وكلما تألمت الأمومة الجريحة في قلب راحيل، فصرخت بمرارة إلى يعقوب: «أعطني ولدا وإلا أموت.» هكذا وقفت نفسي الجائعة على أطلال بعلبك، فصرخت صراخا إلهيا كالآلهة، وعميقا كالهاوية.
يا أبناء بلادي القريبين والبعيدين، أعطوني بلادي، أعطوني وطنا وإلا أموت.
تعبت من المدينة
إلى جبل الرب أيها المتعبون، إلى الغابات التي رددت قبلات سليمان، والقمم البيضاء حيث تجلت قدسية يسوع، إلى لبنان في الصيف والشتاء والربيع والخريف، إلى قممه ووديانه وآكامه وسهوله وسواحله، إلى لبنان في كل آن وزمان. •••
تعبت من المدينة فذهبت إلى سفح «حريصا» حيث وقفت أم الناصري فاتحة ذراعيها، وكأني بها تقول بلسان ابنها: «تعالي إلي يا جموع التعبين».
تعالوا إلي وأنا أريحكم. يقول الإله. وما الإله ورمز ألوهيته سوى هذه الجبال الصامتة، والسهول الضاحكة، والغدران الراقصة، وهذا البحر الغضوب الوثوب اللعوب، يسخط فيعول، فيثور هاجما محطما، ويعود متذللا لطيفا مداعبا مهينما مدغدغا أقدام لبنان، ورمال ساحله البيضاء.
الله من هذه الآيات الخالدات! من أناشيد رقص على أنغامها قديما كهان عشتروت، الله من رمال أزلية نتمرغ عليها أطفالا، ونلعب فتيانا، وننحني كهولا، ونندثر شيوخا، الله من هذا السكون الأخرس المنادي بفم التمثال الصامت: «تعالي إلي يا جموع التعبين».
تعبت من المدينة، من صراخ الناس، وخرير العربات، وحشرجة السيارات، واختلاج المائتين تحت دواليبها، تعبت من المدينة ومن أصنامها وهياكلها ومذابحها، تعبت من كل ما يعمي ويصم ويخنق الألوهية في الكائن المصنوع على مثال الله.
تعبت نفسي من المدينة، ونفسي منذ وجدت تسير بين الناس وتتفرس في عيونهم علتها تجد رسما أو شبه رسم للطابع الأسمي، ولكن ما أكثر ما رأت نفسي من المسوخ، ويا الله من حزنها عندما تحول وجهها عن أشباهها، وتنتحي مرابض الأنعام علها تجد في وجوهها مسحة من روح الحق، وفي أنفاسها نهلة من الحياة الأزلية.
تعبت نفسي من المدينة، وكم في المدينة من بيوت تنهار وأطفال تئن! تعبت من أنين أطفال، ومن نزع ضعيفات تمزقهن أظافر الرجال وألسنة النساء.
Page inconnue