العمل يحب إذا كان للعامل غاية في الحياة، إذا كان يحمل نتائج عمله ويضعها بين يدي رفيقة محبة قنوعة، تعرف معنى الأتعاب والجهود، وتقدر أن العرق المتصبب من جبين الرفيق هي دماء، كل قطرة منها يوم من أيام الشباب تكر ولا تعود.
الإنتاج - مهما كان حقيرا - يحب إذا رأت فيه الرفيقة فكرة محب يجابه عنها المصاعب، ويحميها من ذل السؤال.
ولكن! عندما أحمل إلى رفيقتي ثمار عملي فتنظر إليه من علو كبريائها وتقول: إنه قليل لا يشفي غليلا. وتعدد ما في البيت من الفراغ، وما يلزم لخزائنها حتى تمتلئ، وتذكر بحرقة ثوب فلانة ومائدة فلان. آه! كم تنكمش نفسي على أوجاعها، وكم تتسابق إلى قلبي شواعر الذل، والصغر، والمسكنة! وكم تنتحب روحي، تلك التي ترى الحياة جوا حرا فسيحا نيرا، يطير فيه الزوجان إلفين، اثنين، مغتسلين بأمواج النور قبل أن تتوارى الأنوار، وبندى الصباح قبل أن تظلم الأصباح!
آه! كيف تنتحب روحي، تلك التي ترى البيت عشا تسكن إليه القلوب قد أصبح ميدانا للمفاخرة الحمقاء وحب الظهور السخيف! •••
وفي بيتي أنا غريب، عندما يتراكض الرجال مساء إلى أوكارهم أسحب جسدي المضنى إلى جحيمي، فأراه متلألئا بالأنوار، مكتظا بالزائرين والزائرات، وأرى رفيقتي تميس بالأثواب الغالية كإمبراطورة في عزها وسلطانها، والرجال من حولها يتوددون ويتحببون ويصغون إلى صوتها تنغمه وتنعمه كهديل الحمام، وأرى الخدم - كما في بيوت الكبراء - يطوفون بالأكواب والأقداح، فأفكر كيف تهدر دمائي ثمنا للفخفخة الفارغة، والانتفاش الفاضح.
ويذهب الزوار، فأدنو منها لأطرح أتعابي عند قدميها الصغيرتين، لأسند رأسي إلى قلبها وأسمع - مرة واحدة - لحن الحياة قبل أن تتلاشى فينا الحياة، ولكن! سرعان ما ينكمش جبينها، وتظلم عيناها، ويقسو فمها، ويلبس وجهها - الذي كان منذ برهة أنيسا رحبا بساما - قناع البرودة والجفاف.
هذا البيت! أف له، ما أظلم اسوداده! وتعسا لي عندما أجيل عيني فيه فتتردد من جوانبه حكايات شقائي وبؤسي.
هذه الموائد لا تصف «لي»، وهذه الأكواب لا تملأ زهورا لترتاح إليها روحي، وهذه الوسائد التي تتفنن رفيقتي في صنعها من حرائر مفضضة ومذهبة لم تصنع لأسند إليها أضلاعي التعبة، وهذه الأنوار المغطاة بألوان تنثر على الجلوس أسارير الليل العميقة، هذه الأنوار لم تزين لتحمل همس الليالي إلى قلبي!
هذا البيت! أف لهذا البيت.
حلمته جنة أنعم فيها بملك كريم، فإذا هو جحيم، وإذا ملاكي امرأة دعية، خداعة تلبس لكل ساعة وجها، وكذابة ... لأنها تتمتع بمال رجل لا تحبه ولا تحتمل قربه. •••
Page inconnue