La Naissance de la philosophie scientifique
نشأة الفلسفة العلمية
Genres
ولكن أي نوع من المادة ذلك الذي يكمن من وراء الحياة؟ قد يتصور المرء أنها العنصر (أو الجوهر) الذي تتألف منه الأجسام. فكيف إذن يكون ذلك هو العقل نفسه؟ إن العقل قدرة مجردة للبشر، تتبدى في سلوكهم، أو في جوانب معينة من سلوكهم، إذا آثرنا التواضع. فهل يود الفيلسوف الذي اقتبسنا منه هذا الكلام أن يقول إن أجسامنا تتألف من إحدى قدراتها المجردة؟
إن الفيلسوف ذاته لا يمكن أن يعني مثل هذا الرأي الممتنع. فما الذي يعنيه إذن؟ أغلب الظن أنه يعني أن أحداث الكون جميعها منظمة بحيث تخدم هدفا عقليا. وهذا افتراض مشكوك فيه، ولكنه مفهوم على الأقل. ومع ذلك، فإن كان هذا ما يريد الفيلسوف أن يقوله، فلم كان يتعين عليه أن يقوله على طريقة الألغاز؟
هذا هو السؤال الذي أود أن أجيب عنه قبل أن يتسنى لي أن أحدد ما هي الفلسفة، وما ينبغي أن تكون.
الفصل الثاني
البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
البحث عن المعرفة قديم قدم التاريخ البشري؛ فمع بداية التجمع الاجتماعي، واستخدام الأدوات من أجل مزيد من الإرضاء للحاجات اليومية نشأت الرغبة في المعرفة، ما دامت المعرفة لا تنفصل عن السيطرة على موضوعات بيئتنا من أجل تسخيرها لخدمتنا.
وأساس المعرفة هو التعميم؛ فإدراك أن النار تنتج بقدح الخشب على نحو معين، هو معرفة مستخلصة بالتعميم من تجارب فردية؛ إذ إن هذا القول يعني أن قدح الخشب بهذه الطريقة يؤدي دائما إلى ظهور النار؛ وعلى ذلك فإن فن الكشف هو فن التعميم الصحيح. ولا بد من أن نستبعد من التعميم ما لا يرتبط بالموضوع، كالشكل أو الحجم الخاص لقطعة الخشب المستخدمة، وأن ندرج فيه ما يرتبط به، مثل جفاف الخشب؛ وإذن فمن الممكن تعريف لفظ «الارتباط» على النحو الآتي: يكون العامل مرتبطا بالموضوع إذا كان ذكره ضروريا لكي يكون التعميم صحيحا. وهكذا فإن التفرقة بين العوامل المرتبطة بالموضوع والعوامل غير المرتبطة به هي بداية المعرفة.
فالتعميم إذن هو أصل العلم. ولقد تبدى على الأقدمين في مختلف فنون الحضارة التي كانوا يحذقونها، كبناء المساكن، ونسج المنسوجات، وصنع الأسلحة، وقيادة السفن الشراعية، وزراعة الأرض. وهو يتجلى بصورة أوضح في علومهم الفيزيائية، والفلكية، والرياضية. والأمر الذي يبيح لنا الحديث عن علم قديم هو أن القدماء قد نجحوا في وضع عدد لا بأس به من التعميمات التي تتصف بالصبغة الشاملة إلى حد ما؛ فهم قد عرفوا قوانين الهندسة، التي تسري على جميع أجزاء المكان بلا استثناء، وقوانين الفلك، التي تسري على الزمان، وعددا من القوانين الفيزيائية والكيميائية، كقوانين الروافع والقوانين التي تربط الحرارة بالانصهار، كل هذه القوانين تعميمات، فهي تقول: إن نتيجة معينة تسري على جميع الأشياء التي هي من نوع محدد. وبعبارة أخرى، فهي عبارات تتخذ صيغة «إذا كان كذا، حدث كذا دائما
if ... then always .» ومن أمثلة ذلك عبارة «إذا سخن الحديد بالقدر الكافي، فإنه ينصهر دائما.»
وفضلا عن ذلك فإن التعميم هو قوام التفسير ذاته؛ فما نعنيه بتفسير واقعة ملاحظة هو إدراج هذه الواقعة في قانون عام. فنحمن نلاحظ مثلا أنه كلما تقدم النهار هبت رياح من البحر إلى اليابس، ونفسر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الأجسام تتمدد بالحرارة؛ وتغدو بالتالي أخف في حالة تساوي حجومها، ثم ندرك كيف ينطبق هذا القانون على المثل الذي نحن بصدد بحثه؛ إذ إن الشمس تسخن الأرض إلى حد أقوى من تسخينها للماء، بحيث يصبح الهواء فوق الأرض دافئا، فيرتفع إلى أعلى، ويخلي مكانه لتيار هوائي آت من البحر. كذلك فإننا نلاحظ أن الكائنات العضوية الحية تحتاج إلى الغذاء لكي تعيش، وتفسر هذه الواقعة بإدراجها ضمن قانون عام، هو قانون «بقاء الطاقة»؛ فالطاقة التي تبذلها الكائنات العضوية في أوجه نشاطها، لا بد أن تعوض بالسعرات الحرارية للغذاء. كما أننا نلاحظ أن الأجسام تسقط إذا لم ترتكز على شيء، ونفسر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الكتل يجذب بعضها بعضا؛ أي إن الكتلة الهائلة للأرض تشد الكتل الصغيرة نحو سطحها.
Page inconnue