La Naissance de la philosophie scientifique
نشأة الفلسفة العلمية
Genres
وسرعان ما اتضح أن قوانين الإحصاء، التي لوحظت في الأصل بالنسبة إلى نتائج ألعاب الحظ، تنطبق أيضا على كثير من المجالات الأخرى. وكانت أولى الإحصاءات الاجتماعية قد جمعت في القرن السابع عشر. وفي القرن التاسع عشر أدخلت المناهج الإحصائية في الفيزياء. فبفضل الحسابات الإحصائية وضعت النظرية الحركية في الغازات، وهي النظرية القائلة إن الغاز يتألف من عدد هائل من الجزيئات الصغيرة، التي تسمى بالجسيمات، تتحرك في كل الاتجاهات مصطدمة بعضها ببعض، وترسم مسارات متعرجة بسرعة هائلة. وبلغ المنهج الإحصائي أوج نجاحه عندما نجح في تفسير ظاهرة «عدم القابلية للانعكاس» التي تميز كل العمليات الحرارية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا باتجاه الزمان.
إن كل شخص يعلم أن الحرارة تنتقل من الجسم الحار إلى الجسم البارد، لا العكس؛ فعندما نلقي بمكعب من الثلج في كوب من الماء، فإن الماء يصبح أبرد؛ لأن حرارته انتقلت إلى الثلج وأذابته. هذه الحقيقة لا يمكن أن تستخلص من قانون بقاء الطاقة؛ فمكعب الثلج ليس باردا كل البرودة، وهو ينطوي في داخله على كمية كبيرة من الحرارة، وإذن فمن الممكن جدا أن يعطي جزءا من حرارته إلى الماء المحيط به فيجعله أسخن، على حين يصبح الثلج ذاته أبرد. مثل هذه العملية لا تتعارض مع قانون بقاء الطاقة، إذا كانت كمية الحرارة التي تنطلق من الثلج تساوي الكمية التي يتلقاها الماء، ولكن عدم حدوث مثل هذه العملية، وانتقال طاقة الحرارة في اتجاه واحد فقط، ينبغي أن يصاغ بوصفه قانونا مستقلا. هذا القانون هو الذي نسميه بقانون «عدم القابلية للانعكاس»، وكثيرا ما يطلق عالم الفيزياء عليه «المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية»، على حين أن المبدأ الأول في نظره هو قانون «بقاء الطاقة».
ومن الضروري صياغة مبدأ عدم القابلية للانعكاس بدقة كبيرة؛ فليس صحيحا أن الحرارة تنساب دائما من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى؛ إذ إن كل ثلاجة كهربائية إنما هي مثال للحالة العكسية. فالآلة تخرج الحرارة من داخل الثلاجة إلى خارجها؛ وبذلك تجعل الداخل أبرد والجو المحيط بها أسخن، ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا لأنها تستخدم كمية معينة من الطاقة الميكانيكية التي يأتي بها المحرك الكهربائي، وهذه الطاقة تتحول إلى حرارة في نفس درجة الحرارة المتوسطة للغرفة. وقد أثبت الفيزيائي أن كمية الطاقة الميكانيكية التي تحولت إلى حرارة أعظم من كمية الطاقة الحرارية التي تسحب من داخل الثلاجة. فإذا نظرنا إلى الحرارة ذات الدرجة الأعلى، أو الطاقة الميكانيكية أو الكهربائية، على أنها طاقة من مستوى أعلى، كانت الطاقة التي تهبط أكثر من الطاقة التي تعلو في الثلاجة. فمن الواجب صياغة مبدأ عدم القابلية للانعكاس على أنه قضية تقول إننا إذا أخذنا في اعتبارنا كل العمليات التي لها علاقة بالموضوع، كان مجموع الطاقة هابطا، بحيث يكون هناك على وجه العموم اتجاه إلى التعويض.
ولقد كان الفيزيائي بولتزمان
Boltzman ، من فيينا، هو الذي اكتشف أن من الممكن تفسير مبدأ عدم القابلية للانعكاس بطريقة إحصائية؛ فكمية الحرارة في جسم ما تتحدد حسب حركة جزيئاته، فكلما ازداد متوسط سرعة الجزيء، ارتفعت الحرارة. وينبغي أن ندرك أن هذه العبارة لا تشير إلا إلى متوسط سرعة الجزيء؛ لأن الجزيئات المنفردة قد تكون لها سرعات متباينة تماما. فإذا حدث اتصال مباشر بين جسم ساخن وجسم بارد، اصطدمت جزيئاتهما، وقد يحدث من آن لآخر أن يصطدم جزيء بطيء بجزيء سريع فيفقد كل سرعته، وتزداد سرعة الجزيء السريع. غير أن هذه حالة استثنائية، والذي يحدث على وجه الإجمال هو تعادل للسرعات عن طريق الصدمات. وهكذا يفسر عدم قابلية العمليات الحرارية للانعكاس بأنه ظاهرة امتزاج، تشبه تقليب أوراق اللعب، أو خلط الغازات والسوائل.
وعلى الرغم من أن هذا التفسير يجعل قانون عدم القابلية للانعكاس يبدو معقولا، فإنه يؤدي أيضا إلى نتيجة خطيرة غير متوقعة؛ إذ ينزع عن القانون صرامته، ويجعله قانونا احتماليا؛ فعندما تقلب أوراق اللعب لا نقول إن من المستحيل أن يؤدي تقليبنا للأوراق بمضي الوقت إلى ترتيب يكون فيه النصف الأول من المجموعة مشتملا على أوراق حمراء، والنصف الثاني على أوراق سوداء، وكل ما يمكن أن يقال عن الوصول إلى هذا الترتيب هو أنه أمر بعيد الاحتمال جدا. والواقع أن جميع القوانين الإحصائية من هذا النوع؛ فهي تجعل للترتيبات غير المنظمة درجة عالية من الاحتمال، بينما تترك للترتيبات المنظمة درجة منخفضة من الاحتمال. وكلما ازداد العدد الذي تنطوي عليه الظاهرة، كان احتمال الترتيبات المنظمة أقل، غير أن درجة الاحتمال هذه لا تصل أبدا إلى الصفر. ومن المعروف أن ظواهر الديناميكا الحرارية تشير إلى أعداد هائلة جدا من الحوادث المنفردة، ما دام عدد الجزيئات كبيرا جدا؛ وبالتالي فهي تنطوي على درجات عالية جدا من الاحتمال بالنسبة إلى العمليات التي تسير في اتجاه التعويض، ولكن ليس من الممكن، إذا شئنا الدقة، أن نصف العملية التي تسير في الاتجاه المضاد بأنها مستحيلة. فنحن مثلا لا نستطيع استبعاد إمكان مجيء يوم تصل فيه جزيئات الهواء في غرفتنا، بالصدفة المحضة، إلى حالة منظمة من شأنها أن تتجمع جزيئات الأكسجين في جانب من الغرفة وجزيئات النيتروجين في الجانب الآخر. وعلى الرغم من أن التفكير في الجلوس في جانب الغرفة المليء بالنيتروجين هو أمر لا يبعث على الارتياح، فإن إمكان وقوع مثل هذا الحادث لا يمكن أن يستبعد استبعادا مطلقا. وبالمثل لا يستطيع الفيزيائي استبعاد احتمال أن يجيء وقت يغلى فيه الماء عندما نضع مكعبا ثلجيا في كوب من الماء، ويصبح مكعب الثلج من البرودة مثل غرفة التجميد، ولكن لعله مما يعزينا أن نعرف أن هذا الاحتمال أضعف كثيرا من احتمال شبوب النار في كل بيت من بيوت مدينة ما في وقت واحد ولأسباب مستقلة.
وعلى حين أن النتائج العملية للتفسير الإحصائي لقانون عدم القابلية للانعكاس لا قيمة لها نظرا إلى ضعف احتمال سير العمليات في الاتجاه المضاد، فإن لنتائجه النظرية أهمية كبيرة؛ فقد اتضح أن ما كان من قبل قانونا طبيعيا دقيقا، هو مجرد قانون إحصائي، واستعيض عن يقين القانون الطبيعي بدرجة عالية من الاحتمال؛ وبهذه النتيجة دخلت نظرية السببية مرحلة جديدة، وكان من الطبيعي أن يثار السؤال عما إذا كانت بقية قوانين الطبيعة ستنتهي إلى نفس المصير ، وعما إذا كانت ستبقى أية قوانين سببية بالمعنى الدقيق.
إن مناقشة هذه المشكلة تؤدي إلى رأيين متعارضين؛ فتبعا للرأي الأول يكون استخدام القوانين الإحصائية مجرد تعبير عن الجهل؛ فلو كان في استطاعة عالم الفيزياء أن يلاحظ ويحسب الحركة المنفردة لكل جزيء على حدة، لما اضطر إلى استخدام القوانين الإحصائية، ولقدم تفسيرا سببيا دقيقا للعمليات الديناميكية الحرارية. ففي استطاعة «الإنسان الأرقى» الذي افترضه لابلاس
Laplace
1
Page inconnue