Les catastrophes
النكبات: خلاصة تاريخ سورية منذ العهد الأول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورية بلبنان
Genres
1 - سام وحام ويافث
2 - الاستيلاء المصري والآشوري
3 - الاستعمار الفارسي
4 - الاحتلال السلوقي
5 - الاستقلال النبطي
6 - بنو غسان والرومان
7 - بابل العصبيات والأديان
8 - الدولة الأموية
9 - الدول الكلبية
10 - الصليبيون
Page inconnue
11 - هول هولاكو
12 - دولة المماليك
13 - أهوال تيمورلنك
14 - إلى المزبلة
15 - آل عثمان
16 - الدرك الأقصى
1 - سام وحام ويافث
2 - الاستيلاء المصري والآشوري
3 - الاستعمار الفارسي
4 - الاحتلال السلوقي
Page inconnue
5 - الاستقلال النبطي
6 - بنو غسان والرومان
7 - بابل العصبيات والأديان
8 - الدولة الأموية
9 - الدول الكلبية
10 - الصليبيون
11 - هول هولاكو
12 - دولة المماليك
13 - أهوال تيمورلنك
14 - إلى المزبلة
Page inconnue
15 - آل عثمان
16 - الدرك الأقصى
النكبات
النكبات
خلاصة تاريخ سورية منذ العهد الأول بعد الطوفان إلى عهد الجمهورية بلبنان
تأليف
أمين الريحاني
لو كان صحيحا أن ما يمكن عمله الآن قد عمل في الماضي، لما كان بقاؤنا على الأرض لازما، ولكان في اطراد الحياة فيها من الأعباء التي لا تطاق ... وما فضل أولئك الذين يمجدون الماضي ويعتقدون أن أسلافهم بلغوا درجة الكمال؟ وكيف يستطيعون أن يعيشوا أعزاء، وجل همهم أن يتحصنوا في حصون التقاليد والعادات البالية، وهم لا يشعرون بواجب في الحاضر، ولا بأمل في المستقبل؟
رابندرانات تاغور
لا أريد أن أسر المسلمين بكلمة. هؤلاء قوم كلما قال لهم الإنسان: كونوا بني آدم! قالوا: إن آباءنا كانوا كذا وكذا. فعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه اليوم من الخمول والضعة. وكلما أراد الشرقيون الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر، قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟
Page inconnue
جمال الدين الأفغاني
نقله الأمير شكيب أرسلان في كتاب: «حاضر العالم الإسلامي»، صفحة 206
وقال أحد شعراء العرب الأقدمين، ينعى على التغلبيين قعودهم عن المكارم والمفاخر اكتفاء بمعلقة شاعرهم عمرو بن كلثوم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا مذ كان أولهم
يا للرجال لشعر غير مسئوم
واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات (العقوبات) لسوء أفعالهم، فتذكروا في الخير وفي الشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم.
نهج البلاغة
لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم.
Page inconnue
عمر بن الخطاب
ليكن أبناؤنا خيرا منا جسما، وعقلا، ومجتمعا، وأخلاقا.
المعهد القومي للتربية الأخلاقية
في ولايات أميريكة المتحدة
إخواني أبناء هذه البلاد، سهلها وجبلها وساحلها
كثيرا ما نقرأ ونسمع أن تاريخنا مجيد،
وكثيرا ما نتغنى بمجد الأجداد وبمفاخر الأجداد،
فتعالوا نعيد النظر في أهم ما في التاريخ،
تعالوا نزور الماضي الذي ألهانا عن كل مكرمة،
تعالوا نزور الماضي فنقصر إذ ذاك من ذكر الأجداد. •••
Page inconnue
ومن هم الأجداد، أجدادي وأجدادكم؟
القوي منهم كان ظالما، والضعيف كان مستعبدا.
اقرءوا التاريخ منزهين عن الأغراض، مجردين من الأهواء.
اقرءوا التاريخ لتدركوا اللب فيه، فتنسوا إذ ذاك قريضه وقوافيه.
اقرءوا التاريخ متفهمين روحه وروح أبطاله، فتودون إذ ذاك أن تنسوا الماضي. •••
انسوا الماضي، انسوه غير آسفين،
ولا تتكلوا على أحد في الدنيا أو في الآخرة.
ظفر الميت خيال لا يفيد، وظفر الأجنبي من حديد.
إذن، ما حك جلدك مثل ظفرك.
إذن، تعالوا نتفاهم، فنتآلف، فنتضامن، فنتحد في سبيل الوطن، بل في سبيل الحياة.
Page inconnue
تعالوا نكتب صفحة جديدة في تاريخ هذه البلاد.
أمين الريحاني
الفريكة، لبنان
في 20 يناير سنة 1928
و27 رجب سنة 1346
الفصل الأول
سام وحام ويافث
أنت سورية بلادي،
1
وهذا تاريخك في ستة مجلدات ضخمة،
Page inconnue
2
ألفه صديقي الأستاذ محمد كرد علي وسماه خطط الشام.
3
والخطط جمع خط وخطة؛ أي الأرض التي تنزلها ولا ينزلها نازل قبلك، فتخطها بعلامة تشير إلى أنك اخترتها للبناء وحظرتها على غير قومك من الناس. والخط الطريق الشارع، وهذا أقرب إلى الحقيقة في تاريخ سورية.
الطريق الشارع، طريق الفاتحين.
ولكننا خططناها مرة واحدة بعلامات احترمتها الأمم، فكان ذلك الحقب العربي المجيد، وكانت تلك الدولة العربية، العزيزة الجانب، التي استمرت نحو تسعين سنة، وبالتدقيق إحدى وتسعين سنة وعشرة أشهر.
وما سوى ذلك، فالخطط طرق شارعة تخضبت بدماء الأمم، والخطط علامات تجمدت دموعا على وجه الزمان. والشاهد على ذلك هذا التاريخ المنقطع النظير في تواريخ الأمم. أجل، إن هذا التاريخ، الذي هو تاريخ الأمم، ليشهد في كل صفحة من صفحاته على ما أقول.
وهو تاريخ طويل، ممل مفجع، لا يقدم على مطالعته غير القليل ممن يهمهم أخبار الأولين، وفظائع الحكام الغابرين.
إني إذن ملخصه لك في هذه النبذة الواحدة، التي يمكنك أن تقرأها في جلسة واحدة، ثم تنشد إذا شئت نشيد فخري البارودي، أو غيره من الأناشيد الوطنية الخيالية العديدة.
سأبدأ بالعلامات الأولى، علامات الحدود، وقد أعانتنا في خطها الطبيعة. أي بلادي، إن الرمال والجبال والأنهر والبحار تحيط بك، فتتعاون في تعزيز حدودك. هو ذا البحر المتوسط يمده البحر الأحمر عند العقبة، وهي ذي الجبال تقوم لحراستك في الشمال، وهناك الفرات وقد استل سيفه في الشرق. ثم البادية، تلك الحليفة الصادقة المنيعة، وقد شيدت في الجنوب حصونها.
Page inconnue
على أن ذلك كله لم يغنك شيئا؛ فقد كنت، بلادي، الطريق الشارع، طريق الفاتحين، ومحجة الأمم. جاءوك صائلين بحرا وبرا، ومن وراء الجبال، ومن وراء الصحراء، ومما دون الفرات ودجلة وبحر الروم. جاءك الآشوريون، والمصريون، والفرس، واليونان، والرومان، والعرب، والصليبيون.
وجاءك هولاكو عدو العمران، وتيمورلنك عدو الإنسان، وابن عثمان كابوس الزمان.
ثم جاءك من الغرب فاتح كرسكي وهو ينشد ضالة الإسكندر، وجاءك من مصر ابن ألباني عظيم ينشد ضالة الكرسكي الأعظم بونابرت.
وجاءك مع الفاتحين، وقبلهم وبعدهم، طائفة من الآلهة، ورهط من الرسل والأنبياء، لو وزع ثلثهم على العالم لبلبلوه، وقد بلبلوا نصفه، والعياذ بالله!
لنعد إلى تعريف الخطط. فالخط والخطة أرض تنزلها، ولم ينزلها نازل قبلك ... إلخ.
لا يصح هذا التعريف إذن في غير الشعوب التي سكنت هذه البلاد بعد الطوفان، ولكن المؤرخين مختلفون في ذلك. والأرجح أن أقدم الشعوب في هذه البلاد هم الحثيون والعبرانيون والفينيقيون.
أما الحثيون فكانوا يسكنون في الشمال، أو بالحري، في الأرض التي تمتد من جبال طوروس إلى دمشق، وكان ملكهم مقسما إلى خمس دويلات؛ أهمها اثنتان، تلك التي كانت قرقميش (جرابلس) عاصمتها، وتلك التي نشأت في دمشق وحولها.
وكان الفينيقيون يقطنون السواحل من طرطوس إلى صور، والعبرانيون يسرحون ويمرحون في المنطقة الجنوبية التي تدعى فلسطين.
وهناك من يقول - والقول مثبوت في التوراة - إن الهجرة الكنعانية هي الهجرة الأولى إلى هذه البلاد، التي كانت تدعى بأرض كنعان، أحد أبناء حام؛ فالحاميون إذن هم أول من توطنوا هذه البلاد، بلاد كنعان، التي كانت تشمل لبنان وسورية وجميع أرض الحثيين حتى النهر الكبير، نهر الفرات.
وقد كان فيها عندما دخلها بنو إسرائيل، بعد خروجهم من مصر، واحد وثلاثون ملكا (في التوراة - يشوع 12: 7-24 - أسماؤهم وأسماء ممالكهم كلها).
Page inconnue
وجاء موسى إلى أرض كنعان بإله اسمه يهوه، وكان الكنعانيون يعبدون إلها اسمه بعليم، فاحترب الإلهان وغلب اليهوه البعليم.
ثم أسس لرب الأسباط مملكة كبيرة في الجنوب، هي مملكة يهوذا التي شيدها شاوول (1030 قبل المسيح)، ووسع نطاقها داود، وضفر لها سليمان أكاليل المجد.
وكانت مملكة بني حداد
4
قائمة في دمشق، وقد دفعت الجزية، بالرغم عن استقلالها، للملك سليمان.
وبعد موت سليمان (933ق.م)، انقسمت مملكة الجنوب إلى مملكتين: يهوذا وإسرائيل.
وكانت عاصمة إسرائيل شكيم (نابلس)، وكان بين إسرائيل ويهوذا من الحروب ما هو مدون في التوراة. أما ملوك دمشق فكانوا يشنون الغارات على إسرائيل في أثناء تلك الحروب، وأبوا بعد موت سليمان أن يدفعوا الجزية إلى أورشليم. بيد أنهم على ما يظهر كانوا موالين للفينيقيين، وقد أشركوا مع ربهم «رمان» في العبادة ربة فينيقية عشتروت.
أما الفينيقيون، فقد كانوا بعيدين أكثر من سواهم عن الحروب، ومنصرفين كل الانصراف إلى التجارة.
هذي هي الدويلات التي كانت مؤسسة قبل الاستيلاء المصري، وأثناءه في سورية. وبعد انقراضها - كما سيجيء في الفصل الثاني - عم اسم آرام هذه الديار، فأصبحت تسمى آراما، وسكانها آراميين.
وآرام هو الابن الخامس لسام بن نوح، كان يسكن وبنيه بعد الطوفان في الجزيرة ما بين النهرين، قبل أن ينزح إلى هذه البلاد.
Page inconnue
هو إذن جد العرب، كما أن العرب أجداد الفينيقيين، وقد جاءوا من البحرين، على الخليج العجمي، برا وبحرا إلى شواطئ البحر المتوسط.
5
كلهم إذن - الآراميون والعرب والفينيقيون والعبرانيون - ساميون، إلا الحثيين والكنعانيين، فهم من نسل حام.
فهل أنت وأنا وإخواننا القاطنون اليوم هذه الديار من سلالة الآراميين ، التي امتزجت فيها سلالات الحثي والكنعاني والفينيقي والعبراني؛ أي الحامي والسامي؟
6
ولكن المؤرخين يقولون إن في هذه البلاد شعوبا من سلالات أبناء نوح الثلاثة؛ أي حام وسام ويافث.
7
وقد يختلط في بعضهم الدم القفقاسي بالدم الأفريقي والتركي والعربي.
سام وحام ويافث، رضي الله عن الثلاثة الأجداد.
ومما لا ريب فيه أن في بلادنا، أو بالحري في شخصية أهل البلاد ودمهم، ما لا يزال متوارثا من آثار الشعور الغابرة كلها - الكنعانية والإسرائيلية والمصرية والآشورية والحثية والفينيقية والآرامية والكلدانية والفارسية واليونانية والرومانية والتترية والعربية!
Page inconnue
فهل يا ترى في العالم أجمع بلاد أخرى مثل هذه البلاد السورية؟
بلادي موطن العصبيات أنت ومدفن الوطنية.
الفصل الثاني
الاستيلاء المصري والآشوري
قبل أن تأسست مملكة يهوذا بنحو ستمائة سنة؛ أي في القرن السابع عشر قبل المسيح، كانت البلاد السورية كلها تابعة لمصر،
1
أو بالحري كانت الدويلات الحثية والفينيقية والكنعانية، حفظا لاستقلالها النوعي، تدفع الجزية وتقدم الجنود لحكومة فرعون.
يثبت ذلك ما اكتشف في تل العمرنة على شاطئ النيل سنة 1887 للمسيح، من الرسائل المكتوبة على قطع من الآجر، المرسلة من ملوك سورية وفلسطين إلى ملوك مصر: «إننا نقدم الخراج طائعين، وندعو لفرعون بالنصر المبين.»
وقد طالما تطورت السيادة المصرية في هذه البلاد، فكانت تضعف وتقوى، وتتضاءل وتتجسم، تبعا لما يكون من حال الدولة السائدة، أو من أحوال الدول المسودة؛ ففي عهد رعمسيس الثاني مثلا، كان الملوك الحثيون والفينيقيون والكنعانيون والعبرانيون يدفعون الجزية ويقدمون الجنود صاغرين. وفي عهد سليمان الحكيم اضطر فرعون أن يصاهر سيد أورشليم وملك يهوذا، ليظل هذا مواليا له.
بعد ذلك تضاءلت السيادة المصرية في هذه البلاد، واستمرت كذلك إلى أن جاء من وراء الفرات الفاتحون الآشوريون في القرن التاسع قبل المسيح،
Page inconnue
2
فتنازعوها والفراعنة، وتطاحنوا في سبيلها التي لم تكن لأهل البلاد غير سبيل العبودية.
وكان الفينيقيون أول من سلموا للآشوريين، ثم استعان الإسرائيليون بالفاتحين على أهل دمشق، الذين كانوا يشنون عليهم الغارات، فصاروا لقاء تلك المساعدة يدفعون الجزية لملك آشور.
ثم اتحد ملك إسرائيل وملك دمشق (733ق.م) على آخر ملوك يهوذا، فاستعان هذا بالآشوريين عليهما فأعانوه، ووضعوا بعد ذلك على رقبته النير، فأمسى الملك أميرا يدفع الجزية إلى سيد البلاد الأكبر ثغلات فلازر.
كذلك كان الفاتحون في ذلك الزمان ينصرون ملكا على ملك، وأميرا على أمير، ليتم لهم النصر على الجميع. ليس في سياسة الفاتحين والمستعمرين شيء جديد.
وفي العقد الأخير من القرن السابع (607ق.م)، زحف الفرعون نخو غازيا سورية، ليعيدها إلى حوزة مصر، فاستولى على القسم الجنوبي منها، ولكن نبوخذ نصر ملك بابل جاء بعد عشر سنوات يخرج المصريين من البلاد، فالتقى عندما وصل إلى قرقميش، عاصمة الحثيين الأولى، بملك مصر، فالتحم الجيشان هناك (597)، وكانت الغلبة للبابليين.
استمر بعد ذلك نبوخذ نصر في حملاته، فاستولى على سورية وعلى مملكة يهوذا، وظلت السيادة البابلية عزيزة في البلاد ستين سنة؛ أي منذ وقعة قرقميش إلى حين سقوط بابل (538) بيد الفرس؛ فيكون الاستيلاء الآشوري البابلي قد دام في سورية نحوا من ثلاثمائة سنة.
أما العرب فلا ذكر لهم في تاريخ سورية قبل عهد الآشوريين،
3
أقول هذا على احترامي للأستاذ كرد علي، الذي يريد أن ينزلهم في بلاد الشام قبل كل نازل حتى قبل الكنعانيين. بيد أن المؤرخ رولنسون يقول إنه كان للعرب في بلاد الكلدانيين، ما بين النهرين، ملك دام مائتين وخمسا وأربعين سنة (1543-1298ق.م)، ولا يقول أكثر من ذلك.
Page inconnue
وقيل إن دولة الرعاة في مصر (1900-1525ق.م) كانت دولة عربية، ولكنها لم تكن على شيء من الحضارة، وقد كان عهدها الطويل فظيعا في شطره الأول، وعقيما في أطواره كلها. فلا عجب إذا كره المصريون الملوك الرعاة، وقام عليهم الفرعون آموسيس، مجدد النهضة الوطنية، فأخرجهم من البلاد (1525)، وزحف بعد ذلك إلى سورية يؤدب السوريين لظنه أن الرعاة منهم، فكان فاتحا مظفرا.
ومن المؤرخين من يقول إن الملوك الرعاة سوريون، ولا فخر، فقد أقاموا في مصر نحوا من أربعمائة سنة، وهم يأكلون من طيباتها، ويفسدون ويخربون، وما أكلت سورية بسببهم غير النبوت وخبز العبودية.
الفصل الثالث
الاستعمار الفارسي
كانت الدولة الحثية الشمالية أكبر الدويلات السورية اقتدارا، وأشدها بطشا، فغلبت حتى المصريين مرة، وأخرجتهم من فينيقية ومن أرض كنعان الجنوبية.
ثم تحطمت الدويلات الحثية كلها تحت سنابك خيل الفاتحين من الشرق ومن الغرب؛ إذ احترب المصريون والآشوريون في قلب البلاد - وعليها - كما أسلفت القول، وعم فيها الويل والبلاء.
وما خف البلاء والويل في زوال الاستيلاء الآشوري البابلي، فعندما خلع قورش ملك الفرس نير البابليين، وأسس الدولة الأشمونية الفارسية الآرية، التي قامت على أنقاض الدولة الآشورية، شرع يبسط سيادته على البلدان التي كانت في حوزة ملوك بابل ونينوى، فتم في عهده وعهد ابنه قمبيسس الاستيلاء الفارسي الآري على البلاد السورية كلها، سهلها وجبلها وساحلها، وتجاوزها إلى الجزر كقبرص وغيرها، بل إلى بلاد الإغريق ومصر وأفريقية.
كان حكم الفرس في هذه البلاد، بل في كل البلدان التي فتحوها، حكما استعماريا عسكريا، ولم يكن للوطنيين يد فيه البتة، فكان الملك يعين حاكما من رجاله أو من آل بيته، ويمده بجيش من أهل مادي وفارس لحفظ النظام والأمن والطاعة.
أما أهل سورية، فلم يجند الفرس منهم إلا للغزوات والفتوحات في البلدان الأخرى، كما كان الأتراك مثلا يجندون السوريين لمحاربة أهل اليمن وعسير.
وكان لدولة الفرس أسطول عظيم يربو عدد مراكبه على الألف، كلها من صنع أهل فينيقية وقبرص واليونان. أما رجال الأسطول وجنوده، فمن أهل مادي وفارس، ولا غرو، فكيف تثق الدولة بالأهالي وحكمها فيهم حكم المستعمر المستأثر المستبد؟ حكم طاغية يقول: ادفعوا الضرائب وقدموا الجنود طائعين صاغرين، وإلا فهذه كتائبي عندكم تعلمكم الطاعة أو تبيدكم!
Page inconnue
استمر هذا الحكم الفارسي العسكري الاستعماري في البلاد السورية مائتين وثماني وعشرين سنة (558-330ق.م)، وبينما كانت الثورات تضطرم في البلدان الأخرى لخلع نير الأجنبي، فتحررت اليونان سنة 449، وتحررت مصر سنة 405، لم يحدث في سورية غير ثورة واحدة صغيرة غير ظافرة، وذلك في الجهة الفينيقية، وفي شرقي الأردن الذي كان يقطنه الأدوميون.
لم تكن سورية لملوك الفرس سوى طريق إلى مصر وأفريقية وبلاد الإغريق، والطريق التي يسلكها الفاتحون يجب أن تكون آمنة، ويجب أن يكون فيها ما يكفي لتموين الجيوش. أما الأمن فقد أوجده ملوك الفرس - كما قلت - بما كان لهم من الحاميات الفارسية في البلاد. وأما التموين فأمره موكل بالخراج، والخراج ينمو نماء عجيبا في ظل الرماح: هاتوا الأموال، وهاتوا الأرزاق، وهاتوا رجالكم للحروب!
مائتان وثمان وعشرون سنة من هذا الاستعمار الشرقي! وبعد ذلك؟ إن مصرع الباغي وخيم وإن تأخر مائتي سنة؛ فقد أرسل الله الإسكندر - إسكندر بن فيليبوس المقدوني - ليؤدب الدولة الفارسية الأشمونية التي كان يسوسها في آخر عهدها النساء والعبيد والخصيان.
وكان دارا الثالث - آخر ملوك الأشمونيين - قد هم باسترجاع بعض البلدان التي خسرها أسلافه السفهاء، فزحف بجيشه إلى سورية وقد اعتزم أن يغزو بلاد الإغريق.
ولكن الإسكندر كان قد عبر البحر إلى آسية (334ق.م)، ومعه خمسة وثلاثون ألف مقاتل، فالتقى بقسم من الجيش الفارسي في الأناضول، وكانت هناك وقعة «الغرانيق» التي كتب له فيها النصر الآسيوي الأول.
واستمر الفاتح الشاب زاحفا على سورية، فوصل إلى خليج الإسكندرونة، حيث كان الملك دارا وهو متأهب للحرب، فالتحم الجيشان في وقعة إيسوس (333) شمالي الخليج، وكانت الغلبة فيها للمقدونيين.
تقهقر الملك دارا بما تبقى من جنوده إلى الشرق، واستمر الإسكندر زاحفا إلى الجنوب، فوقع الرعب بعد وقعة إيسوس في قلوب الفينيقيين والسوريين، فدان أكثرهم له طائعين. «ولما وصل إلى جبيل، تلقاه أهلها بالبشر والحفاوة.»
أما صور فأبت التسليم، ودافع أهلها دفاع المستبسلين في حصار دام سبعة أشهر، ثم سلموا، وكان قد أرسل الإسكندر أحد قواده إلى دمشق فاحتلها بجنوده، واستحوذ على خزائن دارا وما كان في المدينة لأعيان الفرس من المتاع والأموال.
وفي مدة لا تتجاوز العشرين شهرا أخرج الفاتح المقدوني الفرس من البلاد السورية كلها، كما أخرج الأحلاف الترك في هذا الزمان.
أجنبي ينقذنا من أجنبي على الدوام!
Page inconnue
الفصل الرابع
الاحتلال السلوقي
بعد وفاة الإسكندر في بابل (323ق.م)، اقتسم قواده مملكته الشاسعة: فكانت سورية الشمالية وما دونها شرقا إلى حدود الهند، حصة سلوقس نيكاتور؛ أي الفاتح. واستولى بطليموس على مصر، وعلى فلسطين وما يليها شرقا وشمالا.
كانت بابل في البدء عاصمة الدولة السلوقية، فنقلها سلوقس بعد عشر سنوات إلى أنطاكية، ليتمكن من محاربة أعدائه في الغرب.
تأسست هذه الدولة سنة 312 قبل المسيح، وبلغت ذروة المجد في عهد أنطيوخس الثالث الملقب بالكبير (223)، الذي حكم خمسا وثلاثين سنة، وبسط سيادته على البلاد السورية كلها ما عدا البتراء وما يجاورها، التي كانت يومئذ في حوزة الأنباط. وقد أغضب أنطيوخس الكبير الرومانيين بسياسته وحروبه، فحملهم على التدخل في أمور الشرق، فجر ذلك فيما بعد إلى الفتوحات الرومانية التي قضت على الدولة السلوقية.
بيد أن هذه الدولة ظلت قائمة على أركان متزعزعة أكثر من مائة سنة بعد أنطيوخس الكبير، وقد كانت خصوصا في هذه الحال، وإجمالا في كل أحوالها، مثل الدول التي تقدمتها ظلما واستبدادا.
إلا أنها لم تكن محض استعمارية أو صرف يونانية؛ فقد قسم السلاقسة البلاد إلى مقاطعات يحكمها حكام يعينهم الملك، وكانت الوظائف الصغيرة بيد أناس من الوطنيين، وكان الجيش المرابط من أهل البلاد، إلا أن ضباطه يونانيون.
قال المؤرخ: «كانت دولة السلاقسة دولة حرب ونزاع، فغدت الشام في حالة بؤس ونحس، رومة تطالبها ببسط سلطانها عليها، ومصر تحاربها لتضمها إليها، وأهل فارس يجتاحونها، فمنيت البلاد بضعف الحال وقلة الرجال.»
وقد تفككت تلك الدولة في آخر عهدها لما قام فيها من الحروب الأهلية بين الإخوان وأبناء العم الطامعين كلهم بالملك، فخرجت صور وصيدا وغيرهما من مدن الساحل على أنطاكية، وأعلنت استقلالها.
ورفع أهل الشام أصواتهم شاكين محتجين، ثم استنجدوا وقد ضاق ذرعهم، بأجنبي على أجنبي. أجل، قد استغاث الدمشقيون بتغران ملك أرمينية، فأغاثهم وأنقذهم من السلاقسة (83ق.م)، وحكم الشام بعد ذلك ثماني عشرة سنة كانت اللاحقة للسابقة عينا: سبحان الله! لقد أنسانا الأرمني ظلم السلوقي!
Page inconnue
ثم جاء الرومان سنة 69 يؤدبون الأرمني تغران، لتدخله في حرب من حروبهم في الشرق، فأخرجوه من دمشق كما أخرج الفرنسيس فيصلا في هذا الزمان .
وبعد أربع سنوات من خروج تغران، جاء القائد الروماني بمبيوس (65ق.م)، فأزال ما تبقى من سيادة السلاقسة، وحول ملكهم السوري إلى ولاية رومانية ...
من أجنبي إلى أجنبي على الدوام!
الفصل الخامس
الاستقلال النبطي
وأين كان العرب في كل هذه الأزمنة، أزمنة الاستعمار الفارسي واليوناني؟
يقول المؤرخون إن الأدوميين من العرب، وإنهم كانوا يقطنون البلاد التي تسمى اليوم بالشرق العربي. أما الأنباط فقد جاءوا من دومة الجندل
1
في القرن الرابع قبل المسيح (312)، فغزوا أرض الأدوميين وأخرجوهم منها، ثم أسسوا هناك ملكا جديدا دام نحوا من ثلاثمائة سنة، فكانوا إذن معاصرين للسلاقسة وللرومان في أول عهدهم في بلاد الشام.
ومن هم الأنباط؟ يقول العرب إنهم سوريون، وكان الرومان واليونان يقولون إنهم عرب، أما أنهم ساميون ومن نسل إسماعيل، فمما تشهد عليه التوراة (تكوين 28: 9): «فذهب عيسو إلى إسماعيل وأخذ محلة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت (جد الأنباط).»
Page inconnue
ولكننا لا نعود بالقارئ إلى ذاك الزمن الأقدم، وعندنا ما هو واضح ومؤكد في الزمن القريب من العهد المسيحي؛ أي في عهد المكابيين والسلاقسة اليونان.
جاء ذكر الأنباط لأول مرة في سفر المكابيين، وقد غزا أحد الملوك السلاقسة سنة 132ق.م المملكة النبطية وعاد خاسرا. ففي هذين التاريخين ما يدل على أن الأنباط احتلوا البلاد التي هي عبر الأردن في بداية القرن الرابع قبل المسيح، وأن مملكتهم بعد مائة وسبعين سنة، كانت عزيزة الجانب، فلم يتمكن السلاقسة من الاستيلاء عليها.
وكانت تمتد هذه المملكة بين فلسطين وخليج العقبة ووادي الحجر وبحر الروم، أما عاصمتها فالبتراء، وتدعى أيضا سلع، بوادي موسى.
قال مومسون: إن البدو واليهود والنبطيين كانوا على عهد بمبيوس الروماني أصحاب السلطان في الشام.
والظاهر أن ملك البتراء الحارث الثالث دخل دمشق سنة 85 قبل المسيح، قبل أن يستنجد أهلها بالملك الأرمني تغران بسنتين. قد يكون جاءهم الحارث فزعا، أو ليصلح بينهم وبين السلاقسة؛ لأنه كان مشهورا بحبه لليونان، فلم يفلح على ما يظهر في مسعاه السلمي أو الحربي، فاستنجد الدمشقيون بعدئذ بتغران.
ولكن الأنباط عادوا إلى دمشق في عهد الحارث الرابع؛ أي بعد استيلاء الرومانيين عليها، وظلوا أصحاب السيادة الوطنية فيها أكثر من مائة سنة. هي سيادة وطنية مقيدة بسياسة رومة الخارجية.
جاء في الإنجيل (رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنتيوس 11: 32): «في دمشق والي الحارث الملك، كان يحرس مدينة الدمشقيين، يريد أن يمسكني، فتدليت من طاقة في زنبيل من السور، ونجوت من يديه.»
مما يدل على أن ملوك الأنباط لم يسرعوا إلى التنصر، ولا غيروا عاصمتهم البتراء، فعندما استولوا على دمشق عملوا عليها أحد رجالهم.
ومما أجمع عليه المؤرخون أنهم كانوا يدارون الرومان ويمالئونهم، فيقدمون لرومة الجنود لقاء تلك السيادة، ويدفعون شيئا من الخراج.
قال المؤرخ: «إن بمبيوس لما فتح الشام واستولى على دمشق وما جاورها، أبقى لدمشق استقلالها، وكذلك لبصرى وجرش وعمان.»
Page inconnue
نولي عليكم واحدا منكم على شريطة أن تعترفوا بسيادتنا، فتدفعوا الخراج وتقدموا عند اللزوم الجنود.
هو الحكم اللامركزي - الحكم الروماني العربي، أو بالحري النبطي - الذي دام أكثر من مائة سنة في حال من الخلل والفساد تغاضت عنه رومة؛ لأنها كانت في مثلها، بل في حال أشد منها.
لكن الإمبراطور تراجان (98-117م) لم يرض بتلك الأحوال المخجلة، فنهض لإصلاحها ولسان حاله يقول: لننسحب من البلاد السورية أو لنحكمها حكما رومانيا. ومن هم الأنباط لنقيم منهم ملوكا؟ ومن هم السوريون ليكون لهم من الامتيازات أكثر مما لسواهم من الشعوب والأمم الخاضعة لسلطان رومة؟
ضرب تراجان على أيدي المفسدين في العاصمة، وجدد في الأمة روح الاستعمار، فأعاد إلى الدولة الرومانية شيئا من العز والقوة، وقد جرد على سورية جيشا كان مظفرا، فأبطل امتيازاتها، وأدخلها في صف المستعمرات، ثم حمل على الأنباط فبدد شملهم وقضى على دولتهم (106م)، فصارت البتراء وما يليها مستعمرة رومانية.
وكانت دولة تدمر - النبطية أيضا - قد دخلت في حوزة الرومانيين سنة 36 قبل المسيح، واستمرت طائعة تؤدي الخراج وتقدم الجنود لرومة نحوا من مائتي سنة.
وكان قد نزح من شرقي الأردن وبلاد الشام الأنباط النافرون من الرومان، الناقمون عليهم بعد استيلائهم الاستيلاء التام على بلادهم، فشرعوا يدسون الدسائس في تدمر ليخرجوا إخوانهم هناك من ربقة الأجانب.
فقام أذينة السميذعي يدعي الملك (250م)، فحارب الرومان وحاصرهم في مدينة حمص، فسلموا له، ولكنه توفي بعيد ذلك، ثم قامت زينب - الزباء - أرملته تعلن استقلال بلادها، وتخرج الرومان منها، فجرد الإمبراطور ديمتيوس أوريليوس حملة عليها، وتولى قيادتها بنفسه. وكانت زينب تقود جيشها، فتلاحم الجيشان في جوار حمص، فانكسر جيش الأنباط وتقهقر إلى تدمر، فحاصر أوريليوس المدينة (273م) فسلمت، ووقعت المملكة العربية أسيرة بيد الإمبراطور الروماني، ثم حل بتدمر ما حل بالبتراء قبلها.
وكان بنو السميذع القاطنون بادية الشام في أوائل النصرانية، إلا قليلا منهم، أنصار أذينة وزوجه الزباء، يمالئون الرومان، ويساعدون في تحقيق مقاصدهم الاستعمارية. بل كان الكثيرون من العرب يحاربون في صفوف الأجانب لمال أو لوظيفة أو لحزازات في الصدور ...
سأخنقك، لا بيدي، بل بيد أبنائك.
أنت سورية بلادي، واليد التي على عنقك اليوم هي يد أبنائك - «الأبرار» - لا يد الأجانب.
Page inconnue