الشيخ الإبراهيمي
يوم أزمعت أن أدرج «يحيى الضيف» في سلسلة مقالات الميزان التي كنت أنشرها في جريدة البصائر تسأل بعض الناس من الخاصة والعامة قائلين: ما شأن يحيى الضيف قيم مركز جمعية العلماء وهذه السلسلة من المقالات في رجال العلم والأدب، وليس هو بعالم من العلماء ولا هو أديب من الأدباء ...
وقلت لهؤلاء: إن لم يكن يحيى عالما يحمل فوق رأسه عمامة وتحت إبطه كتابا، وإن لم يكن خطيبا في المنابر ولا واعظا في المجالس ولا كاتبا في الجرائد؛ فإن له قيمته في المجتمع وله مركزه في دنيا العلم والأدب، لأنه فيلسوف ...
سيضحك مني أولئك الذين أنحوا علي باللائمة يومئذ، وسيقولون أين درس يحيى الضيف الفلسفة؟ ومن أية جامعة تخرج؟ والجواب أن الفلسفة الحقة لا تدرس، وإن جامعتها الحياة وأستاذها الزمن، فهو من أولئك الفلاسفة الذين تعمقوا في درس أنفسهم ووقفوا على نواحي الضعف والقوة فيها ولمسوا فيها نواحي الخير والشر، والنفس البشرية واحدة وإن اختلفت الهياكل التي تحملها والأسماء التي تعرفها ...
ثم ... ألم يجد المرحوم الرافعي في أشيب زبال أعظم فيلسوف ينقل عنه بدائع الفلسفة وروائع الحكم؟
حاول أن تسأل يحيى الضيف عن حياته واستمع إليه بإمعان وهو يحلل لك حياته بفلسفة عميقة، وسوف تجده لا يتردد عن ذكر الحقيقة عن نفسه ولو كانت مرة جارحة؛ لأن الحقيقة عنده جوهرة ثمينة يجب أن تبرز، ونفسه شيء تافه، لا حق لها في أن تقف حجر عثرة في طريق الحقيقة ... ومن منا يستطيع أن يحلل نفسه ويذكر خيرها وشرها وعيوبها ومحاسنها! إننا لا نستطيع لأننا نعيش في إطار المظاهر والأنانية وذلك لأننا لسنا فلاسفة! أما يحيى الفيلسوف فإنه لا يشعر بهذه الأنانية، وشخصيته لا تساوي في نظره طمس حقيقة من الحقائق مهما كانت هذه الحقيقة صغيرة. وهو مستعد أن يذكر لك عن نفسه كل ما يعرف عنها. وهو دوما مشغول بالبحث عن عيوب نفسه وتحليل هذه العيوب، وما نفسه إلا أنموذج لكل نفس بشرية يجري عليها تجاربه ...
دعنا نوجه له سؤالا ولنستمع إلى جوابه، ها هو أمامنا بجثته الضخمة وابتسامته العريضة التي تشبه ابتسامة حمار الحكيم ومكنسته في يده ... - كيف جئت لهذه الدنيا يا يحيى؟ - لا أذكر كيف جئت إلى هذه الدنيا لأنني كنت صغيرا ... ولكن سمعت والدتي تقول: إني جئت إليها والشمس في برج القوس ترسل علي أشعتها منعكسة في سعدية المشتري ونحسية عطارد، ولهذا فلا غرابة إذن في أن تبدو لكم حياتي كلها سلسلة من المتناقضات، عالم مع العلماء، وأديب مع الأدباء، جاهل مع الجهلاء، فنان في أوساط الفنانين، عبقري في دنيا الجهال وجاهل بين العباقرة تواضعا، وأنا مع كل ذلك فيلسوف بطبعي ... وكل هذه الصفات تغمرها لطافة في نوع من الدهاء يحيط به نفاق كبير، أفهم المجتمع وأعرف أن شره أكثر من خيره، أعرف أن الحياة كلها آلام وآثام ولهذا تجدني دائما أضحك منها وأضحك من الذين ينظرون إليها بعين الاهتمام والإجلال ... - إنك تفهم الحياة على حقيقتها ... - نعم أفهم باطنها وظاهرها مع أن درجتي لا تعدو درجة كناس من الدرجة الثالثة. - إنك كثير التواضع يا حضرة الفيلسوف. - لا لا يا مولاي، ليس هناك تواضع وإنما هذه هي الحقيقة. - هل أنت سعيد في الحياة؟ - وهل في الحياة سعادة؟ ... وإنما أستطيع أن أقول لكم إن أسعد أيامي هي التي أقضيها في معاشرة العلماء وخدمة جمعيتهم، ولا سيما الشيخ عبد اللطيف سلطاني رئيس المركز الذي أخشاه أكثر من عذاب النار. - وهل استفدت من مصاحبتك للعلماء شيئا يذكر؟ - أجل ... فقد استفدت من الشيخ البشير حكمته وتواضعه وتفانيه في كل ما يباشر من الأعمال، واستفدت من الشيخ خير الدين فراسته ودهاءه ودقة ملاحظته، ونلت من الشيخ عبد اللطيف حسابه العسير لحركات وسكنات العاملين معه حتى إني أرجو الله ألا يعينه «أكسبيرا» لتصفية حساباتي يوم القيامة، وقد أصبحت بطني وعاء لكل هذه الفوائد وتستطيع أن تفسر ضخامتها بعدم هضم ما استفدت لأن معدتي لا تقوى على الهضم وإن كانت تهضم «شخشوخة - شكشوكة» عثمان بو قطاية المذيع المشهور التي أحبها إلى حد أني أبيع ديني ودنياي في سبيلها ...
وإذا سألت يحيى الضيف عن هذه السرعة التي يعيش فيها وعن هذه الحركة الدائمة التي تغمره ، أجابك أن مبعثها القلق وأنه يتعب نفسه كثيرا ليلحق بركب المعالي، ولهذا تجده يقرأ ويعيد ويقرأ ويعيد إلى أن يتبلد ذهنه فلا يحسن كيف يقرأ ولا يستفيد مما يقرأ ... ثم يبتسم لك ابتسامته المعروفة ويقول لك: إني أريد أن أعرف كل شيء وأنا مع ذلك لا أعرف شيئا، وإني إلى الآن عاجز عن كتابة رسالة ولو قصيرة، وقادر على تأليف كتاب بأكمله من حيث لا أشعر.
لقد قضت على صاحبنا فلسفته فأنكر نفسه وأنكر معارفه، وهو محتاج إلى قليل من الإيمان بنفسه وعقله ليخرج للناس روائع ستبقى خالدة لأنها ستكون مطبوعة بطابع الصدق وطابع الصراحة، ذلك الطابع الذي يمتاز به يحيى على غيره والذي جعله محبوبا من الجميع لا يكره أحدا ولا يكرهه أحد ...
يعرف بعض الناس يحيى قيم مركز جمعية العلماء؛ لأنهم لا يرونه إلا دائبا على تنظيف قاعات المركز ومكاتبه، ويعرفه آخرون ممثلا موهوبا لأنهم لا يشاهدونه إلا على خشبة المسرح أو يسمعونه على أمواج الأثير يمثل بالعامية والفصحى، ينتقل من شخصية إلى شخصية فيحسن الانتقال ويحسن التمثيل ...
Page inconnue