موعدا غدا لتذهبي إليه، واستعيري منه ما شئت من الكتب. هيا هيا، قومي واغسلي وجهك، وأعدي لي القهوة.» قفزت فرحا وصفقت بيدي، وعانقته مبتهجة، فقد سمح لي بالعودة إليه بعد آخر مرة اضطررت لقضاء الليل بطوله عنده. من يومها منعني أبي من الذهاب إليه خوفا علينا أنا وفاطمة من مواقف مشابهة؛ ففي آخر الأمر، أن يصيبنا شيء ونحن في بيتنا مع والدينا وتحت نظرهما، خير من أن نكون بعيدتين عنهما.
لقد كان لموقف والدي ذلك اليوم فعل السحر في قلبي، استعدت في لحظة الكثير من الجمال، أخذ قلبي يمتلئ بالمعاني. شعرت أن علي أن أكتب، لم أنتظر، بل ذهبت على الفور وفتحت جهازي الكمبيوتر. دخلت إلى صفحتي على الفيسبوك، وجدت كثيرا من الإشعارات وطلبات الصداقة وعدة رسائل؛ فأنا لم أتصفح الإنترنت منذ خمسة أشهر تقريبا، وقبل أي شيء كتبت على صفحتي:
الإنسان هش كقشة، قد تميته الأحداث، لكن فعلا واحدا من الحب الخالص كفيل ببث روح الحياة فيه.
لا تستهن بالكلمة الطيبة، قد تحيي بها روحا.
وعلى الفور أتاني إعجابان لكل منشور؛ أحدهما من صديقتي مريم، والآخر من الملك «سليمان». إنه متصل الآن! يجلس إلى جهازه ويقرأ منشوراتي! ابتسمت، وفتحت طلبات الصداقة، أغلبها من أقاربي، وبعض صديقاتي في الثانوية، وكان منها حسابات لا أعرف أصحابها فقمت بحذفهم، ثم عدت إلى صفحتي. لكن لحظة! كأنني قرأت اسم «شادي أشتر» من بين الحسابات التي حذفتها؟ فتحت صفحة طلبات الصداقة مجددا، لكن يا للأسف لقد ذهب الاسم، لا بأس، كتبت في محرك البحث اسمه، وظهرت لي ثلاثة حسابات تحمل الاسم ذاته، فتحتها كلها وعرفته على الفور، كان هذا سهلا جدا؛ فصفحته مليئة بصور الخط العربي مما كان يرسمه ويزخرفه، كما ظهرت صورته على «البروفايل» إنه هو بلا شك، تذكرت شكل وجهه أخيرا. كانت الصورة في مطعم «نيو مول» تحديدا، عرفت ذلك من مقاعده الجلدية الحمراء، وأمامه طبق من المثلجات المزينة بالبسكويت والشوكلاتة بطريقة فنية جميلة، وشمسية خضراء صغيرة تكمل جمالية الطبق. ضغطت على زر قبول الصداقة، ورحت أفتح صوره، فلم أجد أي صورة له سوى واحدة، ملامحه تتسم بالبساطة والطيبة، بعينين بنيتين واسعتين وشعر أسود ولحية خفيفة، كان يرتدي قميصا أبيض وسترة سوداء من الشامواه. وبينما كنت أتأمل صورته، ظهر لي إشعار جديد بتعليق على منشوري، إنه من الملك! كتب: «الحياة تتدفق فينا بلا انقطاع، يكفي أن نفتح عيون قلبنا عليها لنشعر بالحب.» ضغطت على زر الإعجاب بتعليقه، فوصل تعليقه الثاني على منشوري الثاني: «الكلمة الطيبة صدقة.» وأيضا وهبت تعليقه إعجابي!
عدت إلى شادي، جمعت بعض المعلومات عنه من خلال صفحته؛ فهو متحفظ كثيرا، عرفت ذلك من قلة أصدقائه، وعدم وجود صور له سوى اثنتين، ومن خلال منشوراته؛ فمنشوراته تنحصر في شيئين اثنين؛ لوحاته الخاصة بالخط العربي، ولوحات مختلفة لفنانين عالميين. كما أن تعليقاته وردوده لأصدقائه مختصرة وقصيرة ورسمية جدا؛ فغالبا ما يجيب على إطراء أصدقائه وأقاربه ب: «شكرا لك، أشكر مرورك وكلماتك، هذا من لطفك وذوقك.» عرفت أيضا أنه درس الآثار وهو يعمل في المتحف الوطني في حلب، كم هذا ممل! لا بد أنه محبط جدا ليعمل في متحف. ومن يدرس الآثار أصلا سوى من لم تؤهله علاماته في الثانوية لدراسة اختصاص أفضل؟ ما علينا، يبدو أنه لم يكن «شاطرا» في المدرسة.
ثم تذكرت «رندة»، ياه! كم من الأحداث مرت! لقد نسيتها تقريبا، ونسيت شغفي بها وبقصتها مع «جدو»، كنت قد راسلتها يوما. عدت إلى الرسائل القديمة المرسلة، فتحت رسالتي لها، لكنها لم تصلها، يبدو أنها لا تستقبل رسائل أبدا من الفيسبوك، مشكلة! كيف سأتواصل معها الآن؟ لم أرغب أن أكتب علنا على صفحتها، سيكون هذا مزعجا. فتحت صفحة معلوماتها مجددا، أبحث عن أي عنوان يوصلني إليها. وجدت عنوانا بريديا، نسخته ورجوت أن يصلني بها. والآن، ماذا سأكتب لها؟
كتبت ومحوت كثيرا، لم يسعفني خيالي في اختلاق سبب لتواصلي معها. ما الذي يمكن أن يصلني بسيدة خمسينية؟ سوى معرفتي بقصتها مع جدو نور؟ وبالطبع فإن هذا آخر ما كنت أنوي أن أقوله لها. كتبت أخيرا:
سيدة رندة، تحية طيبة
من خلال المصادفة الجميلة تعرفت على صفحتك، وأعجبتني منشوراتك، أحسست أنني أشبهك، وأريد فعلا أن أستفيد منك أكثر. لقد قبلت صداقتي على صفحتك في الفيسبوك، وأرجو من لطفك قبولي للحديث معك على الماسنجر أو أي وسيلة أخرى.
ممتنة لك أنا كثيرا.
سما صايغ
وأرسلتها.
2 «كيف حالك؟» ظهرت لي نافذة محادثة صغيرة من أسفل شاشة صفحتي في «الفيسبوك». إنها من شادي «الحمد لله» أجبته، ماذا أكتب بعد؟ هل أسأله عن حاله؟ هل أبدي إعجابي بصور لوحات الخط التي يرسلها لي كل يوم على بريدي؟ ماذا أكتب؟ إنه لا يعرف شيئا عني، بأي صفة يسألني؟ وأنا كذلك! لا أعرف عنه شيئا. شعرت باضطراب خفيف، فخرجت من «الفيسبوك» وأطفأت جهازي، واستلقيت على سريري أفكر.
ماذا يريد مني؟ وماذا أريد منه؟ إنه مثل شباب هذه الأيام يرغب باللهو مع الفتيات والتسلية؛ فهو لا يعرفني ولم يرني إلا مرة واحدة، ما هذا العبث؟ لماذا لا يتوقف عن مفاجأتي كل يوم بلوحة خط على بريدي؟ لكنني أنا من طلبت منه ذلك حين أرسلت له: «هل من مزيد؟» ماذا أفعل؟ كيف أوقعت نفسي في هذه اللعبة الخطرة؟ لكن عن أي خطر أتحدث؟ وهل سيخرج من الشاشة ليؤذيني أو يخطفني مثلا؟ كم هذا سخيف! أنا أحببت أعماله وجذبتني لوحاته، وكانت فرصة لي لأتعرف على هذا الفن الجميل، ما المشكلة في ذلك؟
عدت إلى جهازي وفتحت «الفيسبوك» قبل أن ينفد شحنه، كان شادي قد خرج ولم يعد متصلا، لكنني وجدت رسالة من رندة، يا لفرحتي!
العزيزة سما
سرني اهتمامك بمنشوراتي، أهلا بك، يسعدني التواصل معك، ستجدين مرفقا برقمي على «الواتساب» للتواصل.
رندة
رائع! الآن أستطيع أن أتعرف عليها عن قرب أكثر، حفظت رقمها في جهازي، وأرسلت إليها على الفور، ومن يومها وأنا أراسلها بشكل شبه منتظم، أسألها عن بعض منشوراتها ونتطرق لأحاديث كثيرة متشعبة، كانت كريمة معي بحسب ما يسمح وقتها بذلك. راحت فرحتي بها تزداد، وشعرت أنني أقترب أكثر في تحقيق حلمي بجمعها مع جدو نور.
3 - كيف حالك؟ - الحمد لله بخير، وأنتم؟ - لا أدري لماذا تصرين على مخاطبتي بصيغة الجمع؟ - هكذا أفضل، صدقني. - كما تشائين، لم تخبريني عن رأيك في لوحتي الأخيرة. - نعم إنها جيدة، لكن الخط الفارسي لا يعجبني كثيرا، إنه ليس بفخامة الثلث، ولا بجمالية الديواني ولا بهندسة الكوفي، أشعر أنه خط كسول وخامل. - هههههه، تحليل دقيق، وتسمية رائعة للخط الفارسي، إنه من الآن الخط الخامل. - لا تهزأ بي. - أنا لا أهزأ، على العكس يهمني رأي المتلقين في لوحاتي، وخاصة الأذكياء منهم! - هل تجاملني؟ - وهل يجب علي ذلك؟ - أنت مراوغ، تجيب عن سؤال بسؤال. - هذا أنا . - والألوان كذلك أجدها غريبة عنك ولا تناسب أبدا ما كتبته. - تقصدين الأحمر أم الأصفر؟ - الاثنين معا. صحيح، كنت قد سألتك مرة عن اللونين الذهبي والسماوي اللذين يطغيان على أغلب لوحاتك؟ كنا في مديرية الثقافة في معرضك، أتذكر؟ - وكيف أنسى؟ كان يوما مفصليا في حياتي. - بالتأكيد، أخمن شعور من ينجح في إنشاء أول معرض له. - نعم، ولسبب آخر أكثر أهمية بالنسبة لي، لن يخفى على ذكية مثلك. - لم تجبني عن الذهبي والسماوي! - أحسنت، تجيدين دائما التهرب من الموضوع، «يا ستي» الذهبي يرمز لكل مقدس وثمين، والسماوي رمز للتسامي والصفاء، وهذه سمات أصيلة في حضارتنا العربية وخاصة الدينية منها. - حضارتنا العربية لا يمكن فصلها عن الدينية. - نعم ممكن، ثم إن اللون السماوي صار أثيرا لدي أكثر منذ ذلك اليوم يا سماوي، أقصد يا سما! - هههههه.
4
من يدري ماذا يخبئ لنا القدر؟ من منا قبل أشهر قليلة يمكن أن يتوقع ما حدث في سورية؟ لو قال لي أحدهم إن هذا ما ستئول إليه الأمور في حلب لرميته بحجر ودللته إلى مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية. واليوم كل المستحيل صار ممكنا، وما كنا نعيشه كل يوم من أيام حياتنا العادية صار نعيما، صار ذكرى جميلة نتحسر عليها؛ الغاز الذي نغلي به قهوة كل صباح، الخبز الطازج الذي تمتلئ به المخابز، الخضار الرخيصة اللذيذة، الماء عصب الحياة الذي كان يخرج من صنابيرنا صالحا للشرب، نزهاتنا المتأخرة حتى الثالثة فجرا بلا خوف، عطلاتنا الصيفية الجميلة في اللاذقية أو صلنفة أو رأس البسيط، وغير هذا الكثير، أليس من الحكمة لو أحسسنا بجمالها لحظتها؟ بروعة امتلاكنا لها قبل فقدها؟ ألا ينطبق هذا على كل شيء من حولنا الآن وفي هذه اللحظة؟ لقد سافر سعيد، ومات نادر، وقبلهما رحل رائد، الشاب الذي كنت قد أعجبت به. توقفت عن القراءة واستعارة الكتب، وغرقت مدينتنا في أوحال الحرب القذرة، ما الذي يمكن أن يعيد إلينا الفرح؟ سألت نفسي كثيرا هذا السؤال، لكن أبعد شيء في الممكن أو في المستحيل يمكن أن يطرق بابك صباحا.
ركضت لفتح الباب وجدت فاطمة قد سبقتني، وكما علمناها فهي لم تفتح الباب، بل راحت تسأل: «من؟ من بالباب؟» وصلت ونحيتها جانبا لأنظر من «العين الساحرة» وكان أن وقع قلبي في رهبة المفاجأة، نظرت إلى فاطمة التي راحت تهمس: «من؟ من؟ ما بك؟» وأنا لا تكاد الرجفة في ساقي تسكن من الصدمة. عدت لأنظر مجددا من «العين الساحرة»، لأتأكد أني لا أحلم، أن عقلي لا يتوهم، آه يا قلبي، إنه هو! وبدل أن أفتح الباب، صحت بأعلى صوتي: «ماما ماما، سعيد!» وفتحت فاطمة الباب، إنه سعيد، نعم بلحمه وشحمه.
عاد سعيد ليعيد السعادة المسروقة إلى بيتنا، ليحول أيامنا إلى عيد، رأيت ضحكة أمي تعود إلى وجهها بعد غياب طويل. ومع أن أبي وبخه كثيرا على عودته في مثل هذه الظروف، ومن غير أن يخبر أحدا، فإني لمحت دموع الفرح تلتمع في عينيه حين عانقه. لقد تغير قليلا، صار أنحف وبدأت شعرات من الشيب تلتمع في شعره الفاحم، مع أنه في الثلاثين من عمره فقط.
قالت أمي وهي تحضر لنا «المحشي ببرغل» احتفالا بسعيد والذي لم نتناوله منذ وفاة نادر: «قدومك خير وبركة يا سعيد، إن شاء الله نفرح فيك ونخطب لك، تكفيك عامان من الغربة وحيدا.» صفقت فاطمة وابتسم سعيد.
بعد يومين من قدوم سعيد خرجنا معا لتناول العشاء، كان ذلك من أسعد أيام حياتي، تأبطت ذراعه تماما كما تفعل السيدات في الأفلام. وصحيح أن العشاء كان في السادسة مساء؛ إذ لا يمكن لنا البقاء خارج البيت لوقت متأخر، إلا أنه يبقى عشاء على كل حال. توجهنا إلى مطعم القيصر في حي المهندسين، وأعطاني سعيد الحرية في اختيار طبقه وطبقي. طلبت السلطة اليونانية التي يفضلها، وطبق «كوردن بلو» لي، وطبقا من المشاوي له، وبطاطا مقلية بالطبع، كان الجو رائقا، والموسيقى شرقية هادئة. تناولنا طعامنا وأنا أفرغ كل ما في جعبتي له، كل الحكايات والأحداث التي لم أتمكن من أن أحكيها، حكيت له عن جدو نور، وعن تطور علاقتي برندة. وحين هممت لأخبره عن شادي، توقفت ولم أفعل، كان هناك خشية في قلبي وقلق طفيف. أخبرته عن صديقتي الجديدة التي صارت أنيستي في ليالي الحزن الطويلة، أخبرته كم ساندتني في وفاة نادر، لكنني تجنبت تماما الكلام على نادر، تلونا لروحه الفاتحة، وتابعت حديثي؛ فلا أريد أن أفسد أمسيتنا باجترار الماضي وإعادة الأحزان، خاصة أنه لم يكن موجودا لحظة وفاته. حدثته عن الكتب التي قرأتها والتي أود قراءتها، كنت أتكلم بلا انقطاع وكان الوقت معه مليئا وممتعا وجميلا.
بعد العشاء طلب سعيد الشاي الأخضر بالنعناع، أحضروه لنا بإبريق زجاجي رائع وفناجين جميلة، مع شمعتين ووردة. أخذت أضحك، وهمس لي سعيد: «يظنان أننا عاشقان!» عندها فتح لي سعيد للمرة الأولى كوامن قلبه، سمح لي بإلقاء نظرة على عالمه الداخلي وحكى لي عن سبب مجيئه المفاجئ إلى حلب.
5 «أحبك، أنت أحييتني وقتلتني ثم أحييتني من جديد» ابتسمت وهي تتذكر كلماته، أخفت وجهها بين يديها، راح الفرح يتراقص في قلبها، عاد إليها بعد ليالي الحزن السوداء، من يومها تحاشت النظر إلى أمها وإخوتها وكل الناس، كانت تخشى أن يكتشفوا شيئا من سعادتها المفاجئة، من فرحها الذي كان يساقط من كلماتها، من عينيها وحركاتها، ويتناثر عطرا أثيريا من روحها المغمورة بالحب. جلست إلى مرآتها تنظر إلى وجهها الذي أشرق بأمل جديد يرافقه خوف كبير، لماذا كتب على الحب ألا ينضج إلا على نار الخوف؟ لكن المرة هذه مختلفة، لقد عاد إلى حلب من أجلي! ترك أمان الغربة وعاد إلى الحرب لأنه يحبني، وأنا أحبه. قالت هذا وانتصبت واقفة تذرع الغرفة جيئة وذهابا، عليها أن تراه، أن تجد طريقة لتقابله. صحيح أن أهلها فكوا عنها حظر ملازمة البيت، لكنها لم تعد تخرج وحيدة، كان عليها أن ترافق أحد إخوتها.
اهتز الهاتف في يدها، إنه هو! أقفلت باب الغرفة واتجهت إلى خزانتها كعادتها إذا حدثته، وقالت همسا: آلو. - اشتقت إليك. - ... - كيف حالك؟ - الحمد لله، وأنت؟ - لن أكون بخير حتى أراك. - لا أعرف، لن أستطيع أن أكون وحدي. - أحضريه معك، إنه صغير ويمكننا أن نتدبر أمره. - كيف؟ - سنجد حلا ما. - ماذا سنفعل إذا التقينا؟ - سأخطفك. - أنت مجنون. - بحبك!
6
إنها سيدة بالفعل، امرأة مليئة وغنية بعالمها الداخلي، لقد تحدثنا كثيرا، لا عجب أن أغرم بها جدو نور. سألتها مرة: أحيانا لا أفهمني، لا أعرف كيف تختلط الأمور في قلبي. ورأسي، يا له من ملعب خصب للأفكار! أجزم أنني أرى الأفكار تتقافز في رأسي، والذكريات والصور حتى الروائح، كل تفصيل يحمل معه طاقة شعورية مختلفة، لم لا أفهمني؟ - أنت لا تفهمين ذاتك؟ - صحيح. - ابدئي بذلك إذن!
قطبت جبيني، لم أشأ أن أسألها كيف؟ فهي لا تزيد الأمر إلا تعقيدا، ولما لم أرسل شيئا، أرسلت: ما عليك سوى أن تنصتي إلى ذاتك وانظري في أعماقك جيدا، واقرئي مشاعرك في كل لحظة. الآن مثلا بماذا تشعرين؟ - لا شيء. - هذا غير ممكن، حاولي مجددا، نحن بشر يا عزيزتي، ونمتلك قلوبا حية، ما يعني أننا نتقلب بين المشاعر في كل لحظة.
أعدت السكوت والتفكير بم أشعر حقا، لكن وجدت أنني فارغة شعوريا؛ فلست حزينة أو سعيدة أو غاضبة أو متفائلة، لم أكن أشعر بشيء. أرسلت إليها: أنا حقا لا أشعر بشيء في هذه اللحظة. - حالما تحددين شعورك أهلا بك مرة أخرى، أما الآن فإلى اللقاء.
من يومها بدأت أتعلم كيف أحدد شعوري في كل لحظة، حتى وأنا أركب الحافلة في طريقي إلى المنزل، أو حين أتناول طعامي. تعلمت أن هناك مشاعر أخرى غير التي نعرفها من الفرح والحزن، أو الرضا والغضب؛ هناك الاضطراب، والقرف، والأمل، والقلق، والترقب، والملل، والضجر، والأمان، والسخرية. حتى عندما لا أشعر بشيء، كما كنت أظن، فهذا يعني الارتياح أو الاطمئنان، وهي مشاعر مختلطة تتعاقب على نفوسنا بين لحظة وأخرى.
أخذت أفكر في كل شعور ما مصدره، وكيف وصل إلي، وهذا ما سهل علي قراءة نفسي وفهمها أكثر، وعلمني أيضا قوة رائعة هي قوة التركيز؛ فعندما أقوم بشيء أنصرف له بكليتي وأعطيه كل اهتمامي، وأحاول ألا تنصرف أفكاري عنه أو مشاعري إلى أمور أخرى.
لقد ساعدني ذلك في حياتي عامة، وفي الصلاة تحديدا. لاحظت أن سبب بعد الصلاة عني، هو بعدي أنا عنها؛ فأنا أفتقد التركيز فيها. تعلمت أن أقف لحظات قبل الصلاة، قد تطول أو تقصر، لكنها لحظات جوهرية بالنسبة إلي. إنها تساعدني في الدخول في «جو الصلاة»، فأراقب مشاعري وأفكاري، أبعد جانبا الأفكار والأحداث والمشاعر التي خالطت روحي خلال اليوم، لأتمكن من الوقوف صافية خالصة بين يدي الله، لأصبح أكثر استعدادا للصلاة. لا أجزم أنني تمكنت من فعل ذلك دائما، كما أنني لم أصل في صلاتي إلى المستوى الذي أنشده في استشعار الحضور الإلهي وسماع الخطاب الرباني في كل كلمة؛ لذلك فإنني كثيرا ما أترك الصلاة لأسابيع، لأعود إليها بشوق، وتجلدني ذاتي بسياط التأنيب، وب «ثعبان الشجاع الأقرع» الذي قالوا لنا إنه ينتظرني بعد الموت، وبالخوف من عقاب الله. وبدلا من أن يحثني ذلك على الالتزام بالصلاة في وقتها، فإنه يبعدني مرة أخرى عنها أكثر، فأتشاغل عن خوفي ولوم الذات بأمور حياتي المختلفة.
مساء أحد الأيام اتصلت بي صديقتي، أخبرتني أنها تحتاجني في موضوع مهم جدا، وأن علي أن أقدم لها خدمة. وافقت على الفور؛ فهي أختي وصديقتي ولا أنسى وقوفها إلى جانبي، ومحبتها الصادقة لي. التقيتها في اليوم التالي، كانت مختلفة، ربما مضطربة أو مريضة، لا أعرف تحديدا، في عينيها شيء من حماسة وخوف.
ذهبنا إلى «مقصف العمارة» التابع لكلية الهندسة المعمارية، أنا وهي وأخوها الصغير سائر. لم ندخل المقصف بل بقينا في الخارج، وطلبت من أخيها ذي الثلاثة عشر عاما أن يجلب لنا العصير من الداخل، وفور ابتعاده قالت لي: اليوم سألتقيه. - مستحيل! كيف؟ ولماذا تركك؟ ماذا قال لك؟ لكن ... لكن أنت مجنونة! سيعرف أهلك وستوقعين نفسك في المشاكل مرة أخرى. - سأحكي لك كل شيء فيما بعد، لكن الآن قد يأتي في أية لحظة، وسائر قد يرانا ماذا علينا أن نفعل؟ - الآن تقولين ذلك؟ - لا أعرف، أرجوك سما ساعديني. - طيب ابقي هنا، سأتصرف.
ودخلت إلى المقصف مباشرة باتجاه سائر، كان مهذبا جدا وخجولا، قلت له: «ما رأيك أن نتناول فطورنا حتى تعود أختك؟ علينا أن ننتظرها هنا، فقد اضطرت للذهاب إلى دورة المياه، ولا توجد واحدة قريبة، عليها الذهاب بعيدا ، ربما ستبحث في إحدى الكليات، وقد تتأخر. بالله عليكم ماذا أكلتم البارحة؟» اضطرب الولد وراح يتذكر ثم قال: «لا بد أنها العجة، لقد كانت سيئة، أنا لا أحبها أيضا.»
طلبت فطورا، وحرصت على المماطلة في الحديث معه والتأخر في الطلب، جلسنا نأكل ونتحدث وأنا لا أكف عن طرح الأسئلة، كنت سعيدة بما عملته، الآن أخيرا بعد كل هذا الوقت يلتقيان؟ إنهما يشبهان جدو نور ورندة، كيف سيكون لقاؤهما يا ترى؟ لا أعتقد أنهما سيتعانقان! كلا فهذا لا يليق بها، إنها لن تفعل ذلك، ثم إن هذا لا يجوز، كما أن عليها أن تعاتبه، لا أن ترتمي فورا بين يديه. إنهما الآن معا، كم هذا رائع! ترى كيف يبدو؟ هل هو وسيم؟ طويل أم لا؟ استبد بي الفضول لألقي نظرة، لكن كيف؟
قلت لسائر: «أعتقد أني أوقعت أوراقا لي في الخارج، سأعود بعد لحظات، إياك أن تتحرك، لا أريد أن أضيع عنك.» لم أنتظره ليجيب، قمت على الفور وخرجت، ذهبت حيث كنا واقفتين، لم أجدها، أين ذهبت؟ استدرت حول المقصف، وعلى بعد مسافة وجدتهما جالسين على مقعد تحت شجرة، كانت تحجبه عني بظهرها، فلم أر سوى رجليه، إنه أنيق يرتدي سروالا فاتحا وحذاء بنيا. آه لو تتحركين قليلا لأرى وجهه! وكأنها سمعت ما يجول في خاطري، فانحنت إلى الأمام، ورأيته.
يا إلهي! شهقت وكتمت شهقتي، لا، مستحيل! هذا غير معقول! يا لهذه المفاجأة العجيبة! أنا لا أصدق، طوال هذه المدة كان هو؟ خطوت لأفاجئهما بحضوري أنا أيضا، لكنني لم أفعل. تركتهما تحت الشجرة ينعمان بالسكينة والحب وعدت بدهشتي إلى أخيها سائر.
7
أقبل رمضان هذا العام بكثير من الحزن والكآبة، وكأنما سرقت منه البهجة، في بيتنا على أقل تقدير، ومع ذلك فقد اكتست حلب حلة بهية من روح رمضان الكريمة. ومع أن المساجد خفت كثيرا من المصلين، خاصة وقت صلاة التروايح الذي يأتي متأخرا، فإن الأمر ليلة السابع والعشرين كان مختلفا تماما؛ فقد جهزت أمي لي ولها سجادات الصلاة والشراشف قبيل العشاء ، ثم ذهبنا إلى جامع «أسيد بن حضير» البعيد عن بيتنا قليلا. ولما سألت أمي لم لا نصلي في جامع «عمار بن ياسر»، فقد اعتدنا عليه، ويمكننا الذهاب إليه مشيا؟ أجابتني: «إحياء ليلة القدر أجمل مع شيخ هذا المسجد.» وافقتها وذهبنا كلنا أنا وفاطمة وأمي وأبي، هذا هو الرمضان الأول الذي نقضيه بلا نادر! يا للتعاسة! بدا لي أننا وصلنا متأخرين مع أننا انطلقنا مع أذان العشاء؛ فقد امتلأت صفوف المسجد بالمصلين، وكذلك الساحات الخارجية حتى الشوارع، وبصعوبة تدبرنا مكانا لنا أنا وفاطمة وأمي.
وبدأنا الصلاة، كان صوت الإمام عذبا وتلاوته جميلة لولا أنه يسرع بطريقة غريبة، ولا يتلو سوى آية أو آيتين في كل ركعة، حتى إنه ضيع علي قدرتي على التركيز، وأنا أخمن متى سيركع. مرة قرأ:
والطور * وكتاب مسطور
وركع، وفي الركعة التالية قرأ:
في رق منشور
وركع! بالله عليك! هل تسمي هذه صلاة؟ وكذلك الركوع والسجود، صرت أقرأ التسبيحات والأدعية بشكل سريع حتى ألاحق الإمام، ولا تفوتني ركعة أو سجدة، شعرت أنني في رياضة «آيروبيك» وليس صلاة! أقسمت ألا أعود إلى هذا المسجد ثانية.
وأخيرا وصلنا لصلاة الوتر، وفي الركعة الأخيرة بدأ الإمام بالدعاء بطريقة هادئة، وشيئا فشيئا أخذت موجة الدعاء وكذلك صوته بالارتفاع مثل رياح عاتية سرعان ما تحولت إلى عاصفة هوجاء، وتعالت أصوات المصلين بالتأمين على الدعاء. الإمام يقول «يا الله.» رافعا بها صوته ومكبر الصوت يساعده في صم آذاننا، والمصلون يرددون «يا الله.» والدموع تتقاطر، والوجوه تبتل، والأيادي تمتد، والشهيق يعلو. الإمام يدعو بأعلى صوته والمصلون يقولون «آمين.» ثم شعرت بجلبة بجانبي وإذا بسيدة تسقط أرضا وهي تبكي وتضرب وجهها وصدرها! يا إلهي! ماذا دهاهم جميعا؟ جاهدت نفسي على الخشوع، على التركيز في الدعاء، على استشعار معاني أسماء الله القريب المجيب العفو الرحمن، لكنني لم أستطع، وعيناي متحجرتان تماما، لم لا أبكي مثل الجميع؟ هل هي ذنوبي التي حرمتني لذة المناجاة، كما أخبرتنا بذلك الآنسة مرة؟ أم ماذا؟ ثم لاحظت فاطمة جالسة على الأرض وهي تغلق أذنيها بيديها، لقد قطعت صلاتها، وأنهت الأمر.
انتهت الصلاة، فالتفت إلى أمي ووجدت وجهها مخضبا بالدموع، وكذلك جميع الحاضرات، وأنا في عالم غريب تماما عنهن. سحبتني أمي من يدي لتعرفني على زوجة أحد الدعاة المعروفين هنا في حلب، كانت النسوة متجمعات حولها، وبصعوبة تمكنا من الاقتراب منها. صافحتها وكذلك أمي التي طلبت منها أن تدعو لها بزيارة بيت الله الحرام، ثم تحدثت النسوة عن بركة زوجها الشيخ الذي يذهب كل عام إلى الحج. سألت السيدة زوجته: «وكم مرة ذهبت أنت؟» لا أدري لم تلون وجهها وابتسمت بارتباك وقالت: «لم يكتب الله لي الحج بعد.» فسألتها وقد عجبت لها: «ولماذا لا تذهبين مع زوجك؟ ألا يذهب كل عام؟» وإذا بأمي تدوس على قدمي، وتسحبني من يدي، أما السيدة فلم تجبني، بل استدارت من فورها وتركتنا!
في طريق خروجنا من المسجد، مررت بفتاة تحدث صديقاتها وهي تريهن صورا في جوالها: «... وهذا مفتوح من الظهر، وهذا مع ذيل، وهذا لونه رائع وقماشه فخم لولا أن تصميمه رديء ...» سيدة أخرى كانت تقول لجارتها: «متى ذهبتم؟ لم لم تعزمني أم محمود؟» وترد عليها جارتها: «ما عليك منها إنها قليلة أصل، ولم ننبسط عندها أبدا.» أما تلك العجوز فسمعتها تتكلم عن «أولاد الكلب» الذين باعوها الزيت مغشوشا و«دبس البندورة» بائتا. أخذت أضحك في سري، منذ دقائق فقط، دقائق يا مؤمنات كنتن تذرفن الدموع وتنادين: يا الله. ماذا حصل الآن؟ أين إيمانكن؟ ودموعكن؟ هل جفت مع التسليمة الأخيرة؟
عدت إلى البيت وأنا نادمة على الذهاب إلى المسجد، ليتني صليت في البيت! قضيت ما بقي لي من هذه الليلة المباركة أصلي في غرفتي، كما أني أعدت صلاة الوتر والدعاء. بعدها جلست لقراءة القرآن، فمررت بالآية:
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (الإسراء، 110)، توقفت أتأملها وقد اقشعر جسدي، شعرت أنها نزلت الآن إلي أنا وحدي، وكأنها أتت لتطمئنني، لتربت على كتفي، وتقول لي: لا بأس، أنت في الطريق الصحيح؛ فالآية صريحة: لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها، سبحان الله!
الآن فقط وقفت أقرأ القرآن بصوت هادئ، وأناجي الله بما أجده مريحا لقلبي. شكرت الله الذي هداني ووهبني هذه الآية؛ فالله قريب، ولست أدري لم نرفع أصواتنا بدعائه وكأننا ننادي أصم!
وهكذا انتهى رمضان، ثلاثون يوما وليلة، أنهى الناس صيامه وقيامه، ختموا القرآن مرتين أو خمس مرات أو أكثر، صلوا القيام، وأحيوا ليلة القدر، دعوا مع الإمام، بكوا ورفعوا أيديهم عاليا قائلين «آمين.» رافعين بها أصواتهم. هكذا أصبح رمضان، وقت مستقطع من العام، نسير فيه مع الموجة السائدة من عبادة وقرآن. هكذا يفعل كل الناس، وكذلك نفعل نحن، نتحمس للصلاة، ربما نقف ساعات ونتعب ونجتهد، حتى إننا قد نفوت صلاة الظهر والعصر من اليوم التالي ونحن نائمون متعبون، نؤمن على دعاء الإمام، نبكي، نقرأ الختمات، ونخرج من رمضان بنشوة المنتصر، بخدر لذيذ من العاطفة الإيمانية الواهمة، وتكبر الأنا وتتضخم إلى درجة القداسة فلا تكاد تسعنا الدروب؛ فقد أدينا ما علينا، ونحمل الله المنة، لم لا؟ فقد صمنا وتعبنا في عز الحر، وقمنا كل الليالي عشرين ركعة، فعلنا ما علينا، وعلى الله أن يقبلنا ويغفر لنا، ثم ننصرف متملصين من رمضاننا لنعود إلى دوامة عيشنا، إلى عاداتنا اليومية التي تهزأ بنا، إلى تفاصيل حياتنا التي تسحقنا، من كذب، وتباه، وتكاثر، وسرقة، وتحاسد، وبغض. نولي ظهورنا رمضان الذي يدعو علينا، ونغلق القرآن على آياته التي تلعننا، ثم نهنئ بعضنا: طاعتكم مباركة!
كتبت على صفحتي في «الفيسبوك»:
انتهى رمضان، لكن رب رمضان هنا لا يرحل. انتهى رمضان، والآن فقط ابتدأ العمل.
8 - كيف حالك؟ - الحمد لله بخير، وأنتم؟ - «نحن» كلنا بخير. - هههههه. - أشعر أني أسمع ضحكتك وكأنك هنا أمامي، وأنا فخور بنفسي لأني رسمت ابتسامة على وجهك الذي لا أراه. - شكرا. - على الرحب والسعة آنستي. - . - كيف هم أهلك؟ - الحمد لله، لقد فاجأنا سعيد منذ يومين بقدومه من قطر. - جميل، أحب المفاجآت السعيدة. - نعم، لقد كان هذا أروع شيء حدث لنا منذ زمن. - حمدا لله على سلامته. - الله يسلمك، وأنتم؟ كيف عملكم؟ - جيد، نغلق كثيرا ونفتح قليلا. - بسبب الحرب. - تماما، تعرفين، كل ما في المتحف محط أنظار اللصوص الذين يتكاثرون هذه الأيام، وعلينا أن نكون حذرين. - وهل يشكل هذا خطرا عليكم أنتم أيضا. - طبعا. - طيب هل أنتم مستعدون لحماية أنفسكم؟ بأسلحة؟ بأي شيء؟ - تخافين علي؟ - ... - لم تجيبي. - هل لي أن أسألك كيف تقضي على الملل في عملك؟ - تهرب آخر! لكن مع ذلك سأجاريك، ومن قال لك إن عملي ممل؟ - هذا معروف؛ فماذا تفعلون طوال النهار؟ غير الجلوس مع تاريخ منته، وركام بائد، ومنحوتات خرساء؟ - يؤسفني سماع ذلك منك. - هل زعلت؟ - نعم. - حقا؟ - بالتأكيد. - آسفة. - ... - قلت آسفة، أعتذر منك، أسحب كلامي. - ... - هيا، قل شيئا، كيف ترضى؟ - أنا أعرف. - كيف؟ - هل زرت المتحف يوما؟ - لا. - إذن عليك أن تزوريه وتشاهدي ما فيه، ثم احكمي بنفسك، وبغير ذلك لن أرضى، وبإمكاني التطوع لأرافقك في زيارته! - هذا اسمه ابتزاز. - سمه كما تشائين، عليك أن تدفعي الثمن، أم أن من طبعك أن تجرحي الناس وتمضي بلا اعتذار؟ - لقد اعتذرت بالفعل. - لم أقبله. - أنت مراوغ. - أنا شادي. - حسنا، سأفعل، وغدا صباحا. - سأكون بانتظارك في التاسعة، لا تتأخري. - لكن انتظر، ربما نؤجلها قليلا، بعد أسبوع ما رأيك؟ هل تعتقد أنه من الصائب فعل ذلك؟ أقصد أن نلتقي؟ دعنا نتحدث هنا فقط. - ... - ماذا؟ أنا أفكر وحسب. - سما، هل ستحضرين غدا أم لا؟ أنا حازم. - ظننت أنك شادي!
9 «سلمى حبيبتك تكون صديقتي التي طالما حدثتك عنها يا سعيد!» ضرب على جبهته مصدرا صفيرا طويلا. أشرت له بيدي حتى لا يصل صوته إلى أمي خارج الغرفة، قام وأمسكني من كتفي وقال: كيف عرفت؟ - رأيتكما يوم أمس معا.
أمسك رأسه بيديه وقال: كيف حدث ذلك؟ - سعيد، سلمى صديقتي منذ زمن، تعرفت إليها في دروس الدين التي كنا نحضرها، وتقاربنا كثيرا، ويوم أمس طلبت مني أن أذهب معها وذهبت . لم أكن أعلم أنها على موعد معك أنت بالتحديد أخي الكبير سعيد. لقد كانت مفاجأة، لطالما حدثتني عنك. - حقا؟ ماذا كانت تقول عني؟ - كانت متعلقة بك كثيرا فأنت في رأيها أول من أشعرها أنها متميزة وذات قيمة. - طيب، جميل أكملي. - لكنك تركتها وتخليت عنها بحسب رأيها في أصعب الأوقات.
غطى وجهه بيديه وهز كتفي بقوة وقال: لم أفعل ذلك بإرادتي، صدقيني. - أعرف أعرف. - لا، لا تعرفين شيئا، ما الذي أتى بي إلى هنا في رأيك هكذا من غير تخطيط؟
أنزلت يده من كتفي وقلت: اسمع سعيد، لا أعرف ما تنوي فعله هذه المرة، لكن إياك أن تحطم قلبها مجددا، سلمى أختي وهي أرق وأجمل وأطهر إنسانة وجدتها، لو تركتها فستموت حرفيا، أو سيقتلها أهلها، هل تسمع؟ - أنت مجنونة؟ الآن بإمكاني أن أتزوجها فقط لو يسمحون لنا.
وخرج من فوره ونادى على أمي، تبعته إلى المطبخ، ماذا سيفعل الآن؟ أمسك الملعقة من يد أمي، وضعها جانبا، وأجلس أمي على الكرسي وقال: «أمي، أريد أن أتزوج سلمى بنت الحاج طه.» فتحت أمي عينيها دهشة ثم قالت: «سلمى؟ كيف تعرفها؟ تريد تتزوج على عيني وراسي، لكن لم سلمى تحديدا؟ ألم تسمع ما قيل عنها منذ مدة؟» أجاب سعيد في حدة: لا يهمني ما قيل، أريد أن أتزوجها. - بلى يهمك، ويهمك كثيرا. لقد كانت ترافق شابا غريبا عنها في إحدى زوايا الجامعة بعيدا عن أنظار الجميع، وكانت تضحك بصوت عال وقلة أدب، حدث ذلك منذ سنوات ... - كفى أمي كفى، هل تصدقين حقا هذا الكلام؟ هل تعرفين أن هذا الشاب هو أنا؟ لكن ...
شهقت أمي وقامت واقفة وهي تضرب على فخذيها، أمسكها سعيد من كتفيها وأجلسها مرة أخرى وقال: أمي، اهدئي أرجوك، سلمى كانت معي في المعهد وقد حدث ذلك منذ أكثر من عامين. أحببتها ولم أكلمها مرة واحدة، اكتفيت بمراقبتها ويشهد الله أنها لم تكلم أو تقف مع أي شاب غيري.
أمنت على كلامه فقلت: إنها خجولة جدا.
نظرت إلي أمي معاتبة، وكأنها تقول : وأنت أيضا؟
ذلك المساء بعد حضور أبي فاتحه سعيد بالموضوع، لم يعارض أبي أبدا فهو لا يهتم لكلام «النسوان». كما أنه يعرف أخاها الكبير عبد الحي من السوق، وسيطلبها منه بما أن سلمى بلا أب. في اليوم التالي ذهب أبي وسعيد إلى الدكان الذي يعمل فيه عبد الحي، وضعا أمامه فور دخولهما طقما من الذهب قبل أن يتحدثا بكلمة. كان هذا تصرف أبي حسبما حكى لي سعيد، عندها طلب منه يد سلمى أخته هكذا من غير مقدمات. التمعت عينا الأخ على الفور بالذهب، لكنه أظهر طبعا تردده في مشاورة أهل البيت أولا.
في اليوم الذي يليه تمت قراءة الفاتحة والخطبة، واتفقوا على يوم العرس الخميس القادم بعد أسبوع؛ فعلى سعيد أن يسافر. وهكذا تم كل شيء بسهولة وسلاسة وتيسير.
كتبت:
الآن أفهم معنى أن يكون الأب سندا.
10
ما هذا الذي أفعله؟ هل أدرك أي خطأ أقترف؟ أي خطر ينتظرني؟ أي عالم مبهم أقحمت نفسي فيه؟ أين قواعدي وقوانيني الصارمة؟ أين حذري ومخاوفي؟ أين عهودي ومواثيقي؟ كيف سأواجه والدي؟ ما هذا الذي أفعله؟ لقد مضت خمسة أشهر منذ أول يوم بدأت فيه الحديث مع شادي على «الفيسبوك»، ما الذي أعرفه عنه؟ رأيته مرة واحدة منذ عام تقريبا، شاهدت لوحاته، قرأت منشوراته، ثم ماذا؟ كلما عاهدت نفسي أن أحظره، وجدتني أؤجل ذلك إلى اليوم التالي، وكلما انقطع التيار الكهربائي، وفرغ شحن جهازي الكمبيوتر أدخل في حالة من الشوق العجيب إلى تصفح «الفيسبوك»، وكلما فتحت «الفيسبوك» سارعت إلى النظر في قائمة الأسماء لأرى إن كان متصلا أم لا، ويا لفرحة الروح إن وجدت اسمه مضاء بالأخضر! لماذا حكيت له قصة جدو نور ورندة؟ ماذا يشكل لي؟ حتى أشاركه مسئولية علقتها على عاتقي، وعهدا قطعته على نفسي؟ وفوق كل هذا ما الذي فعلته اليوم تحديدا؟ كيف أورط نفسي بموعد؟ يا للكارثة!
استلقيت على سريري ونظرت إلى الثريا المعلقة فوقي، وسألت ذاتي مجددا: ما هذا الذي تفعلين؟ لكن ذاتي لا تجيب، تكتفي بالنظر والابتسام! بالله عليك، أنا في حيرة شديدة وفزع كبير، أشعر برهبة كرهبة امتحان «البكالوريا»، وأنت تبتسمين؟ هل تعرفين أي ورطة تتورطين؟ لكنها لا تكف عن الابتسام! هل تسخرين مني أو تؤازريني أو تعبثين؟
تقلبت على جنبي فلا فائدة من الحديث مع ذاتي، قررت أن أنام، عل النوم يمنحني حلما يرشدني بما علي أن أفعله غدا، هل سألتقي به حقا غدا؟ كلمات على الشاشة شكلت عالمي الوردي الحالم، أريده أن يبقى هكذا، عالما حالما جميلا. لكن لقائي به غدا سينقلنا إلى عتبة الواقع الحقيقي، وهذا ما أخشاه؛ فأنا أحب الكلمات، لعل هذا سبب تعلقي بشادي، هل تعلقت به؟ ماذا تراه يفعل الآن؟
الساعة الواحدة وخمس وثلاثون دقيقة فجرا، النوم لا يمن علي بجناحيه الحانيين، قمت إلى جهازي الكمبيوتر أتفقد بطاريته، لا بأس، فيها 30٪، الإنترنت موجود أيضا، لم لا أفتح «الفيسبوك»؟ كانت ذاتي ترفع حاجبيها مبتسمة، لم أنتظر أي اعتراض منها، فتحته على الفور، 13 صديقا متصلا الآن! هل يكون من بينهم؟ ظهر لي منشور جديد له كتب فيه:
حين تتخذ الحياة ألوانا قاتمة، راهن القدر وابتدئ تلوين لوحتك الخاصة.
وكتب منشورا أيضا:
إياك و«كسل الخطوط الخاملة»، ابحث دوما عن منحنيات الجمال في خطوطك المفعمة بالحيوية.
ابتسمت، وداخ رأسي بالغرور، إنه يستعير كلماتي! ضغطت زر الإعجاب، وحين هممت أن أكتب له تعليقا، انبثقت من أسفل الشاشة نافذة الحوار: أنت مستيقظة؟ - تقريبا. - يعني نعم أو لا؟ - سأنام بعد قليل، أشعر بنعاس شديد. - نامي الآن إذن! - حسنا، إلى اللقاء. - تعالي، تعالي، أنا أمازحك فقط. - ... - زعلت؟ - لا. - كيف حالك؟ «نحن» بخير بالمناسبة. -
ههههه، وأنا كذلك، الحمد لله. - تعرفين يا سماء، أنت مثل القهوة، تضيفين نكهة رائعة إلى الحياة. - لكني لا أحب القهوة. - القهوة لا تدرك قيمة ذاتها وما تفعله في القلوب. - لا أعرف ماذا علي أن أقول! - لا شيء على الإطلاق، غدا تقولين لي. - إلى اللقاء. - مع السلامة.
الفصل السادس
1
الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة، الغرفة مضاءة بأنوار خافتة من «الكلوبات» الموضوعة في الزوايا وعلى طرفي السرير المرتب بعناية فائقة، الأبيض كان سيد الألوان هنا ؛ الشراشف والمخدات وسيراميك الأرض، الستائر بيضاء مسدلة، وخشب الغرفة أبيض ناصع، ولهذا السبب بالذات اختار الغرفة هذه. وتأكيدا للفضاء الأبيض، فقد حرص على ملء الغرفة بأنواع الورود والزهور البيضاء، رائحة زهر الياسمين تحديدا كانت تنشر على الغرفة جوا سحريا من الألفة المحببة، وإيحاءات بمساءات صيفية باردة.
كانت جالسة بكامل زينتها على أحد المقعدين الأبيضين الموضوعين قرب النافذة، وعلى الطاولة فنجانان وركوة مملوءة بالقهوة الساخنة، وباقة جوري بيضاء، وأطباق من الشوكولاتة الفاخرة والفواكه والموالح المشكلة. أصوات بعيدة ومتقطعة لدوي مدافع واشتباكات، القلب يخفق وجلا، اليدان المزدانتان بالخواتم ترتجفان وتعصران الطرحة البيضاء بين الأصابع، العينان تنظران إلى انعكاس بريق الأنوار الخافتة على الخرز والماس المطرز على فستانها الأبيض، الأنفاس سريعة متتابعة كأنفاس طريدة هاربة من فهد صياد، لم الخوف؟ تكرر لنفسها مرارا وتكرارا، أليس هذا ما أردته دوما، أحلم؟ هذا فوق الحلم وأجمل من الخيال، تنظر إلى الساعة مجددا، هل تأخر؟ ربما قليلا أو كثيرا، لقد تاه الوقت لديها منذ اللحظة التي جلست قبالته بجانب مقصف العمارة وهو يقول لها: «اشتقت إليك.» وتوقف العالم بعد ذلك بزمانه ومكانه، بعلله ومعلولاته، وتاهت في منعطفات السعادة الحلوة، لكنه تأخر، قال لها «سأوافيك بعد دقائق يا عروسة.» فأين ذهب؟ ماذا سيحضر أيضا؟ كل شيء هنا؛ الورود والشموع والطعام، ماذا أيضا؟
وقفت واتجهت إلى الخزانة، ثيابها القليلة مرتبة بعناية، وكذلك ثيابه، الحمام أيضا يتلألأ بأنوار الشموع البيضاء، لن يبقيا هنا طويلا؛ فأجرة الفندق غالية. أخذت تحدث نفسها: لا بد أنه تكلف كثيرا! نظرت إلى المرآة، وأعجبها جمال وجهها المزين بمهارة عالية، أنا جميلة، وهو يحبني «يموت في»، كما قال لي، ابتسمت وخرجت.
طرق خفيف على الباب، «من؟» سألت وهي ملتصقة بالباب، «افتحي سلمى، أنا سعيد.» وهبط قلبها في الرهبة مجددا، أخذت نفسا عميقا، أدارت قفل الباب وفتحته حاشرة نفسها خلف الباب، دخل سعيد بكامل أناقته. سارعت لتجلس في مكانها، محدثة جلبة بارتطام أطراف فستانها الواسع بالخزانة وأرجل المقاعد. أغلق سعيد الباب وراءه، كان يحمل شيئا، لم تتبين سلمى ما هو، كانت منشغلة بتهدئة نفسها من الرعشة التي سكنت قلبها، وامتدت إلى جسدها حتى آخر أطرافها. «آمل ألا أكون قد تأخرت عليك.» قال ذلك ووضع ما بيده، ثم قال لها: «تعالي سلمى أريد أن أريك شيئا.» جلست على طرف السرير، ورأت ما بجانبه، إنه صندوق خشبي متوسط الحجم، قال لها: «افتحيه.» حملته بيديها وفتحته، أخذت تقلب ما فيه وهو يراقب بفرح طفولي انفعالاتها الحلوة على وجهها، ابتساماتها، نظراتها، يداها، دهشتها. وأخيرا قال: «هل تذكرين؟ هذا كنزي! ما بقي لي منك بعد أن فقدتك قبل عامين، ذكرياتي معك، هذه ورقة الشوكولاتة التي أكلناها معا في اليوم الوحيد الذي حدثتك فيه أيام المعهد، الزهرة الصفراء التي قطفناها من شجرة كانت تظللنا، وهذه الأوراق هل تذكرين؟ حين كنت تخربشين على دفترك، وهنا في طرف الورقة الأقرب إلي رسمت قلبك الصغير، لقد انتزعتها خلسة من دفترك، وهذا هو القلم الأزرق الذي كنت تكتبين به، أيضا خطفته منك وبقيت أتنشق شذاه دهرا، من يومها علمت أنك لي، وأني معك سأقضي عمري.» كانت تبتسم وعيناها تلتمعان بالدموع؛ فالسعادة التي يقدمها لها أكبر من أن يحملها قلبها الصغير، قالت أخيرا: «شكرا.» أمسك يديها وقال: «بل شكرا لك لأنك ملكة حياتي، أحبك سلمى.» لم تجب، كانت مطرقة، مد يده إلى ذقنها ورفع وجهها تجاهه وقال: «انظري في عيني سلمى.» وببطء وبكثير من المجاهدة رفعت عينيها إلى يديه اللتين تحتضنان يديها، إلى قميصه الأبيض الذي يزيده وسامة، إلى سترته الرسمية السوداء، وربطة عنقه الساتان، إلى ذقنه، شاربيه، وأخيرا إلى عينيه، لكن أنى لها أن تقوى على النظر طويلا في هذا السحر الطاغي، في هذا الحب المتدفق من تلك العينين البنيتين، أخفت وجهها بين يديها وراحت تبكي!
كيف يفهم رجل ما يمر به قلب أنثى؟ كيف لمنطقه الثنائي الصارم أن يدرك ثنايا ومتاهات عالمها الأنثوي الخصب؟ سارع إلى القول: «ما بك؟ هل آذيتك سلمى؟» ظلت تبكي وهي تتخيل كيف صار وجهها مع كل المساحيق التي كانت عليه ؟ وقف سعيد حائرا فعلا؛ فالبكاء يعني له الحزن أو الألم، وهما أمران لا يدري كيف سببهما لها! ماذا سيفعل؟ ارتبك، ثم أحضر علبة المناديل ووضعها بجانبها، مشى خطوات باتجاه الحمام، عاد إليها، رفع يده ليضعها على كتفها، تراجع إلى الخلف وخرج من الغرفة، اتصل بأخته، حكى لها ما حصل فقالت: «لا تقلق، إنها زحمة مشاعر لا أكثر!»
2
أنا كاذبة! لم أذهب إلى بيت صديقتي كما أخبرت بذلك والدتي، لكنني أمشي الآن في ساحة سعد الله الجابري باتجاه المتحف، شعرت أنه أخطر شيء أقوم به في حياتي! كانت الرعشة تربكني، تزيد من سرعة خطواتي، تملكني خوف وترقب وإثارة، ووجيب قلبي المجنون يصم أذني، أكاد أجزم أنه وصل إلى الناس حولي، أشعر بنظراتهم تخترقني، تفضح كذبتي، تسجل خطواتي. ليتني جلبت صديقتي معي، لكنها لا تستطيع الحضور، أعلم ذلك لكن كم أتمنى وجودها معي الآن. فكرت أن أعود، لكن الأوان قد فات، لقد تلبست بالجرم وانتهى الأمر. دعوت الله أن أصل قبله، لأجمع شتات نفسي، وأستجلب الشجاعة من وهم اعتدادي بذاتي، ولأنفض عني ما علق بي من غبار الخوف والارتباك.
رأيت بوابة المتحف فسارعت خطواتي، يا للجنون! تجاوزت السور ووقفت في الحديقة أمام بوابته الكبيرة. مشيت ببطء هذه المرة بين الأشجار والآثار، القطط تتجول في المكان بكثرة، والجو لطيف مع نسمات باردة. التماثيل الموضوعة أمام البوابة كبيرة جدا، هذه أول مرة أراها من هذا القرب، إنها ضخمة حقا! «أهلا بك في القصر الملكي.» التفت خلفي، فرأيته مبتسما، وابتدأ الحلم، إنه هو بلا شك، قلت من فوري: «لقد أفزعتني.» أجاب: «آسف، لم أقصد ذلك.» نظرت إليه مليا هل حقا أنا معه؟ سيراني أحد ما قريبا، كل العيون تنظر نحوي، سارعت إلى القول: «هل ندخل؟» قال: «بالطبع لا، ساحة المتحف جزء منه، تعالي سأعرفك على ما فيها، هذه التماثيل الكبيرة الرمادية هي نسخة من الواجهة الأصلية للقصر الملكي التي تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك تمثال لسيد روماني جالس.» قطبت جبيني وسألته: «أين رأسه ؟» ضحك وقال: «أضاعه هناك، ربما عند تلك السيدة؛ فالنساء كما تعلمين ساحرات.» ضحكنا، ونظرت حيث أشار، كان هناك قرب السور تمثال من الحجر لسيدة واقفة، قال: «الحمد لله رأسها على كتفيها.» ضحكت، وأكملنا المشوار.
الشغف، كان يحدثني بكثير من الشغف، رأيت في عينيه فخرا وولعا كبيرين، حدثني أنه كان يتردد إلى المتحف منذ طفولته مع عمه الذي كان يعمل محاسبا فيه. حكى لي عن المرات العديدة التي امتطى فيها ظهر تمثال الأسد، وعن الأماسي الصيفية التي قضاها يسبح في بركة المتحف مع أبناء عمه. حكى لي عن تماثيل الآلهة التي تسير ليلا وترعب الحراس، وخاصة تمثال الإله تيشوب. أراني تمثال ربة الينبوع والماء الذي ينبع من يديها، وحكى لي عن «المدامع» التي هي آنية زجاجية كان يحتفظ فيها الناس بدموعهم التي ذرفوها على موتاهم كنوع من الذكرى.
كان المتحف مليئا غنيا، لم أكن أتصور أنه بمثل هذا الغنى والجمال. رأيت تمثال الأسد العجيب الذي يوحي أنه واقف ويمشي في الوقت نفسه، ثم قادني إلى تمثال مضحك لرجل يعقد يديه على صدره في هيئة الصلاة، تحداني أن أشبك يدي كما يفعل، فلم أستطع. أراني قوالب لصنع الخبز، أخبرني كيف كانوا يصنعون رغيف الخبز مزينا برسومات لحيوانات وأشكال مختلفة. حدثني عن ميل الإنسان للجمال منذ القدم، وكيف أن هذا المكان يجمع خلاصة الأسلاف وحكاياتهم وأحلامهم وفنونهم أيضا، ربما ما كانوا يتخيلون في يوم من الأيام أن هذه الآنية مثلا التي يستخدمونها في حياتهم اليومية ستشكل لنا كنزا تراثيا، من يدري ماذا يفعل الزمن؟ حكى لي عن طاقة الإنسان الكبيرة في تطويع كل المواد المحيطة به مهما هانت أو قست لخدمة غاياته وحاجاته؛ الطين والحجر، الذهب والفضة، البرونز والبازلت، وغير ذلك كثير. كانت تحركاته كملك في قصره، وكلماته كعاشق عن معشوقه، ونظراته كفنان لعمله. كان يحكي بلا توقف عن ذكرياته في كل ركن وزاوية، أمام كل قطعة وحجر، كل واحد منها له في ذاكرته قصص وحكايا. حدثني أنه حين صار يافعا تمكن من الحصول على عمل في هذا المتحف مما زاد من تعلقه به ووقته الذي يقضيه فيه.
شعرت معه أنني في عالم منفصل تماما عن الواقع، خاصة أن المتحف خال تقريبا من الزوار. وحين انتهينا من القسم الأخير من المتحف وهو قسم الفن الحديث، قال: «تعالي سأريك شيئا.» مشيت خلفه طواعية، وهل أملك غير ذلك؟ نزلنا درجات السلم إلى الطابق الأول، فالطابق الأرضي، وأكملنا نزولا إلى القبو، وقد بدأنا ننغمس في البرودة والظلام درجة درجة. توقفت وقلت: إلى أين تأخذني؟ فلنصعد، لا أحب الأماكن المظلمة. - لا تخافي أنا معك، ثم إن الظلام هنا فقط، صدقيني، المستودعات في الأسفل مضاءة بالكامل من النوافذ، فالنهار في أوله. - هل يسمح لنا بالدخول إلى المستودعات؟
عندها أخرج مجموعة من المفاتيح ورفعها في وجهي وقال: هل نسيت أنني موظف هنا؟
تابعنا النزول والظلام يزداد ورائحة الرطوبة تتسلل إلى أنفي فعطست مرارا، وقد بدأ قلبي ينقبض، مشينا في ممر طويل، انعطفنا يسارا ثم يسارا مرة أخرى، توقفنا عند باب حديدي مقفل. أخرج المفاتيح وطلب مني تشغيل جوالي لأضيء له المكان قليلا، فتح الباب فأصدر أزيزا عاليا، سرى تيار هوائي بارد فارتعدت، ودارت ببالي أسوأ الاحتمالات، ماذا أفعل هنا؟ كيف أضع نفسي في موقف كهذا؟ ماذا لو آذاني؟ لن يسمعني أحد، هل أعرف عنه شيئا؟ عدت خطوتين إلى الوراء وقلت: «أنا صاعدة.» لم أنتظر رده، عدت أدراجي في الظلام، انعطفت يمينا، ويسارا ثم يمينا، سمعته يناديني، وقع خطواته تبتعد ثم تقترب مني، فأبتعد عنه مجددا، ولا أجد السلم، تبا، ما هذه المتاهة؟ قبل لحظات كان هنا، تعاظم الخوف في قلبي، شعرت برغبة في البكاء، وبألم في معدتي، أخرجت جهازي لأنير الطريق أمامي أكثر، لاحظت أن التغطية ضعيفة جدا، يا للكارثة! مشيت مرة أخرى بهدوء أكبر، وخطوات أوسع، أخذت أتلفت يمينا ويسارا، ولا يزال صوته يتردد في الممرات يناديني.
وفجأة تذكرت المكان، هناك يمينا السلم المؤدي إلى الأعلى، ركضت باتجاهه، وقلبي يطالب بالنجاة، ولشدة ارتباكي وانعدام حذري انعطفت سريعا فارتطمت بشيء ووقعت أرضا، وجاءني صوته: «سلامتك سما سلامتك، ما بك؟ ماذا حدث لك فجأة؟ لماذا هربت؟ تعالي أساعدك، هل تريدين الصعود؟ لم لم تقولي، الله يسامحك، كنت دللتك على الطريق.» كان في عينيه الكثير من القلق، يا إلهي! ماذا أصابني؟ الحنان في صوته، اللهفة في كلماته سكبت على قلبي برد الاطمئنان، وفي الوقت نفسه أشعلت فيه طوفانا من العجز، لم أدر بعدها لم أخذت أبكي، كم كبير من المشاعر تفجر دفعة واحدة، غطيت وجهي وبكيت وأنا لا أزال على الأرض. وحين هدأت رفعت رأسي فوجدته جالسا أيضا بعيدا عني قليلا وهو يبتسم. وقف وأخذ ينفض الغبار عن سرواله، وقال: «هيا إلى الأعلى، من هنا، هل نسيت كيف جئنا؟» ودلني على الطريق وأنا أمشي خلفه مستسلمة تماما، غمرني إحساس بالخجل.
وصلنا إلى الطابق الأرضي فقادني إلى الساحة الداخلية المكشوفة، أشار إلى كرسي حجري وقال: «اجلسي، سأعود بعد لحظات.» كان الهواء منعشا فعلا، أخذت نفسا عميقا واستعدت ما جرى. كان كل شيء يبدو جميلا وخياليا حتى أصابني الخوف فجأة. عاد بعد لحظات جالبا لي ماء، شربت وظل واقفا، قلت: لا أعرف كيف أشكرك، أو أعتذر، لا أدري. - العفو. - لم لا تجلس؟ - أخاف. - من أي شيء؟ - أن تبكي مجددا.
ضحكت وقلت: «إن لم تجلس أنت، فسأقف أنا.» حرك يديه ثم جلس في المقعد نفسه مبتعدا قدر إمكانه عني. وسكتنا، وطال صمتنا، كنت مليئة بالامتنان له والحرج منه في الوقت نفسه. قطعت الصمت بقولي: أعتذر منك مجددا، لا أدري ماذا أصابني هناك في الأسفل، ربما الظلام أو الوحشة، أو لا أعلم. شعرت فجأة أن علي أن أرى النور. - لذلك هربت مني؟ - لم أهرب منك (سامحني على كذبي!) قلت في نفسي. - لا بأس، كنت أود أن أريك شيئا من ذكريات طفولتي في المستودعات. - ما هو؟ - لا يهم.
واصطدمنا بجدار الصمت مجددا، شعرت بالخطأ الكبير الذي اقترفته، لقد جرحته في الصميم، وسلبت منه الثقة. قمت لأستعيد شيئا منها وقلت: هيا تعال ننزل الآن، لم يفت الأوان بعد. - لا أعتقد أنها فكرة جيدة. - لماذا؟ هيا لا تحمل الموضوع أكثر مما يحتمل. - صحيح، أنا أحمل الموضوع أكثر مما يحتمل. - كلا أبدا، لم أقصد هذا، أنت على حق، أنا فعلت ذلك، لكنني اعتذرت منك، دعنا لا نختم يومنا الرائع هذا بالزعل. - أنا لست زعلانا. - بل أنت كذلك، هيا قم، أرجوك، ماذا علي أن أفعل كي ترضى؟
لم يقل شيئا، مشى صامتا إلى الداخل وباتجاه القبو مجددا، ومرة أخرى غطسنا في الظلام والرطوبة، فتح الباب الحديدي نفسه، وانتشر النور. كانت المستودعات عبارة عن صالات تشغل مساحات كبيرة، لا شيء فيها تقريبا سوى بعض الكراكيب المحشورة في الزوايا. دخلنا حتى وقفنا وسط المستودع، قال لي: «أحببت أن أشاركك شيئا من ذاكرتي التي مضى عليها ربما عشرون عاما، هنا بيت أسراري؛ فلا يعرف هذا المكان إلا القليل من الموظفين الذين رحل أغلبهم؛ فلا أحد يحب النزول إلى هنا؛ فقد أشيع أن بعض الأرواح تتنقل ليلا.» ابتسمت وتلفت حولي متخيلة الأرواح، فأكمل: «أترين هذه العلامات السوداء على الجدران؟ إنها آثار أيضا، أليس هذا متحفا للآثار؟» عجبت لقوله فابتسمت وقلت: «ماذا تقصد؟ آثار ماذا؟» أجاب: «آثار لعبي بالكرة عندما كنت صغيرا، كنت آتي إلى هنا ألعب وحدي أو مع أبناء عمي، وخلف لعبنا هذه الآثار.» كانت الجدران مليئة بالبقع السوداء، ثم أشار بيده إلى الأعلى وقال: «أترين تلك البقعة السوداء قرب السقف؟ إنها رميتي التي تفوقت بها على أولاد عمي في تحد لمن يرمي الكرة أعلى لكن بشرط ألا تلامس السقف.»
نظرت إليه، كان ينظر إلى الأعلى، إلى الماضي الجميل الذي انعكس في بريق عينيه، هاتان العينان الحانيتان، كيف لي أن أكافئهما وأعتذر منهما؟ شعرت بألفة عجيبة تجاهه، مشى إلى الأمام باتجاه الزاوية، وجثى على ركبتيه، وقال: «تعالي.» استجبت له وجثوت حيث كان، رأيت نقوشا أسفل الجدار للحروف اللاتينية:
S.H.K ، وعدة خطوط ودوائر، سألته: «وإلى أي قرن تعود هذه النقوش؟» ضحك وقال: «لعام 1994م، ربما، نقشناها أنا وأولاد عمي سامر وكامل.» اقتربت من النقش أتأمله، ثم التفت إليه وأنا لا أزال جاثية على ركبتي، كان راكعا فوقي تقريبا مستندا بذراعه على الجدار فوق رأسي، ولأول مرة أراه قريبا مني هكذا. شعرت بوخز لذيذ في قلبي، وغمرني إحساس بالاحتواء والأمان، ودخلت في لحظة سرمدية من الهناء. شعرت بثقل غريب في جفني وكأن النعاس هبط هكذا فجأة علي، وراودني خوف يهزأ بي، فاستجبت آسفة لهذا الأخير ووقفت. وفي لحظة واحدة خرجت من سموات الجنة إلى أرض الواقع، وعدت إلى البيت.
3
تزوج سعيد في أجواء احتفالية بسيطة، تم كل شيء في سلاسة تامة، على الرغم من اعتراضات أمي الكثيرة على العروس؛ فهي كبيرة وعليها كلام كثير، كما أنها ليست من مستوانا، أما ما أثار عجبي حقا فهو موقف أهلها الذين انقلبوا من المعارضة التامة إلى القبول المطلق، هل كان هذا من فعل بريق الذهب وسحره في النفوس؟ لا يهم؛ فقد اجتمع الحبيبان، ورقص قلبي فرحا.
اجتمع من بقي من أهلنا وأهل العروس في بيتنا، وانتهى العرس مع أذان العشاء، هكذا صارت الاحتفالات في حلب بعد الحرب تبدأ وتنتهي باكرا، تذكرت أيام زمان حين كان يبدأ الحفل بعد منتصف الليل. اختلطت أصوات الاحتفال بأصوات قذائف بعيدة، وامتزجت الضحكات بدموع أمي، وتناوشت في قلبي المشاعر؛ الفرح بسعيد والغصة لغياب نادر. بعدها أخذ العريس عروسه ليباتا في فندق الميريديان، ثم سافر سعيد عائدا إلى قطر لينهي معاملات استقدام العروس الجميلة.
في اليوم التالي كتبت على صفحتي:
هل يكون الإنسان خائنا إذا نسي أحبابه الراحلين وسمح لروحه بالفرح؟ «سلامة روحك» جاءني تعليق مباشرة من الملك على منشوري الأول، تأملته مليا، حسنا، ضغطت زر الإعجاب بتعليقه، وحين هممت بكتابة رد ظهر منشور جديد له كتب فيه:
بعض الأرواح لا يليق بها إلا الفرح.
خفق قلبي وابتسمت في سري، إنه يستعير كلماتي، هل حقا يقصدني أنا؟ كان علي أن أضغط زر الإعجاب بمنشوره الجديد لكنني لم أفعل، وأشغلت نفسي بتصفح منشورات الأصدقاء، بعد دقائق كتبت على صفحتي:
الحرب لعنة سوداء تغرس أنيابها في كل قلب سعيد.
وما هي إلا لحظات حتى كتب منشورا ثانيا:
صحيح أن الحرب لعنة سوداء، لكنها مثل التنور تظهر بريق المعادن الخالصة.
يا إلهي! هل حقا يفعل ذلك؟ أم هي محض صدفة؟ مستحيل، إنه يفعلها، يرد على منشوري بمنشور! بدأ قلبي يخفق هذه المرة أسرع، هل أجاريه في اللعبة؟ ماذا أكتب الآن؟ فكرت قليلا ثم غيرت رأيي، ضغطت على زر الإعجاب على منشوره الأخير، وأطفأت الجهاز.
اتصلت بجدو نور وطلبت منه أن ألتقي به مساء فوافق، وبقيت أفكر طوال اليوم كيف سأجمعه برندة؟ إنها بعيدة في تركيا، وجدو هنا وسط الحرب في حلب، كيف سيلتقيان؟
في المساء ذهبنا أنا وفاطمة إليه فاستقبلنا بمودة كبيرة في مكتبته المحببة، سألته: جدو، ألا تفكر بالسفر؟ - لأهرب من وطني؟ - بالطبع لا، ليس هذا ما قصدته جدو، إنما لتبتعد قليلا من أجواء الحرب وما تفعله في نفوسنا. - لا أستطيع، ثم إلى أين سأذهب؟ ومع من؟ - إلى تركيا مثلا.
نظر إلي متفاجئا وقال: تركيا؟ ولماذا تركيا تحديدا؟ - لأنها ... لأنها ... لأنها قريبة منا كثيرا، كما أنها جميلة جدا ومناسبة لتغيير الجو. - لا أستطيع ولا أريد الآن، ربما لاحقا. - متى جدو؟ - حتى تتعافى سورية! - سننتظر طويلا إذن. - أخبريني الآن، هل أنهيت الكتاب؟ - بالطبع، لكنني في الحقيقة استغرقت في قراءته زمنا طويلا، كما أنني لم أفهم كثيرا من مقاطعه.
بعدها أخذت في الاستفسار عن بعض الأمور وجدو يجيبني، ثم سمعنا طرقا على الباب، قام جدو ليفتح، وسمعته يرحب به، إنه سليمان «الملك»!
4
رمضان، 1434ه / 2013م، حلب
فتحت أم سعيد الثلاجة وأخذت تتأمل داخلها، ومع أنها تعرف تماما الأغراض القليلة التي فيها ومكانها تحديدا، إلا أنها جثت على ركبتيها محاولة استيعاب كل زاوية في الثلاجة بنظرها علها تكون قد وضعت شيئا ما ونسيته. لكنها مثل كل مرة انتصبت واقفة فلم تجد شيئا جديدا؛ فالمعجزات لا تحدث، والثلاجة ستظل على حالها، «على حطة يدها» كما يقولون. تنهدت وسحبت طبقا فيه نصف حبة طماطم «بندورة» مغلفة بعناية يضرب لونها إلى الاصفرار.
أزالت الغلاف البلاستيكي بحركة متثاقلة من يدها، وقامت بتقطيعها شرائح رفيعة ما أمكنها ذلك وأعانتها عليه السكينة. استدارت إلى الغاز، وحملت قدرا كانت عليه، سكبت القليل من المجدرة بالبرغل فملأت بها طبقا متوسط الحجم كان يأكله زوجها وحده، والآن عليهم أن يتشاركوها أربعتهم. رتبت هذين الطبقين اليتيمين على الطاولة، وضعت إبريق ماء شبه بارد وثلاثة أكواب، سحبت ملاعق من الدرج ونادت على أسرتها: «هيا، تفضلوا، اقترب أذان المغرب.» - أيش هذا؟
أول كلمة نطق بها أبو سعيد وهو يرى الطعام ونظر إلى زوجته مستفسرا، أجابت: ماذا تريديني أن أعمل؟ البرغل نفد تماما، وكذلك الخضار، ماذا كنت تظن؟ وما طبخته اليوم سيكفينا اليوم وغدا وإلا بقينا يوم غد بلا طعام.
تمتم أبو سعيد: «لا حول ولا قوة إلا بالله.» سحب الكرسي مصدرا أزيزا مزعجا، ثم أذن المغرب. أمسك كوب الماء وراح ينادي بأعلى صوته: «سما، فاطمة أين أنتما؟ ألا تسمعان الأذان؟» هرولت الفتاتان على صوت والدهما الغاضب وأخذتا مكانيهما على الطاولة. صاحت فاطمة: مجدرة أيضا؟ البارحة أكلناها، ثم أين البصل المقلي؟ ماما لن آكل.
عضت أمها على شفتيها ونظرت بطرف عينها إلى أبيها نظرة فهمتها فاطمة جيدا فلاذت بالصمت، ولاذ به الجميع فلم يعد يسمع إلا صوت طرق الملاعق على حواف الطبق الوحيد. كانت أم سعيد في أثناء ذلك تملأ طرف ملعقتها وتأكل ببطء شديد حتى يتسنى لأفراد أسرتها أن يأكلوا أكثر ليشعروا بشيء من الشبع الذي ما كانت تأبه له كثيرا هذه الأيام.
في اليوم التالي استغرق أبو سعيد في نومه أكثر من المعتاد، راحت زوجه توقظه، لكنه أجابها بأن تتركه. لم يكن نائما، كان يتقلب على فراشه بهم كبير؛ فإفطار البارحة أوحى له بشبح الجوع يلوح له قريبا جدا؛ فقد نفد الطعام من حلب، من أحيائها الغربية تحديدا، من كان يصدق ذلك؟ حلب المليئة أسواقها بأجود الخضار والفواكه وأرخصها وألذها طوال العام باتت اليوم خاوية على عروشها، خلت أسواقها من الباعة إلا من بضعة منهم ممن حالفهم الحظ بتجاوز المعبر بسلام محملين ببضائع مختلفة من أحياء حلب الشرقية ليبيعوها هنا بعشرة أضعاف سعرها. ما كان يحز في نفسه حقا دموع الصغيرة فاطمة التي تلتمع في عينيها كل يوم وهو عائد من عمله فتنظر في يديه، وتسأله: «لا يوجد لبن اليوم أيضا يا بابا؟» إنه يعرف تماما كم تحب هذه الصغيرة اللبن، لكن ماذا يفعل إذا كانت كل مشتقات الألبان نفدت تماما؟ قطب جبينه ولعن كل شيء. عليه أن يفعل شيئا وسيفعله اليوم.
5
كنت عجلة مساء ذلك اليوم، عملت أي شيء بشرود تام، طغى التوتر على حركاتي، وأويت إلى فراشي باكرا جدا. دسست نفسي في السرير، وشددت اللحاف حتى غطيت رأسي، أريد أن أخلو بنفسي، يا إلهي ماذا فعلت! أعدت أحداث ما مررت به صباح اليوم، حاولت تذكر كل شيء، أخاف أن تهرب مني إحدى التفاصيل، أرغب في الاحتفاظ بها عميقا في حنايا ذاكرتي فلا يفلت منها شيء، حاولت استحضار كلماتنا، نظراتنا، خطواتنا، ضربت رأسي وأنا أتذكر ما قمت به من غباء في القبو، ثم أغمضت عيني والشذى عاد ليغمرني حين كان راكعا فوقي، تذكرت المشاعر التي انتابتني، الرعشة الخفيفة في قلبي، والرجفة الكبيرة في أطرافي، والخوف المقيت الذي تسلل زاحفا إلي، أخذت أتخيل سيناريوهات أخرى جميلة كانت لتحدث لو تصرفت بطريقة أخرى في تلك اللحظة، ثم أزحت اللحاف عن رأسي بعد أن شعرت بحاجتي الشديدة للهواء، لكن لحظة، ماذا كان يرتدي؟ يبدو أن حضوره الحلو طغى علي فنسيت أن ألاحظ ثيابه. هل كان لقائي به صائبا؟ بالتأكيد لا، لكنني فعلته وانتهى الأمر، علي ألا أفكر في ذلك، بل ألا أكرر أي حماقة جديدة.
سحبت جهازي الكمبيوتر لأرى إن كان متصلا الآن على الفيسبوك، لكن بطارية الجهاز كانت فارغة تماما، يا للخيبة! لكن ربما هذا أفضل، علي أن «أثقل حالي» قليلا. النوم يجافيني، قمت وتشاغلت بغزل الصوف، كنت أصنع شالا لسلمى أهديه لها قبل رحيلها، سلمى زوجة أخي سعيد، كم هذا رائع! أريد أن أصبح عمة عما قريب.
بعد ساعة حضر والدي وقام بتوصيل «الأمبيرات » وهي خطوط تمديد للكهرباء موصولة بمولدة كبيرة يملكها أشخاص يقومون بتأجير الكهرباء لمن يشترك بأمبير أو اثنين أو أكثر، أضاء البيت أخيرا فقمت لأجلس مع أهلي، تجاهلت جهازي الكمبيوتر تماما، فإذا وصلته بالشحن فإنني سأفتحه بالتأكيد. كلا لن أفعل، وأمضيت الوقت وأنا أختلس النظر إليه حتى انتهى وقت الأمبير وغرقنا في الظلام مجددا، وارتحت أنا أخيرا.
صباح اليوم التالي استيقظت باكرا جدا، قبل السابعة، سارعت إلى جهازي الكمبيوتر لأضعه في الشحن فقد كان التيار الكهربائي موصولا. ها قد مضى يوم الأمس بطوله، ما المشكلة إذا فتحت «الفيسبوك» الآن؟ وهكذا فعلت، لكن لا رسائل جديدة منه، بل منشور واحد كتب فيه:
قد تعادل ساعات قليلة تقضيها برفقة مميزة أعواما بأكملها؛ لأنها تصنع ذاكرتك.
إنه يتحدث عن لقائنا بالتأكيد، يا للرومانسية! أتمنى أن يعني ذلك أنه غفر لي تصرفي الغبي، هل أضغط على زر الإعجاب أو أعلق؟ بماذا أعلق؟ فكرت طويلا، ثم اخترت أن أضغط زر الإعجاب وحسب، وكذلك فعلت، فوجدته متصلا وبدأ حواره معي: صباح الخير. - صباح النور. - ما شاء الله، ما هذا النشاط؟ دائما تستيقظين باكرا؟ - تقريبا. - هل أنت دائما هكذا؟ - ماذا تقصد؟ - لا تجيبين بوضوح، لا أسمع في إجاباتك: نعم أو لا، تكررين فقط: ربما، أحيانا، لكن ... - هل يزعجك هذا؟ - أحب أن أعرفك أكثر، أكثر وأكثر. - طيب، لا بأس. - عفوا. - على أي شيء؟ - ألن تشكريني على الجولة السياحية صباح أمس في المتحف؟ - ههههه، طيب يا سيدي، شكرا. - عفوا يا سيدتي. كيف وجدت المتحف؟ - رائعا جدا، لم أكن أتصور أن العمل فيه مثير للاهتمام، وأنه بهذا الغنى والجمال حتى يوم أمس، لقد تمكنت من تغيير نظرتي تماما. - ممتاز، هل لي أن أعرف ماذا كنت تعتقدين؟ - حسنا، كنت أظن أنه ممل جدا، وأن اليأس وحده هو ما يقود الإنسان للعمل فيه؛ لهذا فقد كنت أشفق عليكم. - ههههه. - لم تضحك؟ - على كلماتك. - لقد تعلمت درسا. - وما هو يا شاطرة؟ - هل تهزأ بي؟ - أبدا والله، قولي ماذا تعلمت؟ - ألا أحكم على شيء قبل معرفتي به. - جميل. - شيء أو شخص . - طيب، جميل أيضا. - وأنت؟ - ماذا؟ - كيف كانت جولتك يوم أمس؟ - كنت سعيدا بأني شاركت شيئا من أسرار طفولتي لشخص مميز جدا وحساس جدا. - ... - سما. - ...؟ - أريد أن نلتقي مجددا، لدي شيء مهم لأخبرك إياه، اليوم ما رأيك؟
أخذ قلبي يخفق بشدة، وعضضت على إصبعي، وأخذت أتأمل كلماته على الشاشة. رأيت وجهه مبتسما ينظر إلي بعينيه الحانيتين، غمرتني مشاعر غريبة أختبرها للمرة الأولى من خوف ورهبة وإثارة. لم أعرف بم أجيبه، إنه ينتظر، علي أن أفعل شيئا! وبسرعة، ومن غير تفكير كثير، قمت بتسجيل خروجي وأطفأت الجهاز.
6 «ليست مصادفة أبدا» قال لنفسه مبتسما لصديقه، مظهرا ملامح المفاجأة وكأنها حقا مصادفة؛ فهو يعرف تماما لم تسوقه قدماه ليجلس مساء كل يوم في مقهى مطل على بيت صديقه، وعلى شباك مكتبته تحديدا؛ فهو يعلم أنه لا يفتح النوافذ أبدا إذا كان وحده، فإذا وجدها مفتوحة فهذا يعني أنه يستضيف زائرا. وهذا المساء وجد النوافذ مفتوحة فاتجه من غير تردد إلى بيت صديقه وطرق الباب، إنه يعلم أنها هنا، وها قد حان الوقت المناسب ليراها مرة ثانية.
وبما أن بيت صديقه الذي يعرفه جيدا ليس فيه غرفة أخرى لاستقبال الضيوف، فإنه حتما سيدخله إلى المكتبة، إلا إذا قرر صديقه فجأة أن يكون فظا ويطرده من بيته، وهذا أمر لن يفعله مطلقا. كان واثقا جدا، لكنه انزعج قليلا من ابتسامة ماكرة انطوت عليها ملامح صديقه وهو يصافحه هامسا له: «إنها هنا، ما هذه المصادفة؟» لكنه لن يعبأ بذلك؛ فالوقت غير مناسب أبدا للانزعاج.
وكما خطط تماما، قاده صديقه إلى المكتبة، وفور دخوله وقعت عيناه عليها، كانت جالسة على الكرسي أمام المكتب الخشبي، حتى إنه لم يلحظ وجود أختها فاطمة الصغيرة جالسة على السجادة. وقفت فور دخوله، ابتسم بثقة واتجه إليها، مد يده ليصافحها، لكنها ابتسمت وأطرقت، آه صحيح، إنها لا تصافح! يا للجمال المتحدر عن إطراقها!
سارع نور بالقول منقذا الموقف: «تفضل سليمان بالجلوس، البيت بيتك.» جلس قبالتها مباشرة، وهو لا يرفع عينيه عنها، «كيف حالك؟ سما على ما أظن؟» قال ذلك مصطنعا البراءة. لم تجب، بل اكتفت بهز رأسها وابتسامة خفرة ترتسم على محياها، وساد الصمت. كان يراقبها، تعبث بصفحات كتاب بين يديها، والارتباك يرشح عنها، اصطنعت السعال مرة، وراحت تنقل نظرها إلى الأعلى مرة وإلى الأسفل أخرى. كان مبتهجا حد الطرب بهذه الصغيرة الملائكية أمامه، وفي قلبه إيقاعات راقصة من الفرح الغامر، وفي نظراته فخر المنتصر بقرب وقوع الفريسة.
وقفت فجأة وقد أحاط بها الحرج من كل جانب، وحين فتحت فمها للكلام سارع إلى القول: «الإنسان ذلك المجهول، كتاب رائع، هل أنهيت قراءته؟» تفاجأت ونظرت إلى الكتاب بين يديها وقالت: «آه، الكتاب، نعم، أقصد ليس تماما، بعض المقاطع تحتاج وقتا لأفهمها جيدا، لكن أعتقد أنه يجب أن أنصرف، لقد تأخرنا.» «إنها ذكية ولبقة» فكر سليمان، وقال: «يعني إذا حضر الشياطين غادرت الملائكة؟» ارتبكت مجددا وابتسمت وقالت: «لا، بالطبع لم أقصد، إنما ...» قاطعها نور هذه المرة وقال: «اجلسي يا سماء، لم تشربي شيئا بعد.» كان للهدوء الذي نطق به نور كلماته قدرة كبيرة في بث الاطمئنان في قلبها فعادت لتجلس، وخرج نور ليجلب شيئا. «سأكافئك على هذا يا صديقي» فكر سليمان في نفسه وهو يشعر بالامتنان لمغادرة نور المكتبة. قال فورا مركزا نظره عليها يراقب ردة فعلها على كلماته: «اسمك متميز يا سماء مثلك، إنه يشبهك.» ابتسمت وأطرقت مجددا، أخذت نفسا عميقا، أو هكذا تخيل، ثم نظرت إليه مباشرة في عينيه، الأمر الذي فاجأه حقا وقالت: أشكرك، لكنك لا تعرفني. - بلى، قرأت منشوراتك كلها على «الفيسبوك»، وتعليقاتك أيضا على أصدقائك. - حسنا، ربما. - ماذا؟ - هل تعتقد أنك بكلمات قليلة ستعرف إنسانا على الحقيقة؟ - أنت على حق، لكن كما يقولون: المكتوب باين من عنوانه. - كلنا على الفيسبوك صالحون ومثاليون وحكماء أيضا. - أنت لست كذلك؟ - لم أقل هذا. - ماذا إذن؟ - ماذا تريد؟ - أنت ذكية.
قال ذلك وكان نور قد حضر ومعه صينية عليها بعض المشروبات الغازية وزجاجات العصير، اكتفت هي بالابتسام. قال نور وهو يرمق صديقه: «تفضلوا العصير، لا شيء من واجبكم.» بعدها أمسك نور بزمام الجلسة وراح يتحدث عن بعض أفكار الكتاب، وقاطعه سليمان مرات في محاولة منه لاستعراض مواهبه ومهاراته. أما سماء فكانت صامتة معظم الوقت، وقبيل غروب الشمس استأذنت بالانصراف وغادرت مع أختها.
وحين غادرت التفت سليمان إلى صديقه فرآه شابكا يديه على صدره وهو يرفع حاجبيه مبتسما وكأنه يقول: ها قد فعلتها!
7
أعترف أنني في الأسابيع القليلة الماضية أربكني كل شيء، عرس سعيد وسفره، رحلتي إلى المتحف مع شادي، وتقرب سليمان المفاجئ والسريع مني، واستمرار انقطاع الكهرباء والماء، وكأن المصائب لا تشتفي من آلامنا أبدا، وكلما ظننا أن البلاء الذي نحن فيه هو أسوأ شيء يمكن أن يحصل، نجد أنفسنا في بلاء جديد نفتح له أفواهنا دهشة ولسان حالنا يتساءل: هل يمكن أن يحدث هذا؟ لكن الحرب لا تكتفي، والموت كذلك؛ فحلب نفسها قد انقسمت إلى شرقية وغربية بحاجز في حي بستان القصر، وكل شخص من الأحياء الشرقية عليه أن يحصل على إذن لدخول الأحياء الغربية، والعكس صحيح. هذا مع نشاط القناصين من الطرفين الذين يتسلون بقنص طفل متعلق بصدر أمه، أو شيخ يحمل خبزا لعياله. وهذا ما أدى إلى انقطاع الكثير من المواد الغذائية عن المناطق الغربية من حلب مع غلاء الأسعار الفاحش.
لقد ازدادت مشاغلنا كثيرا؛ فمثلا تضاعف الوقت الذي نقضيه في غسيل الصحون إلى ضعفين أو ثلاثة بسبب تراكم الصحون أياما، وبسبب اضطرارنا إلى صب الماء من الأوعية التي كنا نخزن فيها الماء وقت توفره، وهذا أمر ليس بسهولة استخدام الماء من الحنفيات، وينطبق الأمر كذلك على غسيل الملابس، وسقي أحواض الزرع، وشطف الشرفات، وتنظيف البيت، الماء حياة، لم نكن ندرك قيمة ذلك حتى فقدناه. هذا بالطبع ما عدا الأخبار السيئة التي كنا نسمعها كل يوم من موت عزيز، أو خراب بيت، أو اختفاء شخص، أو سرقة بيت؛ فقد نشطت العصابات وكثر النشالون ، وتطورت أسالبيهم وعلا سقف مطالبهم في بيئة الحرب الملعونة؛ ولذلك فقد قاطعت رؤية الأخبار نهائيا، لكن ماذا أفعل إذا كانت الأخبار السيئة تدخل بيوتنا عنوة وتقتحم حياتنا فتكدرها غصبا؟ البارحة تحديدا علمت بخبر وفاة رضيعين توءمين لجارتنا غادة التي رزقها الله بهما بعد سبع سنوات من العلاج، لكنهما ماتا البارحة بسبب انقطاع الكهرباء في المستشفى! وقبلها صديق والدي مريض السكري الذي توفي إثر احتياجه لإبرة أنسولين لم يتمكن من إيجادها، يا للظلم والقهر! ولا أحد يجد حلا سوى أن ترمي بنفسك وبعائلتك وأطفالك في البحر لتقامر بحياتك وحياتهم من أجل عيشة تليق بإنسانيتك!
أمام هذه الضغوطات وجدت أني بحاجة إلى فسحة للتفكير، إلى وقت أستقطعه لنفسي. لا أنكر أن الغرور أخذ يلعب برأسي وأن قلبي ممتلئ فرحا بالمشاعر التي تتوارى في كلمات شادي ونظراته الحانية يوم لقائنا في المتحف، وبتصرفات سليمان الملك الجريئة آخر مرة التقيته فيها عند جدو نور، ورسائله الواضحة التي يكتبها في منشوراته على «الفيسبوك» بعباراته الأنيقة وكلماته الشعرية. لكنني اليوم أدركت أنني لا أعرف بالضبط ماذا أريد، وأن ما أقوم به لا يعدو أن يكون لعبة خطرة لا أعرف عاقبتها؛ ولذلك فقد قررت الابتعاد قليلا، وبما أن «الفيسبوك» هو المنفذ الوحيد لاتصالي بهما فقد قمت بتسجيل خروجي وإخفاء جهازي الكمبيوتر في خزانتي، حتى لا يقع تحت عيني وتراودني نفسي لفتحه، كما أني لم أعد أذهب إلى جدو نور مطلقا.
لقد مر على ذلك ثلاثة أسابيع، كم مرة شعرت بالحنين، برغبة شديدة بمعرفة ما يكتب سليمان، كم مرة شعرت بتأنيب الضمير تجاه شادي، والطريقة التي عاملته بها، كم تساءلت عن الأمر المهم الذي كان ينوي أن يخبرني إياه! هل يريد الارتباط بي مثلا؟ أعلم أنه يهتم بي، أرى ذلك في كلماته، في لهفته بالإسراع إلى الحديث معي، في بريق عينيه يوم التقينا، لكنني مع ذلك لا أعرف إن كنت أحبه حقا أم أحب تعلقه بي، ولا أدري إن كنت حقا مستعدة للارتباط به. يا للضياع الذي يحيط بي كدوامات من الرياح العاتية لا أنجو من إحداها حتى تخطفني الأخرى !
انتظرت أسابيع ثم حاولت التواصل مع شادي فلم أفلح، لقد قالها لي مرة: «أنا حازم.» يومها ضحكنا، لم أكن أعلم أنه بهذه الحدة، أحيانا يراودني شعور أنه على حق، وأنني السبب في ذلك، وأحيانا أمقت تعلقي به، وأضع اللوم كله عليه؛ فهو لا يعرف كيف يتعامل مع قلب الأنثى، إن عليه أن يناضل، أن ينتظر دهرا إذا اقتضى الأمر، ثم أعود لأفكر: وهل كل الناس مثل جدو نور؟ أحاول أن أقف مكانه، وأتلقى ما تلقاه مني، لقد آلمته حقا، هل يعاقبني، أو يهرب مني؟ لست أدري.
مضت الأيام والأسابيع والشهور وحسابه مغلق على «الفيسبوك»، وهو بالطبع لا يرى رسائلي. لقد كانت رسائله كلها مخزنة في صفحتي بعد عودتي إليها، كان يرسل كل يوم رسالة أو اثنتين، كتب لي في آخر رسالة: «خسارة، ظننت أني وجدت شريكة حياتي.» لقد كان ينوي الارتباط بي! لم أدر بعدها ماذا حدث معه. ذهبت إلى المتحف أسأل عنه، لكن لم يعرف أحد مكانه، أحدهم قال لي إنه سافر، لكنه لم يقدم استقالته، ثم أغلق المتحف بعدها نهائيا بسبب الحرب، وامتلأت البوابة المزينة بالتماثيل الحجرية بسواتر رملية، وغرق المتحف في الظلام، ثم إنني لم أعد أستطيع الذهاب هناك مجددا؛ فالمنطقة كلها صارت خطرة.
في مساء أحد الأيام تحلقنا حول العشاء نشاهد التلفاز من كهرباء «الأمبير»، ظهر فاصل إعلاني عن إقامة حفلة في دمشق يحييها الفنان «السوبر ستار» رائد! يا للمفاجأة! إنه هنا في سورية وفي دمشق تحديدا؟ هذا ما كان ينقصني. شعرت بغصة في صدري وبصعوبة كبيرة تمكنت من بلع اللقمة، وقمت إلى غرفتي. لا أدري بعدها ماذا أصابني، اجتاحتني رغبة ملحة بالبكاء، لم أقاومها كثيرا، خرجت إلى الشرفة وبكيت حتى لا أثير استغراب أهلي، ماذا بي؟ هل هو الشوق للأيام الماضية؟ أيام الهناء قبل الحرب حين كان بيتنا عامرا بنادر وسعيد وجدتي وكلنا معا لا نعرف سوى المرح وهموم الدراسة البسيطة؟ أم هو فيض ذكريات لمشاعر حملتها يوما لذلك الشاب الذي كنت قد تناسيته تماما ؟ أم هو القهر لما آل إليه حاله وما آلت إليه حالنا؟ لست أدري.
8
توضأ أبو سعيد وصلى العصر، وبعد التسليمة الثانية تأمل قليلا، ثم صلى مجددا، لم يعرف ماذا عليه أن ينوي لهذه الصلاة، لكنه صلى وهذا هو المهم. جلس دقائق يستغفر ويسبح على غير عادته ثم ارتدى ثيابه وخرج. لم يخبر أحدا أين ينوي الذهاب؛ فلم يكن يريد أن يشغل بال أحد عليه، فيلحوا عليه بالاتصال كل دقيقة، الأمر الذي يزعجه كثيرا، ثم إنهم لو عرفوا فلن يتركوه يذهب بسلام.
ركب سيارته وانطلق مسرعا، تجاوز بضعة حواجز، ثم أكمل متوغلا أكثر باتجاه حي بستان القصر، وشيئا فشيئا بدأ المشهد يتغير، عمارات بأكملها مهدمة، وأخرى مسودة من آثار الاحتراق، ركام يملأ الشوارع وكأنك عبرت حافة الموت إلى الجحيم. ركن سيارته بعيدا وأكمل رحلته سيرا على الأقدام متناسيا حاجة جسده للماء فقد كان صائما وكذلك الجميع. بدأت الطرقات تزدحم بالمارة، أناس قادمون، وآخرون مثله ذاهبون. كان يتفحص الوجوه بحثا عن أجوبة لتساؤلات كثيرة، لكنه ما كان يلتقط شيئا؛ فجميع المارة القادمون منهم والذاهبون لهم الملامح الجامدة نفسها؛ لا غضب، ولا خوف، ولا حزن، ولا فرح. وجوه مطرقة متأملة، ونظرات عابثة، وخطوات مسرعة. حاول إيقاف أحدهم، شيخ يحمل عدة أكياس ثقيلة يمشي ببطء شديد، سأله: كيف الوضع؟ أجابه: «منيح منيح.» وتركه مسرعا. لم يعد يريد أن يسأل أحدا، فليعبر وليكن ما يكون.
أمتار قليلة تفصله عن «معبر كراج الحجز»، وقد ازداد الازدحام، وأخذ يسمع من بعيد أصوات إطلاق رصاص، أكمل سيره وانحشر بين الجموع. لاحت له الحافلتان الصفراء والحمراء المتوضعتان فوق بعضهما بطريقة لطالما أعجزته عن معرفة كيفية حدوثها، كان يرى هذا المشهد في الصور، والآن هو يعاينه وجها لوجه. ركام كثير، وسواتر رملية متراكمة، سيارات الأجرة الصفراء أيضا هنا في صف طويل في انتظار دورها للدخول من أجل تعبئة الوقود، وكذلك الحافلات الصغيرة البيضاء. الجو حار مع شمس تتجه غربا فتفقأ أشعتها العيون. الناس هنا متجمعون على اختلافهم؛ رجال ونساء وأطفال ، رأى طفلا يجر شيخا مقطوع الرجل على عربة نقل حديدية، وامرأة تحمل رضيعا وتجر اثنين بيدها، رأى الكثير والكثير، وكلهم يتدثرون بالصمت ويحترفون الانتظار.
اقترب أكثر فمد عنقه متطاولا ليرى، لكن الزحام حجب عنه الرؤية، لاذ بالصبر حتى اقترب من المكان الضيق الذي من خلاله يعبر الناس، خمسة أو ستة أشخاص يحملون البنادق على ظهورهم، والمسدسات على خواصرهم يتحكمون وحدهم في مصائر هؤلاء البشر! أي ظلم؟ ولماذا؟ لا يوجد أي سبب، أي ذريعة يمكن أن تقبل ليمنع ثلة من المجرمين الغذاء عنا، واللبن عن الصغيرة فاطمة، تذكرها فاختنقت العبرة في حلقه، قاومها وأكمل سيره. وصل أمامهم مباشرة، سأله أحدهم: «إلى أين؟ ماذا لديك؟» ارتبك لحظة فلم يكن جاهزا لهذا السؤال، وانعدمت لديه القدرة على اختلاق جواب، أيكون السعي لشراء الخضار واللبن جريمة يجهد المرء في إخفائها، ويسقط في رهبة الخوف لأنه ما من سبب آخر أخرجه غيرها؟ ربما ضاق ذاك المسلح من سكوته الطويل، فأومأ له برأسه فدخل.
مشى مع الناس أمتارا ثم لاحت له من بعيد لوحة كتب عليها بخط اليد: انتبه قناص! كان قد سمع كثيرا عن القنص الذي يحدث في هذه المنطقة، لكن هل يعقل أن أموت هنا؟ ارتعد وابتسم سخرية في اللحظة نفسها وأكمل سيره. بدأ الناس حوله يسرعون خطاهم، وأخذ آخرون يركضون، هكذا يتحايلون على الموت، ويقللون الفرصة على القناصين في إصابتهم. راح أبو سعيد يفعل كما يفعلون: رجل قارب الستين من عمره يركض متوغلا في المجهول. كان يلهث بشكل متصل فهو لم يعتد على السير مسرعا فكيف بالركض؟ سبقه كثيرون، وسبق كثيرا ممن آثر المشي متجاهلا كل التحذيرات والمخاوف، مراهنا بحياته اليقينية في سبيل حياة محتملة. تناهى له صوت صبية يبكون، وامرأة تطمئنهم: «لا تخف حبيبي الآن نصل، الآن نصل.» وهي تجرهم جرا، تساءل أبو سعيد في نفسه: أيهم أشد خوفا هم أم هي؟ أم تراه هو؟
تجاوز طريق الخطر أخيرا وقد مالت الشمس أكثر نحو المغيب، هاتفه يرن في جيبه، لقد بدأت حملة التفقد! لم يعبأ به فالوقت لم يكن لصالحه. انفتح الحي أمامه على الباعة من مختلف البضائع، تجمعت الغصص في حلقه وهو يرى كل شيء هنا بعد أن فقدوا كل شيء أكثر من شهر هناك، احتار من أين يبدأ، ثم عرف على الفور، فاتجه إلى بائع اللبن فابتاع سطلا كبيرا ناسيا أن عليه أن يخفف حمله ما أمكن لأنه سيحمل غيره الكثير، ثم أخذ ما قدر على حمله من الخضار والفاكهة واللحم؛ فكل شيء متوفر هنا وبأسعار جيدة جدا.
أجاب على هاتفه، وطمأن أسرته على قرب عودته من غير أن يخبرهم عن مكانه، واتجه مسرعا صوب المعبر. طريق العودة كان كطريق الذهاب، لكن مع كثير من التعب المتراكم بفعل الصيام واشتداد العطش والحمل الثقيل. العرق يبلل ياقة قميصه، واليدان تقبضان بقوة على أمل محشور في أكياس. كلما خارت قواه تذكر وجه الصغيرة حين سيتهلل ويشرق لدى رؤيتها اللبن فيسرع مجددا.
قبيل الحاجز سأله شاب بجواره: ماذا تحمل يا عمي؟ - أشياء للبيت. - أعرف، أقصد ما هي بالتحديد؟ - خضار ولبن وكيلو لحمة. - اللحم ممنوع، ألا تعرف؟ وكذلك السجائر وحليب الأطفال. - نعم؟ ولماذا إن شاء الله؟ - لا أعرف، لكنه ممنوع، سيأخذونه إن رأوه، صدقني. - وما الحل إذن؟ - خبئه يا عمي. دعني أساعدك ...
ركن أبو سعيد الأكياس أرضا، والتقط كيس اللحم، فقام الشاب بطريقة، يبدو أنه استعملها كثيرا، بشق أحد الأكياس طوليا، ثم قام بالضغط على كيس اللحم ليبدو مبسطا أكثر ما يمكن، وطلب من أبي سعيد أن يفكك أزرار قميصه، فاستجاب الأخير له، وقام الشاب بمهارة كبيرة بلف كيس اللحم حول جسد أبي سعيد، ثم أعاد تزرير قميصه. نظر إليه الشاب مبتسما وقال: «اللحم بأمان الآن بإذن الله.»
شكره أبو سعيد وقفل عائدا إلى بيته.
9
طوفان النجاحات المتتالية غمره نشوة، الكاميرات التي تلاحقه، والأيادي التي تمتد لمصافحته أو للمسه على الأقل، الفتيات الجميلات اللاتي ترتمين عليه مجازا وحقيقة، الأموال التي بدأت تتراكم في أرصدته، السيارات الفاخرة والثياب الباهظة؛ كلها أمور ما كان يجرؤ أن يحلم بها، ها هي الآن تتحقق، وهو لا يزال تحت تأثير تخديرها.
لكنه اليوم بعد حفلة الأمس كان في مزاج سيئ؛ فأخبار بلده تصله سرقة من بعض معارفه الذين حول أسماءهم في هاتفه المحمول لضرورات تخصه وحده، حتى إنه لم يستقبل مدير أعماله (مسيو جوني) مع أنه أخبره أنه يحمل له عروضا حصرية من كبرى شركات التسجيل والتوزيع الغنائي في العالم العربي. كان جالسا على الشرفة يسحب نفسا من سيكارته والأفكار تأخذه بعيدا. تذكر أيامه الأولى في البرنامج، خوفه الشديد وخجله أمام اللجنة وارتباكه في حضورهم. تذكر الأغنية الأولى التي غناها، والتي أهلته للوقوف على عتبة تحقيق حلمه. تذكر فرحته في كل مرة يصعد سلم النجومية الباهر، وسلم القلق أيضا، هل هذا ما أريده فعلا؟ لقد حصلت على اللقب، فلماذا لا تزال تسكنني الغصة؟ لا لا، كان يريد أن يذهب بذاكرته أبعد من ذلك، إلى ما قبل البرنامج كله، قبل عامين تقريبا، إلى حياته البسيطة في منزل جدته لأبيه التي تكفلت برعايته بعد وفاة أمه وسفر أبيه، إلى نزقه من المدرسة، والأعمال الكثيرة التي زاولها وهو لا يزال في الثالثة عشرة، حتى انخراطه في العمل مع صديق والده الذي أكرمه ووضع عليه آمالا كبيرة في ازدهار أعمال المكتبة؛ فهو متحدث لبق وذو وجه وسيم وذوق رفيع، فلا يخرج أحد من عنده إلا وقد اشترى كتابا على الأقل. تذكر الخيبة التي علت وجه «معلمه» حين صارحه برغبته في السفر ودخول البرنامج، الآن فقط بدأ يشعر بشيء من الأسف عليه، كيف تركته بعد أن عملت معه ثمانية أعوام؟ وبعد أن وثق بي وافتتح مكتبة وسلمها لي بالكامل لكنني خذلته؟ كم كانت أياما جميلة!
عاد إلى الداخل، أطفأ عقب سيكارته، وتناول هاتفه المحمول ليجد أكواما من الرسائل، أغلقه ورماه جانبا، فتح جهازه اللوحي (الآي باد) ودخل إلى ملف الصور، وإلى ملف «صور قديمة» تحديدا، وبدأ يبحث عن صور المكتبة التي عمل فيها (مكتبة النيل الجديد). شعر بحنين مفاجئ إليها، راح يقلب صورها ويتأمل تفاصيلها مبتسما، لماذا هذه الصور بالتحديد؟ أخذ يتأملها مليا، وبدأت الذكريات تنسكب عليه كشلال من المطر العذب اللطيف، ثم تذكر وجهها المستدير جيدا، معطفها الكحلي وحجابها السماوي، وحدها تميزت عن الجميع، تذكر خفرها في حضوره، وارتباكها من ابتسامته، تذكر نبرة صوتها الناعمة، ونظراتها المختلسة إليه وهو يتظاهر عنها بالانشغال بأي شيء، ثم أغلق كل شيء، وفي عينيه عزم جديد.
10
أنا في فراغ كبير، أبكي لأي شيء، السقوط في العدم، هذه كانت حالتي، الخوف يلفني والشوق كذلك. كانت المشاعر تتأرجح بي بين ألم وقهر وندم ومحاولة للتجاهل، شعرت كأني أسقط في هوة سحيقة بلا نوافذ أو أنوار. أغرقت نفسي بالعمل، اشتغلت بالكروشيه كثيرا، لم أتوقف أبدا، حتى إن أمي عجبت من نشاطي وهوسي به، كنت أردد في العمل الواحد ذكرا معينا «الحمد لله، أو سبحان الله، أو لا إله إلا الله ...» وأظل أكرره مع كل غرزة أعملها، فقد سألتني مرة سيدة عجوز وأنا أريها أحد أشغالي: «بأي ذكر اشتغلت هذا العمل؟» لم أفهم قصدها، فشرحت لي أن علي أن أغزل نسيجي بالذكر حتى يظل مباركا، وأن لكل ذكر قوة، فهذا مشغول بالتسبيح، وذلك بالحمد أو التهليل أو التكبير، وأن علي أن أختار بذكائي الذكر المناسب للشخص الذي أحيك له، وحين يرتدي ما اشتغلته له، فإن الذكر يلائمه تماما ويحرره من همومه وأحزانه. أعجبتني فكرتها كثيرا، ومن يومها وأنا لا أعمل أي غرزة من غير أن أذكر الله فيها.
عملت سترات وشالات بمختلف الألوان، اشتغلت جوارب وفساتين لأطفال لا أعرفهم، وبطانيات للمواليد، وربطات شعر وميداليات وقبعات، ثم جمعت كل شيء ووهبته لعائلات النازحين، وكأنما سكب ذلك علي طاقة عالية من الفرح الرفيع، رأيت وجوههم تتلألأ بالامتنان والسعادة.
ومضت أيام وأسابيع وشهور، في تلك الفترة أدمنت على قراءة نصوص سليمان الملك التي كان ينشرها يوميا على صفحته، كنت أول المعجبين بها والمعلقين عليها. وطالما أن اتصالي به لا يتجاوز تعليقات على «الفيسبوك» فلا بأس إذن، هكذا رحت أبرر لنفسي. كانت نظرته للأمور مختلفة ، عميقة وواقعية جدا، أعجبني أسلوبه الساخر من بعض المواقف الاجتماعية، أسرتني قدرته الهائلة على تطويع اللغة ومهارته العالية في صوغ الكلمات، وكأنها لغة خاصة به وحده، والكلمات التي نستخدمها كلنا تنحاز له طواعية، وكأنه أخرجها للتو من رحم اللغة الخصب، إنه ملك مثلما وصفته تماما.
إنه يحبني لم يعد هنالك من شك، لم يبق سوى أن يقولها صراحة، لكنه لا يفعل، يهرب، هذا ما يتقنه، الجميع يهربون مني، رائد وشادي، والآن سليمان، هل أرعبهم؟ لماذا إذن دخلوا عالمي، وعكروا صفوه؟ كنت سعيدة بحياتي، والآن ماذا؟ إنهم فعلوا ذلك طوع إرادتهم، شادي، أكاد أنسى ملامحه، ما تزال صفحته مغلقة. والآن يفاجئني حضور سليمان في تفاصيل حياتي، يصاحب لحظاتي اليومية، أرى غمازتيه في خيالي فيشرق كوني أملا، وأمتلئ غبطة وخوفا، عليه أن يفعل شيئا، لكنه لا يفعل، هل هو خائف مثلي؟ من أي شيء يخاف؟ لكن هل حقا أريد الارتباط به؟ ليت ذلك يحدث! هل سيوافق أبي؟ إنه في عمره تقريبا، لا يهم، سأسعى جاهدة لإقناعه؛ فأنا أحبه، لكن الأسوأ لم يحدث بعد.
أصوات وجلبة في الخارج، أنظر من النافذة فأرى تجمعا، جرس الباب يرن، تسرع فاطمة كعادتها لفتح الباب، تناديها أمي: «لا تفتحي حتى تسألي من.» أسمع صوتها: «من؟ ... نعم؟ من تريد؟ ... من؟» أقوم مسرعة إليها، أنظر من «العين الساحرة» فأرى رجلا يرتدي نظارات شمسية لا أعرفه، «من؟ من تريد؟» أضع أذني على الباب لأسمعه يقول: «هل هذا بيت سما صايغ؟» هل نطق اسمي للتو؟ الدهشة أربكتني، هرعت إلى أمي وأخبرتها، جاءت أمي لتقول: نعم يا ابني. - هل هذا بيت الصايغ؟ - نعم، من تريد؟ - خالتي، أنا رائد بدران أرغب في طلب يد سما صايغ للزواج!
الفصل السابع
1
13 آب، حلب
أمامه كومة من دفاتر الامتحان، راح يرتبها بعناية فوق مكتبه الخشبي، ضغط على زر بدء التشغيل وانطلقت موسيقى «ياني» في الأجواء، ارتشف رشفة من القهوة السوداء، وسحب الدفتر الأول. هكذا يدس نفسه في طقوس خاصة حين يشرع بتصحيح دفاتر الامتحان؛ فهو عمل يحتاج كثيرا من الصبر والمهارة، خاصة مع ازدياد عدد الطلاب في السنوات الأخيرة الماضية.
الوقت لا يزال باكرا جدا، بإمكانه إنجاز مغلفين من الدفاتر قبل موعده، ثم تقافزت إلى ذهنه صورة تلك الفتاة الصغيرة. وضع القلم الأحمر جانبا، وراح يتأمل دقيقة، كيف تمكنت تلك النجيبة من إعادة الأمل بلقائي برندة من جديد بعد أن كدت أفقده؟ إنها شعلة من حماس، لقد مضى على غيابها زمان طويل، إنه لا يعرف بالضبط؛ فالزمان عنده لا يقاس بالوحدات المعروفة من أيام وشهور وسنوات. إنه زمان طويل أو قصير، وغير ذلك لا يهمه. إنه مثلا لا يمتلك أي ساعة، لا على جدران بيته ولا يرتديها في يده، لا جدوى منها، كما يصر دائما؛ فهو يحضر في مواعيده ومحاضراته في الوقت المناسب تماما أو قبله بقليل، ونادرا ما يتأخر، الوقت عنده مادة هضمها منذ زمن حتى عافها. وهو للسبب نفسه لا يهمه أن يعرف عمره بالتحديد، لكنه يعلم يقينا أنه كبير بما يكفي ليكون حكيما فينأى بنفسه عن التهور والحماقة، وهو في الوقت ذاته صغير بما يكفي ليتمسك بالحياة على الرغم من إجحافها وسوء تعاملها، ألا يحظى كل يوم بامتنانات صادقة من طلابه؟ وكلمات خالصة من محبيه؟ إن هذا كاف بالنسبة إليه.
أطرق مليا وارتشف رشفة من القهوة، وفكر: إنها فتاة ذكية، وسليمان صديق أثير، لكنهما في خطر، نعم إنهما في خطر كبير ينتظر قلب الصغيرة على أقل تقدير؛ فسليمان كبير بما يكفي، لكن ما العمل؟ شعر بحنان دافق تجاهها، رفع حاجبية، تنهد طويلا وأكمل العمل.
اقترب موعده، لكنه حدسا يعرف أنه بعيد بما يكفي لينهي شطرا من عمله قبل الموعد. بعد مدة أغلق الدفتر الذي أمامه، أكمل فنجانه الثاني، خلع نظارته، وأعاد الدفاتر إلى مكانها، لقد حان الموعد.
2 «لم لا؟ فهو مشهور وغني وله مستقبل باهر، وعلاقاته واسعة وستعيشين ملكة معززة مكرمة في بيت فخم.» هكذا راحت أم رمزي صديقة والدتي تقنعني برائد النجم المتألق الحاصل على اللقب. سألتها: «خالة، لكن رائد يكسب رزقه من الغناء، والغناء كما تعلمين حرام، أم أنك نسيت كلام الآنسة في الدروس التي كنا نحضرها؟ وبناء على ذلك فإن ثروته التي تتحدثين عنها حرام أيضا.» راقبت وجهها وهو يتلون ويتغير، أحسست كما لو أن الأمر كان بيدها لقطعت لساني.
ومن يوم وقوف رائد بباب بيتنا صرت أتلقى الرسائل والاتصالات من صديقات أعرفهن ولا أعرفهن، فهذه تريد لقاءه، وتلك تريد صورة معه، وأخرى قالت لي بكل صراحة: «إذا ما تريدينه أنا آخذه!» وظلت الأسئلة تتردد حولي: «كيف دبرتيه؟ هل عملت له عملا؟ سحرا عن بعد؟ إنه يتسلى وحسب، مستحيل أن يفكر أمثاله في الزواج، سيتركك من الشهر الأول ...» بعدها لم أرد على أي اتصال يردني مطلقا.
كانت أمي موافقة؛ فزواجي به فرصة لن تتكرر، وسعيد لم يعلق كثيرا على الموضوع، ترك حرية الاختيار لي، أما أبي فهو من كان يحيرني، لا يقول شيئا، يكتفي بالمراقبة وحسب ونظرة تأنيب أقرؤها في عينيه.
لا أنكر أنني في بادئ الأمر طرت فرحا، عادت إلى ذهني ذكريات المكتبة القديمة، والكلمات التي كان يقولها، الندبة في يده اليسرى، رحلتي ذات يوم للبحث عنه في المكتبات، ها هو الآن أتى إلي، ولكنه تغير كثيرا، صار أوسم شاب رأيته على الإطلاق، وراح يجلب لي الهدايا ويضعها على باب بيتنا ويغادر كل يومين أو ثلاثة، الأمر الذي أحرجني أمام الجيران كثيرا. كنت مترددة حائرة، لم يدخل بيتنا إلا مرة واحدة جلس فيها مع أبي، ولم يتصل بي أو يكلمني، بل أعطاني رقمه الخاص لأرسل له موافقتي، قال لي: «يكفي أن ترني رنة واحدة وستجدينني فورا أمامك مع أهلي وجيراني وأقاربي وأهل حلب كلهم لأطلب يدك للزواج!» لكنني لم أفعل. كما لم أعد أخرج من البيت خوفا من أن أصادفه أمامي، وهربا من بعض الفضوليين الذين يتطفلون بكاميراتهم لالتقاط صور للفتاة التي عاد من أجلها الفنان المشهور إلى الحرب.
أسبوعان مرا وأنا في حيرة شديدة، وبكاء متجدد ، هذا هو الحلم الجميل للشاب الوسيم ذي الجبهة العريضة يقف أمامي بشحمه ولحمه، فلماذا أتردد؟ لماذا لا أقول له «نعم.» وانتهى الأمر وينتهي عذابي؟ لم أشعر بغصة في صدري؟ ولما وجدني أبي على هذه الحالة قال لي: «سأطلبه ليأتي عندنا وحده، ونجلس نتكلم معه، ثم نرى ما ستجري عليه الأمور.»
في اليوم التالي حضر رائد مع باقة ورد كبيرة آسرة الجمال، كان يرتدي ثيابا رسمية، سروالا رماديا وقميصا كحليا، وكنت أرتدي ثيابي التي أخرج بها إلى الشارع، معطفي العسلي، وغطاء بنيا على رأسي. جلس أمامي مع والدي وتحدثا معا دقائق، ثم ذهب أبي إلى غرفة أخرى، وبقينا وحدنا. - كيف حالك سما؟ - الحمد لله. - تأخرت بردك كثيرا. - يعني ... امم ... تعرف ... - نعم أعرف من حقك أن تتدللي. - أنا لا أتدلل، أنا أفكر. - وأنا في انتظارك دائما. - هل لي أن أسألك لم اخترتني أنا بالذات؟ - سؤالك جميل؛ لأنني أعتقد أنك الفتاة المناسبة لي، ولنا معا ذكريات جميلة. لا أريد أن أتورط بعلاقة من الوسط الفني؛ فكلهم كاذبون، أما أنت فمختلفة عن الجميع، أنت صادقة، ثم إن النجاح الذي حققته لن يكمل إلا بوجودك معي، سأتألق أكثر وأنت معي، تعرفين الصحافة والإعلام وظيفتها أن تتسقط هذه الأخبار، ألا ترين الكاميرات لا تتركني لحظة واحدة؟ أراهن أنهم الآن خلف الشباك يحاولون التقاط صورة أو سماع كلمة مما أقوله الآن.
فكرت في نفسي: نجاحك أنت؟ وهل هذا هو المهم؟ أن يتحدث عنك الإعلام؟ لم أقل شيئا، فقال: سأجلب لك مكتبة بأكملها وأشتري لك كتب العالم، هل تذكرين سما؟ كم كنت أعمى في ذلك الوقت، قبل أعوام، هل تذكرين في مكتبة النيل الجديد؟ - سأحضر لك القهوة.
وقمت من فوري إلى المطبخ، قلبي يتقاطر خوفا، وأصابعي تهتز رعشة، كلماته هزتني من الأعماق، أرعبتني وأسعدتني في الوقت نفسه، يا للحيرة التي تملكتني؟ وزادت علي! ذهبت إلى المطبخ، وبمساعدة والدتي حضرت فنجانا من القهوة له، وكوبا من الشاي بالنعناع لي. أخذت نفسا عميقا حتى أتمكن من حمل الصينية بثبات، مشيت باتجاهه وأنزلت الصينية ليتناول فنجانه. أشعر بنظراته تخترقني وهو ينظر إلي من مكانه، استدرت وأخذت كوبي، مسكته بيدي الاثنتين أتلمس منه حرارة أدفئ بها برودة أطرافي وأسكن رعشة قلبي. قال: شاي يا سما؟ ألا تشربين القهوة؟ - لا؛ فأنا لا أحبها. - خسارة، علي إذن أن أبذل جهدا في جعلك تحبينها؛ فأنا أعشقها، كيف سنشربها معا كل صباح؟
ثم ارتشف رشفة من فنجانه وأخذ يتحدث عن نفسه، وأنا ما عدت أصغي إليه، كلماته كانت كمصباح وضعني على الطريق الصحيح، وتراقصت أمامي ذكريات كلمات أخرى صادقة ... - تعرفين يا سما، أنت مثل القهوة، تضيفين نكهة رائعة إلى الحياة. - لكني لا أحب القهوة. - القهوة لا تدرك قيمة ذاتها، وما تفعله في القلوب. - لا أعرف ماذا علي أن أقول! - لا شيء على الإطلاق، غدا تقولين لي.
3 - في داخلك جرح، روحك مضطربة، أشعر بذلك. - وما أدراك أنت؟ - دلائل كثيرة، ثم ألا تثقين بذكائي؟ - لم أعد أعرف شيئا. - أنا لا أدعوك لتثقي بشخصي، بل بذكائي وخبرتي. - ماذا تريد مني؟ - يسرني الحديث إليك ويأخذني إلى عوالم جديدة من الخير الأول، أنت مختلفة، ثم إني متورط بك، والهرب أمر غير وارد بالنسبة إلي. - لقد سئمت وتعبت. - من أي شيء؟ - من كل شيء، ألا تعيش هنا؟ - الحرب! - وهل غيرها؟ - لم تفعل الحرب شيئا سوى أنها وضعتنا على شفرة الحقيقة، عرتنا أمام أنفسنا، عليك تجاهلها وحسب. - كيف وهي تزكم أنوفنا، وتحشر نفسها تحت ألحفتنا؟ - صدقيني، هناك أسوأ من الحرب. - ماذا؟ - الخوف. - الحرب تجلب الخوف. - العكس هو الصحيح. - أحيانا لا أفهمك! - أما أنا، فأفهمك دائما. - مادح نفسه يسلم عليك سيد سليمان! - ههههه، أنت جميلة، وكم أنا سعيد بالحديث معك! هل سنبقى هكذا نتحدث عبر كلمات على الشاشة، أنا كما تعلمين لا أحب تكنولوجيا الشباب، ولولا أنني مضطر إليها لأحدثك لما لجأت إليها. - وما العيب في تكنولوجيا الشباب؟ - لا شيء سوى أنني لا أجيد التعامل مع حرف جامد أظل أفتش عنه في لوحة المفاتيح لأكتب كلمة تستهلك جزءا كبيرا من وقتي. - بإمكانك أن ترسل لي رسالة صوتية إذا أردت، أنا أكتب وأنت تسجل. - هذا أسوأ، أتخيل نفسي أحدث كومة من حديد وأنا وحدي في الغرفة! يا للجنون! - ماذا تريد إذن؟ - أن أراك، وجها لوجه، أحدث كائنا حيا. - تعرف أن هذا صعب جدا علي. - تعالي إلى بيت نور، هناك على الأقل يمكنني أن أراك مصادفة ولو كذبا. - أو بإمكانك أن تأتي هنا إلى البيت. - هل أنت جادة؟ بأي صفة أدخل بيتكم هكذا من الباب؟ - لا أدري، أنت قل لي. - أنتم الشباب عجيبون! هل كل من في عمرك هكذا؟ - هكذا كيف؟ وما خطبنا نحن «الشباب»؟ - كانوا معي في الجامعة، بعضهم لا يزال يتواصل معي إلى الآن، أشعر بالأسف عليهم. - لماذا؟ - تلك ذكرى لا أحب استرجاعها. - هل أساءوا لك؟ - على العكس تماما، بعد أن بادلتهم الود، وفتحت لهم قلبي، كما أفعل معك الآن، وصارت علاقتنا أكثر متانة، تساقطوا من حولي. - كيف؟ - أنت مصرة على إعادة الماضي الحزين. - لكل منا ذكريات حزينة. - حسنا، لقد مات أحدهم. - حقا؟ يا للأسف! رحمه الله. - قتل، إن صح التعبير. - يا إلهي! - نعم، كان الخبر فاجعة كبيرة لي، أحببت ذلك الشاب تحديدا، وبعدها انفرط عقد أصدقائه عني ولم أعد أعرف من أخبارهم شيئا. - هذا مؤسف. - نعم، الألم يموت لكن الجرح يبقى، أحيانا ألوم نفسي على موته. - لماذا؟ وما دخلك أنت؟ - يعني كما تعلمين كنا نتحدث كثيرا، عن الماضي الذي يخصني أحيانا، وكانوا يتأثرون، ربما ثارت النقمة في قلوبهم، خاصة ذلك الشاب، لست أدري، فحمله ذلك على التصرف بتهور. - لا تحمل نفسك فوق طاقتها. - هكذا أقول لنفسي أيضا، لكن مضى على ذلك عام أو يزيد، ومع ذلك فتاريخ استشهاد ذلك الشاب الأشقر محفور في قلبي، «السابع عشر من تموز!»
4
اجتماع مغلق، شعرت بذلك ووالدي يغلق الباب، ويدعوني للجلوس، هذه أول مرة يقوم بذلك، أخذت التوقعات تدور في رأسي عن أي شيء سنتحدث. جلست على طرف الكرسي متوثبة أنتظره أن ينطق، وجلس هو أمامي على الأريكة يحدق في الأرض. الساعة تدور بتثاقل، تك تك تك ، تهزأ بي ربما، أو تطرق على رأسي لتذكرني بوجودها الفج في هذه اللحظة.
نطق أبي أخيرا وقال: «بنتي، هناك شاب تحدث معي بخصوصك، تعرفين، يريد أن يطلبك للزواج.» من يكون؟ سليمان؟ لكنه ليس شابا! أو ربما رائد؟ أو لعله شاب لا أعرفه أبدا! أكمل أبي: «لكن لن أقول لك رأيي فيه حتى أسمع رأيك، لا أريد أن أؤثر عليك؛ فأنت صاحبة القرار.» يا للحنان والحكمة التي تغلف كلماته! تسارع نبض قلبي وحبست أنفاسي أنتظره أن ينطق باسمه، الساعة تصر على إثبات وجودها، تك تك تك، أسند أبي ظهره على الوسائد ونظر إلي وقال: «شادي أشتر.»
أكاد أجزم أن فمي ظل مفتوحا دهرا من وقع المفاجأة، شادي تحدث مع أبي؟! كيف؟ ومتى؟ وأين هو الآن؟ تقافزت الأسئلة إلى ذهني مثل مفرقعات اشتعلت دفعة واحدة، هل أخبره شادي بكل شيء؟ هل يعرف محادثات الفيسبوك؟ يا إلهي، هل أخبره عن لقائنا في المتحف؟ تك تك تك تك، الساعة مجددا أخذت تسلخ بدقاتها قلبي، إنه لم ينسني! إنه جاد في الارتباط بي! «حازم جدا» كما قال لي.
أضاف أبي: «لقد جاء إلي هو ووالده قبل أشهر، وتقدما رسميا بطلب يدك، أخبرني أنه مسافر إلى اليمن.» اليمن؟! ما الذي يفعله هناك؟ أكمل أبي: «وقمت بالطبع بالسؤال عنه، لكنني لم أقل لك لأسباب كثيرة، التي من أهمها ظهور رائد، أما الآن فعليك اتخاذ قرارك، ما رأيك؟» وسكت ينتظر جوابي، لكن المفاجأة عقدت لساني. كنت أنظر إلى يدي المتعرقتين، وكثير من علامات الاستفهام تتقافز أمام عيني. قام أبي وقال: «طيب، أظن أنك تحتاجين وقتا.» وخرج تاركا إياي غارقة في بحر من حيرة وذكريات.
5
لم تكن الرحلة سهلة على الإطلاق، بقينا أياما ننتظر الوقت المناسب للانطلاق ونحن نتواصل يوميا مع «أبو أمجد» سائق سيارة الأجرة الذي سيوصلنا إلى الحافلة التي من المفترض أن تسير بنا في طريق خناصر ومنها سننطلق برا إلى بيروت. وبعد أيام انطلقنا، مشينا في طريق شبه معبد لكنه غير مزفت. الحواجز كثيرة جدا على طول الطريق، جاوزت الخمسين حاجزا، إجراءات وتفتيش واتصالات وتدقيق ومحسوبيات ورشاو على المكشوف، فما نكاد ننطلق ساعة حتى نقف مجددا مع حاجز جديد ويتكرر السيناريو مع وجوه مختلفة، ومفاوضات مغايرة وأرقام تهبط أو ترتفع بحسب المعرفة و«الموانة» السابقة وبحسب أمور أخرى لا نعرفها. والسعر الذي اتفقنا عليه مع «أبو أمجد» ومع سائق الحافلة «زكوان» تضخم كثيرا وترهل أضعاف حجمه الأصلي؛ فمن الضروري أن يسعى كل سائق إلى إرضاء كل حاجز عبر علب السكائر أو المال أو ما شابه، ومن يمتنع عن ذلك يتعرض لتفتيش دقيق مهين، وتأخير قد يمتد لساعات بلا أي مبرر حقيقي سوى رغبة عناصر الحاجز بالحصول على الرشوة التي يجمعها السائق أخيرا من محافظنا.
أسافر مع «خالتي نوال» وزوجها إلى بيروت؛ فلم يتمكن والداي من مرافقتي، أبي مرتبط بعمله، وأمي مرتبطة به وبأختي فاطمة، أودعتني أمي مع أختها نوال للسفر إلى بيروت. كنت قد سمعت كثيرا عن مشاق الرحلة لكن سماع الشيء يختلف كثيرا عن الخوض فيه، وكأنها رحلة الانتقال من الموت إلى الحياة؛ فالطريق الذي كان يستغرق سبع ساعات بين حلب وبيروت تطاول حتى وصل معنا إلى سبع عشرة ساعة، مع الأخذ في الحسبان الساعات التي قضيناها في ضيافة «أشقائنا» في الحدود اللبنانية، وما واجهناه هناك من تأخير وتفتيش وخوف من منعنا من الدخول من قبل الأمن اللبناني، ونظرات بعضهم لنا وكأننا حشرات.
في اليوم الذي تبدأ الحرب في بلدك تصير منبوذا ومشبوها، ومتهما عالميا حتى لو كنت بريئا، الآن فقط بدأنا نشعر بمعاناة الفلسطينيين قبل عشرات السنين. وفي زمن الحرب تختلف كثير من الأمور، أنا مثلا عشت عامين في الحرب، هل أقول إنهما عامان مرا من عمري؟ أم أقول دهرا؟ الحرب آلة حصد هائلة، تحصد كل شيء، الأماني والأحلام، الأرواح والأحباب، والزمان أيضا، لا يبقى إلا الأرض المحروقة من نفوسنا المتعبة. كل شيء في الحرب يتغير، من أكبر شيء إلى أصغره، أساليب الناس في حياتهم، عاداتهم اليومية، أحاديثهم، أمنياتهم، لعب أطفالهم، مشاعرهم، حتى أفراحهم ؛ فبعد أن فرح الكون كله بارتباط أخي سعيد بمحبوبته الجميلة سلمى، افترقا فعاد أخي إلى قطر على أمل أن يطلبها فتلحق به، لكن مضى على ذلك تسعة أشهر وهو لا يتمكن من ذلك، تعقدت الأمور أمام السوريين كثيرا. المشكلة أنه لم يعد بإمكانه العودة إلى حلب، فهل يلتقيان مجددا؟ لا أحد يعرف!
وأنا مثلا لا يتمكن أهلي من الجلوس مع شادي إلا عن طريق صورة متقطعة على برنامج السكايب أو الفايبر، يسألون عنه، يقابلون والديه، وتتم الموافقة، نقرأ الفاتحة عبر تسجيل صوتي، تلبسني والدته خاتم الخطوبة، نحتفل أربعتنا أنا وهي وأمي وخالتي مع كئوس من العصير وقطع الكيك، وينتهي الأمر وأذهب وحدي لألاقيه في بيروت. هكذا جرى الاتفاق، ثم يشرف زوج خالتي على كتب الكتاب فهو محام، ويتولى بقية الأمور القانونية من استصدار صك الزواج، ودفتر العائلة وغيرها من الإجراءات. نجلس أسبوعين أو ثلاثة في بيروت، ثم أسافر معه إلى اليمن. أنا كنت فرحة بكل ذلك ومشدوهة، هل حقا سألتقي به بعد غياب ما يقرب من عام؟ وهل سأتزوج أخيرا من غير عرس أو فستان أبيض أو زفة وزغاريد ورقص؟
6
بيروت أخيرا! أرى البحر للمرة الأولى بعد أعوام، في سورية قمنا بتأجيل ذهابنا إليه عاما بعد عام، فأبعدتنا الحرب عنه أعواما أخرى. للبحر جمال مبهج يعج بالحياة نهارا، أما ليلا فله سحر خاص؛ ذلك لأني لا أتلقاه بنظري كالعادة، لا أرى زرقته الصافية، ولا امتداده الفسيح، ولا تراقص ضوء الشمس على أمواجه الرائقة. البحر في الليل يثير حواسي المختلفة الأخرى، أمامي ظلمة حالكة، أغمضت عيني فلا شيء لأراه، وسمحت لحواسي الأخرى بتلقي البحر. شعرت بأمواجه تغمرني، تلامس قدمي بإيقاع منتظم، وصوتها الرتيب يتكسر على شاطئ قلبي. ملأت رئتي من هوائه المشبع بالرطوبة، وخباياه المحتملة، وأسراره المخفية، تخيلت أعماقه السحيقة، مخلوقاته العجيبة، ورحت أتقدم أكثر وأكثر. بدأت برودة الماء تلامس ساقي حتى ركبتي، فأعلى وأعلى، أصابتني رعدة من برد ورهبة. فردت ذراعي وأخذت الرياح والأمواج والظلمة تلعب برأسي فأصبت بالدوار، كادت ساقاي تخذلانني، واشتغلت غريزة البقاء بتحذيري من خطر محتمل. فتحت عيني، وتلفت حولي، كنت في بحر من ظلام، ولولا أنوار تسبح بعيدا كغرقى متشبثين بالحياة لما عرفت اتجاه الشاطئ، مشيت باتجاهها عائدة إلى الشاطئ، ومستسلمة للحياة. «في بيروت» هكذا عنونت صورة لها على «الواتساب» وهي واقفة أمام صخرة الروشة، يا للمفاجأة! رندة هنا؟ علي أن أفعل شيئا. تذكرت حماسي الأول في جمعها بجدو نور، وأن الفرصة هذه ربما لن تتكرر، لكني أواجه مشكلة كبيرة، كيف سأفعل ذلك؟ ما الذي يمكن أن يجعل سيدة تعيش حياتها مطمئنة في تركيا، وتقيم أياما في بيروت تسافر إلى حلب أخطر مدينة في العالم؟ لا يوجد دافع سوى الحب، وأن أسافر معها، وهذا ما علي أن أفعله. كتبت لها: كيف حالك سيدة رندة؟ أرى أنك في بيروت، حمدا لله على سلامتك.
وبعد ساعات جاءني ردها: الله يسلمك. شكرا، كيف حالك أنت؟ - بخير. أريد أن أسألك سؤالا. - تفضلي. - ما الذي يجعل شخصا يترك بيته الآمن ويسافر إلى الحرب؟ - سؤالك غريب، لكن لا أعتقد أن أحدا يفعل ذلك إلا إذا كان مضطرا. - هل تقع الضرورة الروحية أو العاطفية ضمن هذه الضرورات؟ - بالتأكيد، إذا كانت قوية بما يكفي ليضع الشخص حياته على كف الخطر. - طيب سيدة رندة، هل يعني لك الثالث عشر من آب عام 1995م شيئا؟
بقيت بعدها دقائق أنتظر ردها لكنها لم ترسل شيئا، هل أخطأت في تدخلي بخصوصياتها؟ هل كان أسلوبي سيئا؟ يظهر عندي أنها متصلة لكنها لا تجيب، ماذا فعلت بكلماتي؟ هل أثرت غضبها؟ أم ذكرياتها؟ أم أحزانها؟ كتبت أخيرا: آسفة سيدة رندة، ما قصدت أبدا إزعاجك. لكنها أيضا لم ترد حتى اليوم التالي، جاءتني رسالة منها كتبت فيها: لست أدري ماذا تعرفين وكيف، أنت صديقة عزيزة، لكنك ما زلت صغيرة، هناك الكثير مما لا تعرفينه.
فأرسلت لها على الفور: آسفة، أعتذر منك مجددا على تطفلي، لكنني أحبك حقا وأحترمك جدا. - وهل محبتك لي تبرر لك النبش في ماض يخصني؟ - أنا لم أنبش، لقد وجدت نفسي متورطة بكما من غير إرادة مني. - ماذا تقصدين؟ من حكى لك ؟
بدأ قلبي يخفق بشدة، لقد اقتربت جدا من قول الحقيقة لها، علي أن أختار كلماتي بعناية، كتبت: إنه الشخص نفسه الذي ظل ينتظرك كل يوم أمام مفترق الطرق المؤدي إلى بيتكم في حي بستان القصر، ثم أخذ ينتظرك كل شهر، ثم كل عام في الثالث عشر من آب. إنه الشخص نفسه الذي يعيش وحيدا إلى الآن على أمل اللقاء بك، إنه «نوار» سيدة رندة «نوار».
نظرت جيدا إلى الرسالة، تعمدت أن أكتب اسمه «نوار» وليس «نور»، عدلتها قليلا ثم ضغطت زر الإرسال، وانتظرت، وطال انتظاري، إنها لا تزال متصلة لكنها لا تكتب، ثم ظهر لي أنها تكتب، حبست أنفاسي، وجاءت رسالتها: احكي لي كل شيء.
7 - هل أنت جاد يا سعيد؟ ماذا تعني بقولك هذا؟ - أنا متفاجئ مثلك تماما، لكن صدقيني ما باليد حيلة. - كيف؟ ألم ترهم عقد الزواج ودفتر العائلة؟ - بلى، فعلت، لكن الأمور باتت معقدة جدا. - ماذا تقصد؟ - لا أدري، ربما قبل عام كانت أمور الاستقدام أفضل. - وما الجديد؟ - لم يعد منح الإقامات أمرا سهلا كما كان سابقا. - لكنني زوجتك. - أعرف، حتى لم الشمل توقف منذ مدة، ابن خالتي هنا أيضا لقد مضى له عام تقريبا وزوجته وأولاده في حلب، لا هو يتمكن من العودة إليهم، ولا هم قادرون على اللحاق به. تصوري لقد ولد له بنت لم يتمكن حتى الآن من رؤيتها. - وما الحل إذن؟ - ما علينا سوى الانتظار. - الانتظار مجددا؟ وانتظار ماذا؟ وهل سيتغير شيء؟ - لست أدري. - لكنني ... - ماذا سلمى؟ - اشتقت إليك ...!
8
المفاجأة صارت مفاجأتين، والفرحة فرحتين، هذه هي المرة الأولى التي أراها فيها، كانت تنتظرني في ساحة النجمة. ارتبكت أول الأمر، لم أدر إن كانت هي على الحقيقة؛ فالسيدة تلك الواقفة على بعد أمتار مني محجبة، ورندة التي أعرفها ليست كذلك. اقتربت أكثر أتفحص ملامحها، قالت: «سما؟» ضحكت ومددت يدي أصافحها، نعم، إنها هي، قلت: أنا فرحة جدا برؤيتك، أشعر أن حلمي يتحقق ، هل أنت رندة الجميلة حقا؟ - هههه، راح الجمال، وبقيت رندة، وأنا ممتنة لك جدا. - أنت جميلة على الدوام.
جلسنا في أحد المقاهي هناك، وتحدثنا طويلا، أخبرتني عن قرارها بالحجاب، ومحبتها الكبيرة له، قالت: «في اللحظة التي ارتديته شعرت أنه جزء مني، وأنه كان ينتظرني منذ زمن، أحمد الله الذي أهداني إياه.» كان وجهها مشرقا بالفرح، وهي بين فترة وأخرى تمسك بيدي وتضغط عليها، شعرت بارتباكها، فقلت لها: متى تنوين السفر؟ - لا أعرف سما، أشعر بقلق العودة. - هل ذلك بسبب الحرب؟ أم بسبب جدو نور؟ - ليس هذا وحسب، إنما أخاف من صدمتي لرؤية حلب التي أحبها قد تغيرت، لقد عشت فيها تسع سنوات. - معك حق فحلب لم تعد كما كانت، كل شيء تغير، قلوب الناس ووجوههم، في عيونهم مزيج رهيب من خوف وقلق ووجع، الأطفال أكثر من يحيرني، لم أعد أرى أطفالا، إنما أرواحا هرمة في أجساد صغيرة! - مؤسف جدا، أنت أيضا تتكلمين كشخص في الستين من عمره. - هههه، أرجو ألا يشمل ذلك شكلي أيضا! آه ليتني أتمكن من السفر معك! كيف سأفوت على نفسي فرصة لقائكما؟ - لا تقلقي، لقد قمت بواجبك وزيادة، لا أعرف كيف أشكرك. - هل تمزحين؟ تشكرينني؟ أنا الآن أعيش حلمي، تعرفت أخيرا إليك وأرجو أن يكتمل الحلم بجمعكما معا. دعيني أسافر معك غدا وهكذا أرحل قبل وصول شادي، سأخبره لاحقا وسيفهمني بالتأكيد. - أنت فتاة مجنونة، لا يمكنني أن أقبل إطلاقا. - أرجوك سيدة رندة. - هذا موضوع غير قابل للنقاش، ثم إنني لست صغيرة لأحتاج مرافقا، فلا تقلقي.
ثم نظرت إلى ساعتها وقالت: هل لك أن تعذريني سما، علي أن أقوم حتى لا تفوتني صلاة العصر. - نعم بالتأكيد، لكن هل لي أن أسألك سؤالا؟ - بالطبع، تفضلي. - هل تحافظين هكذا على الصلاة في كل الأوقات؟ وفي أي مكان؟ - نعم أحاول دائما. - أنا لا أصلي إلا نادرا، ليس تهاونا أو نسيانا. - وإنما؟ - وإنما لأنني أشعر أن صلاتي نفاق وكذب ولا فائدة منها. - كيف ذلك؟ - دائما يقولون لنا إن الصلاة صلة العبد بربه، أنا لا أشعر بهذه الصلة؛ ففي لحظة دخولي في الصلاة تأخذني الأفكار من كل جانب، البيت والأحداث والأصدقاء وكل شيء عدا الصلاة، ما هذا الكذب؟ - أنت لديك أخت صغيرة. صحيح؟ - نعم، فاطمة. - طيب، ماذا تفعل فاطمة إذا طلبت منك شيئا ولم تحصل عليه؟ - يا إلهي! إنها لا تمل أبدا، تكرر الطلب وتحاول بمختلف طرق الاستعطاف والترجي والوساطات والمفاوضات حتى أنفذ لها ما تريده. - هكذا افعلي أمام بابه! يكفي أنك تحاولين.
التقيت برندة مرات عدة في بيروت، كانت أحاديثنا مزيجا من ذكريات ودموع وضحك، لم أخبرها بالطبع عن العقد السماوي، سأترك ذلك لجدو. ومثلما تخيلتها تماما، فهي سيدة قوية واضحة مهذبة، وعلى الرغم من التجاعيد الرفيعة التي تظهر حول فمها حين تضحك، فإنها جميلة وأنيقة بحجابها الجديد الذي قالت لي عنه إنه نعمة.
سألتها مرة عن بحثها عن الحقيقة الذي كانت قد بدأته أيام برلين، أريد أن أستعين بها، وأستوحي منها في علاقتي بالله، وأن أكتشف أسطورتي الشخصية كما قرأت في «الخيميائي»، قالت: لقد استهلك مني ذلك عمرا بأكمله. - وإلى ماذا توصلت؟ - لم أصل إلى الآن. - حقا؟! - لقد حاورت كثيرين من مختلف الاعتقادات الدينية واللادينية، وأجريت أبحاثا كثيرة، وتوصلت إلى حقيقة أن كل واحد منهم ينسب الحقيقة إلى نفسه، ويحارب من يخالفه. - وأيهم كان يملكها؟ - هذا هو السؤال الذي كان يشغلني طوال تلك المدة. - طيب؟ - ثم اكتشفت أن هذا السؤال بالتحديد هو أكبر مغالطة، وأنه يضيعني بدل أن يرشدني. - كيف ذلك؟ - أي طريق سلكت للوصول إلى بيروت؟ الطريق المعتاد نفسه قبل الحرب؟ - بالطبع لا، سلكنا طريقا أطول وأصعب. - وهل وصلت إلى بيروت؟ - ... - أرأيت؟ الطرق كثيرة، يطول بعضها ويقصر بعضها الآخر، يسهل أو يصعب، وتتقاطع كثير منها في بعض النقاط، وتفترق في أخرى، والمهم هو الوصول. - لكن بعضهم لا يصل. - صدقت؛ فبعض الطرق تتوه بسالكيها، إما بسبب كثرة تعرجات الطريق، أو فقدان البوصلة، أو ضياع المرشد، أو تطرف السالك واعتداده بنفسه. - والمهم الوصول. - تماما، والأجمل أن تحملي دائما خارطتك في قلبك ، فلا يكون اعتمادك إلا عليها.
9
حان الموعد، وضع نظارته جانبا، أخذ صينية القهوة إلى المطبخ، غسل فنجانه بعناية، وضعه على المشبك، وراح يتأمل تساقط قطرات الماء عنه، كم مضى عليه من الزمن وهو يشرب بهذا الفنجان تحديدا؟ فنجان أبيض مذهب الحواف! لم يكونا يملكان غير هذه الفناجين، لطالما شربا القهوة فيها، كانت مولعة بالقهوة. لقد تكسر من طقم الفناجين هذا حتى اليوم ثلاثة فناجين وطبقان، في كل مرة ينكسر فيها فنجان كان يدخل في حالة حداد وكأنه فقد أحد أبنائه، ومنذ تلك الأيام لم يستبدل فناجينه بأخرى، كان يعد ذلك نوعا من الوفاء، أو التشبث بقشة أمل، أو هو مجرد تحايل على النفس لإرضاء رغبتها بأن يبقى كل شيء على حاله حتى عودتها. ضحك سخرية في سره، ابتلع حرقته واتجه إلى غرفته، بدل ملابسه، ارتدى سرواله الكحلي الأثير لديه، وقميصه الأبيض. ألقى نظرة إلى نفسه في المرآة، نظرة خاطفة واحدة استغرق فيها من الوقت ما يسمح له أن يطمئن على مظهره بشكل عام، وانتظام الشعرات الفضية على رأسه، ثم استدار هاربا من عينيه اللتين ستسألانه السؤال نفسه: ماذا تفعل كل هذه الأعوام؟ ألم تمل بعد؟ كفاك جنونا فلن تعود. هرب من الأسئلة كلها إلى جرح يتيم في صدره: وهل هناك شيء آخر لأفعله؟
عاد إلى مكتبته مجددا، استل علبة شامواه من درج مكتبه الثاني، لقد اهترأت العلبة كثيرا، وانمحى لونها الأخضر، مسح الغبار عنها، وفتحها متأملا العقد ذا الحجر السماوي. أغلق العلبة ووضعها في كيس من الكرتون وخرج إلى موعده.
لم يكن الطريق سهلا، وخاصة في السنوات الأخيرة التي اشتعلت فيها الحرب في حلب وأحيائها الشرقية خاصة. إن عليه أن يذهب هناك إلى حي الشعار تحديدا، صحيح أن البيت الذي سكناه معا كان بالأجرة، لكنها لا تعرف غيره، قد تعتقد أنه لا يزال هناك. تطاول الوقت معه كثيرا فلم يصل إلى الحي حتى انتصفت الشمس في كبد السماء.
لقد تغيرت الحارة كثيرا، وتبدلت ملامحها منذ عام إلى الآن. أبنية مهدمة وأخرى مسودة من آثار الاحتراق، أصوات إطلاق رصاص من بعيد يتخللها صفير صاروخ أو دوي انفجار. في كل مرة يسمع فيها صوتا قويا كان ينحني إلى الأرض ليحمي بحركة لا إرادية رأسه ويشد الكيس الورقي إلى صدره، ثم يعود فينتصب واقفا ويكمل طريقه، وكذلك يفعل الناس من حوله، ويستمر بعدها كل إلى وجهته. وبصعوبة كبيرة اقترب من بلوغ المكان، إلى مفترق الطرق المؤدي إلى بيتهما القديم.
كان يلهث تعبا من طول المدة التي قضاها ماشيا، أو خوفا من يأس ينتظره، أو رهبة من أمل قد يتحقق. تسارعت نبضات قلبه مع كل خطوة يخطوها، وتسارعت معها خطواته وصارت أقرب إلى الهرولة. راحت حبات العرق تنسكب من جبهته ورقبته وتبلل ياقة قميصه؛ فشمس آب كانت كعادتها سخية بحرارتها مع سماء مقفرة تماما من الغيوم. وشيئا فشيئا خلت الشوارع في مثل هذا الوقت من المشاة، على بعد أمتار منه هناك رجل يمشي أمامه حاملا سطلا من اللبن وأكياسا سوداء، وعلى الرصيف المقابل كانت هناك سيدة بدينة تمشي ببطء وتتمايل على الجانبين وتشد بيدها طفلا بالكاد يمشي.
تقدم أكثر وخلا المكان تماما من الناس؛ فالحارة التالية مهدمة بالكامل، من بعيد رأى الشجرة التي يعرفها جيدا، أسرع باتجاهها هربا من الشمس الحارقة، وطلبا للظل. اقترب أكثر ولاح له لأول مرة سواد على الأرض، اضطرب قلبه، ارتعشت شفتاه، أخرج منديلا ومسح العرق من جبينه، توقف لحظة وراح يحدق خلف الشجرة. مشى بضع خطوات وتبين له بما لا شك فيه أن هناك شخصا يجلس تحت الشجرة. أتكون هي؟ وعند هذه اللحظة انشل كل شيء فيه، وتسمرت قدماه، وكأنهما صخرتان مثبتتان في الأرض، ليته يمشي خطوتين أيضا ليتأكد أكانت هي أم لا، ليته يعرف؛ فأن يفقد الأمل هذا العام أيضا خير له من هذه الحالة التي تملكته الآن! تجمد مكانه دقائق كانت بالنسبة إليه خرقا للزمان وسقوطا في العدم.
وفجأة تحرك ذلك الشخص الجالس تحت الشجرة، وقف، لا، بل وقفت، إنها سيدة بتنورة بنية طويلة وسترة مزهرة وحجاب سكري اللون. التوى على نفسه فقد آلمه قلبه وكأنما سرى فيه سيخ من نار. قامت السيدة ونفضت ثيابها، انحنت إلى الأرض وحملت سجادة وقامت بنفضها أيضا، إنه لا يرى وجهها إلى الآن، فتحت حقيبتها، أخرجت نظارة شمسية وارتدتها، رفعت يدها اليسرى ونظرت إلى ساعتها، تقدمت إلى الأمام قليلا، استدارت فالتقت أعينهما.
خلعت نظارتها على الفور، وقطبت جبينها محاولة تركيز نظرها على هذا العجوز الواقف أمامها على مسافة عشرة أمتار تقريبا. رقص قلبها بخفة، وعلمت على الفور أنه هو، ابتسمت، وشيئا فشيئا تحولت ابتسامتها إلى ضحكة عالية وصاحت: نوار. ركضت إليه، تأملته عن قرب، أما هو فقد غاب عن العالم، وطار إلى الجنة، إنها هي ...!
توقفا دقيقة، ظل صامتا تاركا روحه تقول كل شيء، يتأملها مركزا على عينيها الدامعتين، وكانت هي تتحدث وتبكي بلا انقطاع. لم يكن يصغي ولم يعرف ماذا تقول، كان مكتفيا بلذة قربها، بفرحها الطاغي، ببكاء كان يغالبه. وثار أخيرا إثر لمسة حانية من كفيها على وجهه، واضعة إبهاميها على حاجبيه كعادتها دائما حين كانت تتدلل بحب.
بيوت مهدمة وأخرى محروقة، ركام هنا، وأوساخ هناك، أصوات الحرب تقطع الأجواء، رائحة احتراق ممزوجة بروائح الطبخ الحلبي الخارجة من البيوت، شمس حارقة، وقرب الشجرة وقف اثنان متعانقين.
10
كانت شديدة الارتفاع، إنها «كوكبان» يخيل إليك وأنت تسير في شوارعها أنك عدت إلى ما قبل الحضارة والمدنية؛ فشوارعها ترابية، وكل أبنيتها من الحجارة والطين، لا لون هنا سوى لون التراب، ولن تلحظ أي اختلاف أو تباين بين الشوارع والأبنية، حتى الناس ملامح وجوههم كلها متشابهة، هل يعيش الناس هنا حقا؟ ووسط هذا التشابه والتماهي اللوني، كان وحده بريق الجواهر يلتمع في عيني ويجذب اهتمامي، قلادات قديمة، وأساور فضية، ومصابيح مذهبة، ومسابح فضية مزينة بالأحجار الكريمة من مختلف الألوان، وبالطبع فإن العقيق له النصيب الأكبر من هذه الأحجار.
تجمع أصحاب العربات حولنا؛ فقد لاحظوا بالتأكيد أننا غرباء ما يعني أن جيوبنا مليئة وأننا نرغب حقا في الشراء، وهذا ما جعل الباعة يطلبون أضعاف السعر الحقيقي، لكن من يعرف السعر الحقيقي لأي شيء هنا؟ حمدا لله؛ فقد كانت معي سيدة عاشت هنا لفترة طويلة فماطلت معه بالأسعار حتى نزلت إلى النصف أو أقل، فابتعت عقدا من حجر الجزع، كان لونه أسود بخطوط بيضاء وفضية ويشبه شكل العين.
وهناك على ارتفاع آلاف الأمتار صليت الظهر والعصر، عجبا! هل كنت أتخيل ولو للحظة واحدة في حياتي أنني هنا في أقصى الجنوب وعلى ارتفاع 2800 متر، وعلى هذه البقعة الصغيرة من الأرض بالتحديد سأصلي واضعة جبهتي على الأرض؟ من يدري فيما بعد أين ستكون صلاتي؟
السيدة سمر من دمشق العريقة، احتضنتني هي وعائلتها الجميلة، كانت كريمة معي إلى أبعد درجة، خصصت لي غرفة عندها لأقيم ريثما أتدبر أموري. في بيتها لم أشعر إلا وأني في سورية مع أهلي وبيتي وحارتي، معاملتها الراقية معي، نظرتها الجميلة للحياة، محاولتها الدائمة لرؤية الجانب المشرق حتى في أعقد الأمور وأكثرها سوءا؛ كلها أمور ميزتها عن غيرها. بيتها يتحدث عن رقيها وذوقها الدمشقي الأصيل، وكأنه جوهرة منتزعة من قلب دمشق ومزروعة هنا وسط صنعاء اليمن. أوصتها بي السيدة رندة فهما صديقتان قديمتان جمعتهما الدراسة في برلين وفرقتهما دروب الحياة. وضعتني السيدة سمر في عينيها كما يقولون، وعرفتني على البلد والناس الطيبين هنا، مع عاداتهم وأكلاتهم الشعبية ومطاعمهم البسيطة منها والفاخرة. أخذتني إلى الآثار القديمة للمكان، إلى الأسواق التقليدية المرصوفة بالحجر، والمسقوفة بالأقواس، والمحلات التي تفوح منها روائح الهال والحناء والتوابل الأخرى. كم تذكرني هذه المحال الصغيرة المتقاربة بأسواق حلب القديمة في «المدينة وسوق العتمة والسويقة».
1
غدا هو يوم الجمعة، وعلى الرغم من إصرار السيدة سمر علي بالبقاء عندها فترة أطول، فإن علي أن أغادر؛ فأسبوع واحد من استضافتها السخية لي يكفي، كما أن هناك عملا مهما علي أن أنجزه.
الفصل الثامن
1
في غرفته جلس وحيدا غريبا جاثيا على ركبتيه، غارقا في بحر من دموع وذكريات، وبين يديه طرحتها البيضاء المزينة باللؤلؤ والخرز الأبيض، كان قد تفاجأ بها مخبأة بين ثيابه المطوية بعناية. مضى على وصوله سبعة أشهر ولم يقم بعد بإفراغ حقائبه، يطيب له أن يتركها كما تركتها هي، مرتبة منظمة محتفظة بلمساتها عليها، وبقايا ما علق فيها من عطرها. لم يشأ أن يشوه هذا الجمال، راح يتأمل الحقيبة المفتوحة أمامه، هكذا فعلت في حياتي، هكذا دخلت إلى عالمي فأكسبته الترتيب والأناقة ولمسة خاصة من سحر أنوثتها. لكن «يا فرحة ما تمت!» اعتصر الطرحة بين يديه، قربها من وجهه، راح يستنشق بقايا روحها المسكوبة هنا وهناك وفي كل مكان.
بكى قلبه؛ فما عاد لعينيه وسع لبكاء أو دموع. تذكر الليلة الأولى، خوفها وحياءها، ارتجاف يديها، رعشة شفتيها المصبوغتين بالأحمر الداكن، عينيها المسبلتين وصوتها الناعم، يا لهذا الصوت الملائكي! تذكر نزهتهما الأولى مشيا حول الفندق، وتسللهما بين الأشجار ليلا، رن في أذنيه صوت ضحكتها حين حملها وهي تشد قبضتها على قميصه خشية أن تقع، كيف أوقعك يا حبيبة القلب كيف؟
خمسة أيام هي كل رصيده منها، امتلأت جمالا وحبا وسعادة موقوتة بالفقد والفراق، غادرها والشوق يسبقه، سافر وترك روحه معلقة في الوطن بين يديها، ويلي من يديها الصغيرتين وحبة الخال المختالة! كانتا في حضن يديه في آخر لحظة، همس لها: «سأراك قريبا، أعدك بذلك يا جميلتي.» غالبت دموعها وابتسمت. ما أتعسني! لماذا لا أتمكن من تحقيق وعدي لها؟ هذه هي المرة الثانية التي أخذلها! يا للظلم والقهر! متى أراك سلمى متى؟ لماذا كتب على الحب أن يكوى بالخوف؟ وكأنهما ولدا معا؛ الحب والخوف. الحب خوف نصفه، ونصفه اشتياق.
قام بطي الطرحة بحذر، وأعادها إلى الحقيبة، وأغلقها على خوف وأمنيات وصرخة مكتومة ويأس مقيت. وفي غرفته جلس وحيدا غريبا جاثيا على ركبتيه، غارقا في بحر من دموع وذكريات.
2 - ستعطيك أمي بعض الأوراق لتجلبيها لي معك. - على عيني، لكن أريد أجرتي سلفا. - أنا جاهز، أقصد «نحن» جاهزون. - ههههه، هل ما زلت تذكر؟ - طبعا وما زلت إلى الآن لا أعرف لماذا كنت تخاطبيني بضمير الجمع؟ أظن أن ضمير الجمع يتوافق مع مكانتي العالية وقدري الرفيع! - لا تشطح كثيرا بخيالك، إنما كنت أفعل ذلك استجابة لرغبة داخلية عندي في إبقاء العلاقة بيننا أكثر رسمية. - آها، يا للرسمية التي غدونا عليها الآن! - سبحان الله! من كان يدري؟ - حسنا، المهم اطلبي وتمني. - هل أنت واثق؟ أطلب ما أشاء؟ علي إذن أن أتريث و«أتدلل» قدر ما أستطيع. - أكيد، لك ذلك. - هل توافق هكذا «على بياض» من غير أن تعرف طلبي؟ - وماذا أستطيع غير الرضى والموافقة؟ - ألا تخشى أن تصيبني كلماتك بالغرور؟ - «ته دلالا فأنت أهل لذاكا ...» - ههههه غلبتني. أراهن أنك تبتسم الآن، هل أنا محقة؟ أراك مبتسما مسترخيا. - نعم، والذهن يذهب شرقا وغربا يحاول تصور ما تريدين. - ماذا تريدني أن أريد؟ فلا أريد إلا ما تريد! - وماذا تريدين أن أريد؟ - ههههه. لا تسرق كلماتي. - بل أفكارك، أفكر بطريقتك. - عليك حد السارق إذن، عليك أن تمثل أمام العدالة. - «يا أعدل الناس إلا في معاملتي، فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!» - ههههه. عليك حد وسداد أجرة. أعانك الله. - ولا بأس أمام الرضى. - البارحة ليلا حدثتك ساعة. - وكيف كان ذلك؟ - أمام شباكي، هل سمعت الكلمات أم طارت بها الرياح؟ - وكيف كانت كلماتك؟ - إيه، كثيرة، لطالما فعلت ذلك، أنظر باتجاه الجنوب، وأرقب القمر، وأتحدث بقلبي بلا صوت، أتحدث وأتحدث ثم أختم ب «تصبح على خير.» - يا له من موقف روحاني عظيم، وكم أنت عميقة الروح والوجدان! - شكرا. - سأخلد إلى النوم الآن، سأضع رأسي على ركبتيك وأغفو. - نم مطمئنا في روحي وفي أمان الله.
3 «الحي السياسي»، قالت لسائق سيارة الأجرة فانطلق بها، راحت تفكر: كم مر علي من الوقت منذ آخر مرة رأيته؟ عام؟ أو أقل؟ ماذا سأقول له حين يراني؟ هل ستجري الأمور على خير؟ ماذا سيحدث في الدقائق القليلة القادمة؟ اضطربت السيارة وهي تمر على بعض المطبات والحفر، فانشغلت بذلك قليلا عن قلقها. نظرت من النافذة، شوارع وأبنية باتت تألفها قليلا، الناس في الشوارع بخدود منتفخة بالقات،
1
وعيون ساهمة، الأطفال يركضون وبعضهم بأرجل حافية، على الأرصفة رجال يأكلون، ونساء تبيع أو تشحذ. «من هنا يبدأ الحي السياسي، أين تريدين؟» جاءها صوت السائق، لكن الحي كبير، تتذكر أنه أخبرها مرة بوجود فرن للخبز بجوار بيته، قالت: خذني إلى فرن الخبز. - يوجد ستة أو سبعة أفران في هذا الحي، أي واحد تبغين؟ - خذني إلى أقربها.
نزلت مع تباشير يأس بدأت تتسلل إلى روحها، ذهبت إلى أول فرن صادفته، وراحت تسأل عنه لكن لا أحد يعرفه، انتقلت إلى الآخر مشيا، فالثالث والرابع، سلخت ساعات تمشي تحت الشمس، دخلت حارات ومشت في أزقة، راقبتها بعض الأعين المتطفلة، ولحق بها أطفال وجدوها غريبة. وأخيرا تملكها اليأس من كل جانب، وعبثت بها خيبة الأمل، استدارت ومشت إلى الشارع الرئيسي لتوقف سيارة أجرة وتعود.
قبل أن تركب شعرت بأحد يشدها من كمها، استدارت فرأت طفلا متسولا قال لها: «أنا أعرف الدكتور السوري فهو دائما يعطيني مالا.» ابتسمت لطيبة هذا الولد، ناولته ما وجدته في محفظتها من نقود معدنية، ربتت على كتفه وقالت: إنه ليس دكتورا، لكن شكرا لك. - هو دكتور، كل الناس تقول له دكتور، هو الدكتور السوري. - طيب، كيف هو شكله؟ - «حليوة» هذا الدكتور، أنتم السوريون حلوين. - شكرا لك. - تعالي أدلك أين يسكن.
وبدافع التعلق بقشة انطلقت خلفه، لعله يكون محقا! فأخذها إلى شارع فرعي فيه أشجار كبيرة وعمارات من طابقين مكسوة بحجر أحمر وترابي على طريقتهم التقليدية في تزيين واجهات العمارات، قال لها الصبي: هذه حارته. لكنه لا يعرف أين يسكن تحديدا، وتركها وركض. هناك ثلاث عمارات من الطرف الأيمن على امتداد الشارع، وعلى الطرف الأيسر أرض خالية، وفي كل طابق شقتان أو أكثر. هكذا أخذت تحدث نفسها من خلال ملاحظتها للنوافذ على كل جهة، نوافذ عريضة مقسمة تعلوها القمريات ذات الزخارف والزجاج الملون. وقفت تحاول أن تتذكر ما قاله لها عن إطلالة البيت؛ فقد أخبرها مرة أنه يرى الجبال من شباك المطبخ، نظرت حولها، لا تكاد ترى الجبال فالعمارات تسد عليها الرؤية. دارت حول العمارات تبحث عن عمارة تقع مطابخها على إطلالة مفتوحة، فوقع حدسها على العمارة الثالثة الأبعد، لكنها من طابقين، ومع إلغاء الطابق الأرضي لأنه لا يمكن رؤية الجبال من نوافذه، تكون قد حصرت بحثها في طابقين.
هبت نسمة هواء باردة، فملأت رئتيها، واتقد أملها، اتجهت صوب باب العمارة لتدخل، فوجدته مغلقا، يوجد «إنترفون» بجانب الباب، ضغطت على الأزرار العليا، لا أحد يجيب؛ فالوقت قبيل صلاة الجمعة. دقت الأزرار كلها مرة أخرى، فأتاها صوت امرأة تصرخ وتسب، ثم أجابها صوت طفل لم تفهم كلامه. ضحكت في سرها، وتذكرت رحلتها الفاشلة في البحث عن رائد، كان ذلك منذ زمان مضى!
التفتت عائدة، نزلت درجة، فدرجتين، «مين؟» أتاها صوت يسأل، تسارع نبض قلبها، هل يكون هو؟ «مين؟» بإلحاح أكثر هذه المرة: «آلو ... مين؟» عادت إلى الإنترفون، تعلقت بصوت وكلمات؛ فهي طاقة نجاتها الوحيدة من فشل مركب في هذه اللحظة، ابتلعت ريقها وقالت: «نعم.» أتاها الصوت نفسه: «من تبغين؟» وزال الشك دفعة واحدة، ورقصت حبات القلب طربا، وزغردت الروح بفرحة النجاح، هذا صوته! أم هكذا خيل إليها أملها؟ كلا، لن تقول له من تكون، افتعلت لهجة يمنية وقالت: «إحنا البقالة، جبنا لك الغاز، ممكن تفتح لنا الباب؟» فأجاب: «لكن أنا ما طلبت الغاز.» قالت مستجيبة لغريزتها العفوية: «افتح لنا يا أستاذ، يمكن هذا جارك. الغاز ثقيل الله يرحم والديك.»
وانفتح الباب، وتنفست الصعداء أخيرا، درجات فقط تفصلها عنه، شكرت الله أنه لم ينزل بعد إلى الصلاة، قادتها الفرحة بخطوات عجلة ومضطربة، كادت توقعها أرضا، وشيء من قلق يشتعل ببطء في قلبها، هل يكون الوهم قد خيل لي صوته؟ وهل أراه حقا؟ صعدت إلى الطابق الأول، فوجدت شقتين، شقة أمام بابها كومة من أحذية وصنادل، ليست هذه بالتأكيد، والأخرى بابها مفتوح إلى الداخل ولا أحد فيها. صعدت إلى الطابق الثاني، حيث وجدت شقتين أيضا، إحداهما لا شيء أمام بابها، والأخرى أمامها قارورة ماء كبيرة، أيهما تكون؟ وقفت تفكر لثوان وهي تلتقط أنفاسها، وصدرها يعلو ويهبط في سرعة كبيرة مستجيبا لخفقات قلب لاهثة ورئتين تطلبان الأكسجين. نظرت إلى البابين مرة أخرى ، يبدو أن الباب الثاني قد نظف في وقت قريب، لعله يكون هنا! رفعت يدها إلى زر الجرس، لا لا، ليس الجرس، إنه مزعج، حسنا، وضعت قبضة يدها على الباب لتطرقه، ثم أرختها، ماذا لو فتح لي شخص غيره؟ لكن لا بد أن يكون هنا؛ فهذا هو الطابق الأخير، وفوقنا السطح فقط. عادت إليها الشجاعة، مدت يدها مرة أخرى، طرقت طرقات خفيفة، كل طرقة كانت تنزل على قلبها رهبة وولعا وترقبا، لا أحد يجيب، حسنا، لم لا أنتظره حتى يخرج؟ اقتنعت بالفكرة، وبدأت تنزل الدرج، وحين وصلت إلى الطابق الأرضي توقفت فجأة، استدارت، صعدت الدرج ركضا، ومن غير تردد ضغطت زر الجرس مرتين، وقفت تلهث، ثوان وسمعت صوت خطوات قرب الباب، أنفاسها تتسارع، صوت مفاتيح، أحدها يدخل القفل، طق، طق، وانفتح الباب.
يا إلهي إنه هو! هو نفسه شادي، شادي العزيز، فتح فمه دهشة، وجدها تلهث مبتسمة متأثرة ووجهها محمر. وقفا يتأمل أحدهما الآخر، فتح فمه ليقول شيئا، أغلقه، أعاد تثبيت النظارة على عينيه، شعر بقطرات من العرق البارد تغزو جبهته، يده الأخرى على مقبض الباب، ماذا؟ وكيف؟ غطت وجهها بيديها، وبدأت بالبكاء، وكادت تقع أرضا، أسندها وأدخلها البيت: «مجنونة، مجنونة.»
خاتمة
مضى على زواجي بشادي عشرة أشهر، أما كيف حدث ذلك فقد تعذر لشادي اللحاق بي إلى بيروت؛ فبعد أن فرضت لبنان التأشيرة على السوريين لدخول أراضيها لم يتمكن شادي من الحصول على واحدة. طلب مني والداي العودة إلى حلب، لم أقبل طبعا؛ فقد قطعت نصف الطريق الأصعب لأصل إليه، ألا أملك القوة لأكمل نصفه الآخر؟ قام زوج خالتي بعقد قراني على شادي غيابيا، ثم تمكنت من إقناع عائلتي بالسفر إليه وحدي من غير علمه. لم يوافق والدي في أول الأمر، لكنه حين علم بوجود السيدة سمر التي تعهدت بالاعتناء بي، واستقبالي من المطار اطمأن ووافق على مضض.
سافرت إلى شادي وحدي، لم أكن أتخيل أنني سأتمكن من فعل ذلك يوما ما، لكن الظروف تتغير ويتغير معها كل شيء. أيقنت أن شادي هو الرجل الوحيد الذي أستطيع الاعتماد عليه طوال حياتي، وأنه لن يخذلني، وقد وهبني ذلك قوة كبيرة. ساعدتني السيدة سمر صديقة رندة كثيرا، واستضافتني في بيتها. لم أكن أعرف رقم شادي أو أين يسكن تحديدا. لن أنسى ذلك اليوم حين رأيته أول مرة بعد انقطاع طويل، كان أنحف كثيرا، مع نظارة طبية يرتديها. كنت في حلم حقيقي، فرحت وحزنت وبكيت وضحكت، أما هو فقد ظل يردد: «مجنونة، مجنونة.»
أخي سعيد وسلمى العزيزة ينتظران فرجا ما يجمعهما مجددا بعد عذابات وأشواق كثيرة، كم أحزن لهما! فبعد معجزة زواجهما افترقا ولم يلتقيا إلى الآن، يا لسلمى المسكينة! ويا لسعيد البائس!
فاطمة الآن في الصف السادس وهي من بقيت عند أهلي في حلب، وأبي وأمي لا يزالان هناك، أحدثهما كلما تحسنت الاتصالات لديهم.
رائد أصدر ألبومه الخاص، وهو يتنقل بين بيروت ومصر والخليج، يحيي حفلات بين الحين والآخر، لم يتزوج إلى الآن، وهو يزداد شهرة وغنى بالتأكيد. أما الملك سليمان فبعد أن علمت أنه كان صديق نادر رحمه الله، وأنه أثر في تزايد الحقد والغضب في قلبه، وهذا ما أدى بطريقة أو بأخرى إلى موته، فإنني انهرت تماما وقطعت علاقتي به. وصحيح أن ذلك كان صعبا جدا علي وأوصلني إلى الحضيض، لكنني لم أكن أستطيع إكمال طريقي معه، هذا كان أفضل. أحمد الله أن وهبني القوة على المضي في قراري وعدم العودة عنه. سمعت أنه لم يرتبط بامرأة إلى الآن، وسمعت أيضا أنه ينوي الذهاب إلى الحج. كلما تذكرته أدعو له بالخير.
جدو نور ورندة الجميلان يقيمان في حلب وقد أرسلا لي صورة لهما ورندة ترتدي العقد ذا الحجر السماوي، وأنا أرجوهما في كل رسالة أن يزوراني هنا في صنعاء. رندة الآن تعمل أستاذة في جامعة حلب، لقد صارت زميلة جدو في عمله! يا للروعة!
أما شادي فمن كان يدري أن رسالة عبر الإنترنت وصلت إلي بالخطأ قادتني إليه؟ هو الآن يعمل في شركة للآثار، وغدا يفتتح معرضه الأول للوحاته في فن الخط العربي في كلية الفنون الجميلة في صنعاء، أما أنا فأدرس إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية هنا، أخيرا تحقق حلمي في الالتحاق بالجامعة! أعمل مساء في إحدى الجمعيات الخيرية بتدريس الفتيات القراءة والكتابة، وهو عمل ساعدني كثيرا وألهمني ووهبني سعادة غامرة، ومن يدري، لعلني به قد وصلت إلى تحقيق مكانتي في هذا العالم!
لا يوجد خطأ أبدا، ولا مصادفة، حين ترتمي في أمواج الأقدار الإلهية لن ترى إلا خيوطا معقدة متشابكة، ستغضب وتشعر بالظلم. أما حين تنتهي اللوحة، فابتعد قليلا وستجد أن هذه الأقدار صنعت لك خصيصا أجمل لوحة، وأن خيوطها غزلت لروحك أروع نسيج! (النهاية)
مزنة كمال
المدينة المنورة، 6 / 8 / 2018م
Page inconnue