كلمة
النجوى
فتاة لبنان
كلمة
النجوى
فتاة لبنان
النجوى
النجوى
رسالة ورواية إلى نساء سوريا
تأليف
فليكس فارس
كلمة
هذه رسالة كتبتها قبل إعلان الدستور وأنا تائه بين أحراش لبنان وصخوره أبكي على أمتي وبلادي وأخط لها بيد العجز ما توحي إلي الوطنية لنفعها.
كتبت هذه الرسالة والسلاسل الثقيلة رابطة على يدي؛ فليصغ المطالع إلى خشيش الأغلال من بين السطور.
أبقيت العبارة على ما هي؛ لأن الإصلاح الذي أقصده بما كتبت لهو أشد ضرورة بعصر الحرية منها بعصر العبودية، فعسى أن يصادف وحي الإخلاص همة يستنهضها أو قلبا داميا يعزيه.
بيروت في غرة آذار سنة 1909
فليكس فارس
النجوى
إلى الفاتحة عينيها لنور الحياة وقلبها لحياة النور، يدها على الكتاب وعقلها يرتقي إلى أوج الإنسانية كفراشة الربيع البيضاء التي ترفرف مرتقية إلى ما فوق.
إلى زهرة البشرية التي تعطر الدنيا بعبيرها الطاهر، إلى الواضعة يدها الجميلة بيد القوي لتعطيه العزم والشهامة، تنفخ اللطف في الشدة والكرامة في القوة، ومن عينيها ينبثق النور الذي يقود الإنسان إلى السعادة.
إلى الراكعة أمام سرير الطفل ترضع جسمه الضعيف من ثدييها وتسقي روحه اللطيفة من نظراتها سائل الحب والحنان، خلاصة المبادئ الإنسانية السامية، مذوب قلب الأم.
إلى الجالسة جنب فراش المرض والعياء تحارب جراثيم الويل بضعفها العظيم ولطفها الشديد ودموعها القوية، إلى منبت أبناء الوطن، إلى جنة الطفل وحياة الشاب ورفيقة الكهل وتعزية الشيخ، إلى مرضعة الولد الداخل إلى الدنيا ومغلقة أجفان الراحل إلى الأبدية، إلى ألف الحياة الدنيا ويائها أوجه كلامي: أنت يا ابنة سوريا التي هزت يمين جدتها أسرة أعاظم الدنيا، أنت سلالة تلك المرأة الفينيقية التي لم يكن قربها رجل شديد بعزمه إلا وكانت أشد منه انعطافا، أنت خلاصة قوة الدنيا التي انفجرت من أرض الشرق لتسود وجه الكرة بأسرها، أنت العظيمة من قبل وراء خبائك وتمدنك القديم بكرامة أعظم من كرامة باريسية اليوم وهي تمشي مع الرجل قدما لقدم، أنت الحافظة في مهد الخمود الذي طرحك الزمان عليه تلك الفضيلة الساطعة كالشمس فضيلة الطاعة لرجلك وحفظ شرفك لربك ولبنيك، أنت يا أم ابنة الوطن وخطيبتهم وزوجتهم، أنت الروح الضعيفة المعذبة التي يضغط عليها قلبها كما يشد علينا جور الزمان بسلاسله الحديدية.
أردد أبصاري عليك يا زهرة البلاد وعبيرها فلا أتمالك من دفع أنين وذرف دمعة.
أراك تختبطين في عجاج العاطفة كما يختبط الرجل تعيسا في حياته الاقتصادية، نحن نسقط تحت جناح الفكر المتأمل دون عزاء؛ وأنت تحاربين قلبك؛ وقلبك يحاربك دون أمل.
مرت عليك القرون وتتابعت على سلالتك الأعصار وأنت مبددة من أعالي جبال لبنان إلى أطراف حلب إلى غياض الشام إلى نهر الأردن إلى ضفاف بحر الروم تسيرين سربا منقطعا عن البشرية يربي الإنسانية ويتبعها بكل حالاتها ولكنه بعيد عنها لا علاقة له بها إلا عن طريق الجسم والخدمة الآلية.
مرت عليك أشباح الزمان يا ابنة سوريا وأنت غريبة عن الطفل الذي يشرب من صدرك وترتوي روحه من روحك، غريبة عن الشاب الذي يركع أمامك ولا يخاطب بذاتك السامية غير عينيك وبروز صدرك ونحول خصرك، غريبة عن زوجك وهو يناضل في الحياة بالفكر وأنت لديه آلة تتحرك بلا فهم ولا شعور، غريبة عن الشيخ الذي ينظر إليك كما ينظر المحارب إلى فرسه بعد المعركة نظرة حنان العاقل على ما لا يعقل، لفتة المفتكر إلى رفيق الشقاء وهو من نوع مفروز وجنس آخر ... مئات من السنين جرت على قلبك وشاح الخمود وعلى عقلك ستار الظلمة فكنت محبوبة لجمال جسمك ومكرمة من تعب يديك؛ ولكن روحك كانت محرومة من الاعتبار الذي توجبه الأرواح الراقية على البشرية نحو نفسها الثانية وهي أنت ...
بينما كان الرجل القديم محنيا على الأرض يعالجها أو سائرا وراء تجارته في الأقفار والفيافي، بينما كان يجاهد في حياته ويدافع عن نفسه وقبائل سوريا تتألب ممزقة بعضها بالضغائن والأحقاد والتعصب والجهل، في ذلك الليل الأربد الذي لم يكن بحاجة للقوة أكثر من حاجته للعطف لارتقاء الشواعر عن طريق المرأة كنت أنت يا ابنة سوريا مفروزة عن الألفة التي تحتاجك، تحنين على ابنك وبين دماغك ودماغه ستار قائم، يملكك زوجك فلا يملك منك غير جسمك وهو بعيد عن روحك النائمة على السكون، كنت عفيفة ولكن عفافك كان ناقصا بالوهم، محبة ولكن حبك كان ضعيفا بالاستعباد، كانت علاقتك بمن حولك تنحصر بالجسد وقد حرموا على روحك الارتقا لتساوي أرواح أبيك وزوجك وابنك، ولا شيء يجعل الحي غريبا حتى في بيته كوجود تفاوت بين نفسه ونفوس من حوله.
أما الآن وقد كسرت الأيام قيدك يا ابنة سوريا؛ أما الآن وقد رفعت رأسك وتطلعت إلى ما فوق؛ فأنت حرة تتسلقين هذا الجدار الأملس الذي اصطلح الناس أن يسموه ارتقاء، وقد يخال لك أنك ترتقين ... أنت اليوم وقد فتحت عينيك الجميلتين للنور؛ وارتفعت أهدابك الطويلة منفرجة عن لمعان الأمل، أنت تريدين أن تحرري روحك من أسرها صارخة أمام الألفة: «إذا كان جسدي إناء الإنسان فنفسي سرير نفسه» ولكنك يا أختي تائهة على السبيل المتشعب، لقد انتبهت روحك من رقادها كالطفل المستقبل شعاع الشفق فهو يتسكع في النور كما يتوه في الظلمة.
كنت بالأمس خامدة العاطفة خاملة النفس أما اليوم فأراك قوية العواطف وقد لامست نفسك شرارة الحركة للحياة، أراك تضلين وتختبطين فأحزن عليك كما أحزن على نصفك الضال؛ ولكن أحب إلي أن أراك سائرة ولو على غير هدى من أن أراك جامدة لا تشعرين بوجدانك؛ لأنني أعلم بأن القوة التي تدفع إلى التقهقر هي نفسها إذا دربت تكون مبدأ الوصول إلى المحجة المثلى؛ وبلوغ ما سمح للإنسان أن يبلغه من الكمال.
أنت يا ابنة سوريا، يا زهرة لبنان تريدين الوصول إلى موقفك الطبيعي الشريف فسلام على تلك الإرادة، وإجلال لذلك القلب الذي رفعته دماء سلالتنا السامية وقدسه حسن القصد، ولكن الطريق التي دلوك عليها والسبيل الذي دفعك الرجل عليه لهو سبيل ضلال يقود إلى الهاوية، وأرى ضعفك يتدحرج عليه وروحك اللطيفة المنتبهة من رقادها ماثلة إلى الوجود تشخص إلى بعيد وهي مرتكزة على شفا جرف هار، فاسمحي أيتها الروح لهذه النفس الجريحة التي علمها العذاب أن تنظر إلى بعيد، اسمحي لهذه النفس المجردة بقوة التأمل والافتكار عن سفاسف الدنيا وأوهامها أن تناجي بك دعامة الوطن وقوة الأرض التي أحبتها معك؛ لأنها مثلك تحن إلى التراب الذي حمل سريرها.
أنا مثلك يا أختي لا أنظر إلى الحياة إلا من وجه الشعور والعواطف، إن نفس المرأة ونفس الشاعر أختان عقدت يداهما ما وراء المنظور حيث نهاية التأثرات وغاية كل عاطفة وشعور، ولهذا أقدم على مخاطبتك غير خائف ملالا من قلبك ولا إجهادا لفكرك، فلست مكلمك بالمادة والمحسوس، لا أخاطبك عن الخيال بل عن الأصل، عن الروح عن القلب الذي يتراءى أمامه كل شيء سواه أشباحا مظلمة وأوهاما مضلة، فاسمعي: أيتها المرأة التي قطعت شوطا بعيدا من مراحل هذه الحياة، أنت التي مر عليك ثلاثون ربيعا وعشرون صيفا وقد اجتزت الخريف وأنت اليوم في شتا الحياة فلا تؤملين أن تشاهدي شمسا إلا في ربيع البقاء الثاني ما وراء هذه المحسوسات الزائلة، أنت يا شيخة سوريا التي تتذكر آمال الفتوة وقبلات الشبيبة ولم يزل السرير الذي ربيت عليه البنين نصب عينيك، أراك تنظرين إلى الألفة بعين الحنان الجامد والحب المجروح بآخر مظاهره، وإخوتك وبنوك وأبناؤهم يدورون حولك ولا يلحظون وجودك، أنت تجرين جسدك المضني وهو على شفير الأبدية لتقومي بخدمة الرجل زوجك وابنك وبني بنيك وهم ينظرون إليك كجسد بلا روح، كسراج بلا نور، كدماغ جامد خلا من حياة الفكر فلا يشترك معهم بفكر الحياة، عواطفك مجروحة كل يوم يا امرأة الأمس وصبية ما قبله وشيخة اليوم.
فؤادك الذي تمخض بالحب الصادق وولد الإخلاص يموت منفردا على مهد عواطفه، ذلك لأن أباك لم يعلمك غير الطاعة ولم يوجب عليك سوى العفاف، فها أنت الآن نحو بنيك كما أراد أن تكوني معه، أرادك زهرة بلا عطر وجمالا بلا قوة فساعد الطبيعة الكاذبة على فشل نفسك ودماغك فأصبحت آلة تتحرك بقوة واحدة وهي قوة القلب ... ولو أمكن لألفة الأمس أن تميت قلبك لفعلت، ولكن العنصر أو الظلم الذي يقدر أن يميت من المرأة قلبها لم يزل كامنا في عالم المستحيل.
يقدر المرء أن يلاشي ضمير المرأة، يقدر أن يفسد نفسها ويضلل اعتقادها، أما قلبها فهو حي إلى الأبد، ولهذا لأن قلبك لم يزل حيا، لأن عواطفك ما برحت بكل شدتها كامنة في قلب لا يجسر أن ينبض، ومستترة وراء نفس لم يصقلها التفكر والعلم؛ لهذا أنت معذبة بحبك يا شيخة الوطن ومربية بنيه، من أجل قليل من العلم الإنساني السطحي ومعرفة الاصطلاحات البشرية المتقلبة، من أجل هذه الصلات التي قطعها الرجل بينك وبين الألفة؛ أصبحت مفروزة حتى عن أعز الكائنات لديك ... عن ابنك!
أما أنا أيتها الشيخة المعذبة، أنا الشاعر الذي يعلم نقص ما يعلم وضلال الإنسانية بما تريد أن تعلم، أنا الذي يتساوى عندي الإخلاص فأشعر به بين العلم والتهذيب، كما لا يحتجب عن بصيرتي وراء ليل الجهل وستار الهمجية، أقف أمامك ولا أرى منك غير قلبك فأحني أمامه الرأس إجلالا، وأستميحك عفوا عن رجال أضلوك وماتوا، وعن شبيبة تغتر بهذا الجهل المصقول الذي تحسبه علما فتحتقر كل من لا يعلم، أقبل يدك التي هزت السرير مربية للوطن رجالا كنت لهم أما، وإذ أنت مختلفة عنهم معرفة أصبحت لهم أمة ... تممي السير على طريق حياتك إلى النهاية، ارفعي رأسك إلى ما فوق؛ لأنك لم تنفعي الوطن بحبك وعملك فقط؛ بل تجودين عليه أيضا من تعاستك بأمثولة رائعة تتعلمها بناتك منك؛ لأنهن لم يفقدن الأمل كما فقدته أنت ... واغفري لهذا القلم الذي يشتغل لنفع بلاده، اغفري له دخوله إلى قلبك المعذب ليخرج منه ما كتب، وقد يغتفر للطبيب تشريحه جثة باردة ليستفيد من الأدواء التي قضت عليها معرفة تداوي بها الأحياء!
وأنت يا امرأة اليوم أيتها العقيلة والأم، أنت الملاصقة للألفة ملاصقة تجعل لها عليك حقوقا مقدسة، أنت الواقفة موقف العمل في ميدانك الرحب في هذه الفوضى التي تثيرها عليك عواطفك من الداخل وآراء الناس من الخارج، اسمحي لهذا القلم أن يجول قليلا حول قلبك، ولا تخافي منه؛ لأنه لا يبضع إلا مكان الألم، ولا يخرج غير الدم الأسود الفاسد، وأنت تحفظين في قلبك نقطة سوداء يا امرأة اليوم تشعرين بوجودها، وعبثا تفتشين على مادة تكوينها، فاسمحي أن أخبرك عنها؛ لأن الناظر من بعيد يرى ما لا يراه البصر الملاصق، اسمحي لي أن أكتب عنك شيئا يا أختي فإن أقلام الكتاب كانت ولم تزل حائمة حول موضوع ترقيك وتمجيد مقامك في كل أقطار العالم المتمدن، أما في سوريا فقلما يهتم الكتاب بك، وإذا شاء أحدهم أن يكتب عنك شيئا فأول ما يتبادر إلى رأس قلمه: الفسطان والحلي والقبعة كأنك خشبة بدون قلب وبلا دماغ، لا يرى الناظر إليها غير الأثواب التي تسترها، أما أنا فلا أرى نتائج الأشياء قبل أن أجتهد للوصول إلى مصادرها؛ ولهذا أنظر إلى قلبك، فيا سيدتي من كنت وأيان كنت، على مقعد الحرير أو على الحجر القاسي، ابنة المثري أو ابنة الفقير، أنت دعامة التهذيب في الوطن، وما أشد حاجة الوطن إلى تهذيب رجاله! أنت نقطة الدائرة في كل أمنية تجول بأفكارنا، وأنت النتيجة التي يرمي إليها الكون بحركته المستمرة، فإن تصبب عرق على الأرض فمن أجلك يرتوي التراب، وإن سالت الدماء في كل مطلب فمن أجلك تسيل الدماء، إن وجد قاتل وسارق فذلك من نتائج سطوتك، وإن قام مصلح وارتفع عظيم فذلك من أغراضك ووحي المكارم عن مهبط قلبك.
ضعي أيتها المرأة يدك على قلبك، فهو يخبرك بما تتوه فيه الأقلام من حقيقة أهميتك في الوجود، وارجعي ملقية معي نظرة المتأمل في الوسط الذي يحتاطك؛ لنرى إذا كنت تقومين بما تنتظره منك الأنظار الشاخصة إلى تقدم البلاد. «أنت كزوجة»، رابطة الزواج ودعامته واحدة، الحب، فهل أنت تحبين زوجك أيتها الامرأة السورية؟
لو كنت مضطرة للجواب على سؤالي بصوت عال يسمعه الكل لقلت بلا أقل تردد: نعم، ولكن جوابك سيخرج من قلبك فلا تسمعه غير نفسك، وأنا على يقين بأن هذا القلب يدفع كلمة: لا، وهو يخفق ضعيفا بين الخوف والرجاء.
ذلك لأن الحب نفسه له رئتان وقلب، له هواء يتنفسه ودماء تحييه، له الثقة مقام الدم، والاعتبار مقام الهواء، وأنت لا تعتبرين زوجك يا امرأة سوريا بل تخافين منه، أنت على غير ثقة من وحدانية أمياله، ولهذا قد أصبحت ثقتك تظاهرا كاذبا كتبت العبودية عليه عنوان الرياء، في كل بلاد الله حيث بقيت الألفة على طرزها القديم، وحيث قطعت مرحلة التطآل إلى الأمام وارتكزت على نظام معروف، نجد النسا على حال يخولهن حق النظر إلى القلب واتباع عواطفه، أما هنا حيث يقوم الجهاد بالحياة دون نظام ودون أقل ترتيب اقتصادي، حيث التاجر يكون صانعا والصانع تاجرا، الشاعر ماسك دفاتر والتاجر صاحب جريدة، حيث يندفع الكل إلى الأمام ويتقهقر الكل إلى الوراء، هنا، قد استتب التقلقل والاختلال حتى ضاعت سعة العيش لدينا وأصبح الغني فينا يئن من وطأة الفقر ويشكو الضيق والمسكنة، فأصبح الرجل لا يتبع أمياله بالعمل وكلنا نعمل بلا لذة.
الرجل يخلق وفي أقصى عواطفه ميل خاص يجب أن يكون أساسا لأعماله، وفي نفوس أبناء سوريا نجد أثر تلك العاطفة أشد منها في نفوس كل الشعوب، ومن أجل هذا نرى الشقاء ضاربا أطنابه ما بيننا؛ ذلك لأن ألفتنا خرجت عن نظامها القديم ولم يتسن لها الدخول بنظام جديد يلائمها، فأصبح رجالنا كلهم بلا مركز حقيقي كأعضاء مختلفة عن مركزها، تتألم ولا تجد للوصول إلى محجتها سبيلا، وإذ نحن على ما وصفت، فمن البديهي أن نراك مدفوعة كالرجل بقوة الضرورة وضغط الاختلال إلى دوس عواطفك وسماع صوت الفكر الحاسب دون نداء القلب المحب، أنت يا امرأة سوريا فتشت على رجلك، وهتاف الحاجة وضرورة الألفة يملي عليك كما يفتش هو على إعلاء شأنه بالمادة خانقا صوت موهبته دائسا على الاستعداد الذي أصبح لديه مورد عذاب، بدل أن يكون مورد اللذة والسعادة، أجيبي يا امرأة سوريا، ألم تكن الأساور والأقراط قائمة مقام كنز الحب يوم زواجك؟ أما كنت مخيرة بين شاب فقير وكهل غني فارتعش قلبك المحب أمام اللذة والاحتياج فارتاح دماغك المفكر أمام الضحية والسعة؟ ... أليس أن جسمك كان يتنعم على الحرير، وقلبك جريح يرسل قطرات الدم فلا يراها غير الله؟
ارجعي معي إلى الوراء يا زهرة سوريا وتذكري جهاد الصبا وضغط التمدن والحاجة على روح الطبيعة وقوى الوجدان، افتكري بحالة نفسك من قبل وقابلي بينها وبين حالة اليوم، وأخبريني إذا كان صرح سعادتك لا يتزعزع بين عواصف الحياة وهو مرتكز على أساس متقلقل، أخبريني إذا كانت الأيام تمكنت من محو سوء التفاهم الذي وجد منذ البدء بينك وبين الذي تستندين على ذراعه، تبصري مليا وأخبريني عن ماهية الرابطة التي تضم ذاتك مع ذات بعلك، وإن كنت تضيعين في مهامه عواطفك فاسمحي أن أسألك هذا السؤال: افترضي أن جنح المسكنة والشقا تدلى من عالم الغيب مرفرفا فوق بيتك، افترضي أن زوجك يبيع حلاك وقد تعرى كل شيء حولك من كل لامع يبهر وثمين يعجب، فهل تجدين مقام المفقود شيئا؟ ألا تنادين إذ ذاك بالويل والثبور؟ ألا تنظرين إلى زوجك نظرة الاحتقار والبغض؟ نعم يا أختي، إن الفقر الذي لا يولد من طبيعته غير ضيقة وتعب في القلوب المحبة، لا يمكنه إلا التربع على قلبك الخالي من الحب ومن حوله كل جند الشقا والحرب والويل، وليس ذلك من لؤم في طبعك كما يخال لذوي الأفكار السطحية، ليس ذلك من فساد بروحك أيتها الكائنة المعذبة؛ بل هي نتيجة الأشياء وضرورة النتائج المماثلة لمباديها.
انظري إلى المؤمن بالله حينما تتوالى عليه ضربات الزمان كيف يستغني عن المحسوس بتلك القوة الكامنة كحبة الخردل في قلبه؛ لتعطيه الحرارة في بارد الدهر، وتنمو بالأمل القوي على تربة اليأس وقطع الرجاء، رددي إبصارك على الملحد الذي تملأ قلبه الآمال بما يرى، تأملي بحاله وهو ساقط تحت خسارة جزئية، وانظري إلى قنوطه وهو أمر الدمع المتساقطة من جفنيه! تأملي قليلا بهذين الحالين تجدي حلا لما يتعجب منه الناس فيك.
الحب إذا الزواج كالإيمان أمام الدهر، وكما أن الملحد لا يشعر بنقص في وجدانه ما دامت السعة تحتاطه والراحة تجول حوله، هكذا أنت أيتها المرأة لا تشعرين بغياب الحب إلهك الثاني إلا حينما تسقط كبرياؤك مع مجالي الأبهة التي تعشقينها؛ لأنها وجدت قلبك خاليا من ملاك الحب فسطت عليه.
أيام السعة والبذخ تحبين زوجك أو بالحري تتناسين برودة قلبك نحوه، ويوم الشدة والضيق تطلبين الاستناد إلى ما يفوق الطبيعة، تريدين الالتجا إلى إله الزواج وتفتشين عليه فلا تجدينه، حينئذ عند إقدام الكبرياء الجريحة والأباطيل الممزقة لدى الأقراط المباعة والأساور المفقودة، تضعين يدك على قلبك فتشعرين بأنه ميت كالجنين المنتن في أحشاء أمه! علاقتك بالرجل مادية محضة يا امرأة سوريا، وليست علاقته بك بأشرف من هذه ... أنت تدفنين القلب في رموس الأمجاد الباطلة، أما هو فيجتهد أن يقيم قلبه من الموت بقوة الجمال، ويبعث نفسه الراقدة على مضجع السكون بقوة الزخرفة وطلاء الشخص المحبوب، أنت لا تبغضينه؛ لأنه يخدم فيك ضعف الأنثى ودلالها، وهو يحبك؛ لأنك آلة لهوه وملجأ جسده المتعب من جهاد الحياة.
أهذا الذي جمعه الله كيلا يفرقه إنسان؟ أهذا هو الاتحاد الذي يجب أن يسمو على المادة ويهزأ بالمسكنة والألم والشقاء؟
لله ما أشد ضغط المادة على الروح، وما أثقل الإنسان على نسمة الأزل التي تحييه!
لا أعلم من أنت يا من تقرئين هذه السطور، لا أعلم ما هي طبقة نفسك ولا ماهية معارفك من العلوم البشرية، لا أعلم إذا كان كلامي يدفع روحك إلى الانحناء على ذاتها والتأمل والاعتبار، ولربما أنت الآن تهزين رأسك بقوة الشك قائلة: «إنني أحب زوجي؛ لأن أساس زواجنا الحب، وما هذه العبارات إلا تخيلات شاعر يرى كل شيء قتاما.»
إذا كان هذا حكمك على ما تقرئين أيتها السيدة؛ فذلك لأنك قد تزوجت شواذا عن القاعدة السورية؛ ذلك لأنك بموقف نادر لا يقاس عليه، أنت صحيح واحد بين ألف مسقوم، وطبيب الأدب يتبع أثر سيده الذي جاء من أجل الأعلاء والمسقومين، اتركي هذه المقالة لسواك، وإن كنت كبيرة النفس في سعادة حبك فاقرأي هذه الكلمات لتردديها على مسامع من حولك ممن يبكين وأنت تتبسمين.
أنت أيتها القارئة التي أكتب لأجلها هذه السطور، يخال لي أن على أجفانك دموعا ماطرة بعد هيجان الزوبعة في قلبك، لقد انحنى رأسك على نهدك المرتفع كالأمواج تحت العاصفة، وسار الدم السوري القوي بشدة في عروقك، وها إن روحك الجريحة تتململ في قيودها وتريد أن تتمرد ...
وقفة أيتها الروح المتمردة: إنني أبضع الجرح لأخرج منه الدماء الفاسدة، لا لأدخل إليه السم ... الزواج هو رأس شرائع البشرية، فلا يمكن قطعه حتى ولو امتلأ صديدا وتقيحت أهم أقسامه، لا يجب أن يقطع الرأس بل يجب أن يدواى، إذا فسدت يد أو رجل من جسم الإنسان فقطعها ينتج الشفاء أما قطع الرأس فوراءه الموت، في البلاد الراقية أو المهمة القفر حيث يسود الألفة نظام مادي مقرر، إذا فسد زواج من بين ألف وقطع، ففي الأمر نظر يحتمل البحث، وللفيلسوف الراقي جبران أفندي خليل جبران حق برفع صوته إذ ذاك، أما هنا في الألفة السورية حيث لا يغرد قلب واحد حتى نسمع الأنين مرتفعا من ألف قلب، حيث لا يوجد زواج واحد بني على الحب حتى ينطح بصرنا ألف زواج دعامته اللؤم والمال والتعصب والجهل، هنا ذلك الرأس الذي يشمل طيه كل الرءوس قد امتلأ صديدا وضربته القروح فما يجب أن نفعل؟
أننادي بما نادى المفتكر الرائع جبران، ونقطع كل الرءوس لتسقط ألفتنا بأسرها على حضيض الفحشاء فيأكلها دود الفساد حيث لا يرجى لها بعث ولا حياة؟
أيتها المرأة إذا كنت قرأت «رواية وردة الهاني» قبل أن تقع أبصارك على هذه السطور، فأول ما يطرأ على فكرك هو الاقتدا بها بكسر قيودك المقدسة والتحرر من ربقة عبوديتك الشريفة، وليست هذه النتيجة التي أريد الوصول إليها؛ لأنني لا أنادي باستعمال دواء هو أشد هولا من العلة، لا أريد أن تكسر السلاسل؛ بل أريد أن أعلم الأسير الباكي كيف يحرك قيوده لتسمعه رنينا مطربا، أنا لا أنادي بهدم السجن الذي قدسته الشريعة ورضي به السجين، ولا أطلب أن أملأ سوريا بأطفال بلا أم وبنساء بلا حياء ... بل أريد أن أقول للمرأة المعذبة بأن في فؤادها ينابيع عواطف لا تنضب، وأنها تقدر أن تخرج منه ما يخفف قيودها ويذهب جدران سجنها، إن فقدت الجنة على الأرض بفقدان الحب، فقد بقي بوسعها أن تحول وادي الدموع إلى مسكن عفاف ووقار، إلى مقر سكينة وسلام.
بكل زواج رفرف عليه الويل وضرب فيه سوس الشقا يوجد ضعف بالثقة والاعتبار أكثر مما يوجد برودة في الحب، وإذا برد الحب فما يحتاج أكثر من نظرة لامعة وكلمة ذائيبة لتدب في ثلجه حرارة الصيف، ولكن إذا زالت الثقة ومات الاعتبار فالطامة كبرى والصعوبة أشد، مركز الحب في العاطفة في القلب، وما أخف قلب الإنسان وأغرب تقلباته، كل سنة كل شهر بل وكل يوم، أما الاعتبار والثقة فمركزهما في نور الوجدان في الفكر في الدماغ في ميزان الأعمال البشرية ومبدأ الضمير الحي، ولهذا لا يمكن أن يوجد حب يثبت بوجه العاصفة ما لم يكن كشجرة عظيمة أصولها في الدماغ وأزهارها في القلب.
فيا امرأة سوريا، إن قلبك خال من الأزهار التي تغطي الحياة؛ لأن أصول شجرة الحب ضعيفة في دماغك، وأفكارك لا ترطبها بذلك السائل الذي لا يكون الإنسان بدونه إنسانا، وهو الإرادة، لقد جار عليك الرجل من وراء جور الوسط الاقتصادي عليه؛ فوضعك موضع الآلة التي لا عقل ولا إرادة لها؛ فرضيت بما أراد، زينك بالأقراط والحلي والفساطين كي يغوي بك الحيوان الذي يلذ به، ويميت روحك اللطيفة التي لم يتعلم أن يفهمها بعد، رضيت بهذا الهوان، ولم يقم أحد ليناديك بأن الرجل أضلك، وأنت مسرورة بالضلال كالشارب من المبرد ينهل من دمه ولا يرتوي.
لو كنت أنا من جنسك وكنت عقيلة ذات بعل وأتاني الرجل بالملابس الفاخرة والحلي الثمينة ليجمل بها جسدي، لو رأيت بعينه بريقا حين لبسي لهذه الحلي، ولم يكن هذا اللمعان من قبل لرميت الفسطان بوجه الرجل وقلت له: «اذهب فأنت تحب جسدي فقط، وأنا لي قلب تجول فيه الروح، وأنت تحتقر روحي كأنني حيوان ...»
إذا كان الرجل يتعامى عن نفس المرأة ولا يريد أن يرى بها غير لذة جسمه، أفليس من واجبات المرأة أن تعلن قوة تلك النفس بالصبر والثبات والتعقل واحتقار الأمجاد الكاذبة، إذا كانت المرأة بكل ظرف وحالة تبرهن للرجل عن تعلقها بالزخرفة وتحول عاطفتها إلى كل ما هو لامع وكاذب، أفلا يعذر الرجل إذ ذاك إذا حسب الجنس اللطيف في بيته إناء أو رياشا وضع للزخرفة والتبرج؟ أنت يا امرأة سوريا تشكين من رجلك أمرين؛ أولهما: عدم اندغام نفسه بنفسك، والثاني: كسره لقيود الأمانة وهو يشددها عليك، تشكين منه وتبكين، وقد عمدت إلى مداواة العلة مرارا فلم ينجع الدواء، لماذا؟ ذلك لأنك ضللت بتشخيص العلة ولم يسدد نظرك لمعرفة مركزها.
تريدين أن تدغمي روحك بروحه؛ فتعمدين إلى التزلف إليه بالدلال والغنج، وقد غرب عنك أن زمان التوله قد مضى وقضت روحه مع أحلام الشبيبة المتوارية وراء العمر، يخال لك أن التحبب يولد اندغام الروح، فأنت على ضلال بظنك، وأنا أقول لك بأنك كلما تحببت إلى زوجك بالدلال فإنما أنت تزيدين اقتراب جسمه لجسمك، وتمددين المجال الذي يفصل عاطفتك عن عاطفته، فاتحة هوة هائلة بين روحه وروحك.
اعلمي يا أختي بأن أرواح البشر متماثلة من حيث الجوهر فقط، وهي تختلف بعاطفتها من حيث القوى التي تربحها في جهاد الحياة، وما الدنيا إلا مدرسة النفوس تمر بها أشباحا لتخرج من الباب الأخير، وفي نفس كل منا ما انطبع عليها وكون ذاتيتها، النفوس مخلوقة في الأزل لحياة الأرض، والأرض تخلقها خلقا جديدا للأبدية، ومن أجل هذا نجد الأرواح المترامية بالأجساد على هاوية القبر تسير كلها بالحياة على نسق واحد من حيث المادة، ولكنها تنقسم إلى ما لا نهاية له من حيث الداخليات المكونة وسم النفس، فمنها من تتلائم لبلوغها درجة متشابهة فتتفاهم، ومنها من تلتقي بالمادة وبينها وبين رفيقتها بون عظيم من حيث الداخليات، فتتدافع بخشونة وألم فلا يمكن لها أن تتفاهم.
وهذا التدافع والانضمام نشاهده بكل مظاهره بين رجل ورجل، ولكنه أشد وضوحا وأكبر مفعولا بين الرجل والمرأة، ذلك لأن نفس المرأة وإن تكن من المصدر الذي خرجت منه نفس الرجل فهما مختلفان بالنوع، وإن توحدتا بالجنس، ليست الامرأة أنثى بالجسد فقط، فهي امرأة بنفسها أيضا، وليس الرجل ذكرا بجسده فقط، فهو بنفسه أيضا، ويتضح هذا من اهتزاز روحين يقتربان إلى بعضهما بقوة الحب الجنسي قبل أن تنتبه في الجسد قوة الجنس الحيواني، فإن الاضطراب الذي يشعر به اليافع حين اتحاد روحه بروح من يهوى، لهو مخالف بالنوع عن الاضطراب الذي يهز نفسه عند لقيا الصديق، فمع هذا يشعر بارتياح الشيء إلى مماثله، ومع تلك تشعر الروح (الرجل) الإيجابية بانجذاب للروح (المرأة) السلبية؛ فتتولد قوة التجاذب من انضمام مختلفتين.
ولولا كون الرجل رجلا أبديا بروحه، والمرأة امرأة بروحها الأبدية؛ لكان اختلاف الجنس محصورا بالجسد الترابي فقط، وخلت الأرض من ذلك الانعطاف المتين العرى الذي لا يمكن أن يتولد عن غير التجاذب في الأنفس المختلفة جنسا والمتلائمة عاطفة.
حب الحيوان يتولد عن وجوب التناسل الأرضي فهو زائل، الحيوان يحب بفصول معلومة من السنة أي شبيه له جمعته به الصدفة، فميله الغريزي بالمادة أقوى من إرادته، أما الإنسان فحر بعاطفته لا تحكمه ظروف ولا تقيده فصول، لا يحكم الجسم على روحه بأميالها؛ لأن الإنسان خلق وفي ذاته قوتان؛ قوة حب الجسد لتنازع البقا وإبقاء النوع، وقوة حب النفس بترقية النفس للأبد بالعواطف السامية، ولهذا لا بد لكل إنسان أن يشعر بأن في عاطفته حبين؛ حب للأرض، وحب للسماء.
أخاف أن أتعب دماغك يا امرأة سوريا بهذه الفلسفة المتعبة، وكنت أحب أن أقرر مبدئي هذا بالمقدمات والنتائج الطويلة، ولكن يكفي الآن أنني أوضحت لك وجود حبين في هذه الحياة، ولو كنت أخاطب الرجل لكنت لا أرى بدا من الاستناد على الحقائق العلمية، أما أنت فيكفيني لإقناعك أن تناجي قلبك المركب من تراب ومن روح، فيقول لك إنه أحب بالروح مرة ولم يسلم من حب الجسد أحيانا.
وإذا أنت على ثقة من وجود هذين الحبين فاسمحي لي أن أسألك عن ماهية الحب الذي يربطك بزوجك.
اسمحي أن أجاوب عنك، وهذا الجواب هو الجرح المؤلم الذي سيخرج نقطة الدم السوداء الكامنة في قلبك.
إن رابطة زواجك على ما هي لهي أدنى رتبة من رابطة الاتحاد الذي يقرب الحيوان لحفظ النوع، الحيوان يتبع البداهة وهي شريعته فهو يتبعها، أما الإنسان فشريعته غير هذه، ومع ذلك فهو يقتبس بداهة الحيوان، ولا يكفي بأخذها على ما هي بل يدفعها إلى أبعد انحطاط بإدخال التجارة عليها؛ لأن من بين مخلوقات الله كلها لا يوجد غير الإنسان تاجرا ومضاربا ومحتكرا؛ لبعد المحجة التي تصل إليها أنانيته، فالزواج الخالي من اتحاد الروحين لهو أسقط من اتحاد الحيوان لكونه لا يرتكز على حب الجسد للجسد فقط؛ بل يرسو أيضا على حب الأمجاد الباطلة والزخرفة والتبرج والطمع والكسل وكل معائب البشر وسفالاتهم، هو مدعوم بفساد في الرجل من جهة، وبزخارف المرأة وأنانيتها الكاذبة من جهة أخرى.
الرجل يجود بماله لينعم جسده بقتل روحه، والمرأة تجود بجسدها بالتدليس والمراوغة قاتلة عواطفها، إذا وجد الرجل برودة في حب شريكته فهو يعمد إلى الأطالس والحلي مقويا بذلك شر المرأة وضلالها، وهي إذا لحظت منه فتورا تسرف بالدلال وتبذر بالخلاعة، مفتكرة أنها تداوي الرجل فتزيده ولوعا بالتهتك وتقتل نفسه بالتدريج، حتى يصل الزوجان إلى درجة لا يظنان بها أن لهما نفسا ...
أغلب الزيجات السورية منضمة بقوة الجمال مقدسة بشريعة المال، وما بين هاتين القوتين لقد أصبح الزواج الشقي كسفينة محطمة، تحمل العائلات التعيسة لتقلبها على أمواج الغنى والفقر تحت رحمة الزوابع وإعصار الجمال وفقدانه.
أيتها العائلات السورية ما أتعس داخليتك! حرب الاقتصاد المنهك القوى من الخارج، وفي قلبك حرب الحيوان الذي يقتل الروح ويقضي على مبدأ التعزية الوحيد للإنسان، قلت لك يا امرأة سوريا بأنك تشكين من زوجك أمرين؛ الأول: عدم اندغام نفسه بنفسك، والثاني: كسره لقيود الأمانة وهو يشددها عليك، وقد بحثت بهذا الداء الأخير بحثا وافيا بفصل خاص هو «الخائن والخائنة»، ووجهت كلامي به للرجل؛ لأنه مخطئ بظن نتج عنه كل ضلاله، فحاولت إقناعه بالبراهين القاطعة ليصلح نفسه، أما الداء الأول فهو متأت عن خطإ مزدوج يقترفه الزوج والزوجة معا، ولو تمعنا مليا لوجدنا جرثومة هذا الخطإ متأصلة بالأكثر في قلب المرأة وعواطفها، ولهذا اسمحي لي أيتها العقيلة أن أوجه كلامي إليك.
لقد بينت لك السبب الذي تتألف منه النفوس وتندغم به الأرواح لتتفاهم، وأظهرت لك ضلال السبيل الذي تسيرين عليه، وضرر الدواء الذي تستعملينه لشفاء العلة، وها أنا ذا أكرر لديك القول بعبث محاولة الجسد أن يكتسب محبة الروح، أنت تحسبين بالتبرج والزينة قوة تحول إليك عواطف الرجل، فتعمدين إلى الملابس المتنوعة الأشكال التي تأتيك عن موض أوروبا وأنت لا تعلمين مصدرها الأصلي، وأنا أقول لك بأن هذه الأنواع بالملبس المكشوف الذي تحاول النساء به ضمور البطن وبروز الصدر وتضخم الردف، إنما هي موض تمخض بها دماغ المتهتكات، فطبقن الأزياء على نتائج أمور أجل العقائل عن إدراكها ... وقد رأت نساء العالم المتمدن هذه الأزياء ورأين رهطا من الرجال يتبعون لابساتها، فخيل لهن أن الجاذب للثوب والقوة للزي؛ فلبسن مثل هذه الأزياء ولم يعلمن ما وراء الأكمة من الخفايا الهائلة، وأنت يا امرأة الوطن رأيت هذه الملابس فأعجبتك؛ لأن في قلبك الساذج مبدأ حب السطوة بالحب، وقد ضللت بتحسينك الجسد دون الروح، ضللت لأنك تريدين مخاصمة العاهرة وهي من هذه الحيثية أقوى منك، فمهما بالغت بتقليدها فإنما أنت تقلدين ملابسها فقط، ولا يمكن لك أن تقلدي المبدأ السافل الذي أوحى هذه الملابس في هذا العصر الفاسد، الذي ضلت به المرأة من جور الرجل، وأمست المرأة الضالة شبكة هائلة له لم يبق من دواء لحفظ عفاف الرجل سوى غلبة المرأة الفاضلة وانتصارها على المرأة الساقطة، فاعلمي أيتها السيدة بأن زوجك معرض بكل يوم لقوة عدوتك، وأول واجب عليك هو الانتصار عليها، ولكن كيف يجب أن تحاربي؟
احترزي محاربة عدوتك بسلاحها؛ فإنك مهما بالغت بالتشبه لا لا تصلين إلى مناهضتها، ويوم تصل قوتك إلى درجة قوتها ففي ذلك الحين تصبحين مثلها وتمتنع عليك وحدة الحب؛ فيتحول مهد العائلة إلى جحيم دائم ...
حولي كل قواك إلى استعمال سلاح الروح، فإنه الضربة القاضية على عدوتك التي ماتت روحها وتحول جمال نفسها إلى زخرفة باطلة.
اتركي زوجك يشعر بقوة غالبة فيك تنبعث عن نفسك كما تنبعث أشعة الحياة من نور الشمس المشرقة، تعلمي أن تقاومي الشدة باللين، والقساوة بالحنان، والتوحش باللطف، تعودي أن تناهضي الكذب بالصدق، والرياء بحرية الضمير، واعلمي بأن المشترع العظيم لما نادى بهذه الحكمة السامية قائلا: من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، اعلمي بأن ذلك الفادي العارف بخفايا القلب البشري لم يطلب من الإنسان إلا ما يعزز الإنسانية، أراد أن يقاوم الشر بالخير لا أن تداوى الجراح بالجراح والفاسد بأفسد منه.
إذا خانك زوجك فأول ما يخطر على بالك أن تخونيه أيتها الامرأة، وما أنت إذ ذاك إلا خائنة نفسك، أنت منتقمة ولست مصلحة، إذا جار عليك فأول ما يعن على بالك أن تنادي بالويل والثبور؛ فتحاربينه بسلاح الفجور، وكل خطوة يخطوها زوجك نحو الهوة تسبقينه أنت بمثلها إلى قعر الهاوية.
لا تتمردي أيتها العقيلة، لا تقولي إنني ظالم بما أطلب، ارجعي إلى وجدانك واسمعي فهو يناديك بما أخاطبك به الآن.
إذا كان إصلاح الفتاة موكول إلى ضمير أبيها، إذا كانت تربية نساء الغد ملقاة على عاتق رجل اليوم، فإصلاح رجل اليوم لهو من واجب امرأته، الرجل يربي الطفلة ويوحي المكارم إلى قلب الغادة، ولكن حين تصبح الغادة عقيلة فأول واجباتها ترقية عواطف الرجل؛ لأن الرجل أشد التصاقا بالمادة منها، هو يجاهد في ألفة سوريا الضالة، ولهذا فهو أقرب إلى الفساد لبعده عن العاطفة المجردة، إذا وجدت ابنة ضالة فاحكم بضلال أبيها، ولكنني كلما رأيت رجلا فاسدا فأول ما يخطر على أحكامي ضعف في روح زوجته ووهن في عواطفها.
نعم أيتها المرأة أنت مطالبة بإصلاح زوجك، إذا كان الرجل رأس المرأة فالمرأة أعظم من الرأس؛ لأنها روح الرجل التي توحي إليه بالمكارم والانحطاط دورا فدورا ... وروحك إن لم تكن ساقطة إلى آخر أدوار السقوط، فهي دائما أرقى من نفس الرجل؛ لأن أبواب الفساد كثيرة أمامه وأنت لا هاوية إلا هاوية التبرج والولوع بالجمال الزائل أمامك، أنت أقرب منه إلى نفسك؛ لأن الرجل ملاصق في كل يوم للأباطيل يمشي في هذه الحياة مجاهدا في سبيل رزقه والكبرياء وحب التحكم والكذب والسرقة والاحتيال والخداع، كلها تتبعه كجند الويل في معترك تنازع البقاء الذي جعله التمدن أشد وقعا على النفوس من معترك الأسنة والصفاح.
بينما يكون الرجل تائها في مهامه وأعماله، وضغط المادة يلاشي بالتدريج عظمة وجدانه، تكونين أنت أيتها الامرأة راكعة إلى جانب السرير تقوين روحك من لمعات العالم الأعلى الذي يتجلى أمامك مجردا من بين أهداب طفلك الشاخص إلى الحياة بكل مجد النفس وعفافها.
بينما يكون الرجل عاملا بتجارته لاحتكار لقمة الخبر التي ينبتها أخوه من الأرض بعرق جبينه، بينما يكون مدفوعا بقوة الحاجة والتطلب سائرا بالظلم إلى البطر وبحمل الويل إلى الاختلاس والكفر، تكونين أنت أيتها المرأة تعدين بيتك لاستقبال ضنك الرجل وتحويله إلى راحة لاستقبال ظلمه وتحويله إلى حنان وشفقة، لاستقبال كفره وتحويله إلى إيمان بين يديك وعلى شفاه ملائكة البشر وهم الأطفال ...
بينما يكون الرجل سائرا في عرض الفلاة وعلى صفحات البحار يشحذ البتار ويملئ المدافع من سواد قلبه ليطلقها على إخوته مع نار شره، تكونين أنت أيتها المرأة جالسة إلى سرير الجريح ضامدة جراحه بيدك، ولفتات الحنان تسيل من مقلتيك مبرهنة له بانحصار الإنسانية فيك، وأن الله خلقك هيكلا تتجلى به روحه للإنسان حينما يعميه الضلال، أنت إذ ذاك تقولين له: «إذا كانت يد الرجل تضرب، فيد المرأة تعرف أن تشفي، إذا كانت قساوة الرجل تلقي العار على الإنسانية، فحنان المرأة يشتري ذلك العار ويرفعه عنها، إذا كان ضلال الرجل وظلمه يقودان إلى الكفر، فتضحية المرأة وعذوبة روحها يثبتان وجود الله.»
هذه أنت أيتها المرأة فاعرفي من أنت، لقد قيل عنك أيتها المرأة بأنك أفقدت الرجل جنة الخلد منذ البدء، فمن ترى يثبت لنا هذه القصة المحجوبة حقيقتها وراء الأعصار الخالية ... أنا لا أرجع ثمانية آلاف سنة إلى الوراء لأعرف ما هو مقام المرأة إزاء الرجل؛ بل أدير أنظاري إلى ما حولي فأتأكد بأن المرأة هي تلك الحلقة الذهبية التي تربط الرجل بما فوق، وهي إذا فسدت حلقة حديدية تربطه في اللجة، أعلم بأن المرأة كائن تقيده الأرض بالرجل، وروحه تجول قبل الموت في عوالم بعد الموت، أعلم بأن روح الرجل تغشيها كثافة المادة أكثر من روح المرأة، وأنه إذا صعب على الرجل أن يرقي امرأة فاسدة لطبقة نفسه، فليس بالصعب على المرأة الراقية أن ترفع روح الرجل الدنسة إلى طبقة روحها.
كلمة إخلاص حقيقية خارجة من صميم قلب المرأة، ونسمة مجد تهب من روحها تقدر أن تدفع روح الرجل المتأخرة إلى الطبقات العلوية التي سمح للأرواح أن تتسنمها على هذه الأرض.
الرجل لا يمكنه أن يفسد امرأة فاضلة ويجرها إلى السقوط ما لم يستعن بقوة الجن ويمضي السنين الطوال معالجة بالاسترحام والقسوة، وهو بعد العناء الشديد لا يكفل لنفسه نجاحا بقصده السافل.
أما الرجل فمهما زاد فضله وارتقت نفسه، فهو أقل مقاومة للشر من المرأة، لفتة فاحشة تضرم النار في قلبه، حركة نهد واهتزاز ردف تدفع نفسه إلى شفير الهاوية.
سطوتك عظيمة أيتها المرأة؛ لأن نفسك أقوى من نفس الرجل، وسلطتك تتبعه من جنب سريره حتى ما وراء قبره وتلازمه في عالم الأرواح وفي الخلود.
إذا كانت روحك وروح زوجك لا تتفاهمان، فذلك لأن كل روح تجول بطبقتها وحدها فهو يئن منك وأنت تبكين منه.
إذا كنت تشعرين بأن زوجك أدنى منك طبقة وأقرب إلى المادة، فانزلي معه إلى طبقته، وبعد أن تتملك يداك بقلبه انشري جناح روحك أيتها الملاك وارتفعي مع قبضة التراب الزائلة إلى طبقة الحب الخالد الذي لا يزول، تدرجي به رويدا إلى حيث يصبح الحب عبادة والعطف تقديسا، وحينئذ انظري إلى نتيجة جهادك وضعي يدك على قلبك فيناجيك بكل أسرار الحب وأمجاده، فإن المرأة تحب الرجل الراقي ولكنها تعبد الرجل الذي صار بفضلها راقيا.
وإذا كنت أيتها المرأة منتفخة بالكبرياء، وحب التبرج قاتل نفسك، فاعلمي بأنك عبدة أميالك أولا وعبدة الذي يتبع تلك الأميال ثانيا، اعلمي بأنك ما دمت أسيرة هذه السفاسف فلست امرأة؛ بل أنت حيوان ضال يسير إلى الهاوية ومعه كل ما يحمل، أيتها المرأة أنا لم أجد كائنا حكمته الأميال وتمكن من الحكم، كل نفس تضغط عليها المادة لا يمكن لها أن تصلح ذاتها، فكيف تقدر على إصلاح السوي؟ إن الذي لا يحكم على نفسه فهو مخلوق للعبودية، إذا كنت لا تحتقرين الخاتم والفسطان فكيف تريدين أن تنجلي روحك ليعبدها الرجل؟ إذا كنت ترين كل جمالك بجسدك وتحولين كل قواك للتسلط بهذا الجمال، فالرجل يحب هذا الجسد الذي تحصرين به جمالك، ولكنه لا يتعلق بك ولا يفهم أن لك ذاتا مستقلة، المرأة التي لا تجد بذاتها غير طرف كحيل وخصر نحيل وثغر بسام تقدمها لزوجها، فلتكن على ثقة بأن هذا الزوج سيخونها بأول فرصة تنفرج لديه، أيتها المرأة افهمي جيدا ما أقول: جمال الجسد يجذب الجسد إلى كل جمال مشابه به فكلما قدمت لرجلك تحسينا جديدا تنفتح قابليته فيركض وراء كل حسن أينما وجده، المادة لا تشبع ... الذوق الترابي متشعب إلى ما لا نهاية له، وأعصاره تهب من حيث لا ندري ... جمال الجسد يسكر ويزول، أما جمال الروح فيؤثر على الروح، والنفس المحبة إذا فهمت كيف تسطو على نفس من تحب فهي تعطيها السعادة وتربطها إلى الأبد ...
الرجل يمكن أن يحفظ عاطفة الصداقة لخمسين رجل مثله برتبة واحدة؛ لأن الأرواح متشابهة بهم نوعا وجنسا، والمرأة يمكن لها ما يمكن للرجل من تعدد الصديقات، أما الحب المتأصل ما بين نفس رجل ونفس امرأة تتفاهمان، فذلك حب لا يقبل شركا؛ لأن السلب والإيجاب من أصل واحد يندغمان اندغاما لا يقبل الانفصال، وكما أن التعقل الواحد لا يمكن له أن ينتج إرادتين مختلفتين هكذا، لا يمكن لروح الرجل أن تحب امرأتين، وكما أن الإرادة الواحدة لا يمكن أن تنقسم لتعقلين مختلفين هكذا المرأة لا يمكن لها أن تحب أكثر من رجل واحد.
أنت مخيرة أيتها المرأة بين حب الجسد وحب الروح، وكل حب مرتكز على الجمال وقد عرفت ماهية الجمالين فادفعي إلى الارتقاء أيهما تشائين، قوي عواطفك كل يوم بالتدرب على كل ما هو رحمة وحنان ومغفرة ونكران ذات، ترفعي عن السفاسف والحدة التي تعلن ضعف العقل، فلا يطول حتى تري نفسك محلقة في فضاء جديد يمدك بقوة عجيبة، تشدد روحك إلى رفع كل من حولك لطبقتها، فيسود التفاهم بينك وبين رجلك وتكون العائلة مديونة لك بسعادتها.
أيتها السيدة لا تعترضي علي مدعية بأن زوجك بالغ درجة من التقهقر تتلاشى عندها كل محاولة سامية، أنا أعلم بأن الخير أصل؛ لأنه أزلي، والشر طارئ حوال لأنه عارض لا كيان له بذاته، ولهذا لا يمكن أن نجد على الأرض كائنا نزع منه مبدأ الخير إلى النهاية، فتشي عن أسباب الشر في رجلك، اطمحي إلى معرفة مبدأ الشقا ولا تتلهي بالبكاء على نتائجه فقط، ليس الشر إلا مصيبة على عاتق الشرير تتمرر روحه من حملها، ليس سكير إلا ويتحرق بعد سكره، ليس محب للتهتك إلا ويسطو عليه خمود تتألم الروح منه حين يتلاشى الشبق بعد جهاد الأجسام، ليس سارق إلا ويود ألا يكون كذلك، ليس قاتل إلا وترتجف روحه طي جسده المتعب، ليس متكبر إلا ونفسه تتمرر من حمل كبريائه.
كل شر في الإنسان له حالتان؛ حالة الهياج وحالة الوهن والهمود.
لم يذكر لنا التاريخ رجلا أعظم شرا من نيرون العاتي، وكان هذا الرجل مع كل شره في حياته المملوءة بالمظالم والمغموسة بالدماء ينطرح أحيانا باكيا عند أقدام العرش، وفي نفسه كل المصائب التي كان يلقيها على كاهل الشعب بالعبودية والموت، فلو وجدت في تلك الفترات نفس سلبية راقية، نفس امرأة تعرف كيف ترقي الأرواح المنحطة إلى طبقتها لتحولت صفحة التاريخ السوداء التي تختم ملك الرومان إلى صفحة أمجاد وعظمة وارتقاء.
في مثل هذه الفترات يجب أن تتجلى روحك بكل عظمتها أيتها المرأة، لا تحاولي إصلاح زوجك وهو ثامل بشره؛ لأن مثل هذا الإصلاح يستوجب العنف والصرامة، وأنت إذ تحاولين الحصول على هاتين الصفتين لا تبلغين القوة اللازمة لمعارضة الرجل، بل تفقدين قوة عذوبتك وشدة روحك، انتظري حتى تسقط الزوبعة وحين يسطو الهمود على زوجك بمفعول رد الفعل، تقدمي حينئذ وأظهري النصح بلا تعنيف، تأسفي معه على سقوطه ولا ترمي خطيته بوجهه كفساد لا يزول؛ لأن كبرياء الرجل منتبهة دائما لتعضد كل ما يأتيه حتى الشر، فإذا جرحت هذا القسم من محبة الذات البشرية، يتحول ندم الرجل إلى عنف وصلف، ويبدأ أن يبرهن لك عن صلاح الشر فيصير الأسود أبيض ويحول الحسن إلى قبيح، وهكذا لا يلبث أن يقنع نفسه بالحجة التي يدافع بها فيدخل الشر إلى روحه ويتأصل بها فلا يزول، إذا كان الضلال خطأ في زوجك فلا تحوليه بتعنيفك إلى صفة ملازمة ... كوني حكيمة وارفعي الوهن والزيغان من روحك أولا، وحينئذ كل كلمة تنطقين بها يكون لها دوي في نفس من يسمعها، إن هذه العوالم السابحة في الفضاء بنظام أبدي لهي محركة بقوة روح واحدة، تنبعث عنها كل الأرواح المستقلة إلى أمد، وليست القوى المادية إلا مظهرا أو خيالا لإرادة تلك الروح السامية التي بدونها لم يكن شيء مما هو كائن.
فاجتهدي أيتها المرأة أن ترقي نفسك إلى الأوج الأعلى لتلامس قوى الروح الأولى فتصبح قوتك مطلقة وإرادتك صالحة واجبة الإتمام على كل من يشعر بها.
أيتها المرأة اعلمي بأن التفاهم هو الذي يولد الحب الأكيد ولا يخال لك بأن الحب هو أصل التفاهم، انظري ما حولك وتمعني تجدي أكثر من شاب وفتاة كان أصل زواجهما حب مولد عن نظرة وابتسامة وسلام، فما مر على اتصالهما ردح من الدهر حتى تحول الحب إلى نفور وحارت اللذة عذابا أليما، ليس التفاهم ابن الحب بل الحب نتيجة التفاهم، فاعرفي أن تميزي بين الأصل والفرع، كوني على ثقة بأن وجود روحين في طبقة واحدة من الرقي ينتج الحب الجسدي اضطرارا، ومن الشواذ أن يقترب جسدان بالحب وينتهي اقترابهما بالتفاهم الروحي، النتيجة لا تصير مصدرا لأصلها، فاجتهدي أن تجمعك بزوجك طبقة واحدة من الارتقاء، وحينئذ تكوني أتممت الواجب الذي تنتظره الإنسانية منك وتناديك به الوطنية وقد حصرت بك نصف آمالها.
أيتها العقيلة إن وجود التفاهم قبل الزواج لهو خير من الاجتهاد لإيجاده فيما بعد، والوقاية أفضل من العلاج، ولكن هذه الألفة السورية المقسمة بأوهام العائلات وقوة المال، هذه الألفة التي رسا ترتيبها على الظاهر واختنقت بها الداخليات في النفوس، لهي بعيدة جدا عن تقريب الذاتين المتفاهمتين، وقلما تتفاهم روحان في بلادنا إلا وتقف بينهما الحواجز الهائلة سدا منيعا، لا يوجد شاب واحد في سوريا يمكنه أن يترك روحه تجول بين غاداتها طالبة أختها للانضمام وإيجاد السعادة، كل شاب منا قد أحب مرة وتفاهمت روحه مع من يحب، فجاءت قوة المادة تقطع الرباط وتجرح القلب رامية الروحين على حضيض اليأس والقنوط، لا يوجد غادة في سوريا يمكنها أن تتبع أميال روحها، وقلما نادى قلب غادة بالحب دون أن تخنق صوته يد الحاجة وضغط الوسط المادي.
نحن الآن نجاهد في ألفة ارتكز بها كل شيء على حرب الاقتصاد السياسي، فأصبحت كل حاجات النفس مساقة بقوة المادة، ولهذا يجب على المفكرين الذين يتألمون لجرح العواطف وبيع الأرواح أن يداووا العلة من أصلها، ويشتغلوا لرفع الضنك الذي يخنقنا لرضوخ حياتنا المادية لعبودية الأجانب، وحين تتفرق قوى الحياة بالتناسب ما بين طبقات النفوس لا بحسب طبقات المال، فحينئذ يمكن للأرواح أن تتفاهم قبل الزواج، ونكفي المرأة مئونة الشقا الذي تتحمله والعظمة التي نكلفها إياها لمداواة العلة الهائلة.
أما الدواء الذي يصفه المفكرون أيتها المرأة السورية، دواء التمرد وكسر القيود، فذلك حكم يشابه مبدأ الفوضويين الذين يريدون نزع السلطة من بين الناس، فلا يصلون إلا لنتيجة واحدة وهي قتل أفراد معدودين وإهلاك القاتل نفسه ...
هكذا أنت أيتها المرأة إذا تمردت على رباط الزواج فإنما أنت جارحة لمبدأ الشريعة جرحا واحدا، ومثخنة نفسك بألف جرح، لم نر لليوم امرأة تركت زوجها في سوريا ولم تتلقفها الأيدي الغريبة مرارا لتطرحها أخيرا إلى الهوة الهائلة الفاغرة فاها لابتلاع الأزهار الجميلة التي أضلها الريح، ودفعتها عواصف التمرد إلى سبيل الشقاء.
ابقي أيتها المرأة في بيتك واعلمي بأن مملكتك محصورة ضمن هذه الجدران التي اخترتها لك مسكنا، فإن كان هذا المسكن خاليا من الحب؛ فذلك لأنك ساعدت الرجل على طرح الروح من نوافذه، إذا كان هذه المسكن مملوءا بشياطين الغيرة فذلك لأنك رضيت من الرجل حبه لجسدك وحصرت كل جمالك بالظواهر الكاذبة.
مهما كنت محرومة من الجمال أيتها المرأة فمن السهل أن تصيري أجمل من أجمل امرأة، إذا كانت قامتك محدوبة بلا ارتفاع ولا تناسب، فالحركة التي تعطيها الروح الراقية للجسد تجعل قامتك هيفاء وخطواتك كلها مجد وعظمة حقيقية، إذا كانت عيناك صغيرتين بلا معنى ولا قوة، فحين ترتقي روحك يخرج من بين أجفانك نور يكسف نور الشمس ويدخل الحياة بمن حولك، إذا كان فمك واسعا ضخما بلا أقل جمال، فحين ترتقي روحك تمر على شفاهك ابتسامة تجعل المصائب سعادة والظلام نورا باهرا.
لقد سمعت مرارا رجالا يقولون: إن فلانة ليست جميلة ولكن بها شيئا لا نعلم ما هو يقبض على روح الرجل فيجعله أسيرا.
فإلى مثل هذا الجمال قد حولت أبصارك يا أختي وهذا هو الحسن الذي علمتك أن تكتسبيه.
أول شرط لبلوغ الجمال هو إهمال الجمال حتى يتولد حسن النفس ويعود منصبا من الداخل إلى الخارج، فيصبح جمالا حقيقيا يخشع أمامه الناظر وهو لا يعرف ماهيته ...
إذا قمت بكل هذه الواجبات التي خططتها لك وبقي الرجل مستمرا على غيه، إذا بقيت روحه جامدة لا تشعر؛ فذلك لأن داءه داء عياء لخلوه من كل عاطفة وسقوطه إلى درجة الحيوان؛ ذلك لأن روح ذلك الرجل لم تعد مرتكزة على إحدى طبقات النفوس البشرية، ويخال لي أنها أتت إلى العالم لتخرج منه محملة بالرجاسات والدنايا التي تكون ذاتية حياتها الأبدية، ومثل هذا الرجل يندر وجوده إن لم أقل يستحيل، وإن كانت الأقدار قد ألقت عليك مثل هذه المصيبة الهائلة، فإن الحياة لم تحرمك من موضع تسكبين عليه حبك المعذب، انحني على السرير أيتها الأم ورقي نطفة حياة الرجل الذي تمرد على مجدك السماوي، علمي الإنسان يفهم اتحاد الأرواح، فإن الولد الذي لم يحب أمه لا يقدر فيما بعد أن يدغم روحه بروح جنسك السامي.
أنت ضحية رجل لم يستمد من عيني أمه ذلك الشعاع الذي يرثه الإنسان ويتركه لمن بعده إلى نهاية الدنيا، لست ضحية الرجل أيتها العقيلة التاعسة، بل أنت ضحية أم مثلك، فأعدي لأختك في الجنس ولدا لا يتمرد على نور الحياة التي يبعثها الله من جنانه إلى الأرض، متألقة من بين أجفان الملاك الذي يعزي الإنسان ويذكره بالأبدية.
وإذا حرمك الله من الطفل وكانت روحك أرملة، وكان زوجك حيوانا تسلطت الأنانية عليه فلا يشعر بوجود شيء غير ذاته، إذا كنت بهذه الحالة أيها الملاك الشهيد وحاولت عبثا أن تتفاهمي مع زوجك، فاعلمي بأن روحك المرتقية هي حرة في طبقتها السامية كالهواء على جبال صنين، انظري من علو مجدك إلى الحيوان السافل الذي يملك جسدك وتأسفي على مخلوق يكفيه قصاصا أنه محروم من تعزية انضمام الأرواح، وليس الجحيم في الأبدية غير انفراد النفس مع شرها وحرمانها عذوبة الارتقاء، أما أنت فليست نفسك منفردة في طبقتها، هي تلامس الخير والحق، وحين تلمس روح زوجك الساقطة، فحينئذ تنبعث من ذلك التقارب شرارة تنير قلبك وتحرق قلبه، هي شرارة الضحية السامية التي ما برحت منذ بداية العالم تجول في كل طبقات العالم، عند أقدام العروش وفي زوايا القصور والمحاكم والكنائس والسجون، على مناضد الكتاب ومن فوق منابر الخطباء، هي شرارة الضحية التي لمعت منذ عشرين قرنا بكل قوة النور من جنب الفادي، فحملتها كلمته المقدسة من قرب الموت لتدخل الحياة في الموت، تلك الكلمة التي يجب أن يتعلمها كل عظيم وهي:
اغفر لهم يارب؛ لأنهم لا يدرون ما يفعلون.
أيتها الامرأة لك أسوة بالنفوس الكبيرة التي لم تفهمها صغارة الوجود، فسلام على روحك؛ لأنني أعبد بها إله الضحية. •••
لقد كثر لغط الكتاب في تحديد واجباتك كأم أيتها المرأة، امتلأت الجرايد وشحنت الكتب منادية بوجوب ارتقاء الوالدة لتهذب بنيها وتربيهم على المبادئ الحسنة الرفيعة، حتى أصبح كل مناد بهذا الموضوع كالمنشد أغنية يتشدق بها أولاد الأسواق، وغدا هذا البحث متبذلا يعطيه المعلمون موضوعا لتمرين الصبيان على الإنشاء بين جدران المدارس.
أنا لا أريد زيادة صفحة جديدة على الصفحات التي طرحها الابتذال على حضيض النسيان، وألقتها الأيدي موضع الضجيج الذي لا يتجاوز تأثيره مفعول تخديش الآذان.
لقد كتب علماء الأخلاق كلاما مطولا في موضوع الأم، فذهبت بعض أقوالهم مثلا وبقي بعضها في المجلدات الضخمة التي لا تصل إليها أيدي الكل، فاتخذها رهط الكتاب موردا للانتحال مرددين في الألفة السورية ما هو فضلات المفكرين وكسرات تتساقط عن موائد المنشئين.
إن مثل هذه الأقوال المجموعة نثرا من كل مجموع لا تضمها قوة موحدة، ولا يدفعها إلى الاستنتاج منطق صحيح، لهي كالأرياح العاصفة من كل جهة تتلاطم قواها على المحجة فتحطمها ولا تديرها، هذه الأقوال التي تخاطب العقل تارة وتلمس القلب أخرى، تقع على شعور الأم فتزيده همودا إذا كان هامدا وتدخل إليه الضجر إذا كان منتبها.
أيتها الأم لا تخافي، أنا لا أكتب لك فصلا من هذه الفصول المملة بالمواعظ المتناقضة، إن ما ستقرئينه ليس كتابة فيلسوف ولا قصيدة شاعر، ليس ذلك مواد شريعة ولا صوت كاهن ينادي على المذبح، إن ما سأكتبه لهو أعمق من صوت الفيلسوف، هو أقوى من قوة الشريعة وأعلى من هتاف الكاهن، هو كلام لولد صغير بكى فسمعت بكاءه يدوي في الألفة كالرعد، وتساقطت دموعه فالتقطتها برأس هذا القلم الذي تعود أن يغمس في الدموع ليجفف الأهداب المبللة من ضلال الإنسان.
رأيت ولدا بلا أم يردد مع الأنين ما لم يكتبه فيلسوف من واجبات الأم، فأصغيت إليه طويلا حتى تبين لي أنني لا أبلغ نصف فصاحته مهما تأملت وكتبت، فعرفت أن المفتكر لا يمكنه أن ينطق بكلمة تصور الأشجان كالكلمة التي تخرج من قلب المضروب نفسه، مهما بالغ المفكر في تحديد واجبات الأم، فلا يمكنه أن يحددها كالطفل الذي يشعر بوجدان لم تكيفه آراء البشر وأضاليلهم.
فيا أيتها الأم ويا أيتها الغادة السائرة بحكم الله إلى الأمومة، طالعي بإمعان هذه الرواية الصغيرة التي أنقلها لك كما وردت لي بعباراتها الساذجة، وأقوالها التي تعلو بضعفها على كل قوة، اتركي فلسفة الأخلاقيين ولغط الكتاب المختلفين على كيفية تربيتك، واسمعي صوت الطفل فهو صوت من الله، تعلمي منه واجباتك فقد كنت مثله طفلة وشعرت مثله بتلك المحبة البنوية التي تلامس العبادة، واجتهدي ألا تدعي ابنك يعبد بك صنما مدنسا لئلا يتعود الركوع أمام باعال والسجود أمام الصنم الذهبي ...
اعتراف ولد
كان لي أم أجمل من كل الأمهات ومن كل النساء، أذكرها وهي محنية فوق سريري تتجلى لعيني بأغرب جمالها الساحر، فتلقي على جبيني قبلة تترك بعدها عبيرا سماويا يتضوع طويلا بين ستائر مهدي، فكنت أتبسم لمرآها وأنظر إليها كنظري لشعاع الشمس أو لتموج الألوان السبعة في الأفق، كنت أفرح لقربها بكل القوى السامية التي أعطاها الله لنا نحن الأطفال.
كنت أحب أبي وأحب مرضعتي، أما أمي فكنت أعبدها، وما تفردت وحدي بالإعجاب بها، فإن كل ناظر إليها كان يشعر بعظمة جمالها، وكم من مرة سمعت الناس يقولون وهم يتأملون بملامح وجهي: لا عجب أن يكون هذا الصبي جميلا فإن أمه إلهة الجمال، وما أشد ما كان فرحي حينما صرت أخرج معها إلى المدينة لابسا سروالي الأحمر القصير، متمسكا بيدها وهي تخطر كالغزال بل كروح لا تمس الأرض رجلاها فتستأسر الأبصار، وأسمع من كل فم كلمات الإعجاب، حينئذ كنت أشعر بحركة غريبة في فؤادي الصغير وأنادي بصوت عال: يا أماه! يا أماه!
فتجيبني: مالك يا ولدي.
فأسكت، وما كنت أنادي هكذا إلا ليعلم الكل أن هذه هي أمي الجميلة.
ولست أذكر أني أغضبتها بتصرفي ولا مرة، وكان يكفي لوصيفتي أن تذكرني بوالدتي لأحجم عن كل عمل مغاير لإرادتها.
وكان لي أن أرى أمي مرتين بالنهار فقط فأذهب إليها لتسمع مثائلي، فإذا أجدت بحفظها سمحت لي بالبقاء في غرفتها وهي تسرح غدائر شعرها الذهبي المترامي على أكتافها كحلقات تشبه النجوم التي تترجرج في كبد الضحى.
كم كنت أحب في ذلك الحين أن أسمع صوتها الرخيم يكلمني بهدوء، ولكن الأمهات كثيرات الشغف بكل ما لا يدعى واجبا، فكانت أفكارها مشردة تترفع عن السقوط إلى درجة فهم ولدها الذي يعبدها ...
كان لأمي فساطين عديدة تجربها وزيارات متتابعة تقوم بها، وأشخاص عديدون تتلهى بحبهم عني، وكم من مرة ذهبت إلى المراقص بأول الليل ولم ترجع إلا بعد رقادي فحرمت منها قبلة المساء ...
وأذكر بأن مرة سمح لي بالسهر لبعد عودتها من المرقص كي أراها بثوبها الجميل، فلما دخلت إلى البهو الكبير بعد أن أعياني الهجود رأيتها مسربلة بالحرائر، وقد ظهر صدرها كبرج عاج عليه الثديان اللذان أرضعاني مطلوقين لكل ناظر ... فانبهرت عيناي من هذا المشهد، وكدت لا أعرف أمي بتلك الغانية الهيفاء، لو لم ينبض قلبي بشدة فجثوت على ركبتي ولم أجسر أن أمس طرف ثوبها فقالت لي: مالك لا تقبلني يا ولدي؟
فشرقت إذ ذاك بدموعي وأجبت: أنت جميلة جدا يا أماه، أنت أجمل ما أرى ... لا تتركيني ... ابقي معي دائما، فكان جوابها: ألا تريد أن تسكن روعك أيها المجنون، أين الوصيفة لتأخذه إلى سريره؟
ولما بلغت السادسة من عمري أرسلت إلى المدرسة، فكنت أرقد مع بقية الأولاد في غرفة النوم الباردة وأتأسف على حالتي غير ذاكر من ماضي شيئا سوى أمي ...
وكانت تحضر كل أسبوع لمشاهدتي، فأفتخر بها لكونها أجمل كل أمهات رفاقي تستجلب أنظار الكل للتأمل بها، فكنت أتمسك بثوبها مخافة أن يخطفها الناس مني، ولكن وا أسفاه! ذلك الفرح لم يكن ليدوم؛ فإن أمي كانت تخرج من غرفة المقابلة قبل انقضاء الوقت المعين فأتبعها إلى خارج المدرسة وهي ماسكة يدي الصغيرة والجموع شاخصة إلينا كأننا قمران.
وما كانت تتوارى عن إبصاري حتى أعود إلى مقامي مشرد الفكر وقلبي الصغير منقبض يقطر دما، فأذهب إلى فراشي للرقاد دون أن يزور الكرى أجفاني؛ لأن فكرا واحدا كان يتملك عقلي وهو: أمي، فأتساءل بحزن: لماذا أمهات رفاقي يلبثن طويلا عند أولادهن وتقبلنهم بأشد الحنان وتحضرن غالبا لمشاهدتهم، مع أن أمي ترفق حنوها بالضجر، فهل أن الجمال يسبب الفتور في الواجبات؟
وما طال حتى اعترتني حمى خبيثة ذهبت بقواي؛ فأرسلت إلى مستشفى المدرسة ومنه إلى البيت فازدادت آلامي، ولكنني نسيتها إذ رأيت أمي جالسة قرب سريري تمر يدها البيضاء على جبيني المحترق، فكان دائي لديها وهما وأصبح عذابي قربها عذبا، وما عاد إلي روعي بعد ما تحملت من ضنى المرض، حتى رأيت دلائل التعب بادية على محيا أمي العزيزة، فزادت معرفة الجميل قوة حبي وأصبحت وادا لو أنني أبقى مريضا، ولكنني لم ألبث حتى عادت إلي بعض القوة، فلم أعد أرى أمي إلا نادرا وأخيرا تحسنت حالتي فلم أعد أراها أبدا ...
فوددت إذ ذاك أن تعود الحمى إلي لأموت.
وبقيت بعد هذا طويلا في البيت وأبي يعتني بي، فعرفت حينئذ من نفسي محبة صادقة لأبي الذي كان يلازمني وهو شاحب الوجه ودلائل الحزن المذيب تلوح على محياه، ككل الأزواج ذوي العقائل الجميلات الطامحات إلى اللهو والبذخ ...
وإذ كنت مع أبي على انفراد قلت له همسا: أليس أن كل الناس يحبون أمي لجمالها؟
فأخذني بذراعيه دون أن ينبس ببنت شفة ولكنني شعرت بخفقان قلبه إذ قبلني. •••
ويلاه! ماذا جرى؟ فإنني أتعس الأبناء، إنني أشد حزنا من كل ولد على الأرض، ولا أقدر أن أشكو أحزاني لأحد، لقد تركتنا أمي، فأين هي؟
من يعلمني بمقرها، ومن أسأل عنها؟
إن أبي حزين جدا، ويخال لي من ملامحه أن أمي ميتة فهو يبكيها.
ولكن كيف ماتت ولم أرها، كيف تكون ميتة ولا نلبس عليها الحداد ولا نذكرها بالصلاة؟
جربت مرارا أن أسأل عنها، ولكنني عبثا حاولت التغلب على الجبن المستولي علي، فكأنني إذ أريد الاستعلام عن أمي مقدم على جناية أو سابر جرحا داميا، أواه كم أغبط الأولاد الذين لهم أمهات لا يختلن إلا بجمال النفس دون ذلك الجمال الحسي الرائع الذي كان سبب إعجابي فأمسى أصل بلواي ، وحبب إلي الموت! نعم إنني أريد دخول القبر وأرى أبي يتوق مثلي إلى الفناء.
أواه ما أرهب ذلك السكوت الذي يجلل والدي وهو جالس على كرسيه يشتغل بالكتابة ويده ساترة جبينه المصفر! أدخل إلى غرفته بهدوء وأمسح أقلامه وأمتنع عن اللعب خشوعا لدى حزنه، أسير إليه مقبلا يديه، فيحفظ الصمت وأنا أيضا لا أجسر على رفع إبصاري إلى وجهه الشاحب، فألقي رأسي على صدره، ولا نلبث حتى تمتزج دموعنا: دموع الزوج التعيس، ودموع الابن المتروك، فتجري ببطء دون أن يراها أحد في انفراد تلك الغرفة القاتمة. •••
يوم الاثنين الماضي وضعت في غرفة مظلمة طول النهار، ومع ذلك كنت مسرورا؛ ذلك لأن وصيفتي كانت تتكلم مع رفيقة لها مسنة وقد دار الحديث على أناس يسمونهم بأهل الفساد ولم أعرف من هم؟
فقالت العجوز وهي تنظر إلي: أتأسف على ولد كهذا تكون أمه فاسدة القلب وشقية الحياة.
وما سمعت هذا الكلام حتى أصبح كل شيء أمامي نارا ودما، فهببت كالأسد المجروح ألطم العجوز بكل قواي، وأرفسها برجلي، فكان جزائي السجن في غرفة مظلمة لأنني دافعت عن أمي.
نعم إنني بقيت بياض النهار في ظلام سجني وقلبي يختلج فرحا، إذ تعذبت لأثأر لتلك الأم الغائبة التي تركت ولدها فأدفع عنها تهمة الذين يهينونها.
لقد مرت الأيام الطوال وأمي لم ترجع، ويلاه لقد أصبحت بلا أم، لقد اختلسها الناس مني وأبعدوها عن حب ابنها الصغير، نعم لقد سرقها الغرباء دون إرادتها؛ إذ من المحال أن تقبل بترك ولدها الذي كانت تمر يدها على شعره وتقول له: يا صغيري العزيز.
لقد اختلسوها لأنها جميلة.
ويلاه يارب اسمع طلبتي وأعدها إلي ولو مشوهة الوجه قبيحة المنظر، فإنني أجدها دائما جميلة.
ارجعها إلي يا إلهي؛ فما من شيء أصعب على الابن من أن يدعى يتيما ويبكي أما أحبها بكل قواه وهي لم تزل تتخطر في مروج الحياة.
انتهى
أيتها القارئة المنحنية على هذه السطور، غادة كنت أو عقيلة أو أما، إذا كانت مدامعك لم تزل جافة فذلك لأن عاطفة البشرية قد استحجرت في قلبك الجامد، إذا سمع رجل نداء طفل يتعذب ولم يبك، فذلك الرجل لا يزيد نقصه عن القساوة، أما المرأة فإنها مطالبة بالحنان على أغراس الإنسانية التي يعروها الذبول، فإن لم تحييها من حرارة القلب وتسقيها من مورد الدمع، فتلك امرأة شاذة عن مبدأ طبيعتها، تلك أم بربرية متوحشة! وأنا لا أكتب لمثل هذه الصخور الجوامد، أنا أكتب للجنس اللطيف السامي الذي ينزل الله على صفحات قلبه كل ما في الدين من آيات العظمة، وفي الأدب من مبادئ الكرامة والمجد.
أنا أكتب للمرأة التي تتأثر وتبكي؛ لأن البكاء في المرأة هو عنوان لشدة نفسها وقوة قلبها، فسلام على العيون الدامعة، وإجلال للقلوب الرقيقة النابضة بالحنو، طوبى لليد الناعمة التي ترتجف من وراء اختلاج العواطف المنبثقة من الأزل ولم يقتلها ضلال الناس وزخارفهم وأمجادهم الباطلة.
إن المرأة التي لا تسمع نداء الأدب ولا تفهم كلام الفلسفة، فهي جاهلة متقهقرة، أما الأم التي لا تسمع نداء الطفل فهي مجرمة تستحق الاحتقار.
هل عرفت أيتها القارئة مبدأ الغيرة السامية التي تدفقت من حديث الطفل المعترف بأدق ما يشعر؟
ليس الولد غيورا عن أنانية يولدها ضلال الإحساس؛ لأنه أقرب الكائنات إلى الأزل، فشعوره عادل طاهر لم تكيفه الاعتقادات البشرية، ولهذا فغيرة الولد هي غيرة النفس على حقوقها المكتوبة في شريعة الوجدان.
لما كتبت عن واجبات المرأة كعقيلة لم أجد بدا من تحديدها؛ لأنها تترواح بين اعتقاد الزوج وأميال الزوجة، كتبت وحددت لأن الألفة المنقلبة بشرائعها وأوهامها كانت ولم تزل تعطي للرجل وللمرأة دورا فدورا حقوقا جائرة وحرية ظالمة، فرجعت بوجداني المجرد إلى مبدأ العواطف إلى النفس، وأخرجت منها شريعة التفاهم والعدالة التي يجب أن يعتبرها كل زوج وزوجة يطلبان السعادة بالحب والمجد الحقيقي بالحياة.
أما الآن وأنا أكتب عن الأم فأجدني واقفا بين كائنين؛ الأول: معرض للضلال بالأهواء ومحبة الجمال الزائل، والثاني: لا يعرف مبدأ لشعوره غير ما غرسه الله في قلبه، فلا أجد موجبا للرجوع إلى نفسي واستنتاج شريعة الأمومة من وجدانها المجرد، لماذا أكتب عن واجبات الأم وقرب كل أم ولد كتبت شريعة الأمومة بكل حركاته وسكناته، كتبت على جبينه وعلى ابتسامته، حفرت على لفتاته وسالت على خديه مع دموعه.
أيتها الأم إذا كنت تريدين معرفة ما يجب عليك نحو ابنك فتنازلي من علو زخرفتك وحبك للهو إلى ملاحظة ما تظهره أعمالك على أسارير وجهه، وعلى تلك الصفحة المقدسة طالعي وصايا الفضيلة التي حفرتها أصبع الله.
انظري أيتها الأم كيف يتململ ولدك حينما يراك تفرقين ابتساماتك إلى كل من حولك ... انتبهي إلى حركته الموجعة حينما يقترب إليك غريب ليهمس في أذنك كلاما لا يسمعه ولو سمعه لما فهم منه شيئا! ...
انظري أيتها الأم إلى ابنك تسيل الدموع من عينيه حينما يخطر لك أن تبارحي البيت قصد التنزه وحدك، اسمعي زفيره وافهمي منه ما يقول: «لا تذهبي وحدك يا أماه، خذيني معك فأكون لك حلية كهذه الحلي التي تفتخرين بها، بل أكون أشد لمعانا منها، ولكنني أحرسك كعاطفة مقدسة أرد عنك هجمات الشر كجناح كله قوات سماوية، مناغاة من فمي تطرد الأبالس من حولك، وابتسامة من شفتي تبدد أرواح الشر التي تريد الإيقاع بك، دمعة من عيني تذكرك بعهدك وإيمانك، خذيني معك؛ لأن ضعفي أقوى من سلاح الجنود ولفتاتي أرهب من حكم القضاة.»
ولكنك أيتها الأم قلما تسمعين لهذا الهاتف الذي يدوي من السحاب بقوة الألوهية، فيصل إلى أذنك المصغية لضجيج الاجتماعات المضلة كأنه صراع مزعج يدفعك إلى الهرب ...
بعد عودتك من المرقص أيتها الأم السورية وأنت مرتدية ثوبا مكشوفا يعري زنديك ويطلق نهديك للأنظار، عندما تدخلين على ابنك بهذه الصورة، وفي قلبه دماء أجداده السوريين تجول بقوة تضيق بها أنفاسه، حينئذ تمعني بلفتاته وقد اتقدت بها نار السماء، وجالت بينها غيرة النفس الأبدية من ضلال الكبرياء الزائلة، تمعني وافهمي ما تعني تلك الدمعة المحترقة التي تجول بين أجفان الولد وهو لا يجسر أن يجود بها.
تلك الدمعة تقول كما قال الفادي العظيم عن هيكل أورشليم:
بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص.
تلك الدمعة تقول: «يا أماه! إن زنديك خلقا لتربيتي وأوجدا وسادة لرأسي، إن نهديك خلقا ينبوعا لماء حياتي، فمن قال لك إن هذه الكنوز أوجدت لخدمة البهرجة والكبرياء القاتلة، أية شريعة أوجبت لك أن تدنسي هيكل أبي ومركع نفسي التي تناجي خالقها من بين ذراعيك؟ من حلل لك أن تجعلي هذه الكنوز التي وقفها الله على العيلة محجة للشهوات، ومرمى لسهام الأنظار.
ألا تعلمين بأن كل لفتة تلقى على ينبوع حياتي تطبع عليه وصمة الدنس وتموهه بالعار! ...
أنت هيكلي يا أماه، وهذا الهيكل هو بيت صلاة البشرية، فمن قال لك أن تفتحيه كمغارة للصوص؟
أنا لا أريد أن أجرحك أيتها المرأة السورية، أنت أفضل من نساء كثير من الشعوب المتمدنة، ولكن للتشبيه قوة هائلة تسطو على أرقى النفوس فتفسدها، لا أقول إنك فاسدة القلب يا أختي، بل أجزم بأن هذا الضلال الذي تحسبينه تمدنا سوف يدخل إلى قلبك الفساد.
أنت الآن تلبسين «الداكولته» عن محبة الزينة فقط، ولكن عن قريب سوف تلبسينه عن ضلال حقيقي وفساد لا يشفى، أنت تريدين أن تدعي عصرية، وهذا الميل يحارب فيك عفاف الشرق وحرمة الدما السورية، أنت تحاربين طبيعتك السامية اليوم، وغدا ستنقلب تلك الطبيعة إلى ضلال متأصل في النفس فيقوم العراك بينها وبين الواجب، وعلى الحضيض الذي يقوم فوقه هذا الجهاد تتبدد كرامة بيتك كالدخان، ويسقط طفلك ضحية برية تطلب الانتقام وتستنزل اللعنة على مبدأ شقائه.
أيتها الأم، إن بين يديك اليوم سعادة امرأة الغد، ربي ابنك على مبادئ الفضيلة والأدب، ولا يمكن لك أن تقومي بهذا الواجب دون أن تكوني أنت فاضلة أولا.
اعلمي بأن التهذيب ليس تمثيل رواية تقوم بالإلقاء والإيماء، لا يدخل إلى النفس غير ما يخرج من النفس، إذا كنت ساقطة ومباديك سافلة وأعمالك شاذة فعبثا تدلين ابنك على طريق الشرف والمجد بالأقوال والتهديد.
سر التهذيب مبني على ملامسة النفس التي تريد ترقيتها، وأنت أيتها المرأة إذا لم تكن روحك راقية فعبثا تحاولين الظهور بمظهر الفضل، إذا كانت عين الجسد تغش بالمنظورات فالنفس لا تخدع، وخصوصا نفس الولد؛ لأنها قوية تشعر بالخفايا ولا يطلى عليها المحال ... أيتها المرأة لقد قيل عنك: إن من تهز السرير بيمينها تهز الدنيا بشمالها، وأنا أرى تلك الشمال التي تهز الدنيا ليست اليد بل هي القلب، هي قوة العاطفة التي تغير وجه الأرض.
إن الرجل خرج من الميتة بواجب العمل والجهاد للحياة، أما أنت فما ألقى الله عليك غير واجب المخاض والولادة، فاركعي إلى جنب السرير أيتها الأم؛ لأن السرير وحده يجب أن يكون محور حياتك؛ فالأمومة محجتك القصوى في هذه الدنيا. •••
كتبت عن شيخة بلادي وعقيلة رجاله وأم بنيه، فلم يبق علي غير كتابة صفحة إلى خطيبة شبانه وامرأة غده، وليست هذه الصفحة إلا خلاصة الصفحات المتقدمة، ويكفي للآنسة أن تتمعن مليا بما خاطبت به المرأة لتتعلم من أدواء أختها ما يكفل لها حسن المقبل والابتعاد عن التورط والسقوط.
أيتها الآنسة، أنت اليوم بموقف يباين موقف امرأة اليوم حينما كانت آنسة مثلك، وسطك أشد ضلالا وكل ما يحتاطك يتكاتف على إلقاء الهوان عليك، امرأة اليوم كانت ربع متمدنة وها هي الآن تئن وتشكو، وأنت اليوم نصف متمدنة فسوف يزيد أنينك عن أنينها ويربو عذابك على عذابها إذا لم تتداركي الشقا قبل حلوله.
أيتها الغادة، إن مباديك ستكون أساسا لألفة الغد؛ لأن علم الرجل ينحصر تأثيره على ثروة البلاد وفقرها، أما أنت فمن علمك يتكون أدب الأمة، ومن قلبك تنبعث سعادتها، وأنت اليوم تحصرين علمك بما يقهقر أدبنا وتربين قلبك على ما يولد شقاءنا.
يا ابنة سوريا، إن لكل شعب تمدنا خاصا ولغة خاصة يجعلانه مميزا عن بقية الشعوب، أما بنو سوريا فهم اليوم خليط من كل أمة، آدابهم مجموعة من أضاليل كل الأمم، ولغتهم ممزوجة بكل لغة، فقدنا استقلال التجارة والحاصلات فأجبرنا الاقتصاد السياسي على التوسع بعلوم الأجانب وإتقان لغاتهم، وهذه هي أول مظاهر العبودية في الشعوب، نحن تعلمنا الإفرنسية والإنكليزية وأهملنا لغة أجدادنا؛ لأن أرضهم لم تعد تدر علينا، ونحن لم نعد نحنو عليها، تعلمنا هذه اللغات؛ لأن تمدننا سبق قوانا فانسلخت أعمالنا عن أميالنا، ولو أمكن لأبناء سوريا أن يعيشوا بوحدة لغتهم لما فضلوا عليها لغة، وما ألقوا وراء المحيط رحالا.
رجل الوطن مضطر أن يتفرنج بلسانه، ولكن أنت ياغادة الوطن وأساس آدابه، من أجبرك على إدخال التفرنج إلى أعماق قلبك؟
إذا كان التفرنج متسلطا على السوق والمكتب والإدارة بقوة الضرورة، فأية ضرورة صيرت مهد أطفالنا خاليا من كل هيئة سورية وكرامة عربية؟ أيتها الغادة، إن رجالنا مضطرون إلى التفرنج بلسانهم وبدفاتر تجارتهم، ولكنهم سوريون بقلوبهم، عرب بآدابهم، ولكن إذا دام الحال على ما هو من أمر تهذيبك، فسوف يصبح السوريون أجانب حتى بأعماق قلوبهم، دماغ الرجل موقوف على أعماله أما عواطفه وأمياله فموقوفة على عواطفك وأميالك.
ليقو حب الوطن في قلبك أيتها الغادة، فلا يلبث حتى تري الرجل يهرق دماءه في سبيل الوطنية، تعلمي لغة البلاد وتعودي أن تلذ لك آدابها ويحرك قلبك شعرها، فلا يطول الزمن حتى تري اللغة مرتقية وأشعارها ترن في الخافقين، وكلها وحي العواطف ومودع الأدب والرقي، أما إذا بقيت محولة كل قواك إلى اقتباس لغات الأجانب وتقليد تمدنهم بكل ما هو ناقص ومشين، فسوف تصبح ألفتنا كمجموع قردة تنقله بلا مبدأ، وتتحرك دون محرك أولي معقول، سوف يصبح كتابنا ألمانيين وإفرنسيين وإنكليز، فتتحول قوة الفكر السوري إلى لغات الأجانب؛ لأجل إرضاء ذوقك الضال، فيضحك الأجانب من ضعفهم، وكان يمكنهم أن يكتبوا بلغتهم مفيدين مجيدين.
سوف تصبح مجتمعاتنا موضا لتبلبل الألسن كأننا أمام برج جديد نقيمه بضلالنا لبابل العصرية ... سوف يشب أولادنا على صفات كلها خارجية وتخلو أنفسهم من الوسم الداخلي الذي يميز الشعوب ويعطي القوة للأمة ...
وكل هذه المصائب التي أراها معلقة بيدك لتسقط على الألفة الوطنية إنما مركزها في ذوقك وأصلها من عواطفك.
أيتها الغادة، إن كاتب هذه السطور لهو سوري لبناني من أبيه، وأجنبي إفرنجي من أمه، إن الذي يكلمك الآن بالعربية لم يسمع غير الإفرنسية، حتى نهاية طفولته رضع لغة الفرنسيس مع اللبن، ولم تغمض أجفانه في السرير إلا على أناشيد تلك اللغة.
نعم أيتها القارئة العزيزة، لكنت أحق الناس أو أقربهم إلى المعذرة لو «تقبعت» وتفرنجت، ولكنني أعد ناكر الوطنية خائنا، والمتبرر من شعبه الضعيف جبانا، وأنا لا أريد أن أوسم بالخيانة والجبن، طربوشي شعار عثمانيتي التي أفتخر بها، فلا أبدله بقبعة سفير، وسوريا بلادي، شعبها الضعيف أخي، فأحب إلي أن أكون ضعيفا معه من أن أكون قويا مع الشعب الذي تقربني صلة الرحم إليه، ولو لم يكن اسمي ذكرا لوالد أمي أحفظه كإرث مقدس، لكنت استبدلته باسم أمين دون أن أجعله «فيدال» أو ببطرس دون قلبه «بيينار» أو بحبيب دون تحويله إلى «آمه»، كما يفعل شبان العصر الذين يستحون بطربوشهم وبلغتهم حتى وبأسمائهم أيضا.
أيتها الغادة، أنت التي تحولين شبان العصر إخوتي إلى قردة يتقلدون ولا يفهمون.
أنت تنادين يوحنا باسم جان فيلذ له ما يخرج من فمك فيقلب اسمه، أنت التي تجدين القبعة أجمل من الطربوش فيجاري ذوقك، أنت التي تكلمينه بالإفرنسية والإنكليزية بنصف اللسان الذي تعلمته فينسى بالكلمة التي تخرج من مبسمك كل الكلمات التي ناغته بها أمه وهو على السرير، لا تحنقي ياغادة سوريا، أنا لا أكتب متحاملا، فالذي أخطه هو نتيجة اختبار طويل وتأمل عميق، وجدتك يا أختي بكل مقام وحالة؛ رأيتك غنية وتمعنت فيك فقيرة، حادثتك متعلمة واختبرتك جاهلة، فعلمت من كل هذا البحث أنك لست سورية مرتقية لعلة اندفعاك وراء التمدن الكاذب، ولست أوربية بالغة مبلغ هذا الشعب من الارتقاء؛ لأنك خلقت لغير هذا التمدن ولغير هذا النوع من التهذيب.
كلمتك بالإفرنسية فملئت أسماعي من ذكر هيكو ولامارتين وإسكندر دوماس، وحين سألتك أبسط الأمور عنهم اتضح لدي ما تعرفين، وانجلى لباصرتي زيف التقليد!
كلمتك بالعربية فخلطت نصف جوابك بالإفرنجي، حادثتك عن لغة بلادنا ففتحت عينيك بدهش، وارتسمت على شفتيك ابتسامة احتقار دون أن تفهمي شيئا، وكان جوابك: «ماذا تفيدني اللغة العربية؟ أنا لم أجتهد بها، وفي المدرسة لا يعلموننا أكثر من ساعة مبادئ القراءة العربية فقط.»
أيتها الغادة، إذا كانت لغة بلادك لا تنفعك؛ لأنها تحمل في الوطن نسمة الارتقاء واستقلال الأمة بتمدنها الصحيح، إذا كانت هذه اللغة أدنى من أن يتنازل إليها عقلك السامي، فتكرمي بالجواب غير مأمورة: أية فائدة ترجينها من وراء اللغات الأجنبية؟
أتريدين الاستخدام أنت أيضا في إدارات الأجانب؟ أتريدين معاطاة القومسيون أنت أيضا لاستنزاف هذا الموطن الأجرد؟ ألا يكفي أن نصف رجالنا أصبحوا عبيدا تدفعهم الضرورة إلى دفع الألفة للعبودية حتى تصبحي أنت يا غادة سوريا، وأنت رابطة الوطن، أول من يحل هذه الرابطة المقدسة.
لقد يخطر على بالك أن تجاوبي: إن المجتمعات في الصالونات تستوجب أن يعرف الإنسان لغة الإفرنج، وهذا من ضرورات التمدن.
جميلة هي صالوناتكم يا إخوتي السوريين، ومضحكة هي تقاليدكم الجديدة.
أنا لم أدخل صالونا منها حتى بين كبراء قومنا وأغنيائهم دون أن ينجلي لي فيها نقص التقليد وفراغه من كل حسن وجميل، كل حركة فيها تستوجب الضحك، كل عبارة تلفظ فيها تنافي مبدأ الأدب الأوروبي على خط مستقيم، أنت يا غادة سوريا في هذه المجتمعات كخيال أسود يتحرك على الحائط، وحقيقته بعيدة جدا عنه.
لو دخل مجتمعاتنا التقليدية سيدة أجنبية رسخت فيها عوائد بلادها منذ الصغر، وتأملت بحركاتك يا أختي السورية، بخطوات رجليك، باهتزاز رأسك، بلفظك وتركيب عبارتك، لعادت ساخرة بك، متأسفة على ألفة كان يمكنها أن تكون سورية معتبرة بعوائدها الأصلية، ففضلت أن تصير إفرنجية ناقصة مضحكة ساقطة.
دخلت اليوم إلى أحد صالوناتنا المتمدنة، فرأيت فيه عدة من السيدات والرجال، من الأوانس والشبان، وكلهم يتكلمون ولا أحد يسمع، هذا يسرد حديثا بالإفرنسية، وتلك تناظر رفيقتها بالإنكليزية، فتجيبها هذه تارة بالعربية، وتارة بالإيطاليانية، وكان الحديث فارغا من كل روح؛ لأن المتحادثين كانوا فاقدين المعرفة بأساس ألفتهم، ولا يعرفون من ألفة الإفرنج غير تمثيل حركاتهم، وقف أحد الشبان وكان لابسا نظارة ذهبية على عينيه، وأخذ يلقي على الحضور قصيدة لفيكتور هيغو، فأصغى إليه الكل، وخصوصا السيدات، ولم يكن يفهمن من قصيدة فيلسوف شعراء الفرنسيس غير رنة الوزن فقط، ومع هذا كن يتمايلن؛ ليقال إنهن فرنسويات، وكلهن لطف وشعور، وكان يزداد حماس الشاب من هذه المظاهر الكاذبة، فيرفع صوته متقلدا الإفرنج بلفظ لو سمعه هيغو، لندم على نظمه تلك القصيدة التاعسة ...
وبعد سكوت قصير قالت إحدى الأوانس: أين للشعر العربي هذه الرقة وهذا الجمال؟
وكنت على ثقة بأن حضرتها لم تفهم شيئا من شعور هيغو؛ لأنها لو كانت تشعر بشيء لما ألقت الاحتقار بوجه وطنها، وطعنت بلغة أبيها وأمها، خيل لي أن سهما يشق فؤادي، فنظرت إلى الغادة وقلت لها: هل قرأت شيئا من الشعر العربي أيتها الآنسة؟ - أنا لم أعد أقرأ شيئا من الشعر العربي بعد خروجي من المدرسة، ولكنني لم أزل أذكر القصائد التي تتعلمها البنات وهي ... وأمثال هذه الأشياء الباردة، فكيف تريد بعد أن أعمد إلى مطالعة الشعر العربي؟
سكت؛ لأنني وجدت جوابها مقنعا من بعض الوجوه، وجدت أن هذه الجريمة التي تقترفها بنات الوطن نحو الوطن لهي نتيجة التعليم الفاسد الذي يريد الأجانب أن يستندوا عليه لإماتة اللغة العربية من كل القصائد الذي تعلمت أوروبا منها الشعر، وأحنى هيغو رأسه أمامها قائلا: إن الجمال بالشعور هو جمال عربي، من كل هذه القصائد التي لا تموت لم يجد الأجانب غير النظم الساقط ليقدموه قاعدة تنفر منه قلوب الناشئة من كل القطع الإنشائية التي تدخل إلى أقسام النفس، فترتعش لها عظمة وشعورا، لم يجد الأجانب غير القصص الخرافية المأخوذة عن أسقط طبقات الإنشا العربي، حرقت الأرم وقلت للآنسة: إذا كنت لا تقرئين الدواوين العربية فأنت - ولا شك - تقرئين كتابات هيغو. - نعم إنني أقرأه وألذ به كثيرا. - إذا كان ما تقولين صحيحا فأعجب جدا كيف أنك لم تقرئي رأي هيغو نفسه في آداب لغتنا وشعرنا؟ إذا كان أهل الوطن يساعدون بسكوتهم على قتل لغتهم وتحقيرها فكان يجب أن تتعلمي من شاعر الفرنسيس محبة آداب اللغة التي تكلم بها أجدادك.
لم يكن لكلامي موقع حسن في أذن الآنسة المتفرنجة فهزت كتفيها وقامت إلى البيانو تضرب عليه قطعة بولكا من أبسط ما أبدع الفرنساويون في صناعة الألحان، وكانت تتمايل طربا لدى وقع هذا النغم الفارغ على أذنها ...
وبعد أن انتهت من الضرب أدارت وجهها نحوي، وقالت: وهذا ما تقول به يا مسيو؟
فأجبت: هذا موال إفرنجي ... - آه، أنت بلا ذوق. - نعم، أنا بلا ذوق يا سيدتي، ولكنني أفضل أن أسمع الشيخ سلامة ينشد: سلام على حسن يد الموت لم تكن لتمحوه أو تمحو هواه من القلب، من أن أسمع هذه البولكة التي لا تعني شيئا، أنا أفهم الموسيقى الإفرنجية أكثر مما تفهمينها أيتها الآنسة؛ لأن مقاطع أنغامها لم تزل ترن في أذني من حين كنت مضجعا على سريري، وأعرف من الأنغام الفرنساوية ما لم تحلمي به، ولكنني درست الموسيقى العربية أيضا، فأنا أعرف منك بالاثنين، ولا أريد الآن أن ألقي عليك درسا بالأنغام، بل أريد أن تعرفي أيتها الآنسة بأن تفضيلك أسقط موسيقى عند الإفرنج على أجمل ما ينشد منشد، وأرق شعر نطق به شاعر عربي، لهو دليل على انتصار التقليد المشين في ألفتنا الشقية وانهزام الروح الراقية من بين ناشئتنا ...
خرجت من ذلك المجمع، والدما تقطر من قلبي على وطن تبيعه ألفته بالقشور اللوامع، خرجت حزينا على غادات يدفعن رجال الغد بذوقهن الضال إلى احتقار لغة البلاد ومجدها الساذج وعوائدها الجميلة، مع أن الغادات هن في كل بلاد عنوان الوطنية يشجعن آدابها وينصرن شعراءها ويقوين المجاهدين في سبيلها، وهنا أرى فتاتنا واقفة على منحدر الجبل العالي، وبنانها يدل الشبيبة إلى الهاوية، بدل أن يدلها إلى الذروة، إلى قمة الوطنية واعتبار أرماس الجدود.
لو لم تكن غادة الفرنسيس أشد ولوعا من الرجل بأرض بلادها، لما كنا نرى شبيبة تلك البلاد تفتح غمرات الموت في سبيل الوطنية، وعلى شفاهها ابتسامة الاحتقار للموت من وراء الحب الذي غرسته الغادة في القلب، ألفة بلادي تحتقر لغتي فلمن أكتب؟ كبراء قومي لا يفهمونني فلمن أجر هذه القصبة التي كان صريرها يملأ الدنيا علما وشعورا وتمدنا ؟ فأصبحت تئن على الورق أنينا فلا يتجاوز صوتها أذن الكاتب ...
أكثر من مرة مسكت هذا القلم وحطمته، أكثر من مرة ذودته دمعة في ساعات السآمة والكلال، وعدت إلى الريشة الحديدية التي تطيع أناملي أكثر من القلم، ولكنني لم أكن أبقى طويلا تحت اليأس؛ لأنني كنت أرى على قمة لبنان وطني غادة يكسف وجهها نور الشمس، رجلها راسخة على الثلوج وهي أطهر منها، ورأسها ينطح السحاب بكل قوة سوريا، ومجد العرب تلك الغادة ذلك الملاك كانت تمد يدها نحوي وتقول: «ارجع إلى القلم يا ابن سوريا، اكتب بلغة وطنك وجاهد، تكلم فأنا غادة لبنان سامعة ما تقول، إذا كانت عذارى البلاد لا تفهم، فأنا عذرا الوطنية لا أحول أذني عنك، خذ يدي فأنا خطيبتك، إذا كتبت فمن أجلي تكتب، وإن تكلمت من أجل حبي تتكلم، أنا صورة مجد الشعوب ورمز حياة الأمم أنا مثال الوطنية ...»
كنت أحني الرأس عند هذه النجوى كالقصبة الضعيفة التي تتلوى من هبوب العاصفة، كنت أضع يدي على قلبي وأسير بين انتقاد المتشدقين الذين يتلهون بالحرف الذي يميت، ولا يشعرون بالروح التي تحيي، كنت أتبسم حزنا على المدعين الذين لا يعتقدون بوجود قوة إلا قوتهم، ولا يسمعون صوتا غير صوتهم، كنت أحتمل هزء الأجانب أقاربي بي، وهم يقولون لي: اترك هذه المتاعب، وهذا الشعب الذي يفهم الفضل تطفلا، اخرج من هذا الوسط الذي يعيش فيه الأديب غريبا، ولا يحل به إلا المتزلف المحاري، ادخل بيننا؛ فأنت على الأقل إن كتبت تكتب مثلنا، وإن تكلمت فلا ينقص كلامك صحة عن كلامنا، تعال فيما بيننا ينصر أهل الفكر ولا يلقى قلم الكاتب كعار على وجهه ...
أنت في وسط تغلي فيه مراجل المبادئ المختلفة وألفتك تتناهبها العناصر المتعاكسة، فإذا نطقت بحقيقة هب بوجهك أنصار المبادئ الفاشية للمقاصد الذاتية ... أنت يمكنك أن تكون راقيا في أمة راقية، فلماذا تفضل الجهاد ما بين شعب ستمر عليه الأجيال ولا يفتح عينيه للنور؟
كنت أسمع هذه الأقوال فأكاد أن أرضخ لصحتها، ولكن يد الملاك الواقف على أعالي جبل لبنان كان ينبعث نور عينيه إلى جبيني، ويلقي يده على قلبي، فأرفع الرأس وأتقدم في هذا السبيل الضيق الوعر قائلا: «هم إخوتي ذلك الشعب الضعيف الذي يضلله أهل الضلال، هذه الرءوس النائمة على سكون الأجيال تتمخض فيها كل القوى التي تجعل هذا الشعب المبدد أمة عظيمة وهو متسلسل من قادة الأمم وحاملي مشكاة العلم على منارة الدنيا.»
لغتي مهد الفلسفة والأدب وأرض أجدادي مورد السعة والثروة، فسوف أجاهد مع هذا النزر اليسير من فضلاء وطني، وتحت الراية العثمانية المحبوبة سوف نجاهد لإحياء بلادنا وترقية شعبنا، وإذا لم يقدر لنا أن نكون فاتحة دور الرقي الذي نرجوه فنكون على الأقل ضحية تجعل ختما شريفا على قبر شعب أماته التقليد، ودفنته الأجيال في حفرة التشبه والأسر، وكم ابتلعت هذه الحفرة من أمة ولاشت من شعب.
يا غادة سوريا، إن الذين ربوك على مباديك الحالية جعلوك خائنة لوطنك دون أن تشعري، وأنت لا تزالين تحبين التفرنج الذي لم يقف على قبعتك، ولم يهب على ملابسك فقط؛ بل هو متأصل بأميالك وقد تملك على ذوقك، وها هو يلعب بقلبك ليجعلك شقية، ويدفع وراءك رجال الغد إلى حفرة العدم.
وقد يخال لك أن لا أهمية لعواطفك في أحوال الوطن وتقدمه وتقهقره، فاسمحي يا أختي أن أقول لك، ولربما تتعجبين من هذا القول: أنت أساس التقدم ومبدأ نجاح الأمة، إن الذي لا يفعله ساعد الشاب القوي من تلقاء نفسه توحين أنت إلى القيام به بابتسامة ونظرة، وإن ما يتوه عنه عقل الشاب مع كل افتكاره تنزلينه أنت عليه بكلمة ولفتة.
انظري يا غادة سوريا إلى ما حولك وتأملي، هذه شبيبة بلادك، هم إخوتك وطلاب يدك كلهم صفر الوجوه من اليأس بالجهاد، أحنت الضيقة ظهورهم قبل أن يلامسها الهرم، واختفى من عينيهم لمعان الأمل قبل أن تضرم نار الحب لفتاتهم.
انظري، هذا أخوك يأسره دفتر المضارب، وذاك يركض لإرادة المحتكر، ذلك تديره يد الأجنبي ولا يسمح له أن يفتكر بما يعمل، بل يجب عليه أن يقوم بالواجب كالآلة الصماء، وهذا كاليهودي التائه يقف مفتشا على حجر يلقي عليه رأسه فتناديه قوة المادة المشوشة: امش امش، فيقوم متوكئا على إرادته المنحلة، ويتابع سيره ناظرا إلى الأرض؛ لأن الزمان لا يسمح له أن يرفع إبصاره إلى السماء.
انظري يا غادة سوريا، أنت التي ورثت رقة القلب وعوامل الانعطاف تراثا مقدسا من أمك، انظري إلى شاطئ بحر الروم، كم سالت عليه من دمعة! وكم تفطر على شاطئيه من قلب! تأملي في ضعف بلادك، وابكي على الأرض التي حملت سريرك وضمت رفات أجدادك، واعلمي بأنك قادرة على تحويل أرض الوطن الجرداء إلى جنة زاهرة، أنت قادرة أن تسدي باب المهاجرة المفتوح كالهاوية التي لا قرار لها، أنت قادرة أن تحولي اصفرار اليأس اللامع على جبين الشبيبة إلى حمرة القوة والأمل.
الدواء سهل يا غادة سوريا إذا تحرك قلبك وعاشت عواطفك.
اخلعي أثوابك التي حاكتها يد الأجانب كقيود تأسر قلبك، والبسي ما حاكته يد ابن الوطن فلا يلبث حتى يقتدي الرجل بك فتعيش صناعة النسج وعلى حياتها يتوقف نصف حياة الأمة.
احتقري الزخرفة الأوروبية والرياش الذي لا فائدة منه وهو يستغرق نصف ثروة البلاد.
شباننا يركضون وراء هذه السفاسف؛ لأنها من ذوقك، فهم يريدون مرضاتك، ولكن حين يرون على شفاهك ابتسامة الاحتقار لهذه اللوامع المفنية للبلاد، فحينئذ يحولون أبصارهم معك إلى أحياء وطنهم ومصانعه ومزارعه المهملة.
تعودي أن تحبي لغة أجدادنا، فلا يطول الأمر حتى يألفها ذوقك، وحينئذ ينجلي لك الجمال الكامن في آدابها والقوة المرقية التي تجول بشعرها، وحين تصلين إلى هذه الدرجة تصبحين سورية مرتقية، وتزول عنك وصمة الاقتداء بالشعوب التي لا يمكن لك الوصول إلى كمالها، كوني سورية عظيمة، ولا تكوني إفرنجية منحطة فيعتبرك الأجانب أنفسهم ويحفظ لك التاريخ ذكرا جميلا.
ضحي بأميالك الضالة، وقوي إرادتك في هذا السبيل الشريف يا أختي؛ فإنك بعاطفة واحدة تحيين أمة كبيرة تولاها القنوط والعجز، كوني وطنية حقيقية فتحيي الأمل الميت في قلب الشبيبة التاعسة، مدي يدك أيها الملاك إلى هذه القيود الثقيلة التي نجرها في عبودية حياتنا، واكسري حلقاتها الضيقة؛ فيدك اللطيفة هي وحدها قادرة على ذلك.
حرري هذه الشبيبة الشقية من أسرها؛ لترفع رأسها إلى العلا وتفتش على ملجإ قلبها بين يديك، ولا تعود تائهة بقوة فقرها الذي ولده تطلبك بين ظلمات الفسق القاتل والضعف المميت.
أطلب منك هذا باسم إخوتي المعذبين، وأستعير صوت الوطنية الواقفة ناحبة على جبالنا لأكلم فيك دماء سوريا العظيمة التي تجول في قلبك الرقيق.
أيتها الملاك، إن حياة الغد بين يديك، أنت الجحيم وأنت النعيم، وتحت إرادتك حياة الوطن وموته، قدرتك عظيمة أيتها الغادة اللطيفة، فلا تستعمليها للشر كشيطان، بل حوليها لخير أخيك وخطيبك، كوني ملاكا كما نعتقد بك، فتعدي لنفسك جنة الحياة الدنيا قبل جنان الخلود.
فتاة لبنان
خير الروايات ما تسبر فيها جراح الأمة، وأرقاها ما ترك في نفس المطالع ميلا إلى الإصلاح. ***
مر الهزيع الثاني من الليل والصبية لم تنم بعد.
نام أبوها منهوك القوى من العمل في الحقول طول النهار، ورقدت أمها قرب أختها الصغيرة، وساد السكوت على تلك العيلة الهادئة التي تحيا بالعمل، ولا يدخل بابها رغيف خبز ما لم يقطر من جباه أفرادها ما يعادله عرقا.
بين ذلك السكوت العميق في قلب الظلام المجلل الحرش والرامي أطرافه على القرية الحقيرة، كان البيت الصغير مختلطا مع أشباح الليل، منفردا تناجيه أرواح الطبيعة التي تتساوى عندها الأكواخ والقصور.
كان السراج يبعث نورا ضئيلا على الأوجه الأربعة: ثلاثة منها لا يرتسم على جباهها غير تموجات الخيال الذي ترسله الأحلام، حينما يقوم الوهم مقام الأفكار قاسما حياة المرء إلى شطرين؛ شطر الراحة وشطر العذاب، والوجه الرابع ذلك الوجه المستدير المشرق بعينين زرقاوين كالسما الصافية تحطاته دائرة من الشعر الأشقر، كأنه هالة شفافة على أطراف القمر، ذلك الوجه كان مستندا على كف عبثت بها المياه المحرقة في معمل الحرير، ولكن زندها العاري الناصع البياض لم يزل ناعما صافي اللون، كأنه مسبوك من شعاع الشمس، أو مكون من ذرات الأثير الوردي عند الشروق.
لو أتيح لشاعر أن ينظر من الكوة المفتوحة إلى داخل البيت لتوهم أن القمر المتعب من ذرع السماء قد ولج هذا المسكن الحقير ليرتاح من مصافحة السحب ومناجاة العاشقين، ولكن القمر كان لم يزل بعد وراء الجبل العالي يتقدم ببطء؛ ليتسنم ذروته ويقف مرسلا شعاعه إلى الكوة المفتوحة؛ حيث القمر الإنساني ينتظر شروق أخيه.
وردت الصبية أنظارها إلى النافذة، فتلاشى ما كان يحمله ذلك النظر المتقد بين ذرات النور الضعيف المنبعث من السراج الساهر مع عيني الغادة الساهدة.
مر الهزيع الثالث من الليل، فأطل القمر من على الرابية فترجرج الظلام الساكن في مطارح شعاعه، وما لبث حتى انجلت دقائق الوشاح الليلي عن جثمان الطبيعة الأبدية، فتحركت الطيور في أعشاشها وقد خدعها شبيه النهار، وصغرت دوائر النجوم السابحة في الفضاء كأنها تراجعت إجلالا لملك السكون.
كل الأشياء التي لا تنام في الطبيعة؛ الغدير المتسرب بين الأعشاب، والأعشاب نفسها، الأشجار الباسقة، وأوراقها المتحركة بحركة الحياة الدائمة، الصخور النامية من دقائق الأثير تحت جنح الليل كما بالنهار، كل الطبيعة التي لا تنام لأن إرادتها مقيدة بغير هذا العالم وحركتها مربوطة ما وراء المنظور في الأزل، كل منظور انتباهه كرقاده، هزته حركة خفية لدى ملامسة نور القمر له، فكأن ذلك النور يد الأم الساهرة، تمر بخفة وحنان على وجه الطفل الراقد.
كل موجود شعر بانبثاق نور الشمس الغائبة وراء مدار الأرض والمرسلة صورتها على مرآة القمر الصافي، ذلك الجرم المنطفئ، ذلك المظلم المنير، ولكن الحيوان بفرعيه الناطق والأعجم فقد بات كما هو ولم يتحرك؛ لم يشعر بنور القمر؛ لأنه قسم من الطبيعة، خرج منها وانفصل عنها، فهو نائم لرضوخ إرادته للضرورة.
أما الجماد فإنه لا ينام، نظامه متعلق بقوة خارجة عنه تديره كقلب صبية الكوخ الساهدة التي أصبحت حياتها في حياة كائن ينفصل عنها، وأضحت إرادتها مندغمة في إرادته، فهي ككل جماد الطبيعة لا تنام، هي كالزهرة التي تحيي الليل بأسره، تمتص جراثيمها خلاصة الأرض لتهدي عبيرها نسيم الصباح، وذلك النسيم يذبلها ويطرحها ميتة على التراب الذي تغذت منه.
مع الغدير الجاري على الحصباء، ومع النبات والجماد، شعرت الصبية بامتداد نور القمر على الأرض، وأول أشعة اخترقت النافذة الحقيرة كانت ميعاد خروجها لتحت القبة الزرقاء، فجلست على فراشها بتحذر، ونظرت إلى ما حولها، وإذ تأكدت استغراق الكل بالوسن قامت وفتحت الباب مندفعة إلى الخارج، ودمها يكاد أن يتفجر من صمامات فؤادها النابض بشدة، كأنه يريد الخروج من صدرها.
تقابل القمران وجها لوجه فارتعشت الأشجار كأنها تنحني أمام الجمالين؛ جمال الفتاة المستعير الإشراق من الجرم السماوي التائه في الفضاء، وجمال ذلك الكوكب الذي انعكست عليه آيات المحاسن الحية، وهي معلنة مجد الدائم على الزائل.
وهنالك تحت الصفصافة القديمة المدلية أغصانها على ماء الغدير كأنها تحنو عليه وهو يتململ متألما على الحصباء، هنالك على مرج نضر رصعته الأزاهر كالنجوم على الأطلس المستدير، هنالك كان فتى ... هو في عنفوان شبابه، جميل الطلعة، طويل القامة، ملتف بدثار رمادي طويل مشقوق من وسطه؛ حيث يغطي الكتفين، وينفرج عن عنق جمع القوة والجمال، وكان الشاب واقفا وأنظاره مصوبة نحو باب الكوخ كأنها كرة النار موجهة لافتتاح قلعة حصينة.
فتح الباب وظهرت الفتاة، فأسند الشاب قلبه بيده الشمال، وبيده اليمنى ألقى بالدثار على المرج، فظهر لعين الغادة بكل جمال الفتوة تحت نور القمر المتألق، وقد ارتفع عن الجبل كأنه يتملص من رءوس الأشجار ليشاهد مأساة هائلة جديدة، تمثلها الأهواء على ملعب الأرض الأبدي. - جميل! - سلمى! - نعم أنا ... أتيت؛ لأنني لا أريد الإخلاف بوعدي لك، رغما عن تعب النهار الذي أنهك قواي، لم يغمض لي جفن، وقد حملني الشوق إليك ... أحب لقاءك يا جميل؛ لأنني لا أشعر بالحياة إلا بقربك، ولكن شيئا خفيا لا أعلم ما هو يكاد أن يقعدني عن ملاقاتك كلما ضربت لي ميعادا، كلما فتحت الباب تحت جنح الليل وأنت تنتظرني هنا، أتبين من بعيد على نور النجوم القاتم قبة الكنيسة المرتفعة فوق كل القرية، كأنها تسود على ما أرى، كما يعلو الكاهن المذبح وهو أعلى من الشعب يقرأ في ذلك الكتاب الذي يوحي بالابتعاد عن كل قبيح ... - سلمى! ... دعي الأوهام بحق حبنا، وهو أقوى من الموت وأحر من النار، دعي الكنائس المرتفعة إلى عنان الجو؛ فإنها مبنية من تعب الفقير لتسخر به، دعي الكاهن فهو ضعيف العزم يفضل المتاجرة بالأوهام من أن يشتغل كباقي الناس، ويعيش منعتقا من ربقة الضلال الذي يأسر نفسه به ويأسر الناس.
وكان فم جميل لم يزل مفتوحا يريد أن يندفع بكلامه إلى حد بعيد، فمدت سلمى يدها إلى فمه وألقت أصابعها المحروقة على شفتيه الورديتين، وقالت: اسكت يا جميل وإلا أغلقت أذني عن سماع كلامك، لماذا تجدف على بيت الله وهو ملجأ النفوس المعذبة؟ إذا تركتني أنت، فإلى أين ألتجي؟ - أنا لا أتركك يا سلمى، ولكن اعتقادك بأن الكنيسة هي ملجأ الحزانى لهو اعتقاد فاسد، ولو نظرت كما نظرت أنا في أميركا والبلاد المتمدنة كيف أن الكنائس والكهنة ترتفع على قلوب التعساء لغيرت ظنك وضحكت من نفسك. - أنا لم أذهب لأميركا يا جميل، ولا أعلم ما يعبد الناس هنالك؛ إذ إنني خلقت في قريتي على سفح لبنان وطني؛ حيث الكنيسة مسقوفة بجذوع الأشجار كبيوتنا، والكاهن فقير مثلنا يشتغل بحقله مع أولاده ليعيش، أنا لست متعلمة في الكليات، ولا أعرف أن أقرأ بغير كتاب الصلوة الذي أهدتني إياه السيدة أولغا في الصيف الماضي، حينما أتت من بيروت لتصطاف في مزرعتنا، ومع ذلك مع كل جهلي يا جميل أراك مخطئا باعتقادك، مع أنك درست في بيروت وسافرت إلى أميركا، والناس يقولون عنك إنك فيلسوف. - سلمى! أنا أتيت تحت جنح الظلام من طرف القرية لهنا كي أراك وأسمع كلمة الحب من فمك الجميل، أتيت لألقي رأسي المتعب على صدرك البلوري، وها أنا ذا أرى بدل هيامك معارضات وهمية، وأجد نفسي مضطرا للتفلسف معك، أرى الكنيسة والكاهن واقفين حاجزا بيني وبين صدرك المشتعل بالوجد، فأريد أن أريك وهن هذين الحاجزين، أنت لم تعرفي شيئا من العالم يا سلمى، أنت لا تقدرين على التمييز لتعرفي بأن الكنيسة ليست إلا شركا يصطاد به القوي الضعيف، فاعلمي بأن الإنسان لا يحتاج لمعبد وكاهن ليعيش، أنت لا تجهلين بأنني عاقل ودارس فاسمعي مني، وأنا لا أريد أن تكوني على ضلال: إن الشريعة هي مثل الترتيب في المعمل الذي تشتغلين به، تتغير حسب إرادة الناس وضرورة الأيام، فالأديان كلها أكاذيب وأضاليل، ولا شريعة غير القوة، ولا إله إلا إله واحد وهو الحب، أنا آخذ حقي من الدنيا قدر قوة يدي ودماغي، وأنت تأخذين حقك قدر جمالك ولطفك، فاتركي الأوهام والكاهن والكنيسة إلى جانب، وتعالي نعبد قلوبنا، انطرحي على يميني؛ لأنها قوية ولا تخافي. - أخاف أن تتركني يا جميل فلمن ألتجي بعدك؟ أنا أحبك بكل سذاجة قلبي وقوة شبيبتي، ولكن باسم من تحلف، وأمام من تربط عهدك وأنت لا تعتقد بدين ولا بشريعة؟ - أحلف بشرفي وهذا القمر السائد في الفلك، كما تسودين في قلبي وهو شاهد علي، فسوف أحلك من قيود المعيشة الفقرية، سوف أنزع اليد المتسلطة عليك في معمل الحرير حيث أنت عبدة ذليلة، وأقودك معي إلى العالم الجديد فترين هنالك نور الحياة وتذوقين لذة العيش.
وباتت سلمى جامدة مسحورة بجمال حبيبها، كأن قوة غريبة تضغط على قلبها الضعيف، وكالعصفور المخلوب أمام الأفعى الهائلة، شعرت الصبية بانجذاب عواطفها إلى الهاوية المفتوحة أمامها.
وبقي جميل يتكلم طويلا عن فساد المبادئ الفاشية بين الشعب الساذج، فكانت كلماته تسقط كنقط السم على قلبها، وكان الفتى الضال يمد مباديه السافلة إلى قلب الفتاة الطاهر طاردا منه كل المحاسن التي أوجدها الإيمان به.
هي ترى الله والشريعة مجسمين بالكاهن والكنيسة، ولا تفهم من سر الفدا غير تمثيله على المذبح، وكان جميل يعرف بأن الله ليس الكاهن وليست الشريعة الهيكل، ولكنه عرف بأن ذلك القلب الساذج يحصر كل اعتقاده بالمنظور، وأنه حين يخلو من ذلك الاعتقاد يخرج العفاف منه، ويضمحل في شكوكه كل طهارة وحذر، فأخذ يبين لسلمى ضلال بعض الكهنة في حياتهم المملوءة خبثا، يوشيها المجد وتحتاطها السعة والبذخ، قائلا بأن سلطة كهذه لا يمكن لها أن تمثل شريعة مجردة منبعثة عن نور السماء.
تحت تلك الصفصافة الضائعة على سفح لبنان فوق الوادي العميق قرب الغدير الصافي السائل بهدوء بين الأعشاب دوى صوت فولتير مرة ثانية على الأرض.
وكانت سلمى قد جلست على دثار جميل المفروش على الأرض، وجميل جاث أمامها، ويده المحترقة بحرارة الشر ملقاة على كتفها المرتجفة ... فقالت: جميل ... اسمع لكلامي؛ فإنني ساذجة لا أعرف كيف أتكلم، ولكن لا يجب أن يتعلم القلب ليشعر: كنت أحب لو كنت مثل أبي قانعا بأرض أبيك وأجدادك، أبوك قد قضى وأمك ماتت وأنت وحيد في هذه المزرعة الحقيرة، لا نسيب لك ولا قريب، تعيش منفردا عن القوم، كأنك لست منهم وتتكبر على لابسي العباءة، كأن أباك لم يرتد مثلها ليقوم بمصاريف تعليمك في المدرسة، أنت كالطير الغريب في مزرعة لبنان يا حبيبي، تركت عشك الجميل لتملأ دماغك بأفكار لا أفهمها، وما عدت إلينا إلا بزي جديد ملفوفا بأثواب غريبة لتركب غارب البحر، وتبقى هنالك السنين الطوال، وها أنت ما بيننا كأنك لست منا، فلا يمكن لنا أن نفهمك كما لا يمكن لك أن تفهمنا، ولو لم يكن رباط الحب أقوى من المدى وأعلى من طبقة العوائد، لما كنت تراني الآن بين يديك، أحبك يا جميل وأذعر منك، أشتاق إلى مرآك وأحذر لقياك، فأنت أمامي جميل مشرق كالقمر، ومظلم مخيف كأطراف الوادي البعيد. - ويلاه يا سلمى! كفي ملامك فإن غصن الورد لا ينتقل من تربته ويرمى لرحمة العواصف إلا لقوة غالبة وإرادة جائرة، بلادي صخرة جرداء وافقها ضيق على النظر الطامح إلى بعيد، تعلمت أن أرتفع بأفكاري إلى الأمور السامية فاحتقرت المحراث وثقلت على كاهلي ملابس أجدادي، فاندفعت كما يندفع إخواني أبناء لبنان إلى الأوقيانس البعيد، وهنالك ذقت ما لا يحلم به سكان صخورنا، ولهذا أريد أن أعيش كما يحبب العيش لي وسوف أعود إلى بلاد الذهب والسرور. - ويلاه يا جميل يرتجف قلبي من كلامك، وهذه الأرباض الهادئة تضطرب منك، فكأنك نسر خارج من بيضة حمام، ينتفض بجرأة وشدة مخالفا كل شريعة ونظام، أنت ولدت مثلي في هذه المزرعة الساكنة الهادئة، ولكنك لم تعد صالحا لسكناها، كما لم يعد بها شيء يحببها إليك، ويكفيني أن أنظر إلى أثوابك التي لا يصنع في بلادنا منها قطعة واحدة لأتأكد بأنك صرت غريبا، وبك كل الأميال التي تجعلك معرضا لحياة الاستعباد في بلاد الأجانب، اسمع لصوت حبي، دع عنك هذه المطامع، وخذ لك أرضا تشتغلها بما لديك من المال فتأتيك بالأرباح، اشتر أرض أبيك التي باعها ليعلمك، وهذه يدي بيدك لنحيا بسكون ونموت بسلام في مزرعتنا الصغيرة، ففي بساطتها نلقى السعادة والراحة.
وكان صوتها هادئا ترن به كل نغمات الحب الصادق والاسترحام، فكأن لبنان الساذج السعيد تجسم بذات تلك الفتاة الطاهرة القانعة لينزع من قلب جميل مطامع المهاجرة وضلال الحياة الجديدة.
وألقى جميل رأسه على كتف الفتاة، فتمثلت لديه صورة الحياة الهادئة في مزرعته قرب سلمى وهي تحبه بكل قواها، رأى نفسه ساكنا في بيت أبيه القديم وأرزاقه تدر عليه اللبن والعسل، وتخيل أنه بنى معملا صغيرا يشتغل به مع عدد من أهل المزرعة بصناعة النسج التي تعلمها في المهجر، فاهتز بنفسه وجدان اللبناني القديم فوضع فمه على شفتي سلمى الورديتين، فكأن بهذه القبلة التي رنت على كتف الغدير فتلاشى صداها مع خريره كانت رابطة عهد جديد بين قوة لبنان وجماله ...
ولكن تلك النفس اللبنانية المجبولة على العفاف لم تكن لتقوى طويلا بطبعها على ما تطبعت عليه، وذلك الاعتقاد اللبناني القديم الذي رسخ مع الأدهار لم يكن ليقوى على الشكوك المتسلطة عليه من فساد بعض التقاليد السطحية.
تلك الليالي التي قضاها جميل بين غابات نيويورك وعواهر مرسيليا، تمثلت لوجدانه المشكك كشبح اللذة الكاملة ومودع السعادة الحقيقية، وذلك السم الذي دار بدمه مع ملاصقة الفواحش والنزول إلى قعر الدنس، ذلك السم كان لم يزل جاريا يحارب دماء اللبناني القوية.
وكانت سلمى قد سكرت من مظاهر الجمال الطاهر الذي لاح لعينيها على وجه جميل حين افتكاره بسعادة الحب وسكنى الوطن، فارتخت عزائمها ورقدت روحها بين طيات الأمل.
كل شيء في هذا الكون مقسوم إلى قسمين؛ قسم يأمر وقسم يرضخ، ذرات الدقائق، الجوهر الفرد لا يكون إلا مزدوجا، ولا يمكن تصوره منفردا ما لم يصبح عدما، وفي ذات ذلك الجوهر المزدوج يوجد متعد ولازم، يوجد سابق ولاحق، أول وثان، تابع ومتبوع، فلا يمكن اندغام متشابهين ما لم يكن متسلط وراضخ، لا يوجد اشتراك تام إلا بالظواهر في الطبيعة المنظورة.
روح سلمى الثملة بعواطف الحب الأكيد وحياته الأمل، وروح جميل المحترقة بحمى الملاذ ونارها ذكر الضلال الماضي وأمل اللذة العتيدة، حياة طاهرة وحياة مفسودة تندغمان بقوة مجهولة تضم كل شيء حتى كأنها تمزج الخير بالشر مزجا.
سر هائل في هذا الكون يجعل القوة سائدة وهي مفصولة عن الخير، فكأنما قد قدر على الصلاح أن يلازم الضعف ويرضخ أبدا للجور، فيفتخر بالانكسار وتكون حياته بالضحية.
توسط القمر كبد السماء، وأصبحت أشعته الساقطة عموديا على الأرض تقصر الأشباح، وتضم كل خيال لجرمه، فأنيرت المروج العارية حول الصفصافة، وأصبح خيالها مستديرا يغطي جذعها والدائرة المنبسطة حولها، فكأن القمر رأى ما سيكون هنالك فضن على المجرم بنوره، وخشي أن تتلطخ أشعته الفضية بدماء الطهارة المهدورة.
هنالك لم يكن حبيبان، هنالك لم يكن غير خادع ومخدوع، قاتل وقتيل. •••
ساد السكوت وتوالت الساعات وكان القمر قد جنح إلى جانب الأفق محمرا كأنه متشرب من أبخرة الجريمة المستورة، ودامت الأرض سائرة في هذا الكون الفسيح لتتمم دورتها اليومية.
تكحل الشرق بغبار ذهبي، وهب نسيم الصبح عليلا ليحيي الروض الشاخص إلى السماء بجمود المفتكر، فاتخذت مياه الغدير لونا ذهبيا يتوهج على الحصباء بين المرج وقد ظهرت عليه زهرة حمراء جديدة بين أزاهر الطبيعة البيضاء الطاهرة ...
كان الوسن لم يزل سائدا على أجفان الإنسان، وهنالك في الكوخ الحقير اختلطت ذرات النهار بنور السراج الضئيل، وقد شح زيته وقارب الانطفاء، وعلى الصفصافة القديمة التي زرعها أبو سلمى على تلك الأغصان الخضراء الناضرة، بين السكوت المجلل الطبيعة بخشوعها، كان عصفور صغير قد فتح عينيه للنور وبدأ يغرد! •••
أشرقت الشمس على ثغر بيروت المفتر بكل جماله أمام بحر الروم الصافي فكانت السماء تبتسم للأرض، والأرض تهدي السماء أبخرة الصباح الزرقاء المتصاعدة إلى العلا كأنها عرف البخور، وهنالك عند أقدام لبنان حيث ترتفع الصخور على صفحة الماء الممتد إلى أطراف الأفق كان الترامواي اللبناني سائرا مخلفا وراءه المعاملتين وجونيه ووجهته بيروت.
من ركاب الطبقة الثانية كان الشاب عاشق سلمى مسندا يده إلى نافذة القطار، وأنظاره تسبح على وجه الماء وتسير نحو الأفق كأنها تريد الوصول إلى ما وراء الحجاب، وكان يفتكر: لقد مضت سنة منذ وطئت رجلاي أرض أجدادي، فأخال هذا العام قرنا طويلا، ما أثقل رجل الزمان السائرة على قلب فارق وسطه ولم يعد يشعر بالحياة إلا على ما تعود! هنالك في الولايات المتحدة لا يحتاج الإنسان لإجهاد الفكر ليعيش هنالك، كل شيء مرتب؛ التجارة والصناعة حتى الكذب والاحتيال والسرقة لها أبواب معلومة ونظام متبع، وهنا إذا أراد المرء الإتيان بعمل فعليه أن يحارب العناصر والأحياء معا، عليه أن ينكر ذاته لقاء الصالح العام، فينجح من حوله ويبقى هو تعيسا، في كل بلاد الله ينجح الفرد ليعم التقدم كل الأمة، أما هنا فيجب أن يسقط أفراد كثيرون ليدخل الرقي عن الطريق العامة ويعود مقسما على الأفراد، كان معي حين حضوري سبع مائة ليرة ضخمت كيسي بعد جهاد أربع سنوات، وها أنا ذا أرى بأسف أن داء الهزال يسطو على هذا الكيس، فهو كالمريض الذي تجهده الحمى ولا يتغذى، فقد أصيب بفقر الدم، وكل مدة يجب أن أحضر لبيروت؛ لأنها تمثل لي خيال البلاد المتمدنة، فلا أخرج منها إلا منهوك القوى فارغ الجيب.
بيروت استغرقت نصف مالي، ولكن بيروت ستعوض علي.
بنات الهوى يفرغن الكيس، ولكن أولغا ستملؤه، أبوها تاجر معتبر وواسع الثروة، فلا تقل الدوطة عن الست مائة ليرة وحينئذ وداعا يا لبنان!
أولغا ليست جميلة، ولكنها متمدنة، هي تلبس كورسه إيديال وقبعة إفرنسية ووشاحا إنكليزيا وأساور أميركانية و... و...
وبحصر الكلمة هي خلاصة تمدن العالم كله ... تتكلم الإنكليزية والإفرنسية وتخلطها بشيء من العربي ... مسكينة سلمى ما كان أحقرها في عيني في الصيف الغابر حينما كانت تذهب للتنزه مع الغانية المتمدنة، سلمى تلبس قميصا من دير القمر، وفسطانها من ديما بيت شباب مفصل على طرز باريزي محض، فهي تخاف أن تشد على صدرها، وفي رجلها حذاء من جلد زحله ضخم بلون أغبر؛ لأنها تصبغه كل سنة مرة.
ولاحت على شفتي جميل ابتسامة صفراوية مركبة من كل العواطف المتزاحمة المتلاطمة في قلبه.
حين افتكاره بسلمى، تذكر الليلة التي أوشكت أن تمحى من مخيلته، وقد طبعت بكل تفاصيلها على قلب الفتاة المخدوعة، وعلى سفح لبنان وأشجاره وغديره؛ لأن لبنان كان محتملا إهانة جديدة من أبنائه بشخص فتاته الطاهرة الساذجة. •••
جنحت الشمس عن الهاجرة وهوت على منحدر المدار الذي ينتهي على أفق البحر، في أحد بيوت بيروت الكبيرة بإحدى قاعاته الواسعة العالية كانت عانس تبلغ الخامسة والثلاثين من سنيها، عريضة الأكتاف ثقيلة الردف مقطوعة من وسطها بزنار مذهب مربوط برخاء؛ لأنه لا يحتاج للشد، والكورسه من وراء الفسطان واصل إلى آخر ما يمكن للشريط أن يشد، وكانت جالسة على مقعد مخملي أحمر، وفسطانها الكحلي الفاتح متدل برخاء وترتيب على الأرض، وبيدها جريدة لم تزل مربوطة بغلافها، وبعد أن قلبت العانس جريدتها مرارا بين يديها ضربت على جرس كان بجانبها فدخلت الخادمة. - خذي هذه الورقة يا مريم فلربما تلزم للمطبخ.
وتناولت الخادمة الجريدة وبعد أن نظرت إليها بإمعان قالت: هذا جرنال معلمي نسيب وهو يسألني كل أسبوع عنه فكيف تريدين أن ألقيه بين أوراق المطبخ؟ - آه هذه الجريدة العربية خذيها حالا واحرقيها فإن نسيب قد أصبح مجنونا من يوم مطالعته هذه الورقة، فهو كل أسبوع يملأ آذاننا بأخبار جديدة وآراء مضحكة، فهو تارة يقول لي أن أتعلم العربي، وتارة يعطيني أوامر كيلا أقف على الكشف، مرة يعارضني إذ يجدني أحادث شابا على خلوة، ومرة يأتينا منشدا أشعارا يقول عنها إنها أسمى من نفس موسى وأرفع من خيال هيغو، وأنا أحتمل تشدقه فلا أفهم غير قرقعة القاف والضاد والعين، فأخاف على أذني أن تنسد.
والبارحة أتانا بنغمة جديدة، هو يريد أن ألبس قطعة ديما أحضرها من جهنم ... وقد لبس ثوبا شديد الشبه بملبوس الإيطاليان الذين يشتغلون على الطرق، وهو يقول إن هذه الأقمشة هي مصنوعات الوطن.
خذي هذه الورقة بالله عليك؛ لأنني أخاف أن يطلع عليها نسيب ويكون بها وصفة جديدة تأتيه بجنون جديد.
وأخرجت الجريدة العربية من غرفة المتفرنجة محمولة على أيدي مريم وهي لا تدري أن بها شرارة الحياة لبلاد تفتح عينيها للنور، ألقيت الجريدة في النار فالتهبت ومريم ناظرة إلى لسان اللهيب الأزرق المتلاعب في الموقد، وهي لا تدري بأن تلك النار هي روح الوطنية وأنفس الكتاب السائلة كقطرات الدمع على تأخرنا وضلالنا، وهنالك في الغرفة الواسعة كانت أولغا قد أخذت من جنبها كتاب «صفحة غرام» بقلم أميل زولا، واستغرقت في القراءة معجبة بالسموم التي كانت تدخل لقلبها ضاحكة من جنون أخيها وحبه للجرايد العربية.
وما لبث حتى فتح الباب على مهل ودخلت الخادمة قائلة: سيدتي أتى جميل. - أين هو؟ دعيه يدخل حالا.
وإذا أدارت مريم وجهها لتذهب استوقفتها أولغا قائلة: أين أمي يا مريم؟ - هي في غرفتها تلبس أثوابها لتذهب لزيارة مدام بطرس. - لا تقولي لها إن جميل أتى، دعيها تذهب فعند رجوعها تراه. - أمرك يا سيدتي.
وما توارت الخادمة خلف الباب حتى وقفت أولغا بتحذر لئلا تنقطع الشريطة الماسكة طرف المشد بربطة الساق، فتراجع ردفها قيد ذراع إلى الوراء وانحنى صدرها إلى الأمام، وبدأت تتخطر في الغرفة كأنها سابحة في الهواء، واستوقفت المرآة أنظارها فلبست وجها جديدا يلائم حالة الملتقى، ثم ركضت إلى المقعد وارتمت عليه مرتبة طيات ثوبها بكل تأن.
فتح الباب ودخل جميل حاملا بيده علبة مذهبة الحواشي، وتقدم حتى لاصق ركاب أولغا فبقيت جالسة (مودة إفرنسية: السيدات لا يقمن للرجال.)
رأت أولغا سيدات الإفرنج يفعلن هكذا في المحافل الرسمية، فخيل لها أن هذه العادة مقبولة بكل ظرف حتى مع الحبيب!
هكذا تعودنا أن نتمثل بالأجانب ... كل شيء من وجهه القبيح.
اهتزت أولغا على مقعدها دلالة على فرحها، ومدت يدها الشمال بحركة مرتقصة، فأخذها جميل ورفعها إلى شفتيه، فقالت: أهلا وسهلا، إمتى حضرت لبيروت؟ - بقطار الظهر.
أول كلمة نطق بها الخطيب أمام خطوبته كانت كذبا! وصل جميل بقطار الصباح، وسار توا لمشاهدة إحدى الغانيات قرب مرسح التريانو، وبعد أن مضى معها الساعات الطوال توجه لسوق الطويلة، واشترى العلبة هدية لأولغا، وأتى لديها قائلا إنه وصل بقطار بعد الظهر! - اجلس هنا قربى ... وقل لي إمتى نسافر؟
ثم ألقت أنظارها على العلبة، فلم تعد تستطيع الصبر لسمع الجواب، فأردفت: ما هذه العلبة؟ - هي أساور أحضرتها لك، تقدمة أرجو قبولها. - لا سبيل للرجاء، فقبولها مني واجب عليك ... إمتى نسافر؟ - حالا بعد الزفاف إذا شئت. - وإمتى الزفاف؟ - الأحد القادم.
وطال الحديث بين الخطيبين.
قاربت الشمس أن تغرب، ووالدة أولغا لم ترجع بعد من زيارتها، قام جميل قاصدا المبيت في لوكندة أميركا، فوقفت أولغا وشيعته إلى الباب، وهنالك تعانق الخطيبان، والخادمة واقفة على قمة الدرج تنظر إليهما، وبعينيها بارقة نار خضراء ...
هذه القبلة المتبادلة بين الضلال والدوطة، بين الخداع وحب المجد، هذه القبلة الباردة بين شفاه المتمدن والمتمدنة، كانت عربون اتصال تحل عليه البركة الإلهية وتجعله مقدسا ... وهنالك على سفح لبنان في حقول المزرعة الهادئة كان صدى القبلات المحفوظة في تموج النسيم يدوي مع خرير الغدير كنواح الغادة التي تجبل خبزها بدمها وتمزج شرابها بدموعها ... •••
وكانت الباخرة الإفرنسية تتأهب للإقلاع من مينا بيروت، والزوارق تتوارد إليها زرافات ووحدانا، وقد اختلط المودع بالمسافر، ووقفت الأم لجنب ابنتها، والابن لجنب أبيه، الصديق قرب صديقه، والحبيبة قرب الحبيب، وكلهم شاخصون إلى السماء كأنهم يستطلعون ما كتب لهم في المجهول.
من يدري إن لم يكن بذلك الملتقى أواخر القبلات وأوائل الدموع التي لا يجففها غير الكفن.
على ظهر الباخرة كان كاهن وشاب واقفين، ويد كل واحد منهما بيد صاحبه، وكلاهما شاخصان إلى قمم لبنان العالية.
وكان الشاب يقول للكاهن: لا تلق الملام على شبان سوريا المتخرجين في المدارس؛ فهم أتعس شبيبة في العالمين، دعهم يذهبون، وإذا ضاقت بهم الحال يجدون معملا يشتغلون فيه، أما إذا مكثوا هنا فلا معامل ولا معادن ولا زراعة راقية، فإما أن يضربوا بمعاولهم الأرض أو أنهم يطوفون في البلاد بأجساد أنحلها الهم، ونفوس تنتظر الفكاك من أسر الحياة، لبنان لا يحتاج لمثل هذه الثمرات الساقطة على الأرض وقد عبث بها الهراء؛ لأنها ناضجة قبل أوانها، فنهضة لبنان لا تقوم إلا بقوة الأيادي العاملة والأجساد الشديدة التي كان يجب أن تخرج كنوز الأرض، وها هي تتدفق من جبالنا العالية إلى شاطئ هذا البحر ليحملها إلى قلب العالم الجديد. - أنت تطلب عذرا لنفسك يا سعيد، فلا أراك مصيبا بكل ما تقول. - أنا مقتنع كل الاقتناع بما أقول، وهذا برهاني: قبل أن تجبرني الظروف على الإبحار، قبل أن أصرف آخر درهم أبقاه لي أبي بعد وفاته، وقفت مرارا على هذا المرفأ أتأمل بالمهاجرة في حين لم أكن من طلابها، فكنت أرى أبناء الوطن بل نسمته وروحه يبارحونه جسدا أنحلته الأدواء، فألقي على الأجساد القوية الضخمة المملوءة شدة وحياة نظرة أسف وتمرمر، أما القسم المهذب الراقي من إخوتي فكنت أزودهم دمعة ورحمة، كنت أشعر معهم بما أشعر به اليوم، وأتأسف على وطن يكفيه خمودا وعارا أنه يقذف عنه شعلة الذكاء المنزلة عليه برءوس أتعس أبنائه، فما أشبه حالة ألفتنا اليوم يا أبي بتلك المغاور البعيدة الأطراف التي يسطو عليها الفساد، إلى درجة تنطفئ بها كل شعلة تلمع بديجوره الأربد! ولكم رأينا من تلك اللمعات ما بيننا! لكم لاح لنا من نور يسطع وشيكا ثم يتبدد بكربون الفساد فكأنه لم يكن ... أين أديب إسحق ونجيب حداد واليازجي، وأي نفع أبقوه للبلاد بل أية حياة نفخوها في قومنا؟ وهم لم يتركوا غير نفثات أقلامهم تدخل إلى صدور الشبيبة فتدفعها إلى القنوط وتجرها إلى القبر، فكأن تلك الأقلام تحمل مع الفكر السامي ميكروب السل الذي أفنى تلك الأجساد التاعسة.
إذا بارح الوطن رجال العمل عن طمع وجشع وكسل وبعض الضغط فلا يبارحه رجال الفكر والعلم إلا كرها، وعن ملالة من ألفة تحتاج لانتباه ولد بأكثر مما تطلب عقل رجل، تحتاج لمن يحسن الجمع والضرب والقسمة بأكثر من احتياجها، لمن يحل صعاب الرياضيات في موقف الاختراع المفيد والأعمال الكبيرة، تحتاج لمن يكتب: «بعد سؤال الخاطر العاطر واصلكم صورة الحسابات.» بأكثر من احتياجها لمن يلقي القلم على القرطاس، فيغرد تغريدا، تحتاج لمن يعرف استجلاب البضائع الأجنبية بأكثر من استعدادها لقبول أهل الفكر والعمل المستقل الذي يخرج من الوطن ما يفيد أبناءه، تحتاج لكل من ينادي بالمبادئ المقتبسة عن الأجانب بقطع النظر عن ملائمتها للبلاد، وترفض كل رأي ينزع إلى الإفادة بارتكاز مبدئه على الحاجة الماسة وضرورة الوسط الحالي ...
ووقف سعيد عن كلامه بغتة كما ينقطع مطر الربيع حينما يتساقط بشدة من السحب التي تلامس الجبال.
وكان رفيقه الكاهن يلعب بأطراف لحيته وأصابعه النحيلة ترتجف بحركة عصبية تدل على تهييج شديد، وبعد سكوت قصير فتح الكاهن فاه وقال: لربما يكون بكلامك بعض الحقيقة يا سعيد، فأنت تظهر وجوب بقاء الفلاح العامل في البلاد لأن وجوده ضروري لحياة الأرض، ولكنني لست من رأيك بعدم نفع الطبقة الراقية للوطن، اعلم يا سعيد أن ألفة بلادنا واقفة بين خائنين؛ وهما الغني الحريص يقضي ليله بلعب الميسر ونهاره بالرقاد على فراش الرخاء والكسل، والفلاح الجاهل الطامع الذي ضربه طاعون التشبه والتطاول، فترك أرض آبائه وذهب إلى حيث يقنع بلبس السترة والبنطلون، إذا احتج المهاجرون المتعلمون بأن المدارس التي لا نعرف واجباتها زرعت في قلوبهم كل ما يدفع للمهاجرة، فبم يتعلل الفلاح يا ترى؟ أما الطبقة المتهذبة الفقيرة فما أراها إلا سفينا ضائعا بين بحر الشعب الهائج وزوابع الأغنياء ورعود صلفهم ومواطر ضلالهم، تلك الطبقة لا تقدر أن تدير القوة الجاهلة لقصر اليد، ولا يمكن لها إقناع ذوي الثروة لفتح أبواب الأعمال المفيدة، شبيبة الوطن المهذبة هي العسكر المجاهد الذي يحتمل كل الجراح في هذا الممر الصعب، فيجب عليها أن تثبت لتكون رابطة الاتحاد بين الصناديق المقفلة والأرض المهملة، يجب عليها ألا تيئس من الوصول يوما إلى موقفها الذي تعده لها العناية السرمدية.
أنا لا ألومك لتركك هذه البلاد يا سعيد، أنت تهرب من الجولان بالشوارع والتعرض للفساد، أنت تهاجر كيلا تموت فيك القوة والموهبة، ولكن سيأتي يوم وهو قريب ينتصر العلم به على جهل العامل وضلال المثري، وحينئذ يصير كل شاب متهذب وعالم مسئولا أمام وطنه إذا بارحه، يصبح مطالبا أمام الله والألفة إذا هرب من موقفه؛ لأنه يكون إذ ذاك جنديا جبانا يخلي الأرض التي وضع للمحافظة عليها نهبا مقسما للأعداء ...
اذهب يا سعيد إلى حيث قدر لك، ولكن خذ مني وصية واحرص على إتمامها: لا تقف كل حياتك في بلاد المهجر لجمع المال فقط، بل تعلم من أرض العمل ما يمكنك نفع بلادك به إذا رجعت، لقد مر الوقت، وعن قريب سيحملك البخار إلى بعيد، فليكن الله حارسا لك، ولا تدع الفساد يسطو عليك، كلما قامت بوجهك صعوبة تذكر إلهك يا سعيد، تذكر وطنك فأنت مديون له، لا تترك هذا العش الجميل خاليا من كل فراخه ... •••
نزل الكاهن الشيخ على سلم الباخرة وعيناه دامعتان وجبينه العالي مصفر كالشمس التي تلامس أفق الماء آذنة بالمغيب، وما وضع رجله على مقعد القارب حتى اصطدم بقارب آخر كان يشق الماء بسرعة للوصول إلى السلم، فأدار الكاهن وجهه فرأى أحد أبناء وطنه من المزرعة القريبة لقريته جالسا وقربه فتاة ضخمة ترفرف القبعة فوق جبينها، وعلى وجهها نقاب صفيق يلاعبه الهواء، فدهش الشاب إذ رأى الكاهن وقال له: الوداع يا أبانا بطرس. - جميل ... إلى أين؟ - إنني من أميركا وإليها أعود. - لا يا ولدي أنت من لبنان، قدر الله أن ترجع إليه. - المستقبل لله، أرفقنا بدعاك يا أبي. - مع السلامة، وليكن الله معك يا جميل.
وكان جميل يتكلم وعيناه مصوبتان نحو المرفأ، وجبينه يتقطب بحركة اغتصابية، وفؤاده ينبض بشدة وهو يجتهد أن يخفي اضطرابه.
ضرب النوتي بمجذافه صفحة الماء فمخر الزورق عبابه وسار توا بالكاهن الشيخ إلى المرفأ، وإذ وضع خادم الله رجله على الدرج حانت منه التفاتة فرأى ابنة قروية واقفة أمام الحاجز الحديدي وبيدها منديل غطت به عينيها وقطرات الدمع تتساقط من بين أصابعها إلى الأرض.
وكانت الباخرة قد صرخت بصوتها الأبح معلنة المسير، وارتفع من داخونها ضباب أسود كثيف، فأدار الكاهن وجهه لجهتها فرأى صديقه «سعيد» واقفا على المؤخر وبيده منديل يومي به إليه مودعا، فارتفعت أفكار الكاهن الشيخ إلى العلا، وهو يناجي رحمة خالقه بأسرار الحياة وحالة لبنان، ولكن لم يطل وقوفه تحت جنح التأمل والصلاة حتى سمع صوت زفير متقطع وتنهد متحشرج، فأدار وجهه، فرأى القروية قد هوت على البلاط أمام غرفة البوليس محافظ المرفأ.
سقطت القروية على الأرض وارتمت يداها برخاء على صدرها المرتجف، فلاح وجهها المصفر لعيني الكاهن كأنه شبح اليأس وخيال الموت، فتبين من تلك الملامح الشاحبة صورة سلمى تلك الفتاة التي طالما رآها جاثية بخشوع في كنيسة قريته.
تألب الناس حول الفتاة واحتاطوها بأحداقهم، فتقدم الكاهن دافعا الجمهور بلطف حتى وصل قرب سلمى وكانت غائبة عن رشدها، فأخذ بيدها طالبا معونة أحد الحمالين رافعا إياها بين ذراعيه إلى خارج المرفأ، وهنالك وضعها في عربة وسار بها إلى إحدى اللوكندات القريبة تتبعهما أنظار الحضور، وكان ما بينهم شاب مرتد آخر زي وبيده قضيب خيزران يلاعبه فقال: لا يمكن أن يسطو الهرم على هؤلاء الغربان وما كان أولى أن نسميهم نسورا فهم يجددون شبابهم أمام كل فتاة وسيدة! •••
في إحدى غرف النزل العلوية المطلة نوافذها على البحر كانت سلمى ملقاة على السرير وأجفانها تأبى الارتفاع عن نور عينيها كأنها تضن عليه أن يختلط بنور الحياة.
وكان الأب بطرس جالسا على المقعد بعيدا عن السرير يتطلع من النافذة إلى البحر، ويعود ملقيا أنظاره الهادئة على وجه القروية الشاحب وأفكاره تائهة بين العالمين تسقط كالنسر لتنظر الأرض عن قريب، وتعود محلقة مثله إلى السحاب فتنفسح أمامها مجالات المنظور.
كان الكاهن إذ ذاك بحالة لا يدركها إلا فئة قليلة ممن يصدقون بالغير المتناهي .
كان يفتكر بالمادة ونظامها فيراها محسوسة أمامه، ولكنه لا يرى غير قسم صغير منها، لا يرى غير الوسط الذي يحتاطه فترتبك مباديه ويتململ ثم يدفعه التأمل بقوة الإيمان إلى ما فوق، فتضعضع أفكاره كأنها نور ضعيف بين الضباب فيرى المادة كلها والألفة بأسرها، يتبين شرائع الإنسان ومطامعه وسعيه وجهاده ولكنه لا يتمكن من سبر هذا الغور البعيد.
المفتكر كالنسر يلمس المحسوس لمسا فلا يرى إلا دائرة محدودة لا يتجاوزها بصره، يريد أن يرى كل شيء، فيحلق في عالم الخيال، وإذ يصل إلى أعلى ذروة يتسنمها الفكر يلقي نظره على الأرض فيراها منبسطة أمامه واسعة الأرجاء، يحدها الأفق من جوانبها الأربع ... ولكن ... ماذا يرى؟ يرى كل شيء ولا يرى شيئا ... تكاد الجبال تغور في السهول وتختلط الأمواه بالصحراء الفاصلة، فلا تتبين عينه المحدقة بإرادة المعرفة غير جرم بعيد لا يفهم منه شيئا.
هذي هي الدنيا وأسرارها أمام العقل الإنساني الذي يريد أن يفهم خفايا العناية الأزلية المدبرة الكون تحت مظاهر الظلم والشقاء، تلك القوة غير المفهومة التي تنزل الرحمة دموعا والسرور شقاء والكرامة هوانا.
إذا أراد الفيلسوف أن يعرف الدنيا وأحوالها بواسطة الاستقراء الحسي، فإنما هو لامس جزءا صغيرا من الطبيعة المنظورة، هو يستقري، هو يلمس، ولكنه لا يلمس أكثر مما تصل إليه اليد في هذه الدائرة المحدودة التي يسمونها أفق العقل المادي ... فتكون أحكام المفتكر بهذه الحالة صحيحة على ما يرى، وفاسدة على ما لا يرى ... أما إذا ارتقى إلى ما فوق ليبحث فهو بعيد جدا عما ينظر، يرى كثيرا ولا يفهم شيئا، يشعر بالحقيقة ولكنه لا يلمسها، يتأكد بأن الأرض ليست إلا شبحا وهميا يسبح في الأطلس الفسيح، وحقيقة ذلك الخيال ثابتة إلى الأبد في مكان مجهول ... يقتنع ويؤمن، ولكنه لا يتمكن من إقناع سواه ممن لا يصدقون بغير ما يلمسون.
على تلك الذروة العالية كان الكاهن الشيخ واقفا في تلك الساعة ناظرا إلى ما وراء أفق البحر، إلى السفينة الحاملة المجرم المتمتع بالحرية ولذة اللقاء وهو يبسم لعروسته ولأموالها، ثم يلقي أنظاره على القروية النحيلة الفاقدة الرشد الساقطة وهي بريئة تحت حمل الشقاء والرازحة تحت ضربة القضاء الهائل.
كان الكاهن يرى بعيني جسده شقاء المهانة وسعادة المهين، أما روحه المرتقية إلى ما فوق فكانت ترى غير ذلك، كانت ترى العروس وعروسته محاطين بضباب أسود كثيف، والقروية المخدوعة المتروكة محاطة بهالة النور اللامعة التي تكلل رءوس الشهداء ولا تنظرها العيون الترابية.
تململت سلمى على فراشها وفتحت أجفانها، وكان الظلام قد هجم بطلائعه على المدينة، ودخل منه ضباب رمادي إلى الغرفة، فتحت عينيها وشخصت إلى السقف وهي تقول: جميل آه ما أقساك!
فوقف الكاهن على مهل وتقدم إلى قرب السرير، وقال بصوت الطبيب الذي يكلم جريحا: لقد أكثرت من ذكر جميل وأنت غائبة عن الرشد يا سلمى، فعرفت سرك الهائل، افتحي عينيك واجلسي يا ولدي؛ فقد أتت ساعة التعزية بالله.
فحدقت الفتاة بأبصارها وإذ تبينت قربها شبح الكاهن الأسود تراجعت إلى زاوية السرير وغطت عينيها بيديها وتمتمت بصوت خافت يرتجف خوفا: إلى أين تتبعني أيها الرجل؟ لقد رميت بنفسي إلى قعر البحر تخلصا من عذابي، وها أنت واقف أمامي لم تزل تطاردني، اذهب عني ... دعني في سكون الموت ... احترم الفناء إذا كنت لا تعتبر الشقاء ...
فوقف الكاهن مبهوتا مما يسمع، وقد داخله شك هائل! أي رجل تعنين يا سلمي؟ أنا الأب بطرس كاهن قرية ... أنا أبو سعدى صديقتك، أنا الذي باركت زواج أبيك وأمك، أنا الذي سكب ماء المعمودية على رأسك، فلماذا تخافين مني؟
وما سقطت هذه الكلمات على قلب سلمى الجريح حتى جرى الدم بشدة في عروقها فجلست وفركت عينيها كأنها مستفيقة من حلم عميق، وقالت: الأب بطرس ... أبو سعدى، ويلاه أين أنا؟
وأدارت لحاظها في جوانب الغرفة، كأنها تفتش على مهد فتوتها، على الحقول الجميلة والكنيسة البسيطة، لمعت عيناها لحظة وعاد إليها الجمود، فانطرحت على فراشها؛ إذ وقفت أمامها تلك الصفحة السوداء التي كتبها الزمان ولم تعد تقوى على محوها يد بشرية، انطرحت بكل قوى اليأس وهي تقول : اذهب أيها الماكر، أنا أمقتك، دعني، لقد كفاني الخداع الذي أحتمل ويلاته من الدنيا، فلا أريد أن تشترك السماء بالغضب علي؟
وأخذت الفتاة تردد كلمات متقطعة غير مفهومة، والكاهن الشيخ واقف يصلي، ودموعه سائلة ببطء على لحيته الطويلة البيضاء. •••
أنيرت الغرفة.
وكان الكاهن الشيخ واقفا أمام النافذة وسلمى جالسة على المقعد، وكانت تتكلم بصوت مرتجف وفي عينيها لمعات تلوح وتنطفئ كآخر شعاع الشمعة الذائبة. - نعم يا أبي بعد أن هربت من مزرعتي المحبوبة حاملة لعنة والدي على رأسي ودموع أمي بقلبي، بعد أن ودعت ابتسامة أختي الصغيرة وتغريد شحارير الحقل الذي شرب عرق جبيني سنوات عديدة، بعد أن طوى الدهر صفحة فتوتي وعفافي حضرت إلى هذه المدينة مفتشة على قاتلي، فوجدته يتأهب للزفاف، وجدته في لوكندة أميركا وغرفته مملؤة بالأثواب الجاهزة لعروسته، فانطرحت على أقدامه، ووضعت يده على قلبي ليسمع فيه نبضات قلبين فكان جزائي الطرد والإهانة، وبعد يومين من ذلك الملتقى الهائل شهدت حفلة زواجه ذليلة صاغرة، ورجعت إلى النزل وعلى رأسي جبال من الحزن، فرأيت هنالك رجلا يعتبره الناس، وهو يتكلم عن الدين والتقوى والأدب، وكانت غرفته إزاء غرفتي فأردت أن أفتح له قلبي، وأطلب منه مشورة ورحمة، فكانت تعزية هذا الفاضل لي إهانة لأشجاني وتطاولا على جسدي المضنى، وقد كان لابسا ثوبا يشبه ثوبك يا أبي، ولهذا ذعرت إذ فتحت عيني ورأيتك، فاغفر وقد عرفت السبب.
لقد قال لي جميل إن الفضل ليس إلا ستارا للفظائع، فلم أصدق ولكنني في ذلك الحين شككت بوجود الله وقد احتقرت الدنيا ومن عليها فقمت متملصة من يد الرجل هاربة تائهة على ساحة البرج، وهنالك استوقفتني مناظر مريعة، هنالك رأيت وردة ابنة القرية المجاورة لنا لابسة أثواب الحرير تتخطر ضاحكة ثاملة، وكنت أحسبها من قبل ميتة إذ سافرت من قريتها ولم ترجع ولم يسمع أحد عنها شيئا.
أدخلتني إلى غرفتها حيث مجالي الفخفخة والراحة، وبعد حديث طويل فهمت من الدنيا ما لم أكن أعرفه من قبل، عرضت علي وردة البقاء معها فرفضت، وقلت لها إنني أريد الموت، قلت لها إن جميل مسافر غدا مع عروسته، فأريد أن ألقي بنفسي إلى البحر الذي سيحمله، بكيت كثيرا وكنت خائفة واجفة في ذلك المكان الذي ترتفع حوله جلبة الفسق وأصوات المدينة السكرى، فأردت الخروج ولكن وردة لم تتركني، تعلقت بثوبي قائلة: ابقي هنا يا سلمى، نامي على سريري آمنة من كل طارئ، فأنت الآن في حرم صديقة طفولتك، لقد اشتغلنا سنتين في معمل الحرير، فلك علي حق الرفيقة وواجب الصداقة، نامي يا أختي، وها أنا ذا ذاهبة لأقوم بفروضي الثقيلة الهائلة، ولا بد أن تعرفي يوما ماهية هولها يا سلمى.
ذهبت وردة وأقفلت الباب وكنت تعبة محطمة من اليأس فاستغرقت في نوم ثقيل حتى الصباح.
في وسط الفساد والضلال كنت آمنة على نفسي، وفي المجتمع الطاهر الظواهر لم أكن غير حمامة في مخالب النسور.
بنت الهوى حمتني، وفاضل الناس أراد إهانة روحي الجريحة ليأخذ من ضعفها ما يسلي بطره وضلاله.
أنا مذنبة يا أبي، أما جميل فمجرم ... هو دفعني إلى الضلال مفسدا اعتقادي أولا، ثم توصل إلى إلحاق الدنس بي فترك في أحشائي نطفة حياته وتبرر منها ... فها أنا ذا أرملة وزوجي حي.
هو مكرم من الناس يتزوج بعذراء ولا يبتعد أحد عنه، وأنا مطرودة مهانة لا أجسر أن أنظر إلى السماء، ويخال للناس أن لا حق لي أن أمشي على أرضهم.
لا أفهم يا أبي ماهية هذا العدل الذي يرحم القاتل، ويجور على المقتول.
جميل لم يحفظ شيئا من نتائج فعلته، وأنا أحمل ثمرة إفساده لي، ولهذه العلة يقول الناس إن جرمي أشد فظاعة من جرمه، فكأن هذه الدنيا لا تجور إلا على الساقط تحت الظلم. - مهلا يا سلمى إذا كانت عماوة الناس لا ترى الخطيئة إلا على عاتق المظلوم التعيس، فالشريعة السماوية أرفع من أن تحدد الأمور كما يفهمها الإنسان الضال، أنت مذنبة عن ضعف، وجميل مجرم عن قوة، إذا كانت المادة تظهر للنظر أن جميل أعطى وأنت أخذت، فالعقل يرى غير هذا، أنت أعطيت قسرا وجميل أخذ جبرا، أنت مسروقة وهو سارق، ولكن شريعة الفادي لهي مبنية على المغفرة يا ولدي، اغفري يا سلمى؛ فهذه الفضيلة التي تصير الرجل عظيما ترفع المرأة إلى أوج الألوهية، انظري إلى ما فوق يا ولدي؛ فإن الفادي لم يأت الأرض لأجل الأصحاء، بل لأجل المسقومين، أتى ليرسم نقطة واحدة على الفكر البشري وتلك النقطة هي المغفرة والأمل، فلا تتركي الشكوك تتسلط على إيمانك؛ لأن المشترع الكبير قد أتى لأجلك ولأجل إخوانك في الشقاء، وهم يغطون بدموعهم وجه الأرض.
وأحنت سلمى رأسها بتعب كزهرة أضناها الذبول فلم تعد تقدر على احتمال النسيم الرطيب الذي سيحمل إليها الحياة، وبقيت برهة ساكتة ولكن قلبها الجريح لم يلبث حتى دفع الدم إلى جسمها بشدة فرفعت رأسها وقالت: لما كنت على المرفأ أذود خادعي بنظراتي الأخيرة كدت أن أصرخ: هذا قاتلي أوقفوه، ولكن قوة سرية أغلقت فمي، فرأيت أن الناس كلهم ينظرون إلي شذرا، رأيت الشيوخ يرمون علي نظرات الاحتقار، والشبان والكهول يحدجونني بلفتاتهم، فأرى على مرآة عينيهم صورة المشاهد التي يطبعها الفساد على أدمغتهم حين مرآهم فتاة مثلي يمكن التلاعب بحقارتها واغتنام الملاذ من آلامها وهوانها.
رفعت أنظاري إلى ما فوق، فردها اعتقاد الناس بي إلى أسفل، نظرت إلى البحر الحامل مجسم الطمع هاربا من وطنه وذراعي القناعة والحب المفتوحتين له، نظرت إلى هذا الأزرق البعيد الذي يسرق شباننا من بلادهم كما يقتلع حبهم من قلب فتيات لبنان، فأحببت أن أطرح بنفسي إلى اللجة، أردت أن أغرق وأموت حيث مرت سفينة قاتلي، فخفت من الناس الواقفين حولي ولم أذكر خالقي؛ لأنني لم أعد أخافه بعد أن رأيت جميلا لا يخشاه.
في تلك الساعة يا أبي حينما يصبح الإنسان مخيرا بين الحياة والموت، في تلك الدقيقة الهائلة وقف شبح وردة أمامي وقد فتحت ذراعيها العاريتين وهما مطوقتان بالأساور الذهبية التي رنت بأذني كصوت جرس مزرعتنا حين يدوي في الليل لينبي بموت صديق أو قريب ... رأيت وردة تنظر إلي وتتبسم، فأدرت لحاظي عنها إلى وجه البحر العابس المتجعد، وارتعشت معاطفي فبكيت؛ لأنني لم أر غير وردة والبحر، الحياة التي أخاف منها، والموت الذي أحبه بقلبي وأبتعد عنه بقوة لا أعرفها، وكأن نفسي المتراجعة عن موت الحياة وحياة الموت وقفت متزعزعة أمام المجهول، فشعرت بها كأكرة نور تتحول بغتة إلى ظلام منحل، سقطت على الأرض في حين ظهر لي وجهك يا أبي، رأيتك ولم أعرفك؛ لأن السراج الوحيد لا يمكنه أن يبدد ظلام حياة دخلت في الليل ولم تعد تقبل النور.
وكان صوت سلمى يرن ضعيفا في غرفة النزل الضيقة؛ لأنه كان أوهن من أن يموج دقائق الهواء الفاسد المنتشر بين الجدران الواطئة، ولكن أذن الكاهن كانت تسمع ذلك الصوت كأنه قهقهة الرعد ودوي المدفع، فكان يلتفت إلى جهة الباب خشية أن يسمع أحد ذلك الكلام الذي يجب أن يهز الكرة لترتجف له الأرض.
وبعد أن وقف الكاهن متأملا، قال لسلمى وقد وضع يده على كتفها، وقال بكل وقار خادم الله وعفاف الشيخ: لماذا لم تطالبي جميل بحقوقك، والقانون يقضي عليه بالتعويض؟ - أنا لا أعرف القانون يا أبي، ولكنني سألت، فقيل لي إن دون الوصول إلى الإثبات عقبات هائلة يستحيل على الحقيقة اجتيازها، فلا أربح سوى احتقار الناس والفضيحة والشنار، وآخر ما يصل إلي من التعويض عن حياة أصبحت لغوا هو بضعة دنانير يذهب بها العار ليسطع لامعا بدنائته أمام الألفة وقلبي المخدوع، عبثا تخرج الشرائع من مصدر الحق السامي إذا كان البشر لا يفهمون قوة العدل، ماذا يهمني إذا انتصر لي القانون وهو حين يبرز حكما على الجريمة يضحك منها الجاني وتزيد بها جراح المجني عليه؟ ماذا يفيدني حكم العدالة في المحكمة، والمحكمة الكبرى المؤلفة من الشعب كله ظالمة عمياء، لا ترى الجرم إلا على كاهل الضعيف؟
وكان الكاهن يفتكر.
في الشريعة روح سامية تتجلى على المواد لتجعلها حية تدير عنان الأحياء، والناس يقرون بوجود تلك الروح الأزلية التي أنزلها الله على أقلام المشترعين ولكنهم يخالفونها كل يوم ليس بأفعالهم فقط ، بل بمبادئهم أيضا، بكل حركة وكل رأي نرى مخالفة عادات الألفة للشرع، فهي تقر به به إقرارا ظاهريا، ولكنها تعتقد بالأمور كما تشاء، بكل شريعة وضع عقاب للرجل الجاني على العذراء ولم يوضع عقاب على المرأة الجانية على الرجل؛ لأن منذ تشكيل المحاكم البشرية حتى اليوم لم يقم رجل دعوى على امرأة اغتصبته، ذلك لأنه يكون دائما متعديا في حين أن المرأة تكون غالب الأحيان مخدوعة مهانة، ومع ذلك فالناس لا يفهمون، وإذا وجدوا خائنا وخائنة فهم يحولون كل احتقارهم إلى هذه ويجدون أعذارا لذاك!
منذ أيام قام أحد الكتبة المفكرين شارحا تساوي الجرم بالخداع بين الرجل والمرأة، وأراد أن يعارض رأي الألفة بتبرير الرجل وألقى كل الذنب على المرأة، فانتصر لمآل الشريعة الشاملة مبينا مطابقتها للواقع المحسوس من حيث المبدأ والنتائج، قصد أن يجعل الرأي العام مطابقا للحقيقة، أراد أن يقوم بهذه الخدمة فعارضه قسم كبير ممن يعتقدون بإبقاء حاجز الجهل بين الفكر العام والشريعة الشاملة السامية.
التفت الكاهن للفتاة وقال لها: سأتركك الآن يا سلمى، فنامي إلى الغد، والله المدبر الأمور يسهل أمامك سبل الخلاص. - نعم يا أبي، سأنام إلى الغد ولكن في أحضان الجزع والشقاء، ولا أومل من الله شيئا؛ لأن الله إنما يوصل إلى الناس عدله بواسطة الناس، وهؤلاء قد فسدوا فلا يصلحون رسلا لرحمة خالقهم، لم يبق أمامي غير وردة والاستخدام والاستعطا، ولربما فضلت الحالة الأخيرة.
خرج الكاهن متعجبا من حديث سلمى، وهو لا يفهم كيف أن الشقاء يولد الفلسفة حتى في أبعد الناس عن العلم؟
انطرحت الفتاة على فراشها واستغرقت بالبكاء ولم يلبث حتى ساد الوسن على عينيها المتعبتين، وكان الكاهن لم يزل بعد ساهرا يصلي وهو يجول بأفكاره على الألفة السورية ليرى بها موضعا ينصر فيه الضعيف الساقط؛ ليجد مكانا يقدر به الشريف أن يعضد الضال التعيس دون أن يرمى بالحيف وسوء الظن، جال طويلا حتى عثرت آماله، ورأى نفسه وهو رسول الدين الآمر بالرحمة والغفران عاجزا عن مديد المساعدة لأولى الناس بالبر والإشفاق، مقيدا بعوائد الألفة واعتقاداتها التي انفصلت على كل جميل وعظيم، فأحنى رأسه بتعب، وقال واليأس يكيف مقاطع صوته: إذا ضاقت مجالي الإسعاف على الدين والأدب، وإذا أصبح الدين عاجزا عن إحياء النفوس البرية؛ لأن الناس تريد قتلها وتتهم بالضلال كل من يناصرها، فقد بقي وجه واحد أساعد به المخدوعة التاعسة.
وفتح الكاهن هميانه فوجد به خمسة دنانير قلبها بيده، وقال: في العالم دولتان؛ دولة المادة، ودولة الروح، وقد أصبحت الأرواح مهانة كيفما انقلبت حتى لا يمكنها أن تحسن بعد ... فليس من قوة لغير المادة في هذه الألفة التي ضعف بها كل شيء لا يكون محسوسا، ولهذا حصر الإحسان في الدرهم مميتا كل شفقة أدبية ومساعدة روحية تجعل النفوس عاضدة للنفوس.
كثير من الناس من يضحك مع الضاحكين؛ لأن الضحك اشتراك المادة مع المادة ولكن أين الذين يبكون مع الباكين؟ أين الصديق على شقاء الصديق؟ أين الابن على عجز أبيه؟ أين الحبيب على قبر حبيبته في هذه الألفة الجاشعة المسكينة التي يقتلها الطمع وهي ملقاة على حضيض الهوان.
أين الذي يجلس مع العشارين ليردهم إلى الحق الرفيع، أين الذي لم تدنس قدماه من دموع الزانية النادمة؟!
وأنا خادم ذلك المحسن العظيم الذي ظهر على الأرض، أنا الذي حصرت واجباتي بشفاء جراح النفس، أينما وجدت أجدني مقيدا بعماوة الألفة التي تحيط بي، كان يجب أن آخذ سلمى إلى بيتي وأساويها بسعدى ابنتي، ولكن حنان نفسي لا يمكن له أن يبرر جسدها، فهي أمام الناس شقية ساقطة ودنس جسدها يوصل الأذى إلى كل عيلتي فنسقط كلنا معها ولا نقدر أن نرفعها.
وبهت الكاهن برهة طويلة كانت مبادي المسيح بها تناضل ضد عوائد الألفة وضلالها ولكنه رفع رأسه أخيرا وفي عينيه ذلة المنكسر وقال: عفوا يا رب فقد امتنع علي أن أكون خادما لمباديك الإلهية بروحي وقلبي، فاسمح أن أحصر إحساني بهذا المال القليل الذي أصبح وحده مدار البشرية بعد أن اشتريتها بدمك وعززتها بروحك الأزلية، وكثير من أمثالي يضنون على إخوتك التعساء حتى بهذا المعدن الزائل ... •••
مر شهران على هذه الحوادث.
في أسواق بيروت المكتظة بالناس كانت امرأة شاحبة اللون غارقة العينين حاملة طفلا على ذراعيها وهي تتوسل إلى المارة باسم الله والولد، باسم الدين والرحمة، هي ترتجف من الضعف وأثوابها ممزقة تستر جسما كان منذ أشهر قلائل كدمية الرخام ممثلة مجموع الجمال ... تدلى شعرها الأشقر قصيرا على كتفيها وقد فقد لمعانه، اختلط بنور عينيها قتام مهيم فهي ظلمة متوهجة يخشع أمامها الناظر.
إذا كانت لفتات العلماء والشعراء تدخل الاعتبار في قلب الناظر إليهم ففي لفتات المجانين ما يولد الخشوع والارتهاب، إذا دلت العين التي وراءها قوة مفكرة على وجود نفس سامية في الإنسان، ففي العيون الجامدة وقوة ضعفها المذيب برهان لكمون النفس الناطقة؛ لأن لا شيء أدعى إلى ظهور القوة الخفية من وجود العذاب فيها.
لو عاد جميل من وراء الأوقيانس البعيد ورأى هذه المرأة حاملة ابنه متسولة على قارعة الطريق هل يعرف بها سلمى يا ترى؟
لو مر اللبناني قرب هذه المرأة وهو يعرف روايتها، فهل يجود عليها بدرهم ذاكرا أنها صورة وطنه المخدوع الضائع مثل هذه الفتاة التاعسة في أحضان المدنية القاسية ...
هي شريدة وحيدة بين هذه الألفة السائرة وراء السعادة وقد نضب ماء وجهها مع مياه حياتها، وكل من عرف حالها يلقي عليها الملام، ومن القساة الجهلة من يعنفها ويلعنها ...
هكذا تفهم الألفة ماهية الجرائم، فأكبر المخلوقات إثما لدى الناس من سقط ليتعذب ...
Page inconnue