فإذا جمعت جمل كلمتي «سيقتل قاتله» تجد تاريخ سنة 1136 التي قتل فيها إسماعيل بك، وكان قاتله مملوكا اسمه ذو الفقار بتحريض من الوالي، ومحمد جركس بك الطاغية الذي أنعم عليه إسماعيل بك، وعفا عنه مرارا، وكان نصيب ذي الفقار، بعد أن سار شيخ البلد وأمير الأمراء، رصاصة قضت على حياته سنة 1142، بدسيسة من نصيره الأول محمد جركس، الذي مات غرقا في النيل من مطاردة رجال ذي الفقار، وهكذا كانوا يفعلون!!!
وممن ذكروا بالخير، من أولئك الطغاة الظالمين، مملوك آخر اسمه عثمان بك الذي ولي الأحكام، بعد مقتل ذي الفقار، وغرق محمد جركس، وفي مدته نكبت مصر بالوباء، كتب الجبرتي عن عثمان بك ذي الفقار، وقال إن ما رواه عنه، هو عن لسان والده الشيخ حسن الجبرتي؛ لأن عثمان بك، كما روى الشيخ عبد الرحمن، «كانت له مع الوالد صحبة أكيدة، ومحبة زائدة، وصاحبه في سفر الحج ثلاث مرات، وكان لا يجالس إلا أرباب الفضائل مثل المرحوم الوالد ... وقرأ على الشيخ الوالد تحفة الملوك، والمقامات الحريرية ... إلخ.» ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام قول الجبرتي: «إن عثمان بك لما فر من مصر عاش بعد خروجه منها نيفا وثلاثين سنة ولجلالة شأنه جعل أهل مصر سنة خروجه منها تاريخا لأخبارهم، ووقائعهم ومواليدهم إلى الآن، من تاريخ جمع هذا الكتاب يعني سنة 1226ه، فيقولون جري كذا، سنة خروج عثمان بك ... إلخ.» وهذه الإشارة مهمة جدا؛ لأنها ترشدنا إلى السنة التي بدأ فيها الجبرتي جمع كتابة وهي سنة 1226ه؛ أي: بعد خروج الفرنسيين من مصر بنحو عشر سنوات، وفي أيام سلطة محمد علي ونفوذه، بل هي السنة التي وقعت فيها مذبحة المماليك في القلعة، فهل معني كلمة «جمع» أنه بدأ بالتأليف أو أنه جمع مذكراته وما كتبه من الحوادث في أوقاتها منذ بدأ يكتب؟ ويغلب على الظن أن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي بدأ قبل ذلك بكثير، وأنه كان يدون الحوادث في أيام وجود الفرنسيس بمصر، فقد جاء في مقدمة كتابه «يقول الفقير عبد الرحمن بن حسن الجبرتي أني كنت سودت أوراقا في حوادث القرن الثاني عشر وما يليه، وأوائل الثالث عشر الذي نحن فيه، جمعت فيه بعض الوقائع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدناها ... إلخ.» مما يدل على أن حوادث القرن الثالث عشر؛ أي: من 1200، وهي السنة التي دخلت فيها الجنود العثمانية تحت قيادة حسن قبودان باشا كان يقيدها في أوقات مختلفة، وأنه لم يبدأ بجمع مسوداته في أوراق منسقة النظام، مرتبة على السنين والأعوام، إلا في سنة 1226 باعترافه هو كما تقدم، ومما يزيد هذا الرأي تأكيدا قول الجبرتي في الجزء الرابع في نهاية سنة 1225 هجرية «انقضت السنة بحوادثها التي قصصنا بعضها؛ إذ لا يمكن استيفاؤها للتباعد عن مباشرة الأمور، وعدم تحققها على الصحة، وتحريف النقلة وزيادتهم ونقصهم في الرواية، فلا أكتب حادثة حتى أتحقق صحتها بالتواتر والاشتهار، وغالبها من الأمور الكلية التي لا تقبل الكثير من التحريف، وربما أخرت قيد حادثة أثبتها، ويحدث غيرها وأنساها، فأكتبها في «طيارة» حتى أقيدها في محلها إن شاء الله تعالى، عند تهذيب هذه الكتابة، وكل ذلك من تشويش البال، وتكدر الحال، وهم العيال وكثرة الأشغال، وضعف البدن، وضيق العطن.»
وقد توسعنا في هذا الاستطراد قليلا؛ لأنه تحقيق تاريخي جدير بالاهتمام، ونعود إلى عثمان بك، فنقول إنه كان من المماليك الأقوياء، الأشداء في الحق، وإن أحوال مصر قد تحسنت في الفترة القليلة التي حكم فيها من 1142-1156؛ أي: نحو أربعة عشر عاما وقد وصفه الجبرتي فقال:
وطلع بالحج وعاد في أمن وأمان، وانتهت إليه الرياسة، وشمخ على أمراء مصر ونفذ أحكامه قهرا عنهم، وعمل في بيته دواوين لحكومات العامة، وانصف المظلوم من الظالم، وجعل لحكومات النساء ديوانا خاصا، ولا يجري أحكامه إلا على مقتضى الشريعة، ولا يقبل الرشوة، ويعاقب عليها، ويباشر أمور الحسبة بنفسه، ومنع المحتسب من أخذ الرشوات وهجج الشهود - شهود الزور - من المحاكم ولم يعهد عليه أنه صادر أحدا في ماله أو أخذ مصلحة على ميراث، ومات كثيرون من الأغنياء، وأرباب الأموال العظيمة، فلم تطمح نفسه لشيء من أموالهم وكان على الهمة، حسن السياسة، يحب إقامة العدل والحق في الرعية، وهابته العرب، وأمنت الطرق والسبل البرية والبحرية، ولم يأت بعد إسماعيل بك ابن أيواظ في أمراء مصر من يشابهه أو يدانية ... إلخ.
وسرد الجبرتي عدة حكايات تدل على عدله وصلابته في الحق.
ولكن ما يكاد يتوطد قدم أمير من المماليك، وينال ثقة الرعية، ويقبض على مقاليد الأمور بيده، حتى تتحرك ضده الأحقاد والدسائس سواء من أقرانه البكوات أو بواسطة الوالي، فتثور الفتن، ويقتل ذلك الأمير، أو يفر هاربا بحياته، ويندلع لسان الفوضى، وتلقى الأمة والبلاد المحن والنكبات.
ولم يكن لأحد من طبقات الأمة المصرية، لا من التجار ولا من الفلاحين صفة أو كرامة، أو هيئة، اللهم إلا لفئة علماء الأزهر، لما كان لهم من النفوذ الديني على المماليك والعامة على السواء، فكنت ترى الأمراء يجتمعون بهم ويزورونهم ويشاورونهم، وهذا الشيخ الحفناوي وقف في وجه الأمراء لما اجتمعوا بالقاهرة وقرروا إرسال حملة لمحاربة علي بك «الكبير» وصالح بك ومحمد معهم «الذين استقروا بالمنيا وبنوا حولها سورا وأبراجا ركبوا عليها المدافع وقطعوا الطريق على المسافرين المبحرين والمقبلين، وقال لهم: «خربتم البلاد والأقاليم، وعلى أي شيء هذا الحال، وكل ساعة خصام ونزاع وتجاريد.» إلى آخر ما قال، فلم يسع الأمراء إلا الامتثال، قال الجبرتي: «فلم يلبث هذا الشيخ إلا أيام ومرض ورمي بالدم، وتوفي فيقال إنهم أشغلوه وسموه.»
والدليل على أنه لم يبق من الأمة المصرية بأسرها إلا هيئة علماء الدين وغالبهم أهل ضعف ومسكنة وزهد وذل، أنه على الرغم من كل هاتيك المصائب والرزايا والنكبات، التي كانت تتساقط كالصواعق على رءوس هذا الشعب المسكين، لم نسمع في كل هذه المدة أن حدثت في البلاد فتنة، أو وجدت حركة تذمر، إلا مرة واحدة على أيدي بعض العلماء في سنة 1209؛ أي: قبل احتلال الفرنسيين بأربعة أعوام فقط، وحكاية هذه الثورة الأهلية الوحيدة في بابها، كما رواه الجبرتي عنها في حوادث شهر الحجة من تلك السنة قال: «وفيه وقع من الحوادث أن الشيخ الشرقاوي له حصة بقرية بشرقية بلبيس، حضر إليه أهلها وشكوا من محمد بك الألفي واستغاثوا بالشيخ فاغتاظ وحضر إلى الأزهر، وجمع المشايخ، وأقفلوا أبواب الجامع، وذلك بعدما خاطب مراد بك وإبراهيم بك، فلم يبديا شيئا، وأمر العلماء الناس بإغلاق الأسواق والحوانيت، ثم ركبوا في ثاني يوم، واجتمع عليهم خلق كثير، وذهبوا إلى بيت السادات، وازدحم الناس على بيت الشيخ من جهة الباب والبركة، بحيث يراهم إبراهيم بك، فبعث إليهم أيوب بك الدفتدار، فحضر إليهم ووقف بين أيديهم وسألهم عن مرادهم فقالوا: نريد العدل ورفع الظلم والجور، وإقامة الشرع، وإبطال الحوادث والمكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها، فقال: لا يمكن الإجابة إلى كل هذا فإننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات، فقيل له: هذا ليس بعذر عند الله، ولا عند الناس، وما الباعث على الإكثار من النفقات، وشراء المماليك، والأمير يكون أميرا بالإعطاء، لا بالأخذ، فقال: اصبروا حتى أبلغ، ولم يعد لهم بجواب وانفض المجلس، وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر واجتمع أهل الأطراف من العامة والرعية، وباتوا بالمسجد.»
وما يشير إلى دسائس البكوات ضد بعضهم أن إبراهيم بك انتهز هذه الفرصة للإيقاع بمراد بك شريكه في الحكم، على الرغم من تحالفهما ، فبعث للمشايخ يعضدهم ويقول لهم أنا معكم، وهذه الأمور على غير خاطري، وأرسل إلى مراد بك يخيفه من عاقبة ذلك، فبعث مراد بك يصالح المشايخ، وعقد مجلسا حضره المشايخ والأمراء وانتهى الأمر كما يقول الجبرتي، بأن تاب الأمراء والتزموا بما اشترطه المشايخ عليهم، وانعقد الصلح على أن يدفعوا سبعمائة وخمسين كيسا موزعة، وعلى أن يرسلوا غلال الحرمين ويصرفوا غلال الشون، وأموال الرزق، ويبطلوا رفع المظالم المحدثة، والكشوفيات والتفاريد «جمع فردة، ضريبة» والمكوس وأن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس ويسيروا في الناس سيرة حسنة ... وكتب بذلك حجة «فرمن» من فرمان عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك ومراد بك، فانجلت الفتنة ورجع المشايخ، وخلف كل واحد وأمامه جملة عظيمة من العامة وهم ينادون حسب ما رسم سادتنا العلماء، بأن جميع المظالم والمكوس، «بطالة» من مملكة الديار المصرية، وفرح الناس، وظنوا صحته وفتحت الأسواق وسكن الحال على ذلك نحو شهر ثم عاد كل ما كان، مما ذكر وزيادة!! ا.ه، عن الجبرتي بلغته وتعبيراته.
وهناك ثورة أخرى صغيرة جدا وقعت في الإسكندرية تكلم عنها «بروان» الرحالة الإنكليزي، وكان زعيمها الشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية في ذلك الوقت، وله معنا شأن في مدة الحملة وبعدها، وكانت تلك الحركة ضد الكاشف المتولي زعامة الجند في الإسكندرية، وقد روي أن مراد بك أرسل من القاهرة حملة صغيرة مؤلفة من كاشفين وبعض جنود من أتباعهما، فأظهر الشيخ المسيري كفاءة في حملة الأهالي على التسلح وترميم الأسوار، والاستعداد للمحاربة فلما علم الكاشفان القادمان بذلك، أعلنا أهل الإسكندرية أنهما لا يريدان حربا، وانتهى الأمر بأن عاد أحدهما يحمل هدية قدمها إليه أهل الإسكندرية، وأخرى من التجار الأجانب.
Page inconnue