وأراد زعرور استعطاف مديره، وهو يعرف جيدا أنه يسر كثيرا لانخراط تلاميذ جدد في مدرسته، فقال له : سيدي المدير! ... أظن أني سأدخل تلميذا جديدا في مدرستنا ...
وكان لهذا النبأ سحره الفعال في نفس المدير، فانفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة مسحت عقد الغضب من فوق جبينه، وابتدره صارخا: أحقا؟ ... أرجو ألا يكون من نوع تلميذك هذا الذي تلقنه درسا دون مقابل؟ - لا يا سيدي المدير، إنه تلميذ ذكي مجتهد ... - لا ... لا ... لا أقصد ذلك، وإنما أقصد إذا ما كان غنيا وأهله يقبلون شروط المدرسة. - طبعا يا سيدي المدير، ما في ذلك شك. - اكتب إذن الشروط، سأمليها عليك، وإنني أعتمد على لباقتك في عرضها عليهم ... «خمسمائة فرنك للشهر الدراسي، وثلاثة أشهر مقدما ... وطبعا يتلقى علي أنا دروسا خاصة، وأجرة الحصة الواحدة من هذه الدروس مائتان من الفرنكات، مائة فرنك شهريا مقابل ما يستهلكه من الماء للشرب وخلافه، ومائة أخرى مقابل الأدوية التي ربما احتجنا إلى إسعافه بها.»
أظن أن هذه الشروط مقبولة. - دون شك يا سيدي المدير ... - أسرع به إذن إلي، سأعد له أحسن البقاع في مدرستي.
وكان سي زعرور قد قدم مطلبا منذ عهد بعيد يطلب فيه وسام المعارف الذي يرى نفسه يستحقه عن جدارة، وبقي مطلبه دون جواب، وكان مديره على علم بذلك، وأراد أن يبادله جميلا بجميل ومنة بأختها فقال له: لقد قابلت شخصا عظيما اليوم وحدثته في شأن طلبك لوسام المعارف وأفادني أنهم منحوك الوسام. - ماذا تقول؟ ... أحقا منحوني الوسام؟ - نعم ... لكنهم لا يستطيعون أن يمنحوك وساما حقيقيا، ولهذا فقد منحوك وساما معنويا.
وحار سي زعرور في هذه العبارة ولم يدرك كنه هذا الوسام المعنوي، ولكن مديره أسعفه بالشرح والتحليل وأفاده بقوله: معنويا، يعني أنهم منحوك هذا الوسام دون أن يمنحوك إياه ... هل فهمت؟ - أجل فهمت ... منحوني دون أن يمنحوني، فهو عندي في المعنى دون أن يكون عندي في الحقيقة ... - أحسنت ... وهذا شرف عظيم يعود فضله إلى الجهود التي بذلتها أنا في هذا الشأن ...
شكر سي زعرور مديره وودعه إلى الباب وبقي وحده تغمره نشوة السرور والبهجة بوسامه المعنوي الجديد.
وسارت الأيام تباعا وساءت الأحوال بين المدير وزعرور؛ لأن هذا الأخير لم يبر بوعده ولم يدخل التلميذ الجديد الذي وعد به إلى المدرسة، وأسر المدير في نفسه وبقي يتربص الفرص للانتقام منه ... •••
كان المدير في مكتبه ذات صباح إذ دخل عليه والد تلميذ وبيده ورقة اختبار ابنه، وهو يرغي ويزبد ساخطا على النتائج السيئة التي أحرز عليها ابنه في اختباره الثلاثي، وخشي المدير أن تخسر - من جراء ذلك - مدرسته تلميذا، أو بالأحرى أن يخسر جيبه موردا، فخفف من حدة الرجل وأفاده أن ابنه من خيرة تلاميذ المدرسة وأذكاهم يمثل المكانة الأولى من قسمه، وإنما أخطأ الكاتب في نقل النتيجة عن السجل الأساسي، ووعده بإصلاح هذا الخطأ حالا ...
توجه الاثنان إلى قسم سي زعرور وحاول المدير بلباقته أن يفهم هذا الأخير الغرض من زيارته، ولكنه خيب ظنه وفاجأه بقوله: إن هذا التلميذ بليد، كثير التأخر، قليل العمل، ولهذا فلا غرابة إذا ما أحرز على هذه النتيجة السيئة ...
فقاطعه مديره قائلا: لا ... لا ... إنك مخطئ، فمن دون شك أن الكاتب أخطأ في نقل النتيجة عن السجل، ولا بد أن هذه الأصفار عشرات، وغمزه بعينه، ولكن زعرور الساذج لم يفهم مراده، وأفاده أنه لا يعرف هذا الكاتب الذي يعنيه، وأنه ينقل النتائج بنفسه، وأطلع الوالد على السجل الذي كان فوق مكتبه وأراه الأصفار المثبتة بالحبر الأحمر أمام اسم التلميذ، الأمر الذي أعاد حدة هذا الوالد المفجوع في ابنه، ورفع من درجة حرارة غضبه، فتبرع على المعلم والمدير والمدرسة بنصيب وافر من الشتائم، وأقسم بأغلظ الأيمان ألا يعود ابنه إلى هذه المدرسة ... وطبعا فما كان من حضرة المدير إلا أن طرد سي زعرور من عمله وهو يقسم أيضا بأغلظ الأيمان ألا تطأ رجلاه مدرسته بعد الآن ... •••
Page inconnue