في أسواق بيروت المكتظة بالناس كانت امرأة شاحبة اللون غارقة العينين حاملة طفلا على ذراعيها وهي تتوسل إلى المارة باسم الله والولد، باسم الدين والرحمة، هي ترتجف من الضعف وأثوابها ممزقة تستر جسما كان منذ أشهر قلائل كدمية الرخام ممثلة مجموع الجمال ... تدلى شعرها الأشقر قصيرا على كتفيها وقد فقد لمعانه، اختلط بنور عينيها قتام مهيم فهي ظلمة متوهجة يخشع أمامها الناظر.
إذا كانت لفتات العلماء والشعراء تدخل الاعتبار في قلب الناظر إليهم ففي لفتات المجانين ما يولد الخشوع والارتهاب، إذا دلت العين التي وراءها قوة مفكرة على وجود نفس سامية في الإنسان، ففي العيون الجامدة وقوة ضعفها المذيب برهان لكمون النفس الناطقة؛ لأن لا شيء أدعى إلى ظهور القوة الخفية من وجود العذاب فيها.
لو عاد جميل من وراء الأوقيانس البعيد ورأى هذه المرأة حاملة ابنه متسولة على قارعة الطريق هل يعرف بها سلمى يا ترى؟
لو مر اللبناني قرب هذه المرأة وهو يعرف روايتها، فهل يجود عليها بدرهم ذاكرا أنها صورة وطنه المخدوع الضائع مثل هذه الفتاة التاعسة في أحضان المدنية القاسية ...
هي شريدة وحيدة بين هذه الألفة السائرة وراء السعادة وقد نضب ماء وجهها مع مياه حياتها، وكل من عرف حالها يلقي عليها الملام، ومن القساة الجهلة من يعنفها ويلعنها ...
هكذا تفهم الألفة ماهية الجرائم، فأكبر المخلوقات إثما لدى الناس من سقط ليتعذب ...
Page inconnue